بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحياة الدنيا ممر نعبر منه للآخرة وليس مقر نستقر فيه انما هي أياما معدودة محدودة يتزود منها الفرد بقدر مايستطيع أولنقل يحاول أن يبذل جهدا ملموسا يستطيع من خلاله عمل جسر للعبور عليه دون تعثر ان صح التعبير
قال عز من قائل في محكم كتابه الكريم:
(أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَآءَاللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَهُمْ يَحْزَنُونَ(62) الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ(63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الأَخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(64)) سورة يونس
«الأولياء» جمع ولي، وقد أخذت في الأصل من مادة: ولي، يلي، بمعنى عدم وجود واسطة بين شيئين، وتقاربهما وتتابعهما، ولهذا يطلق على كل شيء له نسبة
القرابة والقرب من شيء آخر سواء كان من جهة المكان أو الزمان أو النسب أو المقام، بأنّه ولي، ومن هنا استعملت هذه الكلمة بمعنى الرئيس والصديق وأمثال ذلك.
بناءً على هذا، فإِنّ أولياء الله هم الذين لايوجد حاجب وحائل بينهم وبين الله، فقد زالت الحجب عن قلوبهم ويتقلبون في نور المعرفة والإِيمان والعمل الخالص، و يرون الله بعيون قلوبهم بحيث لايجد الشك أي طريق إِلى تلك القلوب الوالهة، وبالنظر لهذه المعرفة بالله الأزلي والقدرة اللامحدودة والكمال المطلق، فإِنّ كل شيء سوى الله حقير في نظرهم ولا قيمة له، وفان لا أهمية له.
ومن هنا يتّضح أنّ هؤلاء لماذا لايخافون، لأنّ الخوف ينشأ عادة من احتمال فقدان النعم التي يمتلكها الإِنسان، أو من الأخطار التي يمكن أن تهدده في المستقبل، كما إِنّ الغم والهم يرتبط عادة بما يتعلق بالماضي، ويستولي على الإِنسان نتيجة فقدانه لإِمكانيات وثروات كانت تحت يده.
إِنّ أولياء وأحباء الله الحقيقيين متحررون من كل أشكال الإِرتباط والتعلق بعالم المادة، ويحكم «الزهد» بمعناه الحقيقي وجودهم، فهم لا يجزعون من فقدان الممتلكات المادية ولا يخافون من المستقبل، ولا يشغلون أفكارهم بمثل هذه المسائل. وبناءً على ذلك فإِن الغموم والأخاويف التي ترتبط بالماضي والمستقبل، والتي تجعل الآخرين في حال اضطراب وقلق دائم، لا سبيل لها إِلى وجود هؤلاء.
إِنّ الماء في الإناء الصغير قد يهتز من نفخة إِنسان، لكن المحيط الكبير لا يتأثر حتى بالعاصفة، ولذلك سمّوه المحيط الهادي:
(لكي لا تأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم).
فلم يكن لهم تعلّق بما كان في ايديهم سابقاً، ولا يصيبهم الغم والحزن في اليوم الذي سيفارقونه، فإِنّ روحهم أكبر، وفكرهم أسمى من أن تؤثر فيهم مثل هذه الحوادث في الماضي والمستقبل.
على هذا الأساس فإِنّ الأمن والطمأنينة الواقعية هي الحاكمة على وجودهم، وعلى حدّ قول القرآن: (أُولئك لهم الأمن)، وبتعبير آخر: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
والخلاصة هي أنّ الحزن والخوف عند البشر يتولّدان عادة من حبّ الدنيا، فمن الطبيعي أن لايصيب هؤلاء الذين نفضوا ايديهم وقلوبهم من حبها خوف، أو حزن.
كان هذا هو البيان الإِستدلالي للمسألة،
وقد يعرض هذا الموضوع أحياناً ببيان آخر يتحذ شكلا عرفانياً بهذه الصورة:
إِنّ أولياء الله غارقون في صفات جماله وجلاله، وذائبون في مشاهدة ذاته المقدسة إِلى الحد نسوا كل شيء غيره، ومعلوم أنّ الغم والحزن والخوف والوحشة تحتاج حتماً إِلى تصور فقدان وخسارة شيء ما، أو مواجهة عدو أو موجود خطر، فمن لم يجعل لغير الله مكاناً في قلبه ولا طريقاً الى فكره، ولا يقبل في روحه إِله غيره، كيف يمكن أن يغتم ويخاف ويستوحش؟
لقد اتّضحت ممّا ذكر هذه الحقيقة أيضاً، وهي أنّ المقصود من الغموم هي الغموم المادية والأخاويف الدنيوية، وإِلاّ فإِنّ وجود أولياء الله مملوء بالخوف والخشية .. الخوف من عدم أداء الواجبات والمسؤولية. والأسف والحسرة على أن يكون قد فاتهم شيء من الموفقية، ولهذا الخوف والحسرة صفة معنوية، فهما أساس تكامل وجود الإِنسان ورقيّه، بعكس الخوف والحزن الدنيويين فهما أساس الإِنحطاط والتسافل.
يقول أميرالمؤمين(عليه السلام) في خطبته المعروفة مع همام، حيث يجسد فيها حالات أولياء الله في أرقى وصف: «قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة»، ثمّ يقول: «ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إِلى الثواب، وخوفاً من العقاب» (1).
ويقول القرآن المجيد ـ أيضاً ـ في شأن المؤمنين:
(الذين يخشون ربّهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون)
وبناء على ذلك فإِنّ لهؤلاء خوفاً آخر.
هناك بحث بين المفسّرين فيمن هم المقصودون من أولياء الله، إلاّ أنّ الآية الثّانية وضحت المطلب وأنهت النقاش، فهي تقول: (الذين آمنوا وكانوا يتقون).
الملفت للنظر أنّها ذكرت الإِيمان بصيغة الفعل الماضي المطلق، والتقوى بصيغة الماضي الإِستمراري، وهذا إِشارة إِلى أنّ إِيمان هؤلاء قد بلغ حد الكمال، إلاّ أن التقوى التي تنعكس في العمل اليومي، وتتطلب كل يوم وكل ساعة عملا جديداً، ولها صفة تدريجية، فإِنّها قد ظهرت على هؤلاء بصورة برنامج دائمي و مسؤولية متواصلة.
نعم .. إِنّ الذين يرتكزون على هذين الركنين الأساسيين: الدين والشخصية، يحسون بدرجة من الطمأنينة داخل أرواحهم بحيث لا تهزهم أية عاصفة من عواصف الحياة. بل يقفون أمامها كالجبل، كما وصفهم الحديث: «المؤمن كالجبل الراسخ لا تحركه العواصف».
وتوكّد الآية الثّالثة على مسألة عدم وجود الخوف والغم والوحشة في شخصية وقلوب أولياء الحق بهذه العبارة: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) وعلى هذا فهم ليسوا خالين من الخوف والغم وحسب، بل إِنّ البشارة والفرحة والسرور
بالنعم الكثيرة والمواهب الإِلهية الامحدودة في هذه الدنيا والآخرة من نصيبهم. (ينبغي الانتباه إِلى أن البشرى قد ذكرت مع ألف ولام الجنس بصورة مطلقة، فهي تشمل أنواع البشارات).
ثمّ تضيف من أجل التأكيد أيضاً: (لا تبديل لكلمات الله)بل هي ثابتة حقّة، وأن الله سبحانه سيفي بما وعد به أولياءه، و (ذلك هو الفوز العظيم).
وحولت الآية الخطاب إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يمثل رأس سلسلة أولياء الله وأحبائه مخاطبةً له بلحن المواساة وتسلية الخاطر:
(ولا يحزنك قولهم إِنّ العزّة لله جميعاً)
ولا يمكن أن يقوم العدو بعمل مقابل إِرادة الحق، فإِنّه تعالى عالم بكل خططهم ودسائسهم. فـ(هو السميع العليم).
وهنا ملاحظتان ينبغي التوقف عندهما:
1 ـ ما هو المراد من البشارة في الآية؟
هناك بحث وجدال بين المفسّرين في المراد من البشارة التي أعطاها الله في الآيات أعلاه لأوليائه في الدنيا والآخرة، فالبعض إِعتبرها مختصة بالبشارة التي تقدمها الملائكة للمؤمنين عند الإِحتضار والموت، (وابشروا بالجنّة التي كنتم توعدون)
والبعض الآخر يعتبرها إِشارة إِلى وعود الله بالنصر والتغلب على الأعداء، والحكم في الأرض ماداموا مؤمنين وصالحين.
وقد فسّرت هذه البشارة في بعض الرّوايات بأنّها المنامات الجيدة التي يراها المؤمنون
إِلاّ أنّ إِطلاق هذه الكلمة، وألف لام الجنس في البشرى قد أخفيا فيها مفهوماً واسعاً بحيث أنّها تشمل كل نوع من البشارة وفرحة الإِنتصار والموفقية، ويندرج فيها كل ما ذكر أعلاه، وفي الواقع فإِنّ كلا منها إِشارة إِلى زاوية من هذه البشارة الإِلهية الواسعة.
وربّما كان ما فسّرت به البشرى في بعض الرّوايات بأنّها المنامات الحسنة والرؤيا الصالحة إِشارة إِلى أن كل البشارات حتى الصغيرة منها، تدخل أيضاً في مفهوم البشرى، لا أنّها منحصرة بها.
الواقع. وكما قيل سابقاً أيضاً، فإِنّ هذا هو الأثر التكويني والطبيعي للإِيمان والتقوى حيث تبتعد عن روح الإِنسان أشكال الإِضطراب والقلق المتولدة من الشك والتردد، وكذلك المتولدة من الذنب والتلوّث والفجور، فكيف يمكن أن يشعر بالراحة والإِطمئنان من لا إِيمان له، ومن ليس له متكأ معنوي يعتمد عليه في أعماق روحه؟!
إِنّه يبقى في سفينة وسط بحر هائج متلاطم الأمواج تقذف به الأمواج العظيمة في كل جانب وصوب وقد فتحت دوامات البحر أفواهها لابتلاعه !!
كيف يمكن أن يهدأ بال ويطمئن خاطر من تلطخت يداه بالظلم والجور وإِراقة دماء الناس وغصب أموال وحقوق الآخرين؟ إِنّه ـ وبخلاف المؤمنين ـ لايتمتع حتى بالنوم الهادىء، وغالباً ما يرى المنامات المرعبة التي يرى نفسه فيها مشتبكاً مع العدو، وهذا بنفسه دليل على اضطراب روح هؤلاء.
من الطبيعي أنّ الشخص الجاني ـ خاصّة إِذا كان مطارداً ـ يرى في عالم الرؤيا أشباحاً مرعبة قد أحكمت الطوق لإِلقاء القبض عليه، أو أنّ روح ذلك المقتول المظلوم تصرخ في أعماق صميره وتعذبه
2 ـ الرّويات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام)
لقد وردت في تفسير الآيات أعلاه روايات رائعة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، نشير إِلى بعض منها:
تلا أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) الآية: (ألا إِنّ أولياء الله ...) ثمّ سأل أصحابه: أتعلمون من هم أولياء الله؟ فقالوا: أخبرنا بهم يا أميرالمؤمنين، فقال: «هم نحن وأتباعنا، فمن تبعنا من بعدنا طوبى لنا، وطوبى لهم أفضل من طوبى لنا»، قالوا: يا أميرالمؤمنين، ما شأن طوبى لهم أفضل من طوبى لنا؟ ألسنا نحن وهم على أمر؟ قال: «لا، إِنّهم حملوا ما لم تحملوا عليه، وأطاقوا ما لم تطيقوا»(2).
وفي كتاب كمال الدين: روي عن أبي بصير عن الصّادق(عليه السلام)أنّه قال: «طوبى لشيعة قائمنا المنتظرين لظهوره في غيبته، والمطيعين له في ظهوره، أُولئك أولياء الله الذين لاخوف عليهم ولا هم يحزنون»(3).
ويروي أحد أصحاب الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: إِنّ أتباع هذا المذهب يرون في أواخر لحظات عمرهم ماتقّر به أعينهم، قال الراوي: فقلت له بضع عشرة مرّة: أي شيء؟ فقال في كلّها: «يرى» لايزيد عليها، ثمّ جلس في آخرها فقال: «ابيت إلاّ أن تعلم»؟ فقلت: نعم يابن رسول الله ... ثمّ بكيت، فرق لي، فقال: «يراهما والله» فقلت: بأبي وأمي من هما؟ فقال: «ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وعلي(عليه السلام)لن تموت نفس مؤمنة أبداً حتى تراهما». ثمّ قال: «إِن هذا في كتاب الله» فقلت: أين، جعلني الله فداك؟ قال: «في يونس، قول الله ها هنا: (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة)»(4) .
وهناك روايات أُخرى بمضمون هذه الرّواية.
ومن الواضح أنّ هذه الرّواية إِشارة إِلى قسم من بشارات المؤمنين المتقين، لا جميعها، وواضح ـ أيضاً ـ أن هذه المشاهدة ليست مشاهدة جسم مادي. بل مشاهدة الجسم البرزخي بالنظر البرزخي، لأنّا نعلم أنّ روح الإِنسان تبقى على جسمها البرزخي في عالم البرزخ الذي يمثل الفاصل بين هذه الدنيا وعالم الآخرة. (تفسير الأمثل)
من كتاب الأربعين حديث للشيخ لمحمد تقي المجلسي ورد
في الصحيح عن قبلة العارفين عليّ بن الحسين زين العابدين ـ صلوات اللّه عليهما ـقال: (إنّ الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإنّ الآخرة قد ارتحلت مقبلة, ولكلّ واحدة منهمابنون, فكونوا من أبناء الآخرة, ولاتكونوا من أبناء الدنيا ألا وكونوا من الزّاهدين في الدّنيا الرّاغبين في الآخرة.
ألا إنّ الزاهدين في الدّنيااتّخذوا الأرض بساطا والتّراب فراشا والماء طيبا وقرّضوا من الدّنيا تقريضا.
ألا ومن اشتاق إلى الجنّة سلا عن الشهوات, ومن أشفق من النّار رجع عنا لمحرّمات, ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب.
ألا إنّ للّه عبادا كمن رأىأهل الجنّة في الجنّة مخلّدين, وكمن رأى أهل النار في النار معذّبين, شرورهم مأمونة وقلوبهم محزونة, أنفسهم عفيفة وحوائجهم خفيفة, صبروا أيّاما قليلة فصاروا بعقبى راحة طويلة.
أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم تجري دموعهم على خدودهم وهم يجأرون إلى ربّهم(أي يتضرعون. )
يسعون في فكاك رقابهم, وأمّا النّهار فحكماء علماء, بررة أتقياء, كأنّهم القداح (أي السهام بلا ريش ولا نصل)
, قد براهم الخوف من العبادة, ينظر إليهم الناظر فيقول: مرضى وما بالقوم من مرض, أم خولطوا فقد خالط القوم أمر عظيم من ذكر النّار وما فيها
************************************************** *********************.
(1) نهج البلاغة، خطبة 193 . صبحي الصالح.
(2) المصدر السابق
(3) تفسير نور الثقلين، ج2، ص 309
(4) نور الثقلين، الجزء2، ص 310 (باختصار).
اللهم صل على محمد وآل محمد
الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحياة الدنيا ممر نعبر منه للآخرة وليس مقر نستقر فيه انما هي أياما معدودة محدودة يتزود منها الفرد بقدر مايستطيع أولنقل يحاول أن يبذل جهدا ملموسا يستطيع من خلاله عمل جسر للعبور عليه دون تعثر ان صح التعبير
قال عز من قائل في محكم كتابه الكريم:
(أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَآءَاللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَهُمْ يَحْزَنُونَ(62) الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ(63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الأَخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(64)) سورة يونس
«الأولياء» جمع ولي، وقد أخذت في الأصل من مادة: ولي، يلي، بمعنى عدم وجود واسطة بين شيئين، وتقاربهما وتتابعهما، ولهذا يطلق على كل شيء له نسبة
القرابة والقرب من شيء آخر سواء كان من جهة المكان أو الزمان أو النسب أو المقام، بأنّه ولي، ومن هنا استعملت هذه الكلمة بمعنى الرئيس والصديق وأمثال ذلك.
بناءً على هذا، فإِنّ أولياء الله هم الذين لايوجد حاجب وحائل بينهم وبين الله، فقد زالت الحجب عن قلوبهم ويتقلبون في نور المعرفة والإِيمان والعمل الخالص، و يرون الله بعيون قلوبهم بحيث لايجد الشك أي طريق إِلى تلك القلوب الوالهة، وبالنظر لهذه المعرفة بالله الأزلي والقدرة اللامحدودة والكمال المطلق، فإِنّ كل شيء سوى الله حقير في نظرهم ولا قيمة له، وفان لا أهمية له.
ومن هنا يتّضح أنّ هؤلاء لماذا لايخافون، لأنّ الخوف ينشأ عادة من احتمال فقدان النعم التي يمتلكها الإِنسان، أو من الأخطار التي يمكن أن تهدده في المستقبل، كما إِنّ الغم والهم يرتبط عادة بما يتعلق بالماضي، ويستولي على الإِنسان نتيجة فقدانه لإِمكانيات وثروات كانت تحت يده.
إِنّ أولياء وأحباء الله الحقيقيين متحررون من كل أشكال الإِرتباط والتعلق بعالم المادة، ويحكم «الزهد» بمعناه الحقيقي وجودهم، فهم لا يجزعون من فقدان الممتلكات المادية ولا يخافون من المستقبل، ولا يشغلون أفكارهم بمثل هذه المسائل. وبناءً على ذلك فإِن الغموم والأخاويف التي ترتبط بالماضي والمستقبل، والتي تجعل الآخرين في حال اضطراب وقلق دائم، لا سبيل لها إِلى وجود هؤلاء.
إِنّ الماء في الإناء الصغير قد يهتز من نفخة إِنسان، لكن المحيط الكبير لا يتأثر حتى بالعاصفة، ولذلك سمّوه المحيط الهادي:
(لكي لا تأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم).
فلم يكن لهم تعلّق بما كان في ايديهم سابقاً، ولا يصيبهم الغم والحزن في اليوم الذي سيفارقونه، فإِنّ روحهم أكبر، وفكرهم أسمى من أن تؤثر فيهم مثل هذه الحوادث في الماضي والمستقبل.
على هذا الأساس فإِنّ الأمن والطمأنينة الواقعية هي الحاكمة على وجودهم، وعلى حدّ قول القرآن: (أُولئك لهم الأمن)، وبتعبير آخر: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
والخلاصة هي أنّ الحزن والخوف عند البشر يتولّدان عادة من حبّ الدنيا، فمن الطبيعي أن لايصيب هؤلاء الذين نفضوا ايديهم وقلوبهم من حبها خوف، أو حزن.
كان هذا هو البيان الإِستدلالي للمسألة،
وقد يعرض هذا الموضوع أحياناً ببيان آخر يتحذ شكلا عرفانياً بهذه الصورة:
إِنّ أولياء الله غارقون في صفات جماله وجلاله، وذائبون في مشاهدة ذاته المقدسة إِلى الحد نسوا كل شيء غيره، ومعلوم أنّ الغم والحزن والخوف والوحشة تحتاج حتماً إِلى تصور فقدان وخسارة شيء ما، أو مواجهة عدو أو موجود خطر، فمن لم يجعل لغير الله مكاناً في قلبه ولا طريقاً الى فكره، ولا يقبل في روحه إِله غيره، كيف يمكن أن يغتم ويخاف ويستوحش؟
لقد اتّضحت ممّا ذكر هذه الحقيقة أيضاً، وهي أنّ المقصود من الغموم هي الغموم المادية والأخاويف الدنيوية، وإِلاّ فإِنّ وجود أولياء الله مملوء بالخوف والخشية .. الخوف من عدم أداء الواجبات والمسؤولية. والأسف والحسرة على أن يكون قد فاتهم شيء من الموفقية، ولهذا الخوف والحسرة صفة معنوية، فهما أساس تكامل وجود الإِنسان ورقيّه، بعكس الخوف والحزن الدنيويين فهما أساس الإِنحطاط والتسافل.
يقول أميرالمؤمين(عليه السلام) في خطبته المعروفة مع همام، حيث يجسد فيها حالات أولياء الله في أرقى وصف: «قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة»، ثمّ يقول: «ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إِلى الثواب، وخوفاً من العقاب» (1).
ويقول القرآن المجيد ـ أيضاً ـ في شأن المؤمنين:
(الذين يخشون ربّهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون)
وبناء على ذلك فإِنّ لهؤلاء خوفاً آخر.
هناك بحث بين المفسّرين فيمن هم المقصودون من أولياء الله، إلاّ أنّ الآية الثّانية وضحت المطلب وأنهت النقاش، فهي تقول: (الذين آمنوا وكانوا يتقون).
الملفت للنظر أنّها ذكرت الإِيمان بصيغة الفعل الماضي المطلق، والتقوى بصيغة الماضي الإِستمراري، وهذا إِشارة إِلى أنّ إِيمان هؤلاء قد بلغ حد الكمال، إلاّ أن التقوى التي تنعكس في العمل اليومي، وتتطلب كل يوم وكل ساعة عملا جديداً، ولها صفة تدريجية، فإِنّها قد ظهرت على هؤلاء بصورة برنامج دائمي و مسؤولية متواصلة.
نعم .. إِنّ الذين يرتكزون على هذين الركنين الأساسيين: الدين والشخصية، يحسون بدرجة من الطمأنينة داخل أرواحهم بحيث لا تهزهم أية عاصفة من عواصف الحياة. بل يقفون أمامها كالجبل، كما وصفهم الحديث: «المؤمن كالجبل الراسخ لا تحركه العواصف».
وتوكّد الآية الثّالثة على مسألة عدم وجود الخوف والغم والوحشة في شخصية وقلوب أولياء الحق بهذه العبارة: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) وعلى هذا فهم ليسوا خالين من الخوف والغم وحسب، بل إِنّ البشارة والفرحة والسرور
بالنعم الكثيرة والمواهب الإِلهية الامحدودة في هذه الدنيا والآخرة من نصيبهم. (ينبغي الانتباه إِلى أن البشرى قد ذكرت مع ألف ولام الجنس بصورة مطلقة، فهي تشمل أنواع البشارات).
ثمّ تضيف من أجل التأكيد أيضاً: (لا تبديل لكلمات الله)بل هي ثابتة حقّة، وأن الله سبحانه سيفي بما وعد به أولياءه، و (ذلك هو الفوز العظيم).
وحولت الآية الخطاب إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يمثل رأس سلسلة أولياء الله وأحبائه مخاطبةً له بلحن المواساة وتسلية الخاطر:
(ولا يحزنك قولهم إِنّ العزّة لله جميعاً)
ولا يمكن أن يقوم العدو بعمل مقابل إِرادة الحق، فإِنّه تعالى عالم بكل خططهم ودسائسهم. فـ(هو السميع العليم).
وهنا ملاحظتان ينبغي التوقف عندهما:
1 ـ ما هو المراد من البشارة في الآية؟
هناك بحث وجدال بين المفسّرين في المراد من البشارة التي أعطاها الله في الآيات أعلاه لأوليائه في الدنيا والآخرة، فالبعض إِعتبرها مختصة بالبشارة التي تقدمها الملائكة للمؤمنين عند الإِحتضار والموت، (وابشروا بالجنّة التي كنتم توعدون)
والبعض الآخر يعتبرها إِشارة إِلى وعود الله بالنصر والتغلب على الأعداء، والحكم في الأرض ماداموا مؤمنين وصالحين.
وقد فسّرت هذه البشارة في بعض الرّوايات بأنّها المنامات الجيدة التي يراها المؤمنون
إِلاّ أنّ إِطلاق هذه الكلمة، وألف لام الجنس في البشرى قد أخفيا فيها مفهوماً واسعاً بحيث أنّها تشمل كل نوع من البشارة وفرحة الإِنتصار والموفقية، ويندرج فيها كل ما ذكر أعلاه، وفي الواقع فإِنّ كلا منها إِشارة إِلى زاوية من هذه البشارة الإِلهية الواسعة.
وربّما كان ما فسّرت به البشرى في بعض الرّوايات بأنّها المنامات الحسنة والرؤيا الصالحة إِشارة إِلى أن كل البشارات حتى الصغيرة منها، تدخل أيضاً في مفهوم البشرى، لا أنّها منحصرة بها.
الواقع. وكما قيل سابقاً أيضاً، فإِنّ هذا هو الأثر التكويني والطبيعي للإِيمان والتقوى حيث تبتعد عن روح الإِنسان أشكال الإِضطراب والقلق المتولدة من الشك والتردد، وكذلك المتولدة من الذنب والتلوّث والفجور، فكيف يمكن أن يشعر بالراحة والإِطمئنان من لا إِيمان له، ومن ليس له متكأ معنوي يعتمد عليه في أعماق روحه؟!
إِنّه يبقى في سفينة وسط بحر هائج متلاطم الأمواج تقذف به الأمواج العظيمة في كل جانب وصوب وقد فتحت دوامات البحر أفواهها لابتلاعه !!
كيف يمكن أن يهدأ بال ويطمئن خاطر من تلطخت يداه بالظلم والجور وإِراقة دماء الناس وغصب أموال وحقوق الآخرين؟ إِنّه ـ وبخلاف المؤمنين ـ لايتمتع حتى بالنوم الهادىء، وغالباً ما يرى المنامات المرعبة التي يرى نفسه فيها مشتبكاً مع العدو، وهذا بنفسه دليل على اضطراب روح هؤلاء.
من الطبيعي أنّ الشخص الجاني ـ خاصّة إِذا كان مطارداً ـ يرى في عالم الرؤيا أشباحاً مرعبة قد أحكمت الطوق لإِلقاء القبض عليه، أو أنّ روح ذلك المقتول المظلوم تصرخ في أعماق صميره وتعذبه
2 ـ الرّويات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام)
لقد وردت في تفسير الآيات أعلاه روايات رائعة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، نشير إِلى بعض منها:
تلا أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) الآية: (ألا إِنّ أولياء الله ...) ثمّ سأل أصحابه: أتعلمون من هم أولياء الله؟ فقالوا: أخبرنا بهم يا أميرالمؤمنين، فقال: «هم نحن وأتباعنا، فمن تبعنا من بعدنا طوبى لنا، وطوبى لهم أفضل من طوبى لنا»، قالوا: يا أميرالمؤمنين، ما شأن طوبى لهم أفضل من طوبى لنا؟ ألسنا نحن وهم على أمر؟ قال: «لا، إِنّهم حملوا ما لم تحملوا عليه، وأطاقوا ما لم تطيقوا»(2).
وفي كتاب كمال الدين: روي عن أبي بصير عن الصّادق(عليه السلام)أنّه قال: «طوبى لشيعة قائمنا المنتظرين لظهوره في غيبته، والمطيعين له في ظهوره، أُولئك أولياء الله الذين لاخوف عليهم ولا هم يحزنون»(3).
ويروي أحد أصحاب الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: إِنّ أتباع هذا المذهب يرون في أواخر لحظات عمرهم ماتقّر به أعينهم، قال الراوي: فقلت له بضع عشرة مرّة: أي شيء؟ فقال في كلّها: «يرى» لايزيد عليها، ثمّ جلس في آخرها فقال: «ابيت إلاّ أن تعلم»؟ فقلت: نعم يابن رسول الله ... ثمّ بكيت، فرق لي، فقال: «يراهما والله» فقلت: بأبي وأمي من هما؟ فقال: «ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وعلي(عليه السلام)لن تموت نفس مؤمنة أبداً حتى تراهما». ثمّ قال: «إِن هذا في كتاب الله» فقلت: أين، جعلني الله فداك؟ قال: «في يونس، قول الله ها هنا: (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة)»(4) .
وهناك روايات أُخرى بمضمون هذه الرّواية.
ومن الواضح أنّ هذه الرّواية إِشارة إِلى قسم من بشارات المؤمنين المتقين، لا جميعها، وواضح ـ أيضاً ـ أن هذه المشاهدة ليست مشاهدة جسم مادي. بل مشاهدة الجسم البرزخي بالنظر البرزخي، لأنّا نعلم أنّ روح الإِنسان تبقى على جسمها البرزخي في عالم البرزخ الذي يمثل الفاصل بين هذه الدنيا وعالم الآخرة. (تفسير الأمثل)
من كتاب الأربعين حديث للشيخ لمحمد تقي المجلسي ورد
في الصحيح عن قبلة العارفين عليّ بن الحسين زين العابدين ـ صلوات اللّه عليهما ـقال: (إنّ الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإنّ الآخرة قد ارتحلت مقبلة, ولكلّ واحدة منهمابنون, فكونوا من أبناء الآخرة, ولاتكونوا من أبناء الدنيا ألا وكونوا من الزّاهدين في الدّنيا الرّاغبين في الآخرة.
ألا إنّ الزاهدين في الدّنيااتّخذوا الأرض بساطا والتّراب فراشا والماء طيبا وقرّضوا من الدّنيا تقريضا.
ألا ومن اشتاق إلى الجنّة سلا عن الشهوات, ومن أشفق من النّار رجع عنا لمحرّمات, ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب.
ألا إنّ للّه عبادا كمن رأىأهل الجنّة في الجنّة مخلّدين, وكمن رأى أهل النار في النار معذّبين, شرورهم مأمونة وقلوبهم محزونة, أنفسهم عفيفة وحوائجهم خفيفة, صبروا أيّاما قليلة فصاروا بعقبى راحة طويلة.
أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم تجري دموعهم على خدودهم وهم يجأرون إلى ربّهم(أي يتضرعون. )
يسعون في فكاك رقابهم, وأمّا النّهار فحكماء علماء, بررة أتقياء, كأنّهم القداح (أي السهام بلا ريش ولا نصل)
, قد براهم الخوف من العبادة, ينظر إليهم الناظر فيقول: مرضى وما بالقوم من مرض, أم خولطوا فقد خالط القوم أمر عظيم من ذكر النّار وما فيها
************************************************** *********************.
(1) نهج البلاغة، خطبة 193 . صبحي الصالح.
(2) المصدر السابق
(3) تفسير نور الثقلين، ج2، ص 309
(4) نور الثقلين، الجزء2، ص 310 (باختصار).