رزية يوم الخميس
وأحاط النبي (صلّى الله عليه وآله) علماً بالتحرّكات السياسيّة من بعض أصحابه , وأنّهم عازمون ومصرّون على صرف الخلافة عن أهل بيته ، وإفساد ما أعلنه غير مرّة من أنّ عترته الأزكياء هم ولاة أمر المسلمين من بعده ، فرأى (صلّى الله عليه وآله) أن يحكم الأمر ويحمي اُمّته من الفتن والزيغ ، فقال لمَنْ حضر في مجلسه : (( ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً ))(1) .
حقّاً إنّها فرصة من أثمن الفرص وأندرها في تأريخ الإسلام ، إنّه التزام واضح وصريح من سيّد الكائنات أنّ اُمّته لا تُصاب بنكسة وانحراف بعد هذا الكتاب .
ما أعظم هذه النعمة على المسلمين ، إنّه ضمان من سيد الأنبياء أن لا تضلّ اُمّته في مسيرتها وتهتدي إلى سواء السبيل في جميع مراحل تأريخها ، واستبان لبعض القوم ماذا يكتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، إنّه سينصّ على خلافة عليّ من بعده ، ويعزّز بيعة يوم الغدير ، وتضيع بذلك أطماعهم ومصالحهم ، فردّ عليه أحدهم قائلاً بعنف : حسبنا كتاب الله .
ولو كان هذا القائل يحتمل أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) يوصي بحماية الثغور , أو بالمحافظة على الشؤون الدينية ما ردّ عليه بهذه الجرأة ، ولكنّه علم قصده أنّه سيوصي بأهل بيته وينصّ على خلافة عليّ من بعده .
وكثر الخلاف بين القوم ؛ فطائفة حاولت تنفيذ ما أمر به النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وطائفة اُخرى أصرّت على معارضتها والحيلولة بين ما أراده النبي (صلّى الله عليه وآله) . وانطلقت بعض السيّدات فأنكرن على القوم هذا الموقف المتّسم بالجرأة على النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو في الساعات الأخيرة من حياته ، فقلن لهم : ألا تسمعون ما يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟!
فثار عمر وصاح فيهنّ ؛ خوفاً أن يفلت الأمر منه ومن حزبه ، فقال للسيدات :
ـــــــــــــــــــــ
(1) الرواية أخرجها البخاري ومسلم ، والطبراني في الأوسط ، وغيرهم .
الصفحة (77)
إنكنّ صويحبات يوسف ؛ إذا مرض عصرتنَّ أعينكنَّ ، وإذا صح ركبتنَّ عنقه .
فنظر إليه النبي (صلّى الله عليه وآله) بغضبٍ وغيظٍ ، وقال له : (( دعوهنّ فإنّهنّ خير منكم )) .
وبدا صراع رهيب بين القوم ، وكادت أن تفوز الجهة التي أرادت تنفيذ أمر النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فانبرى أحدهم فأفشل ما أراده النبي (صلّى الله عليه وآله) , وحال بينه وبين ما أراد من إسعاد اُمّته ، فقال ـ ويا لهول ما قال ـ : إنّ النبيّ ليهجر(1) .
ألم يسمع هذا القائل كلام الله تعالى الذي يُتلى في آناء الليل وأطراف النهار وهو يعلن تكامل النبي في جميع مراحل حياته ؛ فقد زكّاه وعصمه من الهجر وغيره من ألوان الزيغ والانحراف ، وإنّه أسمى شخصية في تكامله وسموّ ذاته ، قال تعالى : ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى )(2) ، وقال تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ )(3) .
إنّ القوم لم يخامرهم أدنى شك في عصمة النبي وتكامل ذاته ، ولكن حبّ الدنيا والتهالك على السلطة دفهم للجرأة على النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ومقابلتهم له بمرّ القول والطعن بشخصيته .
وكان ابن عباس إذا ذكر هذا الحادث الرهيب يبكي حتّى تسيل دموعه على خديه كأنّها نظام اللؤلؤ ، وهو يصعد آهاته ويقول : يوم الخميس ! وما يوم الخميس ! قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( ائتوني بالكتف
ـــــــــــــــــــــ
(1) نصّ على هذه الحادثة المؤلمة جميع الرواة والمؤرّخين في الإسلام ، ذكرها : البخاري في صحيحه عدّة مرّات ، إلاّ أنّه كتم اسم قائلها , وفي نهاية غريب الحديث ، وشرح النهج 3 / 114 (صُرّح باسم القائل) .
(2) سورة النجم / 2 ـ 5 .
(3) سورة التكوير / 19 ـ 22 .
الصفحة (78)
والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً )) . فقالوا : إنّ رسول الله يهجر(1) .
حقّاً إنّها رزية الإسلام الكبرى ؛ فقد حيل بين المسلمين وسعادتهم ونجاتهم من الزيغ والضلال .
لقد وعت السيّدة زينب هذا الحادث الخطير ، ووقفت على أهداف القوم من إبعاد أبيها عن المركز الذي نصبه جدّها فيه ، فقد جرّ هذا الحادث وغيره ممّا صدر من القوى المعارضة لأهل البيت الكوارث والخطوب لهم ، وما كارثة كربلاء إلاّ من نتائج هذه الأحداث .
لوعة الزهراء (سلام الله عليها)
ونخب الحزن قلب بضعة الرسول ، وبرح بها الألم القاسي , وذهبت نفسها شعاعاً حينما علمت أنّ أباها مفارق لهذه الحياة ؛ فقد جلست إلى جانبه وهي مذهولة كأنّها تعاني آلام الاحتضار , وسمعته يقول : (( واكرباه ! )) .
فأسرعت وهي تجهش بالبكاء قائلة : (( وا كربي لكربك يا أبتي ! )) .
وأشفق الرسول (صلّى الله عليه وآله) على بضعته ، فقال لها مسلّياً : (( لا كرب على أبيك بعد اليوم ))(2) .
وهامت زهراء الرسول في تيّارات مروعة من الأسى والحزن , فقد أيقنت أنّ أباها سيفارقها ، وأراد النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يسلّيها ويخفّف لوعة مصابها , فأسرّ إليها بحديثٍ ، فلم تملك نفسها أن غامت عيناها بالدموع ، ثم أسرّ إليها ثانياً ، فقابلته
ـــــــــــــــــــــ
(1) مسند أحمد 1 / 355 ، وغيره .
(2) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 1 / 112 .
الصفحة (79)
ببسمات فيّاضة بالبشر والسرور ، فعجبت عائشة من ذلك , وراحت تقول : ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن .
وأسرعت عائشة فسألت زهراء الرسول عما أسرّ إليها أبوها ، فأشاحت بوجهها الكريم عنها , وأبت أن تخبرها ، ولكنّها أخبرت بعض السيّدات بذلك ، فقالت : (( أخبرني أنّ جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة ، وأنّه عارضني في هذا العام به مرّتين ، ولا أراه إلاّ قد حضر أجلي )) .
وكان هذا هو السبب في لوعتها وبكائها ، أمّا سبب سرورها وابتهاجها ، فقالت : (( أخبرني أنّكِ أوّل أهل بيتي لحوقاً بي ، ونِعمَ السلف أنا لك ، ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الاُمّة ؟ ))(1) .
ونظر إليها النبي (صلّى الله عليه وآله) وهي خائرة القوى ، منهدّة الركن ، فأخذ يخفّف عنها لوعة المصاب قائلاً : (( يا بُنيّة ، لا تبكي ، وإذا متّ فقولي : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ؛ فإنّ فيها من كلّ ميّت معوضة )) .
وأجهشت بضعة الرسول بالبكاء قائلةً : (( ومنك يا رسول الله ؟ )) .
(( نعم ، ومنّي ))(2) .
واشتدّ المرض برسول الله (صلّى الله عليه وآله) والزهراء إلى جانبه , وهي تبكي وتقول لأبيها : (( يا أبت ، أنت كما قال القائل فيك :
ـــــــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق / 113 .
(2) أنساب الأشراف 1 / 133 ، القسم الأوّلوأبـيضَ يُستسقى الغمامُ بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأراملِ ))
فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( هذا قول عمّك أبي طالب )) . وتلا قوله تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ )(1) .
وتقطّع قلب زهراء الرسول ألماً وحزناً على أبيها ، فانكبّت عليه ومعها الحسنان ، فألصقت صدرها بصدره وهي غارقة في البكاء ، فأجهش النبي (صلّى الله عليه وآله) بالبكاء ، وهو يقول : (( اللّهمّ أهل بيتي ، وأنا مستودعهم كلّ مؤمن )) .
وجعل يردّد ذلك ثلاث مرّات حسبما يرويه أنس بن مالك(2) .
أمّا حفيدة الرسول زينب فقد شاركت اُمّها في لوعتها وأحزانها ، وقد ذابت نفسها حزناً وموجدة على اُمّها التي هامت في تيّارات مذهلة من الأسى والشجون على أبيها الذي هو عندها أعزّ من الحياة .
إلى الفردوس الأعلى
وبعدما أدّى النبي العظيم رسالة ربّه إلى المسلمين ، وأقام صروح الإسلام ، وعيّن القائد العام لاُمّته الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فقد اختاره الله تعالى إلى جواره لينعم في الفردوس الأعلى ، فقد هبط عليه ملك الموت ، فاستأذن بالدخول عليه ، فخرجت إليه زهراء الرسول فأخبرته أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مشغول بنفسه عنه ، فانصرف ثمّ عاد بعد قليل يطلب الإذن ، فأفاق النبي (صلّى الله عليه وآله) من إغمائه ، والتفت إلى بضعته فقال لها : (( يا بُنية ، أتعرفينه ؟ )) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) أنساب الأشراف 1 / 133 ، القسم الأوّل .
(2) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 1 / 216 .
ـ (( لا يا رسول الله )) .
ـ (( إنّه معمّر القبور ، ومخرّب الدور ، ومفرّق الجماعات )) .
وجمدت بضعة الرسول ، وأخرسها الخطب ، ولم تملك نفسها أن رفعت صوتها ودموعها تتبلور على وجهها الشريف قائلةً : (( وا أبتاه لخاتم الأنبياء ! وا مصيبتاه لممات خير الأتقياء , ولانقطاع سيّد الأصفياء ! وا حسرتاه لانقطاع الوحي من السماء ! فقد حُرمت اليوم كلامك )) .
وتصدّع قلب النبي (صلّى الله عليه وآله) على بضعته , وأشفق عليها ، فقال لها مسلّياً : (( لا تبكي ؛ فإنّك أوّل أهلي لحوقاً بي ))(1) .
وسكنت روعتها لمّا أخبرها أنّها لا تبقى بعده إلاّ قليلاً .. وأذن النبي (صلّى الله عليه وآله) لملك الموت ، فلمّا مثلَ أمامه ، قال له : يا رسول الله ، إنّ الله أرسلني إليك ، وأمرني أن اُطيعك في كلّ ما أمرتني ؛ إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها ، وإن أمرتني أتركها تركتها .
فبُهر النبي (صلّى الله عليه وآله) وقال له : (( أتفعل يا ملك الموت ذلك ؟! )) .
ـ بذلك اُمرت أن اُطيعك في كلّ ما أمرتني .
وهبط جبرئيل على النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقال له : يا أحمد ، إنّ الله قد اشتاق إليك(2) .
واختار النبي (صلّى الله عليه وآله) جوار ربّه والرحيل عن هذه الدنيا ، فأذن لملك الموت بقبض روحه العظيمة ، وفي هذه اللحظات ألقى الحسنان بأنفسهما على جدّهما وهما يذرفان الدموع , والنبي (صلّى الله عليه وآله) يوسعهما تقبيلاً ، وأراد الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) أن ينحّيهما عنه , فأبى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، وقال له :
ـــــــــــــــــــــ
(1) درّة الناصحين / 66 .
(2) طبقات ابن سعد 2 / 48 .
الصفحة (82)
(( دعهما يتمتّعان منّي وأتمتّع منهما ؛ فسيصيبهما بعدي أثرة )) .
والتفت النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى عوّاده فأوصاهم بعترته قائلاً : (( قد خلّفت فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فالمضيّع لكتاب الله كالمضيع لسنّتي ، والمضيّع لسنّتي كالمضيّع لعترتي ، إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ))(1) .
والتفت النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى باب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فقال له : (( ضع رأسي في حجرك فقد جاء أمر الله ؛ فإذا فاضت نفسي فتناولها وامسح بها وجهك ، ثم وجّهني إلى القبلة وتولّ أمري ، وصلّ عليّ أوّل الناس ، ولا تفارقني حتّى تواريني في رِمسي ، واستعن بالله عزّ وجلّ ))(2) .
وأخذ الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) رأس النبي (صلّى الله عليه وآله) فوضعه في حجره ، ومدّ يده اليمنى تحت حنكه , وشرع ملك الموت بقبض روحه الطاهرة ، والرسول يعاني آلام الموت وقسوته حتّى فاضت روحه العظيمة , فمسح بها الإمام وجهه(3) .
لقد ارتفع ذلك اللطف الإلهي الذي أضاء العقول وحرّر الأفكار ، وأقام مشاعل النور في جميع بقاع الأرض . لقد سمت روح النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى بارئها ، وهي أقدس روح سمت إلى السماء منذ خلق الله هذه الأرض . لقد أشرقت الآخرة لقدومه ، وأظلمت الدنيا لفقده ، وما أصيبت الإنسانيّة بكارثة أقسى وأعظم من فقد الرسول العظيم .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مقتل الحسين ـ الخوارزمي 1 / 114 .
(2) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 1 / 220 .
(3) المناقب 1 / 29 ، وتضافرت الأخبار بأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) توفّي ورأسه الشريف في حجر الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، جاء ذلك في كنز العمّال 2 / 55 ، طبقات ابن سعد ، وغيرهما .
الصفحة (83)
تجهيزه (صلوات الله عليه وعلى آله)
وانبرى الإمام أمير الؤمنين (عليه السّلام) وهو خائر القوى ، منهدّ الركن إلى تجهيز جثمان سيد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله) فغسّل الجسد الطاهر ، وهو يقول بذوب روحه : (( بأبي أنت واُمّي ! لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والأنباء وأخبار السماء ، خصصت حتّى صرت مسلّياً عمّن سواك ، وعممت حتّى صار الناس فيك سواء . ولولا أنّك أمرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع لأنفذنا عليك ماء الشؤون ، ولكان الداء مماطلاً ، والكد مخالفاً ))(1) .
وكان العباس واُسامة يناولانه الماء من وراء الستر(2) .
وكان بدن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تفوح منه روائح الطيب ، والإمام (عليه السّلام) يقول : (( بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ! طبت حيّاً وميّتاً ))(3) . وبعد الفراغ من غسله أدرجه الإمام في أكفانه ووضعه على السرير . وأوّل مَنْ صلّى على الجثمان العظيم هو الله تعالى من فوق عرشه ، ثمّ جبرئيل ، ثمّ إسرافيل ، ثمّ الملائكة زمراً زمراً(4) .
وبعد ذلك صلّى عليه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، ثمّ أقبل المسلمون للصلاة عليه ، فقال لهم الإمام : (( لا يقوم عليه إمام منكم ، هو إمامكم حيّاً وميّتاً )) . فكانوا يدخلون رسلاً رسلاً فيصلون عليه صفاً واحداً , ليس لهم إمام ، وأمير المؤمنين واقف إلى جانب الجثمان , وهو يقول : (( السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته . اللّهمّ إنّا نشهد أنه قد بلّغ ما
ـــــــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة ـ محمّد عبده 2 / 255 .
(2) وفاء الوفاء 1 / 227 ، البداية والنهاية 5 / 63 .
(3) حلية الأولياء 4 / 77 .
(4) المصدر السابق .
الصفحة (84)
اُنزل إليه , ونصح لاُمّته ، وجاهد في سبيل الله حتّى أعزّ الله دينه , وتمّت كلمته ... اللّهمّ فاجعلنا ممّن يتّبع ما اُنزل إليه , وثبّتنا بعده , واجمع بيننا وبينه ... )) .
وكانت الجماهير تقول : آمين(1) . وقد نخب الحزن قلوبهم فقد مات مَنْ دعاهم إلى الحقّ ، وحرّرهم من خرافات الجاهليّة وأوثانها ، وأقام لهم دولة تدعو إلى إنصاف المظلوم ، وردع الظلم ، وإشاعة الرفاهية والرخاء والأمن بين الناس .
مواراة الجثمان المقدّس
وبعد أن فرغ المسلمون من الصلاة على الجثمان العظيم وودّعوه الوداع الأخير ، قام الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فوارى الجسد الطاهر في مثواه الأخير , ووقف على حافة القبر وهو يروي ثراه بدموع عينيه ، ويقول : (( إنّ الصبر لجميل إلاّ عنك ، وإنّ الجزع لقبيح إلاّ عليك ، وإنّ المصاب بك لجليل ، وإنّه قبلك وبعدك لجلل ))(2) .
لقد مادت أركان العدل , وانطوت ألوية الحقّ ؛ فقد غاب عن هذه الحياة سيّد الكائنات الذي غيّر مجرى التأريخ ، وأقام صروح الوعي والفكر في دنيا العرب والإسلام .
فجيعة الزهراء (عليها السّلام)
وكان أكثر أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) جزعاً وأشدّهم مصاباً بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وحبيبته فاطمة الزهراء (عليها السّلام) ؛ فقد أشرفت على الموت وهي تبكي أمرّ البكاء وأقساه ، وتقول : (( وا أبتاه ! وا رسول الله ! وا نبيّ الرحمتاه ! الآن لا يأتي الوحي ، الآن ينقطع
ـــــــــــــــــــــ
(1) كنز العمّال 4 / 54 .
(2) نهج البلاغة ـ محمّد عبده 3 / 224 . عنّا جبرئيل . اللّهمّ ألحق روحي بروحه ، واشفعني بالنظر إلى وجهه ، ولا تحرمني أجره وشفاعته يوم القيامة ))(1) .
وقالت بذوب روحها : (( وا أبتاه ! إلى جبرئيل أنعاه ، وا أبتاه ! جنّة الفردوس مأواه ، وا أبتاه , وا أبتاه ! أجاب رباً دعاه )) .
وأحاطت بالاُسرة النبويّة موجات من الأسى والحزن على هذا المصاب العظيم كما أحاطت بها تيّارات من الفزع والخوف ؛ لأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد وتر الأقربين والأبعدين , فخافوا من انقضاض العرب عليهم ، يقول الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( لمّا مات النبي (صلّى الله عليه وآله) بات أهل بيته كأن لا سماء تظلّهم , ولا أرض تقلّهم ؛ لأنّه وتر الأقرب والأبعد )) .
لقد عانت حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله) زينب (عليها السّلام) وهي في سنّها المبكّر هذه المصيبة الكبرى وما تنطوي عليها من أبعاد ، وما ستعانيه هي وأهلها من فوادح الرزايا بعد وفاة جدّها , كما فقدت بموته العطف والحنان الذي كان يغدقه عليها , وكان عمرها الشريف خمس سنين .
وقد غزت قلبها هذه المحنة الشاقة ؛ فقد رأت جدّها يوارى في مثواه الأخير ، ورأت أباها بادي الهمّ والحزن على فراق ابن عمّه ، وشاهدت اُمّها الرؤوم وهي ولهى قد ذابت من الأسى ، وهي تندب أباها بأشجى ما تكون الندبة ، ومنذ ذلك اليوم لازمها الأسى والحزن حتّى لحقت بالرفيق الأعلى .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الخميس 2 / 192 .
وأحاط النبي (صلّى الله عليه وآله) علماً بالتحرّكات السياسيّة من بعض أصحابه , وأنّهم عازمون ومصرّون على صرف الخلافة عن أهل بيته ، وإفساد ما أعلنه غير مرّة من أنّ عترته الأزكياء هم ولاة أمر المسلمين من بعده ، فرأى (صلّى الله عليه وآله) أن يحكم الأمر ويحمي اُمّته من الفتن والزيغ ، فقال لمَنْ حضر في مجلسه : (( ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً ))(1) .
حقّاً إنّها فرصة من أثمن الفرص وأندرها في تأريخ الإسلام ، إنّه التزام واضح وصريح من سيّد الكائنات أنّ اُمّته لا تُصاب بنكسة وانحراف بعد هذا الكتاب .
ما أعظم هذه النعمة على المسلمين ، إنّه ضمان من سيد الأنبياء أن لا تضلّ اُمّته في مسيرتها وتهتدي إلى سواء السبيل في جميع مراحل تأريخها ، واستبان لبعض القوم ماذا يكتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، إنّه سينصّ على خلافة عليّ من بعده ، ويعزّز بيعة يوم الغدير ، وتضيع بذلك أطماعهم ومصالحهم ، فردّ عليه أحدهم قائلاً بعنف : حسبنا كتاب الله .
ولو كان هذا القائل يحتمل أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) يوصي بحماية الثغور , أو بالمحافظة على الشؤون الدينية ما ردّ عليه بهذه الجرأة ، ولكنّه علم قصده أنّه سيوصي بأهل بيته وينصّ على خلافة عليّ من بعده .
وكثر الخلاف بين القوم ؛ فطائفة حاولت تنفيذ ما أمر به النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وطائفة اُخرى أصرّت على معارضتها والحيلولة بين ما أراده النبي (صلّى الله عليه وآله) . وانطلقت بعض السيّدات فأنكرن على القوم هذا الموقف المتّسم بالجرأة على النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو في الساعات الأخيرة من حياته ، فقلن لهم : ألا تسمعون ما يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟!
فثار عمر وصاح فيهنّ ؛ خوفاً أن يفلت الأمر منه ومن حزبه ، فقال للسيدات :
ـــــــــــــــــــــ
(1) الرواية أخرجها البخاري ومسلم ، والطبراني في الأوسط ، وغيرهم .
الصفحة (77)
إنكنّ صويحبات يوسف ؛ إذا مرض عصرتنَّ أعينكنَّ ، وإذا صح ركبتنَّ عنقه .
فنظر إليه النبي (صلّى الله عليه وآله) بغضبٍ وغيظٍ ، وقال له : (( دعوهنّ فإنّهنّ خير منكم )) .
وبدا صراع رهيب بين القوم ، وكادت أن تفوز الجهة التي أرادت تنفيذ أمر النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فانبرى أحدهم فأفشل ما أراده النبي (صلّى الله عليه وآله) , وحال بينه وبين ما أراد من إسعاد اُمّته ، فقال ـ ويا لهول ما قال ـ : إنّ النبيّ ليهجر(1) .
ألم يسمع هذا القائل كلام الله تعالى الذي يُتلى في آناء الليل وأطراف النهار وهو يعلن تكامل النبي في جميع مراحل حياته ؛ فقد زكّاه وعصمه من الهجر وغيره من ألوان الزيغ والانحراف ، وإنّه أسمى شخصية في تكامله وسموّ ذاته ، قال تعالى : ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى )(2) ، وقال تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ )(3) .
إنّ القوم لم يخامرهم أدنى شك في عصمة النبي وتكامل ذاته ، ولكن حبّ الدنيا والتهالك على السلطة دفهم للجرأة على النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ومقابلتهم له بمرّ القول والطعن بشخصيته .
وكان ابن عباس إذا ذكر هذا الحادث الرهيب يبكي حتّى تسيل دموعه على خديه كأنّها نظام اللؤلؤ ، وهو يصعد آهاته ويقول : يوم الخميس ! وما يوم الخميس ! قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( ائتوني بالكتف
ـــــــــــــــــــــ
(1) نصّ على هذه الحادثة المؤلمة جميع الرواة والمؤرّخين في الإسلام ، ذكرها : البخاري في صحيحه عدّة مرّات ، إلاّ أنّه كتم اسم قائلها , وفي نهاية غريب الحديث ، وشرح النهج 3 / 114 (صُرّح باسم القائل) .
(2) سورة النجم / 2 ـ 5 .
(3) سورة التكوير / 19 ـ 22 .
الصفحة (78)
والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً )) . فقالوا : إنّ رسول الله يهجر(1) .
حقّاً إنّها رزية الإسلام الكبرى ؛ فقد حيل بين المسلمين وسعادتهم ونجاتهم من الزيغ والضلال .
لقد وعت السيّدة زينب هذا الحادث الخطير ، ووقفت على أهداف القوم من إبعاد أبيها عن المركز الذي نصبه جدّها فيه ، فقد جرّ هذا الحادث وغيره ممّا صدر من القوى المعارضة لأهل البيت الكوارث والخطوب لهم ، وما كارثة كربلاء إلاّ من نتائج هذه الأحداث .
لوعة الزهراء (سلام الله عليها)
ونخب الحزن قلب بضعة الرسول ، وبرح بها الألم القاسي , وذهبت نفسها شعاعاً حينما علمت أنّ أباها مفارق لهذه الحياة ؛ فقد جلست إلى جانبه وهي مذهولة كأنّها تعاني آلام الاحتضار , وسمعته يقول : (( واكرباه ! )) .
فأسرعت وهي تجهش بالبكاء قائلة : (( وا كربي لكربك يا أبتي ! )) .
وأشفق الرسول (صلّى الله عليه وآله) على بضعته ، فقال لها مسلّياً : (( لا كرب على أبيك بعد اليوم ))(2) .
وهامت زهراء الرسول في تيّارات مروعة من الأسى والحزن , فقد أيقنت أنّ أباها سيفارقها ، وأراد النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يسلّيها ويخفّف لوعة مصابها , فأسرّ إليها بحديثٍ ، فلم تملك نفسها أن غامت عيناها بالدموع ، ثم أسرّ إليها ثانياً ، فقابلته
ـــــــــــــــــــــ
(1) مسند أحمد 1 / 355 ، وغيره .
(2) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 1 / 112 .
الصفحة (79)
ببسمات فيّاضة بالبشر والسرور ، فعجبت عائشة من ذلك , وراحت تقول : ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن .
وأسرعت عائشة فسألت زهراء الرسول عما أسرّ إليها أبوها ، فأشاحت بوجهها الكريم عنها , وأبت أن تخبرها ، ولكنّها أخبرت بعض السيّدات بذلك ، فقالت : (( أخبرني أنّ جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة ، وأنّه عارضني في هذا العام به مرّتين ، ولا أراه إلاّ قد حضر أجلي )) .
وكان هذا هو السبب في لوعتها وبكائها ، أمّا سبب سرورها وابتهاجها ، فقالت : (( أخبرني أنّكِ أوّل أهل بيتي لحوقاً بي ، ونِعمَ السلف أنا لك ، ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الاُمّة ؟ ))(1) .
ونظر إليها النبي (صلّى الله عليه وآله) وهي خائرة القوى ، منهدّة الركن ، فأخذ يخفّف عنها لوعة المصاب قائلاً : (( يا بُنيّة ، لا تبكي ، وإذا متّ فقولي : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ؛ فإنّ فيها من كلّ ميّت معوضة )) .
وأجهشت بضعة الرسول بالبكاء قائلةً : (( ومنك يا رسول الله ؟ )) .
(( نعم ، ومنّي ))(2) .
واشتدّ المرض برسول الله (صلّى الله عليه وآله) والزهراء إلى جانبه , وهي تبكي وتقول لأبيها : (( يا أبت ، أنت كما قال القائل فيك :
ـــــــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق / 113 .
(2) أنساب الأشراف 1 / 133 ، القسم الأوّلوأبـيضَ يُستسقى الغمامُ بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأراملِ ))
فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( هذا قول عمّك أبي طالب )) . وتلا قوله تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ )(1) .
وتقطّع قلب زهراء الرسول ألماً وحزناً على أبيها ، فانكبّت عليه ومعها الحسنان ، فألصقت صدرها بصدره وهي غارقة في البكاء ، فأجهش النبي (صلّى الله عليه وآله) بالبكاء ، وهو يقول : (( اللّهمّ أهل بيتي ، وأنا مستودعهم كلّ مؤمن )) .
وجعل يردّد ذلك ثلاث مرّات حسبما يرويه أنس بن مالك(2) .
أمّا حفيدة الرسول زينب فقد شاركت اُمّها في لوعتها وأحزانها ، وقد ذابت نفسها حزناً وموجدة على اُمّها التي هامت في تيّارات مذهلة من الأسى والشجون على أبيها الذي هو عندها أعزّ من الحياة .
إلى الفردوس الأعلى
وبعدما أدّى النبي العظيم رسالة ربّه إلى المسلمين ، وأقام صروح الإسلام ، وعيّن القائد العام لاُمّته الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فقد اختاره الله تعالى إلى جواره لينعم في الفردوس الأعلى ، فقد هبط عليه ملك الموت ، فاستأذن بالدخول عليه ، فخرجت إليه زهراء الرسول فأخبرته أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مشغول بنفسه عنه ، فانصرف ثمّ عاد بعد قليل يطلب الإذن ، فأفاق النبي (صلّى الله عليه وآله) من إغمائه ، والتفت إلى بضعته فقال لها : (( يا بُنية ، أتعرفينه ؟ )) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) أنساب الأشراف 1 / 133 ، القسم الأوّل .
(2) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 1 / 216 .
ـ (( لا يا رسول الله )) .
ـ (( إنّه معمّر القبور ، ومخرّب الدور ، ومفرّق الجماعات )) .
وجمدت بضعة الرسول ، وأخرسها الخطب ، ولم تملك نفسها أن رفعت صوتها ودموعها تتبلور على وجهها الشريف قائلةً : (( وا أبتاه لخاتم الأنبياء ! وا مصيبتاه لممات خير الأتقياء , ولانقطاع سيّد الأصفياء ! وا حسرتاه لانقطاع الوحي من السماء ! فقد حُرمت اليوم كلامك )) .
وتصدّع قلب النبي (صلّى الله عليه وآله) على بضعته , وأشفق عليها ، فقال لها مسلّياً : (( لا تبكي ؛ فإنّك أوّل أهلي لحوقاً بي ))(1) .
وسكنت روعتها لمّا أخبرها أنّها لا تبقى بعده إلاّ قليلاً .. وأذن النبي (صلّى الله عليه وآله) لملك الموت ، فلمّا مثلَ أمامه ، قال له : يا رسول الله ، إنّ الله أرسلني إليك ، وأمرني أن اُطيعك في كلّ ما أمرتني ؛ إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها ، وإن أمرتني أتركها تركتها .
فبُهر النبي (صلّى الله عليه وآله) وقال له : (( أتفعل يا ملك الموت ذلك ؟! )) .
ـ بذلك اُمرت أن اُطيعك في كلّ ما أمرتني .
وهبط جبرئيل على النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقال له : يا أحمد ، إنّ الله قد اشتاق إليك(2) .
واختار النبي (صلّى الله عليه وآله) جوار ربّه والرحيل عن هذه الدنيا ، فأذن لملك الموت بقبض روحه العظيمة ، وفي هذه اللحظات ألقى الحسنان بأنفسهما على جدّهما وهما يذرفان الدموع , والنبي (صلّى الله عليه وآله) يوسعهما تقبيلاً ، وأراد الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) أن ينحّيهما عنه , فأبى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، وقال له :
ـــــــــــــــــــــ
(1) درّة الناصحين / 66 .
(2) طبقات ابن سعد 2 / 48 .
الصفحة (82)
(( دعهما يتمتّعان منّي وأتمتّع منهما ؛ فسيصيبهما بعدي أثرة )) .
والتفت النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى عوّاده فأوصاهم بعترته قائلاً : (( قد خلّفت فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فالمضيّع لكتاب الله كالمضيع لسنّتي ، والمضيّع لسنّتي كالمضيّع لعترتي ، إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ))(1) .
والتفت النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى باب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فقال له : (( ضع رأسي في حجرك فقد جاء أمر الله ؛ فإذا فاضت نفسي فتناولها وامسح بها وجهك ، ثم وجّهني إلى القبلة وتولّ أمري ، وصلّ عليّ أوّل الناس ، ولا تفارقني حتّى تواريني في رِمسي ، واستعن بالله عزّ وجلّ ))(2) .
وأخذ الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) رأس النبي (صلّى الله عليه وآله) فوضعه في حجره ، ومدّ يده اليمنى تحت حنكه , وشرع ملك الموت بقبض روحه الطاهرة ، والرسول يعاني آلام الموت وقسوته حتّى فاضت روحه العظيمة , فمسح بها الإمام وجهه(3) .
لقد ارتفع ذلك اللطف الإلهي الذي أضاء العقول وحرّر الأفكار ، وأقام مشاعل النور في جميع بقاع الأرض . لقد سمت روح النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى بارئها ، وهي أقدس روح سمت إلى السماء منذ خلق الله هذه الأرض . لقد أشرقت الآخرة لقدومه ، وأظلمت الدنيا لفقده ، وما أصيبت الإنسانيّة بكارثة أقسى وأعظم من فقد الرسول العظيم .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مقتل الحسين ـ الخوارزمي 1 / 114 .
(2) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 1 / 220 .
(3) المناقب 1 / 29 ، وتضافرت الأخبار بأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) توفّي ورأسه الشريف في حجر الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، جاء ذلك في كنز العمّال 2 / 55 ، طبقات ابن سعد ، وغيرهما .
الصفحة (83)
تجهيزه (صلوات الله عليه وعلى آله)
وانبرى الإمام أمير الؤمنين (عليه السّلام) وهو خائر القوى ، منهدّ الركن إلى تجهيز جثمان سيد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله) فغسّل الجسد الطاهر ، وهو يقول بذوب روحه : (( بأبي أنت واُمّي ! لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والأنباء وأخبار السماء ، خصصت حتّى صرت مسلّياً عمّن سواك ، وعممت حتّى صار الناس فيك سواء . ولولا أنّك أمرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع لأنفذنا عليك ماء الشؤون ، ولكان الداء مماطلاً ، والكد مخالفاً ))(1) .
وكان العباس واُسامة يناولانه الماء من وراء الستر(2) .
وكان بدن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تفوح منه روائح الطيب ، والإمام (عليه السّلام) يقول : (( بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ! طبت حيّاً وميّتاً ))(3) . وبعد الفراغ من غسله أدرجه الإمام في أكفانه ووضعه على السرير . وأوّل مَنْ صلّى على الجثمان العظيم هو الله تعالى من فوق عرشه ، ثمّ جبرئيل ، ثمّ إسرافيل ، ثمّ الملائكة زمراً زمراً(4) .
وبعد ذلك صلّى عليه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، ثمّ أقبل المسلمون للصلاة عليه ، فقال لهم الإمام : (( لا يقوم عليه إمام منكم ، هو إمامكم حيّاً وميّتاً )) . فكانوا يدخلون رسلاً رسلاً فيصلون عليه صفاً واحداً , ليس لهم إمام ، وأمير المؤمنين واقف إلى جانب الجثمان , وهو يقول : (( السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته . اللّهمّ إنّا نشهد أنه قد بلّغ ما
ـــــــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة ـ محمّد عبده 2 / 255 .
(2) وفاء الوفاء 1 / 227 ، البداية والنهاية 5 / 63 .
(3) حلية الأولياء 4 / 77 .
(4) المصدر السابق .
الصفحة (84)
اُنزل إليه , ونصح لاُمّته ، وجاهد في سبيل الله حتّى أعزّ الله دينه , وتمّت كلمته ... اللّهمّ فاجعلنا ممّن يتّبع ما اُنزل إليه , وثبّتنا بعده , واجمع بيننا وبينه ... )) .
وكانت الجماهير تقول : آمين(1) . وقد نخب الحزن قلوبهم فقد مات مَنْ دعاهم إلى الحقّ ، وحرّرهم من خرافات الجاهليّة وأوثانها ، وأقام لهم دولة تدعو إلى إنصاف المظلوم ، وردع الظلم ، وإشاعة الرفاهية والرخاء والأمن بين الناس .
مواراة الجثمان المقدّس
وبعد أن فرغ المسلمون من الصلاة على الجثمان العظيم وودّعوه الوداع الأخير ، قام الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فوارى الجسد الطاهر في مثواه الأخير , ووقف على حافة القبر وهو يروي ثراه بدموع عينيه ، ويقول : (( إنّ الصبر لجميل إلاّ عنك ، وإنّ الجزع لقبيح إلاّ عليك ، وإنّ المصاب بك لجليل ، وإنّه قبلك وبعدك لجلل ))(2) .
لقد مادت أركان العدل , وانطوت ألوية الحقّ ؛ فقد غاب عن هذه الحياة سيّد الكائنات الذي غيّر مجرى التأريخ ، وأقام صروح الوعي والفكر في دنيا العرب والإسلام .
فجيعة الزهراء (عليها السّلام)
وكان أكثر أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) جزعاً وأشدّهم مصاباً بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وحبيبته فاطمة الزهراء (عليها السّلام) ؛ فقد أشرفت على الموت وهي تبكي أمرّ البكاء وأقساه ، وتقول : (( وا أبتاه ! وا رسول الله ! وا نبيّ الرحمتاه ! الآن لا يأتي الوحي ، الآن ينقطع
ـــــــــــــــــــــ
(1) كنز العمّال 4 / 54 .
(2) نهج البلاغة ـ محمّد عبده 3 / 224 . عنّا جبرئيل . اللّهمّ ألحق روحي بروحه ، واشفعني بالنظر إلى وجهه ، ولا تحرمني أجره وشفاعته يوم القيامة ))(1) .
وقالت بذوب روحها : (( وا أبتاه ! إلى جبرئيل أنعاه ، وا أبتاه ! جنّة الفردوس مأواه ، وا أبتاه , وا أبتاه ! أجاب رباً دعاه )) .
وأحاطت بالاُسرة النبويّة موجات من الأسى والحزن على هذا المصاب العظيم كما أحاطت بها تيّارات من الفزع والخوف ؛ لأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد وتر الأقربين والأبعدين , فخافوا من انقضاض العرب عليهم ، يقول الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( لمّا مات النبي (صلّى الله عليه وآله) بات أهل بيته كأن لا سماء تظلّهم , ولا أرض تقلّهم ؛ لأنّه وتر الأقرب والأبعد )) .
لقد عانت حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله) زينب (عليها السّلام) وهي في سنّها المبكّر هذه المصيبة الكبرى وما تنطوي عليها من أبعاد ، وما ستعانيه هي وأهلها من فوادح الرزايا بعد وفاة جدّها , كما فقدت بموته العطف والحنان الذي كان يغدقه عليها , وكان عمرها الشريف خمس سنين .
وقد غزت قلبها هذه المحنة الشاقة ؛ فقد رأت جدّها يوارى في مثواه الأخير ، ورأت أباها بادي الهمّ والحزن على فراق ابن عمّه ، وشاهدت اُمّها الرؤوم وهي ولهى قد ذابت من الأسى ، وهي تندب أباها بأشجى ما تكون الندبة ، ومنذ ذلك اليوم لازمها الأسى والحزن حتّى لحقت بالرفيق الأعلى .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الخميس 2 / 192 .