بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمد وآله الطيبين الطاهرين
نكمل كلامنا السابقة حول بحث التقية وهل هي من مختصات الشيعة او قال بها جميع المذاهب الإسلامية وقد ذكرنا قول الأحناف والمالكية ، والآن مع الشافعية فأقول:
3 ـ الشافعية وقولهم بالتقيّة:
قال الشافعي: قال الله عزّ وجلّ: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلاّ من أُكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان) ، فلو أنّ رجلا أسره العدو، فأُكره على الكفر، لم تبن منه امرأته ولم يحكم عليه بشيء من حكم المرتدّ، وقد أُكره بعض من أسلم في عهد النبيّ (صلى الله عليه وسلم) على الكفر، فقاله، ثمّ جاء إلى النبيّ (صلى الله عليه وسلم) فذكر له ما عذّب به فنزلت هذه الآية، ولم يأمره النبيّ (صلى الله عليه وسلم) باجتناب زوجته، ولا بشيء ممّا على المرتدّ(1) .
وقال الفخر الرازي الشافعي في تفسيره: ظاهر الآية يدلّ على أنّ التقيّة إنّما تحلّ مع الكفّار الغالين، إلاّ أنّ مذهب الشافعي (رض) أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت بين المسلمين والمشركين حلّت التقيّة محاماة على النفس، وقال: التقيّة جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله (صلى الله عليه وسلم) : حرمة مال المسلم كحرمة دمه، ولقوله (صلى الله عليه وسلم) : من قتل دون ماله فهو شهيد، ولأنّ الحاجة إلى المال شديدة، والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء، وجاز الاقتصار على التيمّم دفعاً لذلك القدر من نقصان المال، فكيف لا يجوز ههنا؟ والله أعلم(2) .
وقال ابن حجر العسقلاني الشافعي: قوله، وقول الله تعالى (إلاّ من أُكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان) وساق إلى (عظيم) هو وعيد شديد لمن ارتدّ مختاراً، وأمّا من أُكره على ذلك فهو معذور بالآية، لأنّ الاستثناء من الإثبات نفي فيقتضي أن لا يدخل الذي أُكره على الكفر تحت الوعيد، والمشهور أنّ الآية المذكورة نزلت في عمّار بن ياسر كما جاء من طريق عبيدة بن محمّد بن عمّار بن ياسر...
وعن مجاهد، عن ابن عبّاس، قال: عذّب المشركون عمّاراً حتّى قال لهم كلاماً تقيّة فاشتدّ عليه... الحديث.
وقد أخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس في قوله (إلاّ من أُكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان) ، قال: أخبر الله أنّ من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من الله، وأمّا من أُكره بلسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه فلا حرج عليه، إنّ الله إنّما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم.
قلت: وعلى هذا فالاستثناء مقدّم من قوله: فعليهم غضب، كأنّه قيل: فعليهم غضب من الله إلاّ من أُكره، لأنّ الكفر يكون بالقول والفعل من غير اعتقاد وقد يكون باعتقاد فاستثنى الأوّل وهو المكره. قوله: (وقال: (إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة) وهي تقيّة) أخذه من كلام أبي عبيدة قال: تقاة وتقيّة واحد، ومعنى الآية: لا يتّخذ المؤمن الكافر وليّاً في الباطن ولا في الظاهر إلاّ للتقيّة في الظاهر، فيجوز أن يواليه إذا خافه ويعاديه باطناً...
قوله: (وقال الحسن) أي البصري (التقيّة إلى يوم القيامة) وصله عبد ابن حميد وابن أبي شيبة من رواية عوف الأعرابي (عن الحسن البصري قال: التقيّة جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة إلاّ أنّه لا يجعل في القتل تقية) ولفظ عبد بن حميد (إلاّ في قتل النفس التي حرّم الله) يعني: لا يعذر من أُكره على قتل غيره لكونه يؤثر نفسه على نفس غيره.
قلت: ومعنى التقيّة: الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير، وأصله وقية بوزن حمزة فعلة من الوقاية.
وأخرج البيهقي من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عبّاس، قال: (التقيّة باللسان والقلب مطمئنٌّ بالإيمان ولا يبسط يده للقتل) .
قوله: (وقال ابن عبّاس في من يكرهه اللصوص فيطلّق ليس بشيء، وبه قال ابن عمر وابن الزبير والشعبي والحسن) .
أمّا قول ابن عبّاس فوصله ابن أبي شيبة من طريق عكرمة أنّه سئل عن رجل أكرهه اللصوص حتّى طلّق امرأته، فقال: قال ابن عبّاس: ليس بشيء، أي لا يقع عليه الطلاق.
وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن عكرمة، عن ابن عبّاس، أنّه كان لا يرى طلاق المكره شيئاً.
وأمّا قول ابن عمرو وابن الزبير، فأخرجهما الحميدي في جامعه، والبيهقي من طريقه قال: (حدّثنا سفيان، سمعت عَمراً يعني ابن دينار، حدّثني ثابت الأعرج، قال: تزوّجت أُمّ ولد عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب، فدعاني ابنه ودعا غلامين له فربطوني وضربوني بالسياط وقال: لتطلّقها أو لأفعلنّ وأفعلنّ، فطلّقتها، ثمّ سألت ابن عمر وابن الزبير فلم يرياه شيئاً) .
وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن ثابت الأعرج نحوه.
وأمّا قول الشعبي فوصله عبد الرزاق بسند صحيح عنه، قال: إنْ أكرهه اللصوص، فليس بطلاق، وإن أكرهه السلطان وقع، ونقل عن ابن عيينة توجيهه وهو أنّ اللصّ يقدم على قتله والسلطان لا يقتله، وأمّا قول الحسن، فقال سعيد بن منصور (حدّثنا أبو عوانة عن قتادة عن الحسن أنّه كان لا يرى طلاق المكره شيئاً) وهذا سند صحيح إلى الحسن.
قال ابن بطال تبعاً لابن المنذر: أجمعوا على أنّ من أُكره على الكفر حتّى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان أنّه لا يحكم عليه بالكفر ولا تبين منه زوجته، إلاّ محمّد بن الحسن، فقال: إذا أظهر الكفر صار مرتدّاً وبانت منه امرأته ولو كان في الباطن مسلماً، قال: وهذا قول تغني حكايته عن الردّ عليه لمخالفته النصوص، وقال قوم: محلّ الرخصة في القول دون الفعل كأن يسجد للصنم أو يقتل مسلماً أو يأكل الخنزير أو يزني، وهو قول الأوزاعي وسحنون، وقالت طائفة: الإكراه في القول والفعل سواء، واختلف في حدّ الإكراه، فأخرج عبد بن حميد بسند صحيح عن عمر قال: (ليس الرجل بأمين على نفسه إذا سجن أو أُوثق أو عذّب) ، ومن طريق شريح نحوه وزيادة، ولفظه (أربع كلهن كره: السجن والضرب والوعيد والقيد) .
وعن ابن مسعود قال: " ما كلام يدرأ عنّي سوطين إلاّ كنت متكلماً به) ، وهو قول الجمهور، وعند الكوفيّين فيه تفصيل، واختلفوا في طلاق المكره فذهب الجمهور إلى أنّه لا يقع، ونقل فيه ابن بطال إجماع الصحابة.
قوله: (وقال النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : الأعمال بالنيّات) ... قال: وكأنّ البخاري أشار بإيراده هنا إلى الردّ على من فرّق في الإكراه بين القول والفعل لأنّ العمل فعل، وإذا كان لا يعتبر إلاّ بالنيّة كما دلّ عليه الحديث فالمكره لا نيّة له، بل نيّته عدم الفعل الذي أُكره عليه(3) .
وسنكمل البحث في مشاركات آتية إن شاء الله تعالى
والحمدلله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
____________
(1) أحكام القرآن للإمام الشافعي ـ جمع الإمام البيهقي ص 316.
(2) تفسير الرازي ج 8 ص 15.
(3) فتح الباري ج 12 ص 386 ـ 389.
اللهم صلِّ على محمد وآله الطيبين الطاهرين
نكمل كلامنا السابقة حول بحث التقية وهل هي من مختصات الشيعة او قال بها جميع المذاهب الإسلامية وقد ذكرنا قول الأحناف والمالكية ، والآن مع الشافعية فأقول:
3 ـ الشافعية وقولهم بالتقيّة:
قال الشافعي: قال الله عزّ وجلّ: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلاّ من أُكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان) ، فلو أنّ رجلا أسره العدو، فأُكره على الكفر، لم تبن منه امرأته ولم يحكم عليه بشيء من حكم المرتدّ، وقد أُكره بعض من أسلم في عهد النبيّ (صلى الله عليه وسلم) على الكفر، فقاله، ثمّ جاء إلى النبيّ (صلى الله عليه وسلم) فذكر له ما عذّب به فنزلت هذه الآية، ولم يأمره النبيّ (صلى الله عليه وسلم) باجتناب زوجته، ولا بشيء ممّا على المرتدّ(1) .
وقال الفخر الرازي الشافعي في تفسيره: ظاهر الآية يدلّ على أنّ التقيّة إنّما تحلّ مع الكفّار الغالين، إلاّ أنّ مذهب الشافعي (رض) أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت بين المسلمين والمشركين حلّت التقيّة محاماة على النفس، وقال: التقيّة جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله (صلى الله عليه وسلم) : حرمة مال المسلم كحرمة دمه، ولقوله (صلى الله عليه وسلم) : من قتل دون ماله فهو شهيد، ولأنّ الحاجة إلى المال شديدة، والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء، وجاز الاقتصار على التيمّم دفعاً لذلك القدر من نقصان المال، فكيف لا يجوز ههنا؟ والله أعلم(2) .
وقال ابن حجر العسقلاني الشافعي: قوله، وقول الله تعالى (إلاّ من أُكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان) وساق إلى (عظيم) هو وعيد شديد لمن ارتدّ مختاراً، وأمّا من أُكره على ذلك فهو معذور بالآية، لأنّ الاستثناء من الإثبات نفي فيقتضي أن لا يدخل الذي أُكره على الكفر تحت الوعيد، والمشهور أنّ الآية المذكورة نزلت في عمّار بن ياسر كما جاء من طريق عبيدة بن محمّد بن عمّار بن ياسر...
وعن مجاهد، عن ابن عبّاس، قال: عذّب المشركون عمّاراً حتّى قال لهم كلاماً تقيّة فاشتدّ عليه... الحديث.
وقد أخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس في قوله (إلاّ من أُكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان) ، قال: أخبر الله أنّ من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من الله، وأمّا من أُكره بلسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه فلا حرج عليه، إنّ الله إنّما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم.
قلت: وعلى هذا فالاستثناء مقدّم من قوله: فعليهم غضب، كأنّه قيل: فعليهم غضب من الله إلاّ من أُكره، لأنّ الكفر يكون بالقول والفعل من غير اعتقاد وقد يكون باعتقاد فاستثنى الأوّل وهو المكره. قوله: (وقال: (إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة) وهي تقيّة) أخذه من كلام أبي عبيدة قال: تقاة وتقيّة واحد، ومعنى الآية: لا يتّخذ المؤمن الكافر وليّاً في الباطن ولا في الظاهر إلاّ للتقيّة في الظاهر، فيجوز أن يواليه إذا خافه ويعاديه باطناً...
قوله: (وقال الحسن) أي البصري (التقيّة إلى يوم القيامة) وصله عبد ابن حميد وابن أبي شيبة من رواية عوف الأعرابي (عن الحسن البصري قال: التقيّة جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة إلاّ أنّه لا يجعل في القتل تقية) ولفظ عبد بن حميد (إلاّ في قتل النفس التي حرّم الله) يعني: لا يعذر من أُكره على قتل غيره لكونه يؤثر نفسه على نفس غيره.
قلت: ومعنى التقيّة: الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير، وأصله وقية بوزن حمزة فعلة من الوقاية.
وأخرج البيهقي من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عبّاس، قال: (التقيّة باللسان والقلب مطمئنٌّ بالإيمان ولا يبسط يده للقتل) .
قوله: (وقال ابن عبّاس في من يكرهه اللصوص فيطلّق ليس بشيء، وبه قال ابن عمر وابن الزبير والشعبي والحسن) .
أمّا قول ابن عبّاس فوصله ابن أبي شيبة من طريق عكرمة أنّه سئل عن رجل أكرهه اللصوص حتّى طلّق امرأته، فقال: قال ابن عبّاس: ليس بشيء، أي لا يقع عليه الطلاق.
وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن عكرمة، عن ابن عبّاس، أنّه كان لا يرى طلاق المكره شيئاً.
وأمّا قول ابن عمرو وابن الزبير، فأخرجهما الحميدي في جامعه، والبيهقي من طريقه قال: (حدّثنا سفيان، سمعت عَمراً يعني ابن دينار، حدّثني ثابت الأعرج، قال: تزوّجت أُمّ ولد عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب، فدعاني ابنه ودعا غلامين له فربطوني وضربوني بالسياط وقال: لتطلّقها أو لأفعلنّ وأفعلنّ، فطلّقتها، ثمّ سألت ابن عمر وابن الزبير فلم يرياه شيئاً) .
وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن ثابت الأعرج نحوه.
وأمّا قول الشعبي فوصله عبد الرزاق بسند صحيح عنه، قال: إنْ أكرهه اللصوص، فليس بطلاق، وإن أكرهه السلطان وقع، ونقل عن ابن عيينة توجيهه وهو أنّ اللصّ يقدم على قتله والسلطان لا يقتله، وأمّا قول الحسن، فقال سعيد بن منصور (حدّثنا أبو عوانة عن قتادة عن الحسن أنّه كان لا يرى طلاق المكره شيئاً) وهذا سند صحيح إلى الحسن.
قال ابن بطال تبعاً لابن المنذر: أجمعوا على أنّ من أُكره على الكفر حتّى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان أنّه لا يحكم عليه بالكفر ولا تبين منه زوجته، إلاّ محمّد بن الحسن، فقال: إذا أظهر الكفر صار مرتدّاً وبانت منه امرأته ولو كان في الباطن مسلماً، قال: وهذا قول تغني حكايته عن الردّ عليه لمخالفته النصوص، وقال قوم: محلّ الرخصة في القول دون الفعل كأن يسجد للصنم أو يقتل مسلماً أو يأكل الخنزير أو يزني، وهو قول الأوزاعي وسحنون، وقالت طائفة: الإكراه في القول والفعل سواء، واختلف في حدّ الإكراه، فأخرج عبد بن حميد بسند صحيح عن عمر قال: (ليس الرجل بأمين على نفسه إذا سجن أو أُوثق أو عذّب) ، ومن طريق شريح نحوه وزيادة، ولفظه (أربع كلهن كره: السجن والضرب والوعيد والقيد) .
وعن ابن مسعود قال: " ما كلام يدرأ عنّي سوطين إلاّ كنت متكلماً به) ، وهو قول الجمهور، وعند الكوفيّين فيه تفصيل، واختلفوا في طلاق المكره فذهب الجمهور إلى أنّه لا يقع، ونقل فيه ابن بطال إجماع الصحابة.
قوله: (وقال النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : الأعمال بالنيّات) ... قال: وكأنّ البخاري أشار بإيراده هنا إلى الردّ على من فرّق في الإكراه بين القول والفعل لأنّ العمل فعل، وإذا كان لا يعتبر إلاّ بالنيّة كما دلّ عليه الحديث فالمكره لا نيّة له، بل نيّته عدم الفعل الذي أُكره عليه(3) .
وسنكمل البحث في مشاركات آتية إن شاء الله تعالى
والحمدلله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
____________
(1) أحكام القرآن للإمام الشافعي ـ جمع الإمام البيهقي ص 316.
(2) تفسير الرازي ج 8 ص 15.
(3) فتح الباري ج 12 ص 386 ـ 389.