وتمثّلت هذه البطولة العلوية بجميع صورها وألوانها عند حفيدة الرسول وعقيلة بني هاشم السيدة زينب (سلام الله عليها) ؛ فإنّها لمّا مثلت أمام الإرهابي المجرم سليل الأدعياء ابن مرجانة احتقرته واستهانت به ، فاندفع الأثيم يظهر الشماتة بلسانه الألكن قائلاً : الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم ، وكذّب اُحدوثتكم .
فانبرت حفيدة الرسول بشجاعة وصلابة قائلة : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يُفتضح الفاسق ويُكذب الفاجر ، وهو غيرنا يابن مرجانة ...(1) .
لقد قالت هذا القول الصارم الذي هو أمض من السلاح ، وهي والمخدّرات من آل محمّد في قيد الأسر ، وقد رفعت فوق رؤوسهنَّ رؤوس حماتهنَّ ، وشهرت عليهنَّ سيوف الملحدين . لقد أنزلت العقيلة ـ بهذه الكلمات ـ الطاغية من عرشه إلى قبره ، وعرّفته أمام خدمه وعبيده أنّه المفتضح والمنهزم ، وأنّ أخاها هو المنتصر .
ولم يجد ابن مرجانة كلاماً يقوله سوى التشفّي بقتل عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، قائلاً : كيف رأيت صنع الله بأخيك(2) ؟
وانطلقت عقيلة بني هاشم ببسالة وصمود ، فأجابت بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها قائلة : ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل ، فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم ، فتُحاجّ وتُخاصم ، فانظر لمَنْ الفلج يومئذ ، ثكلتك أُمّك يابن مرجانة !
أرأيتم هذا التبكيت الموجع ؟ أرأيتم هذه الشجاعة العلوية ؟ فقد سجّلت
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 6 / 263 .
(2) زينب الكبرى / 61 .
الصفحة (64)
حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بموقفها وكلماتها فخراً للإسلام وعزّاً للمسلمين , ومجداً خالداً للاُسرة النبويّة .
أمّا موقفها في بلاط يزيد ، وموقفها مع الشامي وخطابها الثوري الخالد فقد هزّ العرش الاُموي ، وكشف الواقع الجاهلي ليزيد ومن مكّنه من رقاب المسلمين ، وسنعرض لخطابها وسائر مواقفها المشرّفة في البحوث الآتية .
الزهد في الدنيا
ومن عناصر سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) الزهد في الدنيا ؛ فقد بذلت جميع زينتها ومباهجها مقتدية بأبيها الذي طلّق الدنيا ثلاثاً لا رجعة له فيها ، ومقتدية باُمّها سيّدة نساء العالمين , زهراء الرسول .
فقد كانت ـ فيما رواه المؤرّخون ـ لا تملك في دارها سوى حصير من سعف النخل , وجلد شاة ، وكانت تلبس الكساء من صوف الإبل ، وتطحن بيدها الشعير ، إلى غير ذلك من صنوف الزهد والإعراض عن الدنيا . وقد تأثّرت عقيلة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بهذه الروح الكريمة فزهدت في جميع مظاهر الدنيا ، وكان من زهدها أنّها ما ادّخرت شيئاً من يومها لغدها حسب ما رواه عنها الإمام زين العابدين (عليه السّلام)(1) .
وقد طلقت الدنيا وزهدت فيها وذلك بمصاحبتها لأخيها أبي الأحرار ؛ فقد علمت أنّه سيستشهد في كربلاء , أخبرها بذلك أبوها ، فصحبته وتركت زوجها الذي كان يرفل بيته بالنعيم ومتع الحياة ، رفضت ذلك كلّه وآثرت القيام مع أخيها لنصرة الإسلام والذبّ عن مبادئه وقيمه ، وهي على علم بما تشاهده من مصرع أخيها ، وما يجري عليها بالذّات من الأسر والذلّ .
لقد قدّمت على ذلك خدمة لدين الله تعالى .
ـــــــــــــــــــــ
(1) صحيح الترمذي 2 / 319 ، وقريب منه رواه الحاكم في مستدركه 3 / 149 ، وابن الأثير في اُسد الغابة 5 / 523 ، والخطيب في تأريخ بغداد 7 / 36 ، وغيرهم .
الصفحة (65)
أحداث مروّعة(*)
وقطعت عقيلة بني هاشم شوطاً من حياة الصبا في كنف جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) , وفي ذرى عطفه ، وهي ناعمة البال قريرة العين ، يتلقّاها بمزيدٍ من الحفاوة والتكريم ، وترى أبويها وقد غمرتهما المودّة والاُلفة والتعاون ، فكانت حياتهما أسمى مثل للحياة الزوجية في الإسلام .
وقد نشأت في ذلك البيت الذي سادت فيه تلاوة كتاب الله العزيز ، وآداب الإسلام وأحكامه وتعاليمه ؛ فكان مركزاً للتقوى ومعهداً لمعارف الإسلام . كما شاهدت الانتصارات الرائعة التي أحرزها الإسلام في الميادين العسكرية ، واندحار القبائل القرشية التي ناهضت الإسلام وناجزته بجميع ما تملك من قوّة ؛ فقد اندحرت وأذلّها الله ؛ فقد فتحت مكة وطُهّر بيتها الحرام من الأصنام والأوثان التي كانت تُعبد من دون الله تعالى .
ولعلّ من أهمّ ما شاهدته العقيلة في أدوار طفولتها هو احتفاء جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأبيها واُمّها وأخويها ؛ فقد كانوا موضع اهتمامه وعنايته .وقد أثرت عنه كوكبة من الروايات أجمع المسلمون على صحتها ، وهذه بعضها :
1 ـ روى زيد بن أرقم : أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال لعليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السّلام) : (( أنا حربٌ لمَنْ حاربتم ، وسلم لمَنْ سالمتم ))(1) .
ـــــــــــــــــــــ
(*) يبدو أنّ هذا العنوان قد وقع هنا سهواً من قِبل المؤلِّف أو الناسخ ؛ إذ لا توجد بينه وبين الموضوع الذي تصدّره أيّةُ علاقة ؛ اللهمَّ إلاّ إذا قلنا بشموليّته للعنوان وموضوعه الذي يأتي في أواخر الصفحة (67) وإن كان هذا بعيداً عنه . (موقع معهد الإمامين الحسنَين)
(1) مسند أحمد 1 / 77 ، صحيح الترمذي 2 / 301 ، تهذيب التهذيب 10 / 430 ، وجاء فيه أنّ نصر بن عليّ حدّث بهذا الحديث ، فأمر المتوكّل بضربه ألف سوط ، فكلّمه فيه جعفر بن عبد الواحد , وجعل يقول له : إنّه من أهل السنّة . فلم يزل يترجّاه حتّى تركه .
الصفحة (66)
2 ـ روى أحمد بن حنبل بسنده : أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) أخذ بيد الحسن والحسين ، وقال : (( مَنْ أحبّني وأحبّ هذين وأباهما واُمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة ))(1) .
3 ـ روى أبو بكر قال : رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خيّم خيمة ، وهو متكئ على قوس عربية ، وفي الخيمة عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، فقال : (( معاشر المسلمين ، أنا سلم لمَنْ سالم أهل الخيمة ، وحرب لمَنْ حاربهم ، ووليّ لمَنْ والاهم ، لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ ، ولا يبغضهم إلاّ شقي الجدّ , ردئ الولادة ))(2) .
4 ـ روى ابن عباس أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال : (( النجوم أمانٌ لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لاُمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس ))(3) .
5 ـ روى زيد بن أرقم أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : (( إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر ؛ كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ))(4) .
6 ـ روى أبو سعيد الخدري ، قال : سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( إنّما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح ؛ مَن ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق . وإنّما مثل أهل بيتي
ـــــــــــــــــــــ
(1) الرياض النضرة 2 / 252 .
(2) مستدرك الحاكم 3 / 149 ، كنز العمال 6 / 116 ، الصواعق المحرقة / 111 . نصّ الحديث : (( النجوم أمان لأهل الأرض , وأهل بيتي أمان لاُمّتي )) .
(3) صحيح الترمذي 2 / 308 ، اُسد الغابة 2 / 12 ، وما يقرب من هذا الحديث روي في كنز العمّال 1 / 48 ، مجمع الهيثمي 9 / 163 .
(4) مجمع الزوائد 9 / 168 ، مستدرك الحاكم 2 / 43 ، تأريخ بغداد 2 / 19 ، ذخائر العقبى / 20 .
الصفحة (67)
فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل ؛ مَن دخله غفر له ))(1) .
7 ـ روى أبو برزة ، قال : صلّيت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سبعة أشهر ، فإذا خرج من بيته ، أتى باب فاطمة (عليها السّلام) ، فقال : (( السلام عليكم ، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ))(2) .
رأت العقيلة هذا الاحتفاء البالغ من جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) لأبيها واُمّها وأخويها ، ووعت الغاية من صنوف هذا التكريم والتعظيم ، وأنّه ليس مجرّد عاطفة وولاء لهذه الاُسرة الكريمة ، وإنّما هو للإشادة بما تتمتّع به من الصفات الفاضلة ، والقابليات الفذّة التي ترشّحهم لقيادة الاُمّة ، وتطويرها فكرياً واجتماعياً .
وأنّه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تحتلّ اُمّته مركزاً كريماً تحت الشمس ، وتكون رائدة لاُمم العالم وشعوب الأرض إلاّ بقيادة السادة من عترته الذين وعوا الإسلام ، والتزموا بحرفية الرسول (صلّى الله عليه وآله) .
خطوب مروّعة
ولم تدم الحالة الهانئة للاُسرة النبويّة , فقد دهمتهم كارثة مروّعة ؛ فقد بدت على الرسول (صلّى الله عليه وآله) طلائع الرحيل عن هذه الدنيا تلوح أمامه ، فكان القرآن الكريم قد نزل عليه مرتين , فاستشعر بدنوّ الأجل المحتوم منه(3) ، وأخبر بضعته الزهراء (عليها السّلام) ، فقال لها :
ـــــــــــــــــــــ
(1) ذخائر العقبى / 24 ، روى أنس بن مالك : أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) كان يمرّ ببيت فاطمة ستّة أشهر إذا خرج إلى الفجر , ويقول : (( الصلاة يا أهل البيت )) , ويتلو الآية الكريمة . جاء ذلك في مجمع الزوائد 9 / 169 ، أنساب الأشراف 1 / 157 ، القسم الأوّل .
(2) الخصائص الكبرى 2 / 368 .
(3) تأريخ ابن كثير 5 / 223 .
الصفحة (68)
(( إنّ جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة ، وأنّه عارضني بهذا العام مرّتين ، وما أرى ذلك إلاّ اقتراب أجلي ))(1) .
وتقطّع قلب زهراء الرسول ألماً وحزناً ، وشاعت الكآبة والحزن عند أهل البيت وذوت عقيلة بني هاشم من هذا النبأ المريع ، وطافت بها وهي في فجر الصبا تيارات من الأسى .
ونزلت على النبي (صلّى الله عليه وآله) سورة النصر , فكان يسكت بين التكبير والقراءة , ويقول : (( سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه )) .
وذهل المسلمون ، وفزعوا إليه يسألونه عن هذه الحالة الراهنة ، فأجابهم : (( إنّ نفسي قد نُعيت إليّ ))(2) .
وكادت نفوس المسلمين أن تزهق من هذا النبأ المريع ؛ فقد وقع عليهم كالصاعقة ، فلا يدرون ماذا سيجري عليهم لو خلت الدنيا من منقذهم ومعلّمهم وقائدهم .
رؤيا العقيلة
ورأت العقيلة في منامها رؤياً أفزعتها وأذهلتها , فأسرعت إلى جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) تقصّها عليه ، ولمّا مثلت عنده أجلسها في حجره , وجعله يوسعها تقبيلاً ، فقالت له : يا جدّاه ، رأيت رؤياً البارحة .
ـ (( قصّيها عليّ )) .
ـ رأيت ريحاً عاصفاً اسودّت الدنيا منها وأظلمت ، ففزعتُ إلى شجرة عظيمة فتعلّقت بها من شدّة العاصفة ، فقلعتها الرياح وألقتها على الأرض ، فتعلّقت بغصنٍ
ـــــــــــــــــــــ
(1) مناقب ابن شهرآشوب 1 / 167 .
(2) زينب الكبرى / 19 .
الصفحة (69)
قويّ من تلك الشجرة فقطعتها الرياح ، فتعلّقت بفرع آخر فكسرته الرياح أيضاً ، وسارعت فتعلّقت بأحد فرعين من فروعها فكسرته العاصفة أيضاً ، ثمّ استيقظت من نومي .
فأجهش النبي (صلّى الله عليه وآله) بالبكاء ، وفسّر لها رؤياها قائلاً : (( أمّا الشجرة فجدّك ، وأمّا الفرع الأوّل فاُمّك ، والثاني أبوك عليّ ، والفرعان الآخران هما أخواك الحسنان ، تسودّ الدنيا لفقدهم , وتلبسين لباس الحداد في رزيتهم ))(1) .
وساد الحزن والأسى في البيت النبوي ، وصدقت رؤيا العقيلة , فلم تمض أيام حتّى رُزئت بجدّها واُمّها ، وتتابعت عليها بعد ذلك الرزايا ، فقد استشهد أبوها وأخواها ، ولبست عليهم لباس الحزن والحداد .
حجة الوداع
ولمّا علم النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّ لقاءه بربّه قريب ، رأى أن يحجّ إلى بيت الله الحرام ليلتقي بالمسلمين ويضع لهم الخطوط السليمة لنجاتهم ، ويقيم فيهم القادة والمراجع الذين يقيمون فيهم الحقّ والعدل .
وحجّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لهذا الغرض ، وهي حجّته الأخيرة الشهيرة بـ (حجّة الوداع) ، وقد أشاع بين حجّاج بيت الله أنّ التقاءه بهم في هذا العام هو آخر التقاء بهم ، وأنّه سيسافر إلى الفردوس الأعلى ، وجعل يطوف بين الجماهير ويعرّفهم سبل النجاة ، ويرشدهم إلى ولاة اُمورهم من بعده قائلاً : (( أيّها الناس ، إنّي تركت فيكم الثقلين ؛ كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ))(2) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) صحيح الترمذي 2 / 308 .
(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 91 ـ 92 .
ثمّ وقف النبي (صلّى الله عليه وآله) عند بئر زمزم , وخطب خطاباً رائعاً وحافلاً بما تحتاج إليه الاُمّة في مجالاتها الاجتماعية والسياسيّة ، وقال فيما يخصّ القيادة الروحية والزمنية للاُمّة : (( إنّي خلّفت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا ؛ كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي , ألا هل بلّغت )) .
فانبرت الجماهير بصوتٍ واحدٍ قائلين : اللهمّ نعم(1) .
لقد عيّن الرسول (صلّى الله عليه وآله) القيادة العامّة لاُمّته , وجعلها مختصة بأهل بيته ؛ فهم ورثة علومه ، وخزنة حكمته الذين يعنون بالإصلاح الاجتماعي ، ويؤثرن مصلحة الاُمّة على كلّ شيء .
مؤتمر غدير خم
وقفل النبي (صلّى الله عليه وآله) بعد أداء مراسيم الحج إلى يثرب , وحينما انتهى موكبه إلى (غدير خم) نزل عليه الوحي برسالةٍ من السماء أن ينصب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) خليفةً من بعده ، ومرجعاً عاماً للاُمّة . لقد نزل عليه الوحي بهذه الآية : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )(2) .
ففي هذه الآية إنذار خطير إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) ؛ إذ إنّه إن لم يقم بهذه المهمة فما بلّغ رسالة ربّه ، وضاعت جميع جهوده وأتعابه في سبيل هذا الدين . فانبرى (صلّى الله عليه وآله) فحطّ أعباء المسير ، ووضع رحله في رمضاء الهجير ، وأمر قوافل الحجّ أن تفعل مثل ذلك ، وكان الوقت قاسياً في حرارته , فكان الرجل يضع طرف ردائه تحت قدميه
ـــــــــــــــــــــ
(1) الغدير 2 / 34 .
(2) سورة المائدة / 67 . نصّ على نزول هذه الآية في يوم الغدير الواحدي في أسباب النزول , والرازي في تفسيره ، وغيرهما .
الصفحة (71)
ليتّقي به حرارة الأرض ، وقام النبي (صلّى الله عليه وآله) فصلّى بالناس ، وبعد أداء فريضة الصلاة أمر بأن يوضع له منبر من حدائج الإبل ، فصُنع له ذلك فاعتلى عليه ، واتّجهت الجماهير بعواطفها وقلوبها نحو النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فخطب خطاباً مهمّاً أعلن فيه ما لاقه من عناء شاق في سبيل هدايتهم ، وتحرير إرادتهم ، وإنقاذهم من خرافات الجاهليّة وعاداتها .
ثم ذكر طائفة من أحكام الإسلام وتعاليمه ، وألزمهم بتطبيقها على واقع حياتهم ، ثمّ التفت إليهم فقال : (( انظروا كيف تخلفوني في الثقلين )) .
فناداه منادٍ من القوم : ما الثقلان يا رسول الله ؟
فأجابه : (( الثقل الأكبر : كتاب الله ، طرف بيد الله عزّ وجلّ وطرف بأيديكم ، فتمسّكوا به لا تضلّوا ، والآخر الأصغر : عترتي ، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فسألت ذلك لهما ربّي ، فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا )) .
ثمّ أخذ بيد وصيّه وباب مدينة علمه وناصر دعوته الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ليفرض ولايته على جميع المسلمين , فرفعها حتّى بان بياض إبطيهما ، ونظر إليهما القوم , ورفع النبي (صلّى الله عليه وآله) صوته قائلاً : (( أيّها الناس ، مَنْ أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ )) . فانبرت قوافل الحجّاج رافعة عقيرتها : الله ورسوله أعلم .
ووضع النبي (صلّى الله عليه وآله) القاعدة الأصلية التي تصون المسلمين من الانحراف قائلاً : (( إنّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمَنْ كنت مولاه فعليّ مولاه )) .
الصفحة (72)
وكرّر هذا القول ثلاث مرّات أو أربع , ثمّ قال : (( اللّهمّ وال مَنْ والاه ، وعاد مَنْ عاداه ، وأحبّ مَنْ أحبّه ، وأبغض مَنْ أبغضه ، وانصر مَنْ نصره ، واخذل مَنْ خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار . ألا فليبلغ الشاهد الغائب )) .
لقد أدّى النبي (صلّى الله عليه وآله) رسالة ربّه ؛ فنصب الإمام أمير المؤمنين خليفةً من بعده ، وقلّده منصب الإمامة والمرجعية العامة ، وأقبل المسلمون يهرعون صوب الإمام وهم يبايعونه بالخلافة , ويهنئونه بإمرة المسلمين وقيادتهم ، وأمر النبيّ اُمّهات المؤمنين أن يهنئنَ الإمام بهذا المنصب العظيم ففعلنَ ، وأقبل عمر بن الخطاب نحو الإمام فصافحه وهنّأه ، وقال له : هنيئاً يابن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة(1) .
وفي ذلك اليوم الخالد نزلت الآية الكريمة : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً )(2) .
قد تمّت نعمة الله الكبرى على المسلمين بولاية بطل الإسلام ورائد العدالة الاجتماعية في الأرض الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وقد خطا النبي (صلّى الله عليه وآله) الخطوة الأخيرة في أداء رسالته ، فصان اُمّته من الزيغ والانحراف ؛ فنصب لها القائد والموجّه , ولم يتركها فوضى ـ كما يزعمون ـ تتلاعب بها الفتن والأهواء , وتتقاذفها أمواج من الضلال .
إنّ وثيقة الغدير من أروع الأدلّة وأوثقها على اختصاص الخلافة والإمامة بباب مدينة علم النبي الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وهي جزء من رسالة الإسلام وبند من أهم بنوده ؛ لأنّها تبنّت القضايا المصيرية للعالم الإسلامي على امتداد التأريخ .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مسند أحمد 4 / 281 .
(2) سورة المائدة / 3 . نصّ على نزول هذه الآية في يوم الغدير الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 8 / 29 ، السيوطي في الدر المنثور ، وغيرهما من أعلام أهل السنّة .
الصفحة (73)
لقد وعت سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) وهي في فجر الصبا هذه البيعة لأبيها ، وأنّ جدّها قد قلّده بهذا المنصب الخطير لسلامة الاُمّة وتطورها ، والبلوغ بها إلى أعلى المستويات من التقدّم ، والقيادة العامة لشعوب العالم واُمم الأرض ، ولكنّ القوم قد سلبوا أباها هذا المنصب ، وجعلوه في معزل عن الحياة الاجتماعية والسياسيّة ، وقد أخلدوا بذلك للاُمّة المحن والخطوب ، وتجرّعت حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله) بالذّات أهوالاً من المصائب والكوارث كانت ناجمة ـ من دون شك ـ عن هذه المؤامرة التي حيكت ضدّ أبيها ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
مرض النبي (صلّى الله عليه وآله)
ولمّا قفل النبي (صلّى الله عليه وآله) بعد حجة الوداع راجعاً إلى يثرب بدأت صحّته تنهار يوماً بعد يوم ، فقد ألمّ به المرض ، وأصابته حمّى مبرحة حتّى كأنّ به لهباً منها ، وكانت عليه قطيفة فإذا وضع أزواجه وعوّاده عليها أيديهم شعروا بحرّها(1) .
وقد وضعوا إلى جواره إناءً فيه ماء بارد , فكان يضع يده فيه ويمسح به وجهه الشريف ، وكان (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلته بـ (خيبر) ، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم ))(2) ؛ فقد قدّمت له امرأة يهودية في خيبر ذلك الطعام الذي سمّته فأثّر فيه .
ولمّا اُشيع مرض النبي (صلّى الله عليه وآله) هرع المسلمون إلى عيادته ، وقد خيّم عليهم الأسى والذهول ، فنعى (صلّى الله عليه وآله) إليهم نفسه , وأوصاهم بما يسعدون ويفلحون به قائلاً : (( أيّها الناس ، يوشك أن اُقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي ، وقدّمت إليكم القول
ـــــــــــــــــــــ
(1) البداية والنهاية 5 / 226 .
(2) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 1 / 202 .
الصفحة (74)
معذرة إليكم ، ألا إنّي مخلّفٌ فيكم كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي )) .
ثمّ أخذ بيد وصيّه وخليفته الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فقال لهم : (( هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض ))(1) .
لقد قرّر النبي (صلّى الله عليه وآله) أهم القضايا المصيرية لاُمّته ، فعيّن لها القائد العظيم الذي يحقّق لها جميع أهدافها وما تصبو إليه في حياتها .
سرية اُسامة
ورأى النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو في المرحلة الأخيرة من حياته التيارات الحزبية التي صمّمت على إقصاء عترته عن قيادة الاُمّة ، فرأى أنّ خير وسيلة يتدارك بها الموقف أن يزجّ بجميع أصحابه في بعثة عسكرية , حتّى إذا وافاه الأجل المحتوم تكون عاصمته خالية من العناصر المضادّة لوليّ عهده ؛ فأسند قيادة البعثة إلى اُسامة بن زيد ، وهو شاب في مقتبل العمر ، وكان من بين الجنود أبو بكر وعمر , وأبو عبيدة الجراح وبشير بن سعد(2) .
وقال النبي (صلّى الله عليه وآله) لاُسامة : (( سِر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل ؛ فقد ولّيتك هذا الجيش , فاغزُ صباحاً على أهل أبنى(3) , وحرّق عليهم ، وأسرع السير لتسبق الأخبار ، فإن أظفرك الله عليهم فاقلل اللبث فيهم ، وخذ معك الأدلاء , وقدّم العيون والطلائع معك )) .
ومُني الجيش بالتمرّد وعدم الطاعة ، فلم يلتحق أعلام الصحابة بوحداتهم
ـــــــــــــــــــــ
(1) الصواعق المحرقة / 124 .
(2) كنز العمّال 5 / 312 ، طبقات ابن سعد 4 / 46 ، تأريخ الخميس 2 / 46 .
(3) ابنى : ناحية بالبلقاء من أرض سوريا ، بين عسقلان والرملة ، تقع بالقرب من مؤتة ، وهي التي استشهد فيها زيد بن حارثة وجعفر الطيّار .
الصفحة (75)
العسكرية ، ولمّا علم النبي (صلّى الله عليه وآله) بذلك تألّم ، فخرج مع ما به من المرض , فحثّ الجند على المسير , وعقد بنفسه اللواء لاُسامة ، وقال له : (( اغزُ بسم الله , وفي سبيل الله ، وقاتل مَنْ كفر بالله )) .
فخرج اُسامة بلوائه معقوداً ودفعه إلى بريده ، وعسكر بـ (الجرف) ، وتثاقل جمع من الصحابة عن الالتحاق بالمعسكر ، وأظهروا الطعن والاستخفاف باُسامة القائد العام للجيش .
يقول له عمر : مات رسول الله وأنت عليَّ أمير ؟!
وانتهت كلماته إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، وقد أخذت منه الحمّى مأخذاً عظيماً ، فخرج وهو معصّب الرأس قد برح به المرض ، فصعد المنبر والتأثّر بادٍ عليه ، فقال : (( أيّها الناس ، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اُسامة ، ولئن طعنتم في تأميري اُسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله . وأيم الله ، إنّه كان خليقاً بالإمارة , وإنّ ابنه من بعده لخليقٌ بها )) .
ثمّ نزل عن المنبر ودخل بيته والتأثّر بادٍ عليه(1) , وجعل يوصي أصحابه بالالتحاق بالجيش قائلاً : (( جهّزوا جيش اُسامة , نفّذوا جيش اُسامة , لعن الله مَنْ تخلّف عن جيش اُسامة )) .
ولم ترهف عزائم القوم هذه الأوامر المشدّدة ؛ فقد تثاقلوا عن الالتحاق بالجيش , واعتذروا للرسول بشتّى المعاذير ، وهو (صلّى الله عليه وآله) لم يمنحهم العذر ، وإنّما أظهر لهم السخط وعدم الرضا ؛ فقد استبانت له بصورة جلية نيّاتهم وتآمرهم ، كما عرفوا قصده بهذا الاهتمام البالغ من إخراجهم من يثرب .
ـــــــــــــــــــــ
(1) السيرة الحلبية 3 / 34 .
فانبرت حفيدة الرسول بشجاعة وصلابة قائلة : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يُفتضح الفاسق ويُكذب الفاجر ، وهو غيرنا يابن مرجانة ...(1) .
لقد قالت هذا القول الصارم الذي هو أمض من السلاح ، وهي والمخدّرات من آل محمّد في قيد الأسر ، وقد رفعت فوق رؤوسهنَّ رؤوس حماتهنَّ ، وشهرت عليهنَّ سيوف الملحدين . لقد أنزلت العقيلة ـ بهذه الكلمات ـ الطاغية من عرشه إلى قبره ، وعرّفته أمام خدمه وعبيده أنّه المفتضح والمنهزم ، وأنّ أخاها هو المنتصر .
ولم يجد ابن مرجانة كلاماً يقوله سوى التشفّي بقتل عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، قائلاً : كيف رأيت صنع الله بأخيك(2) ؟
وانطلقت عقيلة بني هاشم ببسالة وصمود ، فأجابت بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها قائلة : ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل ، فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم ، فتُحاجّ وتُخاصم ، فانظر لمَنْ الفلج يومئذ ، ثكلتك أُمّك يابن مرجانة !
أرأيتم هذا التبكيت الموجع ؟ أرأيتم هذه الشجاعة العلوية ؟ فقد سجّلت
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 6 / 263 .
(2) زينب الكبرى / 61 .
الصفحة (64)
حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بموقفها وكلماتها فخراً للإسلام وعزّاً للمسلمين , ومجداً خالداً للاُسرة النبويّة .
أمّا موقفها في بلاط يزيد ، وموقفها مع الشامي وخطابها الثوري الخالد فقد هزّ العرش الاُموي ، وكشف الواقع الجاهلي ليزيد ومن مكّنه من رقاب المسلمين ، وسنعرض لخطابها وسائر مواقفها المشرّفة في البحوث الآتية .
الزهد في الدنيا
ومن عناصر سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) الزهد في الدنيا ؛ فقد بذلت جميع زينتها ومباهجها مقتدية بأبيها الذي طلّق الدنيا ثلاثاً لا رجعة له فيها ، ومقتدية باُمّها سيّدة نساء العالمين , زهراء الرسول .
فقد كانت ـ فيما رواه المؤرّخون ـ لا تملك في دارها سوى حصير من سعف النخل , وجلد شاة ، وكانت تلبس الكساء من صوف الإبل ، وتطحن بيدها الشعير ، إلى غير ذلك من صنوف الزهد والإعراض عن الدنيا . وقد تأثّرت عقيلة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بهذه الروح الكريمة فزهدت في جميع مظاهر الدنيا ، وكان من زهدها أنّها ما ادّخرت شيئاً من يومها لغدها حسب ما رواه عنها الإمام زين العابدين (عليه السّلام)(1) .
وقد طلقت الدنيا وزهدت فيها وذلك بمصاحبتها لأخيها أبي الأحرار ؛ فقد علمت أنّه سيستشهد في كربلاء , أخبرها بذلك أبوها ، فصحبته وتركت زوجها الذي كان يرفل بيته بالنعيم ومتع الحياة ، رفضت ذلك كلّه وآثرت القيام مع أخيها لنصرة الإسلام والذبّ عن مبادئه وقيمه ، وهي على علم بما تشاهده من مصرع أخيها ، وما يجري عليها بالذّات من الأسر والذلّ .
لقد قدّمت على ذلك خدمة لدين الله تعالى .
ـــــــــــــــــــــ
(1) صحيح الترمذي 2 / 319 ، وقريب منه رواه الحاكم في مستدركه 3 / 149 ، وابن الأثير في اُسد الغابة 5 / 523 ، والخطيب في تأريخ بغداد 7 / 36 ، وغيرهم .
الصفحة (65)
أحداث مروّعة(*)
وقطعت عقيلة بني هاشم شوطاً من حياة الصبا في كنف جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) , وفي ذرى عطفه ، وهي ناعمة البال قريرة العين ، يتلقّاها بمزيدٍ من الحفاوة والتكريم ، وترى أبويها وقد غمرتهما المودّة والاُلفة والتعاون ، فكانت حياتهما أسمى مثل للحياة الزوجية في الإسلام .
وقد نشأت في ذلك البيت الذي سادت فيه تلاوة كتاب الله العزيز ، وآداب الإسلام وأحكامه وتعاليمه ؛ فكان مركزاً للتقوى ومعهداً لمعارف الإسلام . كما شاهدت الانتصارات الرائعة التي أحرزها الإسلام في الميادين العسكرية ، واندحار القبائل القرشية التي ناهضت الإسلام وناجزته بجميع ما تملك من قوّة ؛ فقد اندحرت وأذلّها الله ؛ فقد فتحت مكة وطُهّر بيتها الحرام من الأصنام والأوثان التي كانت تُعبد من دون الله تعالى .
ولعلّ من أهمّ ما شاهدته العقيلة في أدوار طفولتها هو احتفاء جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأبيها واُمّها وأخويها ؛ فقد كانوا موضع اهتمامه وعنايته .وقد أثرت عنه كوكبة من الروايات أجمع المسلمون على صحتها ، وهذه بعضها :
1 ـ روى زيد بن أرقم : أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال لعليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السّلام) : (( أنا حربٌ لمَنْ حاربتم ، وسلم لمَنْ سالمتم ))(1) .
ـــــــــــــــــــــ
(*) يبدو أنّ هذا العنوان قد وقع هنا سهواً من قِبل المؤلِّف أو الناسخ ؛ إذ لا توجد بينه وبين الموضوع الذي تصدّره أيّةُ علاقة ؛ اللهمَّ إلاّ إذا قلنا بشموليّته للعنوان وموضوعه الذي يأتي في أواخر الصفحة (67) وإن كان هذا بعيداً عنه . (موقع معهد الإمامين الحسنَين)
(1) مسند أحمد 1 / 77 ، صحيح الترمذي 2 / 301 ، تهذيب التهذيب 10 / 430 ، وجاء فيه أنّ نصر بن عليّ حدّث بهذا الحديث ، فأمر المتوكّل بضربه ألف سوط ، فكلّمه فيه جعفر بن عبد الواحد , وجعل يقول له : إنّه من أهل السنّة . فلم يزل يترجّاه حتّى تركه .
الصفحة (66)
2 ـ روى أحمد بن حنبل بسنده : أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) أخذ بيد الحسن والحسين ، وقال : (( مَنْ أحبّني وأحبّ هذين وأباهما واُمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة ))(1) .
3 ـ روى أبو بكر قال : رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خيّم خيمة ، وهو متكئ على قوس عربية ، وفي الخيمة عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، فقال : (( معاشر المسلمين ، أنا سلم لمَنْ سالم أهل الخيمة ، وحرب لمَنْ حاربهم ، ووليّ لمَنْ والاهم ، لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ ، ولا يبغضهم إلاّ شقي الجدّ , ردئ الولادة ))(2) .
4 ـ روى ابن عباس أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال : (( النجوم أمانٌ لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لاُمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس ))(3) .
5 ـ روى زيد بن أرقم أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : (( إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر ؛ كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ))(4) .
6 ـ روى أبو سعيد الخدري ، قال : سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( إنّما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح ؛ مَن ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق . وإنّما مثل أهل بيتي
ـــــــــــــــــــــ
(1) الرياض النضرة 2 / 252 .
(2) مستدرك الحاكم 3 / 149 ، كنز العمال 6 / 116 ، الصواعق المحرقة / 111 . نصّ الحديث : (( النجوم أمان لأهل الأرض , وأهل بيتي أمان لاُمّتي )) .
(3) صحيح الترمذي 2 / 308 ، اُسد الغابة 2 / 12 ، وما يقرب من هذا الحديث روي في كنز العمّال 1 / 48 ، مجمع الهيثمي 9 / 163 .
(4) مجمع الزوائد 9 / 168 ، مستدرك الحاكم 2 / 43 ، تأريخ بغداد 2 / 19 ، ذخائر العقبى / 20 .
الصفحة (67)
فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل ؛ مَن دخله غفر له ))(1) .
7 ـ روى أبو برزة ، قال : صلّيت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سبعة أشهر ، فإذا خرج من بيته ، أتى باب فاطمة (عليها السّلام) ، فقال : (( السلام عليكم ، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ))(2) .
رأت العقيلة هذا الاحتفاء البالغ من جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) لأبيها واُمّها وأخويها ، ووعت الغاية من صنوف هذا التكريم والتعظيم ، وأنّه ليس مجرّد عاطفة وولاء لهذه الاُسرة الكريمة ، وإنّما هو للإشادة بما تتمتّع به من الصفات الفاضلة ، والقابليات الفذّة التي ترشّحهم لقيادة الاُمّة ، وتطويرها فكرياً واجتماعياً .
وأنّه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تحتلّ اُمّته مركزاً كريماً تحت الشمس ، وتكون رائدة لاُمم العالم وشعوب الأرض إلاّ بقيادة السادة من عترته الذين وعوا الإسلام ، والتزموا بحرفية الرسول (صلّى الله عليه وآله) .
خطوب مروّعة
ولم تدم الحالة الهانئة للاُسرة النبويّة , فقد دهمتهم كارثة مروّعة ؛ فقد بدت على الرسول (صلّى الله عليه وآله) طلائع الرحيل عن هذه الدنيا تلوح أمامه ، فكان القرآن الكريم قد نزل عليه مرتين , فاستشعر بدنوّ الأجل المحتوم منه(3) ، وأخبر بضعته الزهراء (عليها السّلام) ، فقال لها :
ـــــــــــــــــــــ
(1) ذخائر العقبى / 24 ، روى أنس بن مالك : أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) كان يمرّ ببيت فاطمة ستّة أشهر إذا خرج إلى الفجر , ويقول : (( الصلاة يا أهل البيت )) , ويتلو الآية الكريمة . جاء ذلك في مجمع الزوائد 9 / 169 ، أنساب الأشراف 1 / 157 ، القسم الأوّل .
(2) الخصائص الكبرى 2 / 368 .
(3) تأريخ ابن كثير 5 / 223 .
الصفحة (68)
(( إنّ جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة ، وأنّه عارضني بهذا العام مرّتين ، وما أرى ذلك إلاّ اقتراب أجلي ))(1) .
وتقطّع قلب زهراء الرسول ألماً وحزناً ، وشاعت الكآبة والحزن عند أهل البيت وذوت عقيلة بني هاشم من هذا النبأ المريع ، وطافت بها وهي في فجر الصبا تيارات من الأسى .
ونزلت على النبي (صلّى الله عليه وآله) سورة النصر , فكان يسكت بين التكبير والقراءة , ويقول : (( سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه )) .
وذهل المسلمون ، وفزعوا إليه يسألونه عن هذه الحالة الراهنة ، فأجابهم : (( إنّ نفسي قد نُعيت إليّ ))(2) .
وكادت نفوس المسلمين أن تزهق من هذا النبأ المريع ؛ فقد وقع عليهم كالصاعقة ، فلا يدرون ماذا سيجري عليهم لو خلت الدنيا من منقذهم ومعلّمهم وقائدهم .
رؤيا العقيلة
ورأت العقيلة في منامها رؤياً أفزعتها وأذهلتها , فأسرعت إلى جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) تقصّها عليه ، ولمّا مثلت عنده أجلسها في حجره , وجعله يوسعها تقبيلاً ، فقالت له : يا جدّاه ، رأيت رؤياً البارحة .
ـ (( قصّيها عليّ )) .
ـ رأيت ريحاً عاصفاً اسودّت الدنيا منها وأظلمت ، ففزعتُ إلى شجرة عظيمة فتعلّقت بها من شدّة العاصفة ، فقلعتها الرياح وألقتها على الأرض ، فتعلّقت بغصنٍ
ـــــــــــــــــــــ
(1) مناقب ابن شهرآشوب 1 / 167 .
(2) زينب الكبرى / 19 .
الصفحة (69)
قويّ من تلك الشجرة فقطعتها الرياح ، فتعلّقت بفرع آخر فكسرته الرياح أيضاً ، وسارعت فتعلّقت بأحد فرعين من فروعها فكسرته العاصفة أيضاً ، ثمّ استيقظت من نومي .
فأجهش النبي (صلّى الله عليه وآله) بالبكاء ، وفسّر لها رؤياها قائلاً : (( أمّا الشجرة فجدّك ، وأمّا الفرع الأوّل فاُمّك ، والثاني أبوك عليّ ، والفرعان الآخران هما أخواك الحسنان ، تسودّ الدنيا لفقدهم , وتلبسين لباس الحداد في رزيتهم ))(1) .
وساد الحزن والأسى في البيت النبوي ، وصدقت رؤيا العقيلة , فلم تمض أيام حتّى رُزئت بجدّها واُمّها ، وتتابعت عليها بعد ذلك الرزايا ، فقد استشهد أبوها وأخواها ، ولبست عليهم لباس الحزن والحداد .
حجة الوداع
ولمّا علم النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّ لقاءه بربّه قريب ، رأى أن يحجّ إلى بيت الله الحرام ليلتقي بالمسلمين ويضع لهم الخطوط السليمة لنجاتهم ، ويقيم فيهم القادة والمراجع الذين يقيمون فيهم الحقّ والعدل .
وحجّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لهذا الغرض ، وهي حجّته الأخيرة الشهيرة بـ (حجّة الوداع) ، وقد أشاع بين حجّاج بيت الله أنّ التقاءه بهم في هذا العام هو آخر التقاء بهم ، وأنّه سيسافر إلى الفردوس الأعلى ، وجعل يطوف بين الجماهير ويعرّفهم سبل النجاة ، ويرشدهم إلى ولاة اُمورهم من بعده قائلاً : (( أيّها الناس ، إنّي تركت فيكم الثقلين ؛ كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ))(2) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) صحيح الترمذي 2 / 308 .
(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 91 ـ 92 .
ثمّ وقف النبي (صلّى الله عليه وآله) عند بئر زمزم , وخطب خطاباً رائعاً وحافلاً بما تحتاج إليه الاُمّة في مجالاتها الاجتماعية والسياسيّة ، وقال فيما يخصّ القيادة الروحية والزمنية للاُمّة : (( إنّي خلّفت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا ؛ كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي , ألا هل بلّغت )) .
فانبرت الجماهير بصوتٍ واحدٍ قائلين : اللهمّ نعم(1) .
لقد عيّن الرسول (صلّى الله عليه وآله) القيادة العامّة لاُمّته , وجعلها مختصة بأهل بيته ؛ فهم ورثة علومه ، وخزنة حكمته الذين يعنون بالإصلاح الاجتماعي ، ويؤثرن مصلحة الاُمّة على كلّ شيء .
مؤتمر غدير خم
وقفل النبي (صلّى الله عليه وآله) بعد أداء مراسيم الحج إلى يثرب , وحينما انتهى موكبه إلى (غدير خم) نزل عليه الوحي برسالةٍ من السماء أن ينصب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) خليفةً من بعده ، ومرجعاً عاماً للاُمّة . لقد نزل عليه الوحي بهذه الآية : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )(2) .
ففي هذه الآية إنذار خطير إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) ؛ إذ إنّه إن لم يقم بهذه المهمة فما بلّغ رسالة ربّه ، وضاعت جميع جهوده وأتعابه في سبيل هذا الدين . فانبرى (صلّى الله عليه وآله) فحطّ أعباء المسير ، ووضع رحله في رمضاء الهجير ، وأمر قوافل الحجّ أن تفعل مثل ذلك ، وكان الوقت قاسياً في حرارته , فكان الرجل يضع طرف ردائه تحت قدميه
ـــــــــــــــــــــ
(1) الغدير 2 / 34 .
(2) سورة المائدة / 67 . نصّ على نزول هذه الآية في يوم الغدير الواحدي في أسباب النزول , والرازي في تفسيره ، وغيرهما .
الصفحة (71)
ليتّقي به حرارة الأرض ، وقام النبي (صلّى الله عليه وآله) فصلّى بالناس ، وبعد أداء فريضة الصلاة أمر بأن يوضع له منبر من حدائج الإبل ، فصُنع له ذلك فاعتلى عليه ، واتّجهت الجماهير بعواطفها وقلوبها نحو النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فخطب خطاباً مهمّاً أعلن فيه ما لاقه من عناء شاق في سبيل هدايتهم ، وتحرير إرادتهم ، وإنقاذهم من خرافات الجاهليّة وعاداتها .
ثم ذكر طائفة من أحكام الإسلام وتعاليمه ، وألزمهم بتطبيقها على واقع حياتهم ، ثمّ التفت إليهم فقال : (( انظروا كيف تخلفوني في الثقلين )) .
فناداه منادٍ من القوم : ما الثقلان يا رسول الله ؟
فأجابه : (( الثقل الأكبر : كتاب الله ، طرف بيد الله عزّ وجلّ وطرف بأيديكم ، فتمسّكوا به لا تضلّوا ، والآخر الأصغر : عترتي ، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فسألت ذلك لهما ربّي ، فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا )) .
ثمّ أخذ بيد وصيّه وباب مدينة علمه وناصر دعوته الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ليفرض ولايته على جميع المسلمين , فرفعها حتّى بان بياض إبطيهما ، ونظر إليهما القوم , ورفع النبي (صلّى الله عليه وآله) صوته قائلاً : (( أيّها الناس ، مَنْ أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ )) . فانبرت قوافل الحجّاج رافعة عقيرتها : الله ورسوله أعلم .
ووضع النبي (صلّى الله عليه وآله) القاعدة الأصلية التي تصون المسلمين من الانحراف قائلاً : (( إنّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمَنْ كنت مولاه فعليّ مولاه )) .
الصفحة (72)
وكرّر هذا القول ثلاث مرّات أو أربع , ثمّ قال : (( اللّهمّ وال مَنْ والاه ، وعاد مَنْ عاداه ، وأحبّ مَنْ أحبّه ، وأبغض مَنْ أبغضه ، وانصر مَنْ نصره ، واخذل مَنْ خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار . ألا فليبلغ الشاهد الغائب )) .
لقد أدّى النبي (صلّى الله عليه وآله) رسالة ربّه ؛ فنصب الإمام أمير المؤمنين خليفةً من بعده ، وقلّده منصب الإمامة والمرجعية العامة ، وأقبل المسلمون يهرعون صوب الإمام وهم يبايعونه بالخلافة , ويهنئونه بإمرة المسلمين وقيادتهم ، وأمر النبيّ اُمّهات المؤمنين أن يهنئنَ الإمام بهذا المنصب العظيم ففعلنَ ، وأقبل عمر بن الخطاب نحو الإمام فصافحه وهنّأه ، وقال له : هنيئاً يابن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة(1) .
وفي ذلك اليوم الخالد نزلت الآية الكريمة : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً )(2) .
قد تمّت نعمة الله الكبرى على المسلمين بولاية بطل الإسلام ورائد العدالة الاجتماعية في الأرض الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وقد خطا النبي (صلّى الله عليه وآله) الخطوة الأخيرة في أداء رسالته ، فصان اُمّته من الزيغ والانحراف ؛ فنصب لها القائد والموجّه , ولم يتركها فوضى ـ كما يزعمون ـ تتلاعب بها الفتن والأهواء , وتتقاذفها أمواج من الضلال .
إنّ وثيقة الغدير من أروع الأدلّة وأوثقها على اختصاص الخلافة والإمامة بباب مدينة علم النبي الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وهي جزء من رسالة الإسلام وبند من أهم بنوده ؛ لأنّها تبنّت القضايا المصيرية للعالم الإسلامي على امتداد التأريخ .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مسند أحمد 4 / 281 .
(2) سورة المائدة / 3 . نصّ على نزول هذه الآية في يوم الغدير الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 8 / 29 ، السيوطي في الدر المنثور ، وغيرهما من أعلام أهل السنّة .
الصفحة (73)
لقد وعت سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) وهي في فجر الصبا هذه البيعة لأبيها ، وأنّ جدّها قد قلّده بهذا المنصب الخطير لسلامة الاُمّة وتطورها ، والبلوغ بها إلى أعلى المستويات من التقدّم ، والقيادة العامة لشعوب العالم واُمم الأرض ، ولكنّ القوم قد سلبوا أباها هذا المنصب ، وجعلوه في معزل عن الحياة الاجتماعية والسياسيّة ، وقد أخلدوا بذلك للاُمّة المحن والخطوب ، وتجرّعت حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله) بالذّات أهوالاً من المصائب والكوارث كانت ناجمة ـ من دون شك ـ عن هذه المؤامرة التي حيكت ضدّ أبيها ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
مرض النبي (صلّى الله عليه وآله)
ولمّا قفل النبي (صلّى الله عليه وآله) بعد حجة الوداع راجعاً إلى يثرب بدأت صحّته تنهار يوماً بعد يوم ، فقد ألمّ به المرض ، وأصابته حمّى مبرحة حتّى كأنّ به لهباً منها ، وكانت عليه قطيفة فإذا وضع أزواجه وعوّاده عليها أيديهم شعروا بحرّها(1) .
وقد وضعوا إلى جواره إناءً فيه ماء بارد , فكان يضع يده فيه ويمسح به وجهه الشريف ، وكان (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلته بـ (خيبر) ، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم ))(2) ؛ فقد قدّمت له امرأة يهودية في خيبر ذلك الطعام الذي سمّته فأثّر فيه .
ولمّا اُشيع مرض النبي (صلّى الله عليه وآله) هرع المسلمون إلى عيادته ، وقد خيّم عليهم الأسى والذهول ، فنعى (صلّى الله عليه وآله) إليهم نفسه , وأوصاهم بما يسعدون ويفلحون به قائلاً : (( أيّها الناس ، يوشك أن اُقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي ، وقدّمت إليكم القول
ـــــــــــــــــــــ
(1) البداية والنهاية 5 / 226 .
(2) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 1 / 202 .
الصفحة (74)
معذرة إليكم ، ألا إنّي مخلّفٌ فيكم كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي )) .
ثمّ أخذ بيد وصيّه وخليفته الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فقال لهم : (( هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض ))(1) .
لقد قرّر النبي (صلّى الله عليه وآله) أهم القضايا المصيرية لاُمّته ، فعيّن لها القائد العظيم الذي يحقّق لها جميع أهدافها وما تصبو إليه في حياتها .
سرية اُسامة
ورأى النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو في المرحلة الأخيرة من حياته التيارات الحزبية التي صمّمت على إقصاء عترته عن قيادة الاُمّة ، فرأى أنّ خير وسيلة يتدارك بها الموقف أن يزجّ بجميع أصحابه في بعثة عسكرية , حتّى إذا وافاه الأجل المحتوم تكون عاصمته خالية من العناصر المضادّة لوليّ عهده ؛ فأسند قيادة البعثة إلى اُسامة بن زيد ، وهو شاب في مقتبل العمر ، وكان من بين الجنود أبو بكر وعمر , وأبو عبيدة الجراح وبشير بن سعد(2) .
وقال النبي (صلّى الله عليه وآله) لاُسامة : (( سِر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل ؛ فقد ولّيتك هذا الجيش , فاغزُ صباحاً على أهل أبنى(3) , وحرّق عليهم ، وأسرع السير لتسبق الأخبار ، فإن أظفرك الله عليهم فاقلل اللبث فيهم ، وخذ معك الأدلاء , وقدّم العيون والطلائع معك )) .
ومُني الجيش بالتمرّد وعدم الطاعة ، فلم يلتحق أعلام الصحابة بوحداتهم
ـــــــــــــــــــــ
(1) الصواعق المحرقة / 124 .
(2) كنز العمّال 5 / 312 ، طبقات ابن سعد 4 / 46 ، تأريخ الخميس 2 / 46 .
(3) ابنى : ناحية بالبلقاء من أرض سوريا ، بين عسقلان والرملة ، تقع بالقرب من مؤتة ، وهي التي استشهد فيها زيد بن حارثة وجعفر الطيّار .
الصفحة (75)
العسكرية ، ولمّا علم النبي (صلّى الله عليه وآله) بذلك تألّم ، فخرج مع ما به من المرض , فحثّ الجند على المسير , وعقد بنفسه اللواء لاُسامة ، وقال له : (( اغزُ بسم الله , وفي سبيل الله ، وقاتل مَنْ كفر بالله )) .
فخرج اُسامة بلوائه معقوداً ودفعه إلى بريده ، وعسكر بـ (الجرف) ، وتثاقل جمع من الصحابة عن الالتحاق بالمعسكر ، وأظهروا الطعن والاستخفاف باُسامة القائد العام للجيش .
يقول له عمر : مات رسول الله وأنت عليَّ أمير ؟!
وانتهت كلماته إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، وقد أخذت منه الحمّى مأخذاً عظيماً ، فخرج وهو معصّب الرأس قد برح به المرض ، فصعد المنبر والتأثّر بادٍ عليه ، فقال : (( أيّها الناس ، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اُسامة ، ولئن طعنتم في تأميري اُسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله . وأيم الله ، إنّه كان خليقاً بالإمارة , وإنّ ابنه من بعده لخليقٌ بها )) .
ثمّ نزل عن المنبر ودخل بيته والتأثّر بادٍ عليه(1) , وجعل يوصي أصحابه بالالتحاق بالجيش قائلاً : (( جهّزوا جيش اُسامة , نفّذوا جيش اُسامة , لعن الله مَنْ تخلّف عن جيش اُسامة )) .
ولم ترهف عزائم القوم هذه الأوامر المشدّدة ؛ فقد تثاقلوا عن الالتحاق بالجيش , واعتذروا للرسول بشتّى المعاذير ، وهو (صلّى الله عليه وآله) لم يمنحهم العذر ، وإنّما أظهر لهم السخط وعدم الرضا ؛ فقد استبانت له بصورة جلية نيّاتهم وتآمرهم ، كما عرفوا قصده بهذا الاهتمام البالغ من إخراجهم من يثرب .
ـــــــــــــــــــــ
(1) السيرة الحلبية 3 / 34 .