إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

حياة زينب ع3

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حياة زينب ع3

    ولادتها ونشأتها

    ازدهرت حياة الاُسرة النبويّة بالسبطين الكريمين الإمامين الحسن والحسين (عليهما السّلام) ، فكانا كالقمرين في ذلك البيت الكريم الذي أذن الله أن يرفع ويُذكر فيه اسمه . وقد استوعبا قلب جدّهما الرسول (صلّى الله عليه وآله) مودّةً ورحمةً وحناناً ، فكان يرعاهما برعايته ، ويغدق عليهما بإحسانه , ويفيض عليهما من مكرمات نفسه التي استوعب شذاها جميع آفاق الوجود .
    لقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يكنّ في دخائل نفسه أعمق الودّ لسبطيه ، فكان يقول : (( هما ريحانتي من الدنيا ))(1) .
    وبلغ من عظيم حبّه لهما أنّه كان على المنبر يخطب ، فأقبل الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران ، وهما يمشيان ويعثران , فنزل عن المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه , وقال : (( صدق الله إذ يقول : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ )(2) . لقد نظرت إلى هذين الصبيِّين وهما يمشيان ويعثران فلم أصبر حتّى قطعت حديثي ورفعتهما ))(3) .
    ــــــــــــــــــ
    (1) كنز العمّال 7 / 110 ، صحيح البخاري ـ كتاب الأدب ، مجمع الزوائد 9 / 181 . تأريخ ابن عساكر 13 / 39 .
    (2) سورة الأنفال / 28 .
    (3) صحيح الترمذي 2 / 306 ، مسند أحمد بن حنبل 5 / 354 ، اُسد الغابة 2 / 12 ، صحيح النسائي 1 / 201 ، سنن البيهقي 3 / 218 .
    الصفحة (40)

    وكان يقول لسيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) : (( ادعي ابنيَّ )) . فيشمّهما ، ويضمّهما إليه(1) .
    وفي تلك الفترة السعيدة التي عاشتها الاُسرة النبويّة وهي مترعة بالولاء والعطف من الرسول (صلّى الله عليه وآله) عَرَضَ للصدّيقة الطاهرة سيدة نساء العالمين فاطمة (عليها السّلام) حملٌ ، فأخذ النبي (صلّى الله عليه وآله) ينتظره بفارغ الصبر ليبارك به لحبيبته فاطمة ، ولباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) . أمّا ذلك الحمل فهو :
    الوليدة المباركة

    ووضعت الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) وليدتها المباركة التي لم تولد مثلها امرأة في الإسلام إيماناً وشرفاً وطهارةً وعفةً وجهاداً ، وقد استقبلها أهل البيت وسائر الصحابة بمزيدٍ من الابتهاج والفرح والسرور ، وأجرى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) على وليدته المراسيم الشرعيّة ؛ فأذّن في أذنها اليمنى ، وأقام في اليسرى .
    لقد كان أوّل صوت قرع سمعها هو : (( الله أكبر ، لا إله إلا الله )) , وهذه الكلمات اُنشودة الأنبياء ، وجوهر القيم العظيمة في الأكوان .
    وانطبعت هذه الاُنشودة في أعماق قلب حفيدة الرسول فصارت عنصراً من عناصرها ، ومقوّماً من مقوّماتها .
    وجوم النبي (صلّى الله عليه وآله) وبكاؤه

    وحينما علم النبي (صلّى الله عليه وآله) بهذه المولودة المباركة سارع إلى بيت بضعته ، وهو خائر القوى حزين النفس فأخذها ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم ، وضمّها إلى صدره وجعل يوسعها تقبيلاً ، وبهرت سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) من بكاء أبيها ،
    ـــــــــــــــــ
    (1) تيسير الوصول ـ ابن الدبيغ 3 / 276 .
    الصفحة (41)

    فانبرت قائلةً : (( ما يبكيك يا أبتي , لا أبكى الله لك عيناً ؟ )) .
    فأجابها بصوت خافت حزين النبرات : (( يا فاطمة ، اعلمي أنّ هذه البنت بعدي وبعدك سوف تنصبّ عليها المصائب والرزايا ))(1) .
    لقد استشفّ النبي (صلّى الله عليه وآله) ما يجري على حفيدته من الرزايا القاصمة التي تذوب من هولها الجبال ، وسوف تُمتحن بما لم تمتحن به أيّ سيّدة من بنات حواء .

    ومن الطبيعي أنّ بضعته وباب مدينة علمه قد شاركا النبي في آلامه وأحزانه ، وأقبل سلمان الفارسي الصديق الحميم للاُسرة النبويّة يُهنئ الإمام أمير المؤمنين بوليدته المباركة , فألفاه حزيناً واجماً ، وهو يتحدّث عمّا تعانيه ابنته من المآسي والخطوب(2) ، وشارك سلمان أهل البيت في آلامهم وأحزانهم .
    تسميتها

    وحملت زهراء الرسول وليدتها المباركة إلى الإمام فأخذها وجعل يقبّلها ، والتفتت إليه فقالت له : (( سمّ هذه المولودة )) .
    فأجابها الإمام بأدبٍ وتواضع : (( ما كنت لأسبق رسول الله )) .
    وعرض الإمام على النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يسمّيها ، فقال : (( ما كنت لأسبق ربّي )) .
    ــــــــــــــ
    (1) الطراز المذهّب / 38 .
    (2) بطلة كربلاء / 21 .
    الصفحة (42)

    وهبط رسول السماء على النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقال له : سمّ هذه المولودة (زينب) ؛ فقد اختار الله لها هذا الاسم . وأخبره بما تعانيه حفيدته من أهوال الخطوب والكوارث , فأغرق هو وأهل البيت في البكاء(1) .
    كُنيتها

    وكُنّيت الصديقة الطاهرة زينب بـ (اُمّ كلثوم) ، وقيل : إنّها تُكنى بـ (اُمّ الحسن)(2) .
    ألقابها

    أمّا ألقابها فإنّهم تنّم عن صفاتها الكريمة ، ونزعاتها الشريفة , وهي :
    عقيلة بني هاشم

    و(العقيلة) : هي المرأة الكريمة على قومها ، والعزيزة في بيتها . والسيّدة زينب أفضل امرأة وأشرف سيّدة في دنيا العرب والإسلام ، وكان هذا اللقب وساماً لذريّتها ؛ فكانوا يلقّبون بـ (بني العقيلة) .
    العالمة

    وحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) من السيدات العالمات في الاُسرة النبويّة ، فكانت ـ فيما يقول بعض المؤرّخين ـ مرجعاً للسيّدات من نساء المسلمين ، يرجعنَ إليها في شؤونهنَّ الدينية .
    عابدة آل علي

    وكانت زينب من عابدات نساء المسلمين ، فلم تترك نافلة من النوافل
    ـــــــــــــــ
    (1) زينب الكبرى / 16 ـ 17 .
    (2) المصدر السابق / 17 .
    الصفحة (43)

    الإسلاميّة إلاّ أتت بها .

    ويقول بعض الرواة : إنّها صلّت النوافل في أقسى ليلة وأمرّها وهي ليلة الحادي عشر من المحرّم .
    الكاملة

    وهي أكمل امرأة في الإسلام في فضلها وعفّتها , وطهارتها من الرجس والزيغ .
    الفاضلة

    وهي من أفضل نساء المسلمين في جهادها وخدمتها للإسلام , وبلائها في سبيل الله .

    هذه بعض ألقابها التي تدلّل على سموّ ذاتها وعظيم شأنها .
    سنة ولادتها

    أمّا السنة التي وُلدت فيها عقيلة آل أبي طالب ، فقد اختلف المؤرّخون والرواة فيها ، وهذه بعض أقوالهم :
    1 ـ السنة الخامسة من الهجرة في شهر جمادى الأولى .
    2 ـ السنة السادسة من الهجرة .
    3 ـ السنة التاسعة من الهجرة .

    وفنّد هذا القول [الأخير] الشيخ جعفر نقدي ، فقال : وهذا القول غير صحيح ؛ لأنّ فاطمة (عليها السّلام) توفيت بعد والدها في السنة العاشرة أو الحادية عشر على اختلاف الروايات ، فإذا كانت ولادة السيّدة زينب في السنة التاسعة وهي كبرى بناتها , فمتى كانت ولادة اُمّ كلثوم ؟ ومتى حملت بالمحسن واسقطته لستة أشهر ؟

    وقال : والذي يترجّح عندنا هو أنّ ولادة زينب كانت في السنة الخامسة من الهجرة . وذكر مؤيدات اُخرى لِما ذهب إليه(1) .
    نشأتها

    نشأت الصدّيقة الطاهرة زينب (عليها السّلام) في بيت النبوّة ومهبط الوحي والتنزيل ، وقد
    ــــــــــــــ
    (1) زينب الكبرى / 18 .
    الصفحة (44)

    غذّتها اُمّها سيّدة نساء العالمين بالعفّة والكرامة ومحاسن الأخلاق والآداب ، وحفّظتها القرآن ، وعلّمتها أحكام الإسلام ، وأفرغت عليها أشعة من مُثُلها وقيمها حتّى صارت صورة صادقة عنها .
    لقد قطعت شوطاً من طفولتها في بيت الشرف والكرامة والرحمة والمودّة ، فقد شاهدت أباها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) يشارك أمّها زهراء الرسول في شؤون البيت ، ويعينها في مهامه ، ولم تتردّد في أجواء البيت أيّة كلمة من مرّ القول وهجره .

    وشاهدت جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) يغدق عليهم بفيض من تكريمه وتبجيله , وعطفه وحنانه ، كما شاهدت الانتصارات الباهرة التي أحرزها الإسلام في الميادين العسكرية ، والقضاء على خصومه القرشيّين وأتباعهم من عبدة الأوثان والأصنام ؛ فقد ساد الإسلام ، وارتفعت كلمة الله عاليةً في الأرض ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً أفواجاً .
    لقد ظفرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأروع وأسمى ألوان التربية الإسلاميّة ؛ فقد شاهدت أخاها الإمام الحسين (عليه السّلام) يعظّم أخاه الإمام الحسن (عليه السّلام) ويبجّله ، فلم يتكلّم بكلمة قاسية معه ، ولم يرفع صوته عليه , ولم يجلس إلى جانبه .

    وشاهدت إخوتها من أبيها وهم يعظّمون أخويها الحسن والحسين (عليهما السّلام) ، ويقدّمون لهما آيات التكريم والتبجيل ، وكانت هي بالذّات موضع احترام إخوتها ، فكانت إذا زارت أخاها الإمام الحسين (عليه السّلام) قام لها إجلالاً وإكباراً , وأجلسها في مكانه .

    وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة قبر جدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خرج معها أبوها الإمام أمير المؤمنين , وأخوها الحسنان ، ويبادر الإمام أمير المؤمنين إلى إخماد ضوء القناديل التي على المرقد المعظّم ، فسأله الإمام الحسن (عليه السّلام) عن ذلك ، فقال له : (( أخشى أن ينظر أحد إلى شخص اُختك الحوراء ))(1) .
    ـــــــــــــ
    (1) زينب الكبرى / 22 .
    الصفحة (45)

    لقد اُحيطت عقيلة بني هاشم بهالة من التعظيم والتبجيل من أبيها وإخوتها ؛ فهي حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ووريثة مُثُله وقيمه وآدابه ، كما كانت لها المكانة الرفيعة عند العلماء والرواة ، فكانوا إذا رووا حديثاً عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في أيام الحكم الاُموي يقولون : روى أبو زينب ، ولم يقولوا : روى أبو الحسنين ؛ وذلك إشادة بفضلها وعظيم منزلتها(*) .


    قدرتها العلميّة

    كانت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في فجر الصبا آيةً في ذكائها وعبقرياتها ؛ فقد حفظت القرآن الكريم ، كما حفظت أحاديث جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) فيما يتعلّق بأحكام الدين وقواعد التربية واُصول الأخلاق ، وقد حفظت الخطاب التأريخي الخالد الذي ألقته اُمّها سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) في (الجامع النبوي) احتجاجاً على أبي بكر لتقمّصه للخلافة ، ومصادرته لـ (فدك) التي أنحلها إيّاها أبوها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .

    وقد روت خطبة اُمّها التي ألقتها على السيّدات من نساء المسلمين حينما عُدنها في مرضها الذي توفّيت فيه ، كما روت عنها كوكبة من الأحاديث .
    قد بُهر الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) من شدّة ذكائها ، فقد قالت له : أتحبّنا يا أبتاه ؟ فأسرع الإمام قائلاً : (( وكيف لا اُحبّكم وأنتم ثمرة فؤادي ؟! )) .
    فأجابته بأدب واحترام : يا أبتاه ، إنّ الحبّ لله تعالى ، والشفقة لنا(1) .
    وعجب الإمام (عليه السّلام) من فطنتها ، فقد أجابته جواب العالم المنيب إلى الله تعالى .
    ـــــــــــــ
    (*) لا يخفى ما في هذا الرأي والتحليل من مسامحة ؛ ذلك أنّ الرواة حينما يطلقون كنية (أبو زينب) بدلاً من (أبو الحسَنين) هو تمويهاً منهم أمام السلطة الاُمويّة الحاكمة التي منعت الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) , وتوعّدت بمعاقبة الراوي بأقسى العقوبات وأشدّها إذا ما علمت أنّه يروي عنه (عليه السّلام) . انظر في ذلك : الإرشاد للشيخ المفيد 1 / 310 , أمالي المرتضى 1 / 112 وغيرهما من اُمّهات المصادر المعتبرة . (موقع معهد الإمامين الحسنين)
    (1) زينب الكبرى / 35 .
    الصفحة (46)

    وكان من فضلها واعتصامها بالله تعالى أنّها قالت : مَنْ أراد أن لا يكون الخلق شفعاءه إلى الله فليحمده ؛ ألم تسمع إلى قوله : سمع الله لمَنْ حمده ؟ فخف الله لقدرته عليك ، واستحِ منه لقربه منك(1) .
    وممّا يدلّ على مزيد فضلها أنّها كانت تنوب عن أخيها الإمام الحسين (عليه السّلام) في حال غيابه , فيرجع إليها المسلمون في المسائل الشرعيّة ؛ ونظراً لسعة معارفها كان الإمام زين العابدين (عليه السّلام) يروي عنها ، وكذلك كان يروي عنها عبد الله بن جعفر ، والسيّدة فاطمة بنت الإمام الحسين (عليه السّلام) .

    ولمّا كانت في الكوفة في أيام أبيها كان لها مجلس خاص تزدحم عليها السيّدات , فكانت تلقي عليهنَّ محاضرات في تفسير القرآن الكريم ، كما كانت المرجع الأعلى للسيّدات من نساء المسلمين ، فكنّ يأخذنَ منها أحكام الدين وتعاليمه وآدابه .

    ويكفي للتدليل على فضلها أنّ ابن عباس حبر الاُمّة كان يسألها عن بعض المسائل التي لا يهتدي لحلّها ، كما روى عنها كوكبة من الأخبار ، وكان يعتزّ بالرواية عنها ، ويقول : حدّثتنا عقيلتنا زينب بنت علي .

    وقد روى عنها الخطاب التأريخي الذي ألقته اُمّها سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) في جامع أبيها (صلّى الله عليه وآله) .

    وقد نابت عن ابن أخيها الإمام زين العابدين (عليه السّلام) في أيام مرضه ، فكانت تجيب عمّا يرد عليه من المسائل الشرعيّة ، وقد قال (عليه السّلام) في حقها : (( إنّها عالمة غير معلّمة )) .

    وكانت ألمع خطيبة في الإسلام ؛ فقد هزّت العواطف ، وقلبت الرأي العام وجنّدته للثورة على الحكم الاُموي ، وذلك في خطبها التأريخية الخالدة التي ألقتها في الكوفة ودمشق ، وهي تدلّل على مدى ثرواتها الثقافية والأدبية .
    لقد نشأت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في بيت الوحي ومركز العلم والفضل ، فنهلت من نمير علوم جدّها وأبيها وأخويها ، فكانت من أجلّ العالمات ، ومن أكثرهنَّ
    ـــــــــــــــ
    (1) أعيان الشيعة 7 / 140 .
    الصفحة (47)

    إحاطة بشؤون الشريعة وأحكام الدين .
    اقترانها بابن عمّها

    ولمّا تقدّمت سيّدة النساء زينب في السن , انبرى الأشراف والوجوه إلى خطبتها والتشرّف بالاقتران بها ، فامتنع الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) من إجابتهم ، وتقدّم لخطبتها فتىً من أنبل فتيان بني هاشم وأحبّهم إلى الإمام وأقربهم إليه ، وهو ابن أخيه (عبد الله بن جعفر) , من أعلام النبلاء والكرماء في دنيا العرب والإسلام ، فأجابه الإمام إلى ذلك ورحّب به .

    ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى بعض شؤونه :
    أبوه جعفر

    أمّا جعفر فقد كان ـ فيما يقول الرواة ـ من أشبه الناس خلقاً وخُلقاً بالنبي (صلّى الله عليه وآله)(1) . يقول فيه أبو هريرة : ما احتذى النعال , ولا ركب المطايا ، ولا وطئ التراب بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أفضل من جعفر بن أبي طالب(2) .

    وهو من السابقين للإسلام , وقد رآه أبوه أبو طالب يُصلّي مع أخيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) خلف النبي (صلّى الله عليه وآله) , فقال له : صل جناح ابن عمّك ، وصلِّ عن يساره . وكان علي يصلّي عن يمينه(3) . وله هجرتان ؛ هجرة إلى الحبشة ، وهجرة إلى المدينة(4) .
    وكان من أبرّ الناس بالفقراء والضعفاء ، وقد برّ بأبي هريرة وأحسن إليه أيام بؤسه وفقره ، وقد تحدّث عن ذلك ، قال : كنت لألصق بطني بالحصباء من الجوع ، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيطعمني .

    وكان أبرّ الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب ؛ كان ينقلب فيطعمنا ما كان في بيته , حتّى كان ليخرج
    ـــــــــــــــــ
    (1) الاستيعاب 1 / 242 ، وجاء فيه : أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال له : (( أشبهت خَلقي وخُلُقي يا جعفر )) .
    (2) الاستيعاب 1 / 243 .
    (3 , 4) اُسد الغابة 1 / 287 .
    الصفحة (48)

    إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقّها فنلعق ما فيها(1) .
    وقدم إلى المدينة من هجرته إلى الحبشة , فاستبشر به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفرح ؛ فقد صادف قدومه فتح خيبر ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( ما أدري بأيّهما أنا أشدّ فرحاً ؛ أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر ؟ ))(2) .
    واختطّ له النبي (صلّى الله عليه وآله) داراً إلى جنب المسجد ، وكان أثيراً عنده ؛ لا لأنّه ابن عمّه فحسب ، وإنّما لإيمانه الوثيق وتفانيه في نشر كلمة الإسلام ، وإشاعة مبادئه وأحكامه . بعثه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في جيش إلى مؤتة في السنة الثامنة من الهجرة فاستشهد فيها .

    ويقول الرواة : إنّ اللواء كان بيده اليمنى , فقطعت , فرفعه بيده اليسرى ، فلمّا قطعت رفعه بيديه ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( وإنّ الله عزّ وجلّ أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنّة حيث شاء ))(3) ؛ ولهذا لقّب بـ (ذي الجناحين) , وبـ (الطيار) .
    وحزن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على جعفر , فقصد داره ليواسي زوجته وأبناءه بمصابهم الأليم ، فقال لزوجته أسماء : (( ائتيني ببني جعفر )) . فأتته بهم ، فجعل يوسعهم تقبيلاً ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم ، وفهمت أسماء نبأ شهادة زوجها , فقالت له : يا رسول الله ، أبَلَغك عن جعفر وأصحابه شيء .
    فأجابها بنبراتٍ تقطر أسىً وحزناً قائلاً : (( نعم ، اُصيب هذا اليوم )) .
    ـــــــــــــــ
    (1) المصدر السابق .
    (2) الاستيعاب 1 / 242 ، كان قدوم جعفر إلى يثرب في السنة السابعة من الهجرة .
    (3) الاستيعاب 1 / 242 .
    الصفحة (49)

    وأخذت أسماء تنوح على زوجها ، وأقبلت السيّدات من نساء المسلمين يعزينها بمصابها الأليم ، وأمر النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يُصنع طعام لآل جعفر(1) , وأقبلت سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) على أسماء تعزّيها وهي باكية العين ، وقد رفعت صوتها قائلة : (( وا عمّاه ! )) .
    وطفق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( على مثل جعفر فلتبك البواكي ))(2) .
    لقد كانت شهادة جعفر من أقسى النكبات على النبي (صلّى الله عليه وآله) ؛ فقد فَقَدَ بشهادته أعزّ أبناء عمومته وأخلصهم إليه .
    الاُمّ أسماء

    أمّا اُمّ عبد الله فهي السيّدة الشريفة أسماء بنت عميس ، وهي من السابقات إلى اعتناق الإسلام ، هاجرت مع زوجها الشهيد الخالد جعفر الطيار إلى الحبشة ، وقد ولدت فيها عبد الله وعوناً ومحمداً ، ثمّ هاجرت إلى المدينة . ولمّا استشهد جعفر تزوّجها أبو بكر فولدت له محمداً ، وهو من أعلام الإسلام ، ثمّ توفي أبو بكر فتزوّجها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فولدت له يحيى(3) .

    وقد أخلصت لأهل البيت (عليهم السّلام) فكانت من حزبهم ، ولها علاقة وثيقة مع سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) ؛ فقد قامت بخدمتها ، وقد عهدت إليها في مرضها أن لا تدخل عليها عائشة بنت أبي بكر ، فجاءت عائشة عائدة لها فمنعتها أسماء ، فاغتاظت وشكتها إلى أبي بكر , فعاتبها ، فأخبرته بعدم رضاء الزهراء في زيارتها(4) .
    لقد كانت أسماء من خيرة نساء المسلمين في عفّتها وطهارتها وولائها لأهل
    ـــــــــــــــــ
    (1) (2) اُسد الغابة 1 / 289 .
    (3) المصدر السابق 5 / 395 .
    (4) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 1 / 271 .
    الصفحة (50)

    بيت النبوّة ، كما كانت من الراويات للحديث ، ويقول المؤرّخون : إنّها روت عن النبي (صلّى الله عليه وآله) ستّين حديثاً .
    وعلى أيّ حال ، فإنّ أسماء حينما تزوّجها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) قامت بخدمة الحسنين واُختهما زينب (عليها السّلام) ، وصارت لهم اُمّاً رؤوماً ، ترعاهم كما ترعى أبناءها ؛ لأنّهم البقية الباقية من ذرية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد أخلصوا لها كأعظم ما يكون الإخلاص , وشكروا لها رعايتها وعطفها .
    عبد الله

    ونعود للحديث عن عبد الله بن جعفر ، فقد كان فذّاً من أفذاذ الإسلام وسيّداً من سادات بني هاشم ، يقول فيه معاوية : هو أهلٌ لكلّ شرفٍ ، والله ما سبقه أحدٌ إلى شرف إلاّ وسبقه(1) .

    وكان يُسمّى (بحر الجود)(2) ، ويُقال : لم يكن في الإسلام أسخى منه(3) . مدحه نصيب فأجزل له في العطاء ، فقيل له : تُعطي لهذا الأسود مثل هذا ؟! فقال : إن كان أسود فشِعره أبيض ، ولقد استحق بما قال أكثر ممّا نال . وهل أعطيناه إلاّ ما يبلى ، وأعطانا مدحاً يروى وثناءً يبقى(4) !

    وعوتب على كثرة برّه وإحسانه إلى الناس ، فقال : إنّ الله عوّدني عادة ، وعوّدت الناس عادة ، فأخاف إن قطعتها قُطعت عني(5) . وأنشد :
يعمل...
X