إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التوحيد عند الامام علي عليه السلام

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التوحيد عند الامام علي عليه السلام

    بسم الله الرحمن الرحيم
    اللهم صل على محمد وال محمد
    الخطبة الثانية

    ((أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَكَمالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَكَمالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ وَكَمالُ تَوْحِيدِهِ الاِْخْلاصُ لَهُ وَكَمالُ الاِْخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفاتِ عَنْهُ لِشَهادَةِ كُلِّ صِفَة أَنَّها غَيْرُ الْمَوْصُوفِ وَشَهادَةِ كُلِّ مَوْصُوف أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ اللّه سُبْحانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنّاهُ وَمَنْ ثَنّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ وَمَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشارَ إِلَيْهِ وَمَنْ أَشارَ إِلَيْهِ فَقَدْ عَدَّهُ)).
    --
    الشرح والتفسير:

    توحيد الذات والصفات
    تمثل هذه العبارات دورة تربوية تامة في المعرفة الإلهية. فقد اعتمد أمير المؤمنين(عليه السلام)عبارات مقتضبة عميقة المعنى بحيث قدم صورة عن الحق تبارك وتعالى لا يمكن الإتيان بأحسن منها حتى ولو جمعنا كافة دروس التوحيد والمعارف إليها وجعلنا بعضها إلى جانب البعض الآخر، فانّها تعجز عن رسم مثل تلك الصورة.
    فقد ذكر(عليه السلام) في هذا الجانب من خطبته خمسة مراحل لمعرفة الله يمكن ايجازها في مايلي:
    1 ـ المعرفة الإجمالية والناقصة
    2 ـ المعرفة التفصيلية
    3 ـ توحيد الذات والصفات
    4 ـ الاخلاص
    5 ـ نفي التشبيه
    فقد قال(عليه السلام) مبتدأ «أول الدين معرفته». لا شك أنّ الدين هنا يعني مجموعة العقائدوالواجبات والوظائف والأخلاق، ومن المعلوم أنّ دعامتها الأساسية هى «معرفة الله»، وعليه فمعرفة الله تمثل الخطوة الاولى على الطريق من جانب والمحور الرئيسي لكافة أصول الدين وفروعه، وليس لهذا الدين من حيوية دون هذه المعرفة أمّا أولئك الذين يعتقدون بأنّ هناك شيئاً آخر قبل معرفة الله، إلاّ وهو النظر في طريق معرفة الله والتحقيق بشأن الدين ووجوب المطالعة، فهم على خطأ كبير. وذلك لأنّ وجوب التحقيق يمثل أول الواجبات، بينما تمثل معرفة الله أول دعامة للدين، أو بعبارة أُخرى فان التحقيق مقدمة ومعرفة الله أولى مراحل ذي المقدمة.
    والنقطة الاُخرى المفروغ منها هى أنّ المعرفة الإجمالية قد أودعت فطرة الإنسان ولا تتطلب أدنى تبليغ بهذا الشأن، وإنما بعث الأنبياء لاستبدال هذه المعرفة الإجمالية بتلك المعرفة التفصيلية الكاملة المتقنة وإغناء جوانبها وتطهير الفكر البشري من أدران الشرك وأرجاسه.
    --
    ثم قال(عليه السلام): «وكمال معرفته التصديق به». هنالك عدّة تفاسير للفارق بين التصديق والمعرفة. بادئ ذي بدء المراد هنا بالمعرفة هى المعرفة الفطرية، والمقصود بالتصديق المعرفة العلمية والاستدلالية. أو أنّ المراد بالمعرفة هنا المعرفة الإجمالية، والمقصود بالتصديق المعرفة التفصيلية. أو أنّ المعرفة تشير إلى العلم بالله، والتصديق يشير إلى الإيمان، لأنّ العلم لا يفارق الإيمان، فالإنسان قد يوقن بشيء إلاّ أنّه لا يؤمن به قلبياً ـ بمعنى التسليم له والاذعان به قلبياً، أو بتعبير آخر الاعتقاد به ـ. وأحياناً يضرب الفضلاء مثلاً لانفصال هذين الأمرين عن بعضهما، فيقولون: إنّ أغلب الأفراد يشعرون بالهلع ولا سيما في الليلة المظلمة حين البقاء إلى جانب ميت في غرفة خالية، رغم علمهم بانه ميت، لكن كأن العلم لم ينفذ إلى أعماقهم ويتسلل إلى قلوبهم، فلم يحصل ذلك الإيمان المطلوب وبالتالي فقد تمخض عن هذا الهلع والخشية.
    وبعبارة اُخرى فانّ العلم هو تلك المعرفة القطعية بالشيء، إلاّ أنّها قد تكتسب صبغة سطحية فلا تنفذ إلى أعماق وجود الإنسان وروحه، فاذا نفذت إلى أعماقه وبلغت مرحلة اليقين بحيث أذعن الإنسان بذلك قلبياً، فان ذلك العلم يكتسب صفة الإيمان.
    --
    ثم قال(عليه السلام) في المرحلة الثالثة «وكمال التصديق به توحيده». فمما لاشك فيه أنّ الإنسان لم يبلغ مرحلة التوحيد الكامل على أساس معرفته التفصيلية لله أو بتعبير آخر بالمعرفة القائمة على أساس الدليل والبرهان. فالتوحيد التام في أن ينزه الذات الإلهية عن كل شبه ومثيل ونظير. وذلك لأنّ من جعل له شبيه وصنو لم يعرفه، فالله وجود مطلق غنى بالذات عمّا سواه وليس كمثله شيء، ومن طبيعة الاشياء التي لها أشباه وأمثال أن تكون محدودة، لأنّ أي من الشبيهين منفصل عن الآخر وفاقد لكمالاته.
    إذن فالإنسان لا يبلغ مرحلة الكمال إلاّ بالتصديق بذاته المنزهة في أنّه واحد; واحد لا عن عدد، بل واحد بمعنى خلوه من الشبيه والمثيل.
    --
    ثم ينتقل الإمام(عليه السلام) إلى المرحلة الرابعة وهى مرحلة الاخلاص فيقول: «وكمال توحيده الاخلاص له». والاخلاص من مادة الخلوص بمعنى تصفية الشيء عن الغير، بمعنى التصفية والتنزه. وهناك خلاف بين مفسري نهج البلاغة بشأن هذا الاخلاص، وهل المراد به الاخلاص العملي أم القلبي أم العقائدي. والمراد بالاخلاص العملي هو أن يعيش الفرد ذروة التوحيد الإلهي فلا يسأل سواه ولا يرى غيره فيما يقوم به من أفعال وأعمال. وهو الأمر الذي تناوله الفقهاء في بحث الاخلاص في العبادة ,
    أمّا الاخلاص القلبي والذي عبر عنه «الشارح البحراني ابن ميثم» بالزهد الحقيقي فهو يعنى توجه القلب إلى الله وعدم التفكير بما سواه، والانشغال بغيره ومن المستبعد أن يكون هذا هو المراد به. أمّا المفهوم الوحيد الذي يناسبه هو تنزيه الاعتقاد بالله تبارك وتعالى; أي تنزيهه في وحدته عن كل شبيه ومثيل، إلى جانب تقديسه عن التركيب من الأجزاء.

    وقد أشار الإمام(عليه السلام) إلى هذا المعنى في المرحلة الخامسة حين قال: «وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه». وبعبارة اخرى فان الحديث في المرحلة السابقة قد تناول الاخلاص على نحو الإجمال، فلما بلغ الاخلاص هنا مرحلة الكمال غاص في التفاصيل، ليتضح من ذلك أنّ الاخلاص في التوحيد يتطلب تنزيهه عن كافة الصفات التي يتصف بها المخلوق، سواء كانت هذه الصفات بمعنى التركب من الأجزاء أم غيرها، وذلك لأننا نعلم بأنّ جميع الممكنات بما فيها العقول والنفوس المجردة هى في الواقع مركبة (على الأقل مركبة من الوجود والماهية) وحتى المجردات; أي الموجودات الخارجة عن المادة هى الاُخرى ليست مستثناة من هذا التركب، أمّا الموجودات المادية فكلها متركبة من الأجزاء الخارجية، لكن الذات الإلهية المقدسة لا تشتمل على الأجزاء الخارجية ولا الأجزاء العقلية، لايمكن تجزأته في الخارج ولا في إدراكنا وفهمنا. وكل من غفل عن هذه الحقيقة لم يظفر بالتوحيد الخالص، ومن هنا يتضح بأنّ مراده(عليه السلام) بقوله «كمال توحيده نفي الصفات عنه» ليس الصفات الكمالية; لأنّ كافة الصفات الكمالية من قبيل العلم والقدرة والحياة وما إلى ذلك من الصفات ثابتة له، بل المراد الصفات التي ألفناها وتعرفنا عليها وهى صفات المخلوقين المشوبة بالنقص. فالمخلوقات لها حظ من علم وقدرة، غير أنّ علمها وقدرتها محدودة ناقصة مشوبة بالجهل والضعف والعجز، بينما الذات الإلهية منزهة عن مثل هذا العلم والقدرة وأفضل دليل على ذلك ما أورده الإمام(عليه السلام)في ذيل هذه الخطبة بشأن الملائكة فوصفهم بقوله: «لا يتوهمون ربهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين». أضف إلى ذلك فان صفات المخلوقات منفصلة دائماً عن ذواتها، أو بعبارة اُخرى فانّ صفاتها زائدة على ذواتها. فالإنسان شيء وعلمه وقدرته آخر، وبناءً على هذا فوجوده مركب من هذين الشيئين، والحال أنّ صفات الله عين ذاته وليس هنالك من سبيل لهذا التركب. والواقع أنّ أعظم عقبة تعترض مسيرة التوحيد إنّما تكمن في قضية
    «القياس»; أي قياس صفات الله بصفات المخلوقات المفعمة بأنواع النقص والعيب، أو الاعتقاد بالصفات الزائدة على الذات; الورطة التي وقعت فيها الأشاعرة .
    --
    ولذلك أردف الإمام(عليه السلام) قائلاً: «لشهادة كل صفة ـ من الممكنات ـ أنّها غير الموصوف وشهادة كل موصوف ـ من الممكنات ـ أنّه غير الصفة».
    فكلامه(عليه السلام) دليل واضح وجلي في أنّ الصفات الزائدة على الذات تشهد بلسان حالها أنّها غير الموصوف، وكل موصوف يشهد بأنّه ليس من الصفات، اللّهم إلاّ أن نقول بأنّ صفاته عين ذاته، ونؤمن بأنّ الله ذات جميعها علم وجميعها قدرة وجميعها حياة وأزلية وأبدية، وإن كان إدراك مثل هذا الاعتقاد متعذر علينا نحن المخلوقات الذين أنسنا بصفات المخلوق فقط ونرى أنّ الإنسان شيء وعلمه وقدرته شيئاً مضافاً للذات زائداً عليها، لأننا نلد من أمهاتنا وليس لنا من علم وقدرة ثم نحصل عليها لاحقاً.
    --
    ثم يواصل الإمام(عليه السلام) خطبته ويردفها بعبارة قصيرة إلاّ أنّها عميقة المعنى فيقول: «فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله».
    فالواقع أنّ كلام الإمام(عليه السلام) يفيد أن اثبات الصفات التي تتصف بها المخلوقات لله يستلزم التركب في وجوده سبحانه; أي كما أنّ المخلوق ـ الإنسان ـ مركب من الذات والصفات فان الله مركب كذلك; بينما لا ينسجم هذا المعنى وواجب الوجود، لأنّ كل مركب يحتاج إلى أجزائه والحاجة تتناقض والغنى المطلق لواجب الوجود,
    وهناك تفسيران آخران ذكرا لهذه العبارة:
    الأول: أننا إذا اعتبرنا صفاته سبحانه غير ذاته، فانّ ذاته ستكون مركبة، لأنّ الذات والصفات على فرض التناقض ستشتملان على جهات مشتركة ومتمايزة والذي يعبّر عنه «ما به الاشتراك» و«ما به الامتياز». لأنّ كليهما مشترك في الوجود وفي نفس الوقت متمايزان عن بعضهما، وفي هذه الحالة لابدّ أن نعتبر ذاته مركبة من جهتين مختلفتين أيضاً.

    الثاني: أن نؤمن بوحدة الذات الإلهية، ولا نعني بها الوحدة العددية، بل يعني مفهوم الوحدة بالنسبة للذات الإلهية أنّها منزهة عن الشبيه والمثيل والنظير. وبشكل عام فانّ الوجود المطلق من كل الجهات يأبى أن يكون له شبيه ومثيل، فان قلنا بأنّ صفات الله كذاته أزلية وأبدية ومطلقة، نكون قد حددناه سبحانه من جانب وقلنا بشبيه له من جانب آخر (لابدّ من التأمل في هذا الكلام) وهذا هو المعنى الذي كشف عنه الإمام(عليه السلام) في إطار توضيحه للاخلاص، فقال «فمن وصف الله سبحانه» أي وصفه بصفات المخلوقين «فقد قرنه» بالأشياء الاُخرى «ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزاه ومن جزاه فقد جهله» لأنّه حين جزاه بمعنى جعل ذاته متركبة من أجزاء وحقاً لم يعرف الله من اعتقد بتركب ذاته; وذلك لأنّه تصور كائناً على شاكلته ـ من حيث التركيب والمحدودية ـ وأسماه الله.
    --
    ثم يقول(عليه السلام): «ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده». ويوجد احتمالان بشأن قوله(عليه السلام): «ومن أشار إليه» الأول أن يكون المراد بها الإشارة العقلية، والثاني أن يكون المراد بها الإشارة العقلية والحسية. وتوضيح ذلك أنّ الإنسان إذا لم يعرف الله بتلك الحقيقة المطلقة اللامتناهية فانّه سيمتلك في ذهنه مفهوماً محدوداً وخاصاً عنه سبحانه، أو بتعبير آخر فانّه سيشير إليه بالإشارة العقلية، وبالطبع سيكون محدوداً في هذه الحالة تصوراً، وذلك لتعذر إدراك وتصور اللامحدود واللامتناهي على الإنسان المحدود والمتناهي. فالإنسان إنّما يدرك ما يحيط به من أشياء يسعه تجسيمها في فكره المحدود، وبالطبع فان مثل هذه الموجودات محدودة. وعلى هذا الضوء فان الله سيكون في مصاف المعدودات والأشياء القابلة للعدد، لأنّ من لوازم المحدود هو إمكان تصور موجود آخر في موضع آخر مثله.
    والأول الوحيد الذي ليس له ثان من كان غير محدود من جميع الجهات ولا يسعه العدد. وعلى هذا الأساس فان مولى الموحدين ـ علي بن أبي طالب(عليه السلام) ـ قد عكس حقيقة التوحيد في هذه العبارة القصيرة ذات المعنى العميق، فوصف البارئ سبحانه بما يفوق الخيال والقياس والظن والوهم. وهى ذات الحقيقة التي كشف النقاب عنها الإمام الباقر(عليه السلام) حين قال: «كل ما ميزتموه باوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم».
    والاحتمال الآخر مازال قائماً بأن يكون المراد «بالإشارة» الإشارة العقلية والإشارة الحسية أيضاً; وذلك لأنّ الله ليس بجسم ولا عرض والاعتقاد بجسمية الله جهل محض، ونتيجة ذلك كون الذات الإلهية محدودة لأنّ كل مشار إليه فهو محدود، فالمشار إليه لابدّ أن يكون في جهة مخصوصة، وكل ما هو في جهة فله حد وحدود.
    والحمد لله منتهى رضاه
يعمل...
X