في معنى الكرسي والعرش
إنّ الذي نعتقده ونقطع به أنّ العرش الإلهي ليس جسما وأ نّه كهيئة السرير كما عند المجسّمة ـ خذلهم الله ـ ، وأنّ الله سبحانه يجلس عليه كما يجلس الملك على سرير وعرش ملكه ، ويكون لعرشه حين جلوسه صوت وأطيط كأطيط الرحل ، وأ نّه ينزل منه إلى السماء الاُولى أو إلى الأرض ، كما تعتقد به الوهابيّة في عصرنا ، تبعاً لابن تيميّة حينما سئل عن عرش الله ونزوله منه ، وكان جالساً على المنبر ، فقال : إنّه ينزل من عرشه كما أنزل من منبري هذا[1] ، ثمّ نزل من منبره ! ! فهذا مناف للعقل السليم والنقل الصحيح ، فإنّه يلزم على الله عزّ وجلّ أن يكون جسماً وفي جهة خاصّة ، ومن ثمّ يلزمه الاحتياج والافتقار وهما من آيات وخواصّ الإمكان الذاتي ، وأنّ الله جلّ جلاله واجب الوجود لذاته ، مستجمع لجميع صفات الجمال والكمال وهو الغنيّ بالذات ، سبحان الله عمّـا يصفون هؤلاء الجهّال ، فكيف يكون جسماً ؟ والجسم محتاج في وجوده وتركيبه إلى الغير وإلى الأجزاء ، والله الغنيّ اللطيف.
في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق (قدس سره) بسنده عن سلمان الفارسي قال : سأل الجاثليق أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : أخبرني عن ربّك أيحمل أو يُحمل ؟ فقال : إنّ ربّنا جلّ جلاله يحمل ولا يُحمل ، قال النصراني : كيف ذلك ونحن نجد في الإنجيل ( ويحمل عرش ربّك فوقهم يومئذ ثمانية ) ؟ فقال عليّ (عليه السلام) : إنّ الملائكة تحمل العرش وليس العرش كما تظنّ كهيئة السرير ، ولكنّه شيء محدود مخلوق مدبّر ، ربّك عزّ وجلّ مالكه لا أ نّه عليه ككون الشيء على الشيء ، وأمر الملائكة بحمله فهم يحملون العرش بما أقدرهم عليه ، قال النصراني : صدقت رحمك الله[2].
قيل : إنّ نظام العلّية هو الشكل العامّ لهذا العالم ، وجميع حوادث وظواهر العالم خاضعة لهذا القانون المطّرد ، أي إنّ كلّ معلول له علّة ، حتّى تنتهي العلل والمعاليل إلى علّة العلل وهو الله سبحانه وتعالى ، فهو مفيض الحياة وواهب القدرة وصانع القانون ، ولا يخفى وجود الاختلاف بين هذه العلل والمعاليل ، ولكن على اختلاف مراحل عالم الكون تنتهي جميع مراحله إلى مرحلة فيها تنتهي أزمّة الحوادث الملقاة على كواهل الأسباب ، وأزمّة الأسباب على اختلاف أشخاصها وأنواعها وترتّب مراتبها هو المسمّى عرشاً.
فالعرش مقام تنتهي فيه التدابير العامّة ، وتصدر منه الأوامر الكونيّة :
( ذو العَرْشِ الَمجيدِ فَعَّالٌ لِما يُريدُ )[3].
منه صور جميع الوقائع وهي حاضرة عند الله معلومة له ، وبذلك يمكن القول إنّ العرش : مقام العلم التامّ بتدبير العالم الذي يسع كلّ شيء ، وكلّ شيء في جوفه.
ومن هذه التدابير خلق السماوات والأرض ، أي بداية خلق الكون ، وبما أنّ الماء كان العلّة التي انطلقت منها الحياة فتعود جميع الأسباب والعلل إلى هذه العلّة الاُولى ، والتي هي بدورها معلولة ومخلوقة لله عزّ وجلّ لذلك كان عرشه على الماء ، كما في قوله تعالى :
( وَهُوَ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأرضَ في سِتَّةِ أ يَّام وَكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ )[4].
أي أ نّه في علم الله التامّ إنّ الماء بداية سلسلة الأسباب والحياة :
( وَجَعَلـْنا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيْء حَيّ أفَلا يُؤْمِنون )[5].
فكون العرش على الماء يومئذ كناية عن أنّ ملكه تعالى مستقرّاً يومئذ على هذا الماء الذي هو مادّة الحياة.
وأمّا حملة العرش فإنّه يظهر من الآيات أ نّهم من الملائكة ( وَمَنْ حَوْلَهُ )
وهم الملائكة الذين حول العرش :
( وَتَرى المَلائِكَةَ حافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ )[6].
فيكون حملة العرش أيضاً من الملائكة كما في الروايات الشريفة ، فتصدر الأوامر والأحكام من ذلك المقام المقدّس إلى هؤلاء الملائكة المقرّبين ، والله العالم.
وأمّا الكرسي فهو كناية عن الملك والاحتواء والسيطرة ، وما قيل عن البعض إنّ لله عزّ وجلّ كرسي يجلس عليه كلام غير صحيح فلا ينسجم مع الأدلّة العقليّة وظواهر القرآن ونصوص الأخبار ، وحقيقة الكرسي أ نّه مرتبة من العلم الفعلي وتسع هذه المرتبة كلّ ما في السماوات والأرض :
( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماوات وَالأرْضَ )[7].
أي وسع علمه جميع ملكه :
( ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ )[8].
احتواء الملك والسيطرة عليه .
وبهذا يكون العرش والكرسي أمراً واحداً ، وهو مرتبة عظيمة من العلم الإلهي ، والكرسي يسع العرش كما يظهر من قوله تعالى : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ )[9] وقد يطلق الكرسي على العرش ، ويراد منه معنىً واحداً ، فيمكن أن يقال :
1 ـ إنّ العرش هو المقام الذي يظهر به جميع الأشياء ، ويتمركز فيه إجمال جميع التدابير التفصيلية لهذا العالم ، وهو مقام الملك الذي يصدر منه التدابير ، ومقام العلم الذي يظهر به الأشياء.
2 ـ وإنّ الكرسي محيط بكلّ شيء وهو المقام الذي يظهر به تفصيلات الأشياء مع تغيّراتها ، والبداء الحاصل إنّما فيه لا في العرش . وهذه التفصيلات والتغيّرات حسب نظام العلّية وترتّب المعلولات على عللها ، فهو الكرسي أيضاً مقام الإحاطة والتدبير والحفظ ، وإنّه مقام العلم الحضوري.
3 ـ العرش والكرسي بابان في العلم الغيبي ، إلاّ أنّ ملك العرش أغيب من علم الكرسي ، لذلك كانت صفته أعظم من صفة الكرسي ، وهما في ذلك مقرونان.
جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) : « إنّ للعرش صفات كثيرة مختلفة له في كلّ سبب وضع في القرآن وصفه على حدة ، فقوله تعالى : ( رَبّ العَرْشِ العَظيمِ )يقول : الملك العظيم ، وقوله : ( الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى ) يقول : على الملك استوى . وهذا ملك الكيفوفيّة في الأشياء ، ثمّ العرش في الوصل متفرّد من الكرسي ، لأ نّهما بابان من أكبر أبواب الغيوب ، وهما جميعاً غيبان ، وهما في الغيب مقرونان لأنّ الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه يطلع البدع ، ومنه الأشياء كلّها.
والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحدّ والأين والمشيئة وصفة الإرادة وعلم الألفاظ والحركات والترك وعلم العود والبدء ، فهما في العلم بابان مقرونان ، لأنّ ملك العرش سوى ملك الكرسي ، وعلمه أغيب من علم الكرسي ، فمن ذلك قال : ( رَبّ العَرْشِ العَظيمِ ) أي صفته أعظم من صفة الكرسي وهما في ذلك مقرونان.
قلت : جعلت فداك ، فلم صار في الفضل جار الكرسي ؟ قال (عليه السلام) : إنّه صار جاره لأنّ علم الكيفوفيّة فيه ، وفيه الظاهر من أبواب البداء وأينيّتها ، وحدّ رتقها وفتقها ، فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الصرف ، ومثل صرف العلماء ويستدلّوا على صدق دعواهما ، لأ نّه يختصّ برحمته من يشاء وهو القويّ العزيز »[10].
الكيفوفيّة : بمعنى الكيفيّة من الكيف ، وهو سؤال عن حال الشيء فملك الكيفوفيّة ملك الأحوال الواقعة في الأشياء والاُمور الحاصلة فيها بعد إيجادها ، أي ما يعرض عليها من صفات ومتغيّرات.
فالعرش والكرسي واحد من حيث إنّهما مقام الغيب الذي يظهر منه الأشياء وينزل منه إلى هذا العالم ، لكن العرش في الكلام متميّز عن الكرسي ، لأنّ هذا المقام في نفسه ينقسم إلى مقامين لكنّهما مقرونان غير متباينين : أحدهما الباب الظاهر الذي يلي هذا العالم وهو الكرسي ، والآخر الباب الباطن الذي يليه وهو العرش . فهما يختلفان بنوع من الإجمال والتفصيل والبطون والظهور . وأحرى بالمقامين أن يسمّيا عرشاً وكرسيّاً ، لأنّ فيهما خواصّ عرش الملك وكرسيّه.
ثمّ يطلق العرش على كلّ صفة من صفات الله العليا وأسمائه الحسنى من الجلال والجمال والكمال ، إذ كلّ منها مستقرّ لعظمته وكبريائه ، وبتلك الأسماء والصفات يظهر على قدر قابليات خلقه ، ومعرفة عباده ، حتّى يكون الخلق مظهراً لها ، ويكون الإنسان الكامل وهو النبيّ الأعظم محمّد (صلى الله عليه وآله) مظهراً لتمام أسمائه وصفاته إلاّ الاُلوهيّة سبحانه وتعالى.
فحينئذ لله سبحانه عرش العلم ، وعرش القدرة وعرش الحياة ، وهذه من صفات الذات وأ نّها عين الذات[11] ، كما له عرش صفات الأفعال ، فله عرش الرحمانيّة وعرش الرحيميّة وعرش الوحدانيّة وعرش التقدّس والتنزّه ، كما يظهر من الأخبار والآيات ذلك.
وقال العلاّمة المجلسي (قدس سره) : وقد أوّل الوالد (رحمه الله) الخبر الذي ورد في تفسير قوله تعالى : ( الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى ) أنّ المعنى : استوى من كلّ شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء ، أنّ المراد بالعرش هنا عرش الرحمانيّة ، والظرف حال ، أي الربّ سبحانه حال كونه على عرش الرحمانية استوى من كلّ شيء ، إذ بالنظر إلى الرحيمية التي هي عبارة عن الهدايات والرحمات الخاصّة بالمؤمنين أقرب ، أو المراد أ نّه تعالى بسبب صفة الرحمانية حال كونه على عرش الملك والعظمة والجلال استوى نسبته إلى كلّ شيء ، وحينئذ فائدة التقييد بالحال نفي توهّم أنّ هذا الاستواء ممّـا ينقص من عظمته وجلاله شيئاً ، انتهى[12].
فعرش الله جلّ وعظم شأنه في عالم الأسماء الحسنى والصفات العليا ، إنّما يطلق على أسمائه وصفاته ، وقد كتب على عرش الله « إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة » وهذا يعني أنّ الحسين (عليه السلام) هو مظهر أسماء الله الحسنى وصفاته العليا ، وتتجلّى هذه المظهريّة وتبرز إلى عالم الوجود ، وفي دنيا الموجودات بكونه (عليه السلام)مصباح الهداية التكوينيّة والتشريعيّة ، لمن كتب عليه الهداية من المؤمنين والمتّقين باختيارهم نجد الخير ، وأ نّه سفينة النجاة لمن غرق في بحر الذنوب والمعاصي والآثام ، فتاب إلى الله وأراد النجاة.
ثمّ يطلق العرش على قلب الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) وورثتهم من العلماء الصالحين وكمّل المؤمنين ، فإنّ الله يناجيهم في سرّهم ، وجعل قلوبهم مستقرّ محبّته وشوقه ، وصدورهم معدن معرفته وعلمه.
وقد ورد في الخبر الشريف : « قلب المؤمن عرش الرحمن ».
وروي أيضاً في الحديث القدسي : « لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن ».
وعلى مثل هذه القلوب الطاهرة والقدسيّة الموالية ، خُطّ وكتب : « إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة » ، فقلب المؤمن حسيني العرش ، وإنّه عرش الله ، وفي مثل هذا القلب المبارك : « إنّ لقتل الحسين (عليه السلام) في قلوب المؤمنين لحرارة لا تُطفأ ولا تبرد أبداً إلى يوم القيامة ».
الهامش
[1]جاء ذلك في رحلة ابن بطوطة لمّـا وصل إلى دمشق ودخل جامعه ، والتقى بابن تيميّة ، فراجع.
[2]البحار 55 : 9 ، عن التوحيد : 232.
[3]البروج : 16.
[4]هود : 2.
[5]الأنبياء : 30.
[6]الزمر : 75.
[7]البقرة : 255.
[8]الأعراف : 54 + يونس : 3 + الرعد : 2 + الفرقان : 59.
[9]البقرة : 255.
[10]التوحيد للشيخ الصدوق ، باب العرش وصفاته.
[11]ذكرت تفصيل ذلك في كتاب ( عقائد المؤمنين ) و ( دروس اليقين في معرفة اُصول الدين ) ، وهما مطبوعان ، فراجع.
[12]البحار 55 :
المصدر
كتاب : الإمام الحسين (ع) في عرش الله المؤلف : السيد عادل العلوي