في عهد الخلفاء
لا يستطيع أيّ كاتب مهما كان بارعاً في تصوير دقائق النفوس ، وكشف أسرار المجتمع وأحداث التأريخ أن يصوّر بدقّة عمق الكوارث والأوبئة التي داهمت الاُمّة الإسلاميّة بعد وفاة نبيّها العظيم ، كما صوّرها القرآن الكريم ، قال تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ... )(1) .
إنّه تصوير هائل للأزمات المفجعة والنكبات السود التي مُني بها العالم الإسلامي ، إنّه انقلاب على الأعقاب ، وانسلاخ عن العقيدة الإسلاميّة ، وتدمير لشريعة الله ، فأيّ زلزال مدمّر كهذا الزلزال الذي عصف بالاُمّة الإسلاميّة وأخلد لها الفتن والكوارث على امتداد التأريخ .
وكان من أقسى ما فُجعت به الاُمّة إبعاد العترة الطاهرة عن المسرح السياسي وتحويل القيادة إلى غيرها ، الأمر الذي نجم عنه فوز الاُمويِّين وغيرهم بالحكم ، وإمعانهم بوحشية قاسية في ظلم العلويِّين ومطاردتهم ، ومجزرة كربلاء كانت من النتائج المباشرة لصرف الخلافة عن أهل البيت (عليهم السّلام) .
وعلى أيّ حال ، فإنّا نعرض ـ بإيجاز ـ لبعض تلك الأحداث ، والتي منها حكومة الخلفاء الذين عاصرتهم حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ؛ فإنّ بها ترتبط ارتباطاً موضوعياً بالكشف عن حياتها وما عانته من كوارث وأهوال ، وفيما يلي ذلك :
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران / 144 .
الصفحة (88)
مؤتمر السقيفة
أمّا مؤتمر السقيفة فهو مصدر الفتنة الكبرى التي مُني بها المسلمون والتي كان من جرّائها الأحداث المروّعة التي رُزئ بها أهل البيت (عليهم السّلام) . يقول الإمام محمّد حسين آل كاشف الغطاء :
تاللهِ مـا كـربلا لولا (سقيفتُهمْ) ومثل هذا الفرعِ ذاك الأصل أنتجه
ويقول بولس سلامة :
وتوالت تحتَ السقيفةِ أحدا ثٌ أثـارت كوامناً وميولا
نزعات تفرّقت كغصونِ الـ ـعوسج الخفيّ شائكاً مدخولا
لقد أسرع الأنصار إلى عقد مؤتمرهم في (سقيفة بني ساعدة) لترشيح أحدهم لمنصب الخلافة , وإقامة حكومة تضمن مصالحهم وترعى شؤونهم . لقد عقدوا مؤتمرهم في وقت كان جثمان الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) لم يوارَ في مثواه الأخير ، وأكبر الظنّ إنّما قاموا بهذه السرعة الخاطفة بذلك ؛ لأنّهم خافوا من استيلاء المهاجرين على الحكم ، فقدر رأوا تحرّكهم السياسي في صرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وكراهيتهم له .
وعلى أيّ حال ، فقد خطب سعد بن عبادة زعيم الخزرج في الأنصار ، وكان منطق خطابه الإشادة بنضال الأنصار وجهادهم في نصرة الإسلام وقهر القوى المعادية لهم ، فهم الذين حملوا النبي (صلّى الله عليه وآله) ونصروه في أيام محنته ، فإذاً هم أولى بمركز النبي (صلّى الله عليه وآله) , وأحقّ بمنصبه من غيرهم .
كما حفل خطابه بالتنديد بالاُسر القرشية التي ناهضت النبي (صلّى الله عليه وآله) , وناجزته الحرب حتّى اضطر للهجرة إلى يثرب ، فهم خصومه وأعداؤه , ولا حقّ لهم بأيّ حالٍ في التدخّل بشؤون الدولة ومصيرها .
وقام زعيم آخر من الأنصار هو الحبّاب بن المنذر ، فحذّر الأنصار من القرشيّين ،
الصفحة (89)
وأهاب بهم أن يجعلوا لهم نصيباً في الحكم ، قائلاً : لكنّنا نخاف أن يليها بعدكم مَنْ قتلنا أبناءهم وآباءهم وإخوانهم .
وتحقّق تنبؤ الحبّاب ؛ فإنّه لم يكن ينتهي حكم الخلفاء حتّى آل الأمر إلى الاُمويِّين , فأمعنوا في إذلال الأنصار , وإشاعة البؤس والفقر فيهم ، وقد انتقم منهم معاوية كأشرّ وأقسى ما يكون الانتقام .
ولمّا وليَ الأمر من بعده يزيد جهد في الوقيعة بهم ، فأباح أموالهم ودماءهم وأعراضهم لجيوشه في واقعة (الحرّة) التي اُنتهكت فيها جميع ما حرّمه الله .
وعلى أيّ حال ، فقد تجاهل سعد وغيره من الأنصار الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) الذي هو من النبيّ بمنزلة هارون من موسى ، وأبو سبطيه ، وباب مدينة علمه ، وسيّد عترته .
ولا نرى أيّ مبرر لسعد في إغضائه وتجاهله حقّ الإمام (عليه السّلام) ، فقد فتح باب الشرّ على الاُمّة ، وأخلد لها المصاعب والفتن على امتداد التأريخ .
مباغتة الأنصار
وحينما كان الأنصار في سقيفتهم يدبّرون أمرهم ويتداولون الرأي في شؤون الخلافة , إذ خرج من مؤتمرهم عويم بن ساعدة الأوسي ومعن بن عدي حليف الأنصار ، وكانا من أولياء أبي بكر , ومن أعضاء حزبه ، وكانا يحقدان على سعد ، فانطلقا مسرعَين إلى أبي بكر فأخبراه بالأمر .
ففزع أبو بكر وأسرع ومعه عمر وأبو عبيدة الجرّاح وسالم مولى أبي حذيفة وآخرون من المهاجرين(1) ، فكبسوا الأنصار في ندوتهم ، فذُهل الأنصار وأُسقط ما بأيديهم ؛ لأنّهم أحاطوا ندوتهم بسريّة وكتمان ، وتغيّر لون سعد ، فقد انهارت جميع مخطّطاته ، وفشلت جميع تدابيره .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 3 / 62 .
الصفحة (90)
خطاب أبي بكر
واستغلّ أبو بكر الموقف ، وأراد صاحبه عمر أن يفتح الحديث مع الأنصار ، فنهره أبو بكر ؛ لعلمه بشدّته وهي لا تساعد في مثل هذا الموقف الملبّد الذي يجب أن تستعمل فيه الأساليب السياسيّة والكلمات الناعمة لكسب الموقف .
فبادر أبو بكر فخاطب الأنصار بكلمات معسولة وبسمات فيّاضة بالبشر ، قائلاً : نحن المهاجرون أوّل الناس إسلاماً ، وأكرمهم أحساباً ، وأوسطهم داراً ، وأحسنهم وجوهاً ، وأمسّهم برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنتم إخواننا في الإسلام ، وشركاؤنا في الدين ، نصرتم الإسلام وواسيتم فجزاكم الله خيراً ، فنحن الاُمراء وأنتم الوزراء .
لا تدين العرب إلاّ لهذا الحيّ من قريش ، فلا تنفسوا على إخوتكم المهاجرين ما فضّلهم الله به ، فقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين , يعني عمر بن الخطّاب وأبا عبيدة بن الجراح(1) .
ولم يعرض هذا الخطاب إلى وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) التي هي أعظم كارثة مُني بها المسلمون ، فكان الواجب أن يُعزّي المسلمين بوفاة منقذهم ونبيّهم ، كما أنّ الواجب يقضي بتأخير المؤتمر إلى بعد مواراة النبي (صلّى الله عليه وآله) حتّى يجتمع جميع المسلمين وينتخبوا عن إرادتهم وحرّيتهم مَنْ شاؤوا .
وشيء آخر في هذا الخطاب أنّه لم يمعن إلاّ بطلب الإمرة والسلطان ؛ فقد طلب من الأنصار أن يتنازلوا عن الخلافة إلى المهاجرين ، وأنّهم سينالون عوض ذلك الوزارة ، إلاّ أنّه لمّا تمّ الأمر لأبي بكر أقصاهم ولم يمنحهم أيّ منصبٍ من مناصب الدولة .
وممّا يؤخذ على هذا الخطاب أنّه تجاهل بصورة كاملة أهل البيت (عليهم السّلام) الذين هم
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 3 / 62 .
الصفحة (91)
وديعة النبي في اُمّته ، والثقل الأكبر فيها ، فلم يُشر إليهم أبو بكر بقليل ولا بكثير .
بيعة أبي بكر
وانبرى حزب أبي بكر إلى تأييده ، فكان من أعظم المناصرين له عمر بن الخطاب ، وسارع إلى بيعته مع بقية أعضاء حزبه خوفاً من تطوّر الأحداث ، واشتدّ عمر في إرغام الناس على بيعة أبي بكر ، وقد لعبت درّته شوطاً في الميدان ، وقد سمع الأنصار يقولون : قتلتم سعداً ! فجعل يقول بعنف : اقتلوه ! قتله الله ؛ فإنّه صاحب فتنة(1) .
وبعدما تمّت البيعة لأبي بكر بهذه السرعة الخاطفة أقبل به حزبه يزفّونه زفاف العروس إلى مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ولم يشترك أبو بكر ولا أيّ فرد من حزبه في تشييع جثمان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومواراته ؛ فقد انشلغوا بالمُلك والسلطان وتدبير اُمورهم .
لقد أُهمل في بيعة أبي بكر رأي العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم ، فلم يُعنَ بها , ولم يُؤخذ رأيها ، ومنذ ذلك اليوم واجهت جميع ألوان الرزايا والنكبات ، وما كارثة كربلاء وغيرها من مآسي العترة الطاهرة إلاّ وهي متفرّعة من يوم السقيفة حسبما نصّت عليه الوثائق التاريخية والدراسات العلميّة .
امتناع الإمام (عليه السّلام) عن البيعة
والتاع الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) من بيعة أبي بكر ، واعتبرها تعدّياً صارخاً عليه ، فقد كان محلّه من الخلافة محلّ القطب من الرحى ، ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه
ـــــــــــــــــــــ
(1) العقد الفريد 3 / 62 .
الطير على حدّ تعبيره ، وقد تخلّف عن بيعة أبي بكر وأعلن معارضته لها ، وقد شاع ذلك بين المسلمين . ومَنْ يقرأ نهج البلاغة يجد فيه لواحات من تذمّره وأساه على ضياع حقّه .
إرغامه على البيعة
وأجمع أبو بكر وسائر أعضاء حزبه على إرغام الإمام على البيعة لأبي بكر وحمله بالقوّة عليها ، فأرسلوا إليه شرطتهم فكبسوا داره وأخرجوه منها بالقسر والقوّة ، وجاءوا به إلى أبي بكر ، فصاحوا به : بايع أبا بكر ...
فأجابهم الإمام بمنطقه الفيّاض وحجّته الحاسمة ، قائلاً : (( أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، لا اُبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ؛ أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً !
ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمّد (صلّى الله عليه وآله) منكم ، فأعطوكم المقادة , وسلّموا إليكم الإمارة ، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ؛ نحن أولى برسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيّاً وميّتاً ، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون ، وإلاّ فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون )) .
وأعلن الإمام بهذا الخطاب الرائع أنّه أولى بمركز النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وأحقّ بخلافته من غيره ، فهو أقرب الناس وألصق بالرسول (صلّى الله عليه وآله) من المهاجرين الذين فازوا بالحكم لقربهم من النبي ، فهو ابن عمّه وأبو سبطيه ، ولا يملك أحد من القرب إلى النبي غيره .
وثار ابن الخطاب بعد أن أعوزته الحجّة والبرهان ، فاندفع بعنفٍ قائلاً : إنّك لست متروكاً حتّى تبايع .
الصفحة (93)
فزجره الإمام (عليه السّلام) قائلاً : (( احلب حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم أمره ، يردده عليك غداً )) .
وكشف الإمام الوجه في اندفاع ابن الخطاب وتهالكه على نصرة أبي بكر ؛ فإنّه يأمل أن ترجع إليه الخلافة والملك بعد أبي بكر .
وثار الإمام (عليه السّلام) وهتف قائلاً : (( والله يا عمر ، لا أقبل قولك ولا أبايعه )) .
وخاف أبو بكر من تطوّر الأحداث ، وخشي أن ترجع إلى المسلمين حوازب أحلامهم فيقصوه عن منصبه ، فخاطب الإمام بناعم القول : إن لم تبايع فلا اُكرهك .
وانبرى أبو عبيدة بن الجراح وهو من أبرز حزب أبي بكر ، فخاطب الإمام قائلاً : يابن عمّ ، إنّك حدث السن ، وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتم بالاُمور ، ولا أرى إلاّ أبا بكر أقوى على هذا الأمر منك ، وأشدّ احتمالاً واضطلاعاً به ، فسلّم لأبي بكر هذا الأمر ؛ فإنّك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق ، وبه حقيق ؛ في فضلك ودينك , وعلمك وفهمك , وسابقتك ونسبك وصهرك .
وليس في هذا القول إلاّ الخداع والتضليل ؛ فإنّ التقدّم في السن ليس له أيّ ترجيح في منصب الخلافة التي تتطلّب الطاقات الخلاّقة بما تحتاج إليه الاُمّة في الميادين السياسيّة والاقتصادية والقضائية ، ولا يملك أحد المسلمين ذلك غير الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) .
وأثارت مخادعة أبي عبيدة كوامن الألم في نفس الإمام ، فانبرى يخاطب المهاجرين قائلاً :
الصفحة (94)
(( الله الله يا معشر المهاجرين ، لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه ؛ فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به ؛ لأنّا أهل البيت ، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم .
ما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعية ، الدافع عنهم الاُمور السيئة ، القاسم بينهم بالسوية ؟ والله إنّه لفينا ، فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحقّ بُعداً ))(1) .
وحفلت هذه الكلمات بالصفات الرفيعة الماثلة في أهل بيت النبوّة من الفقه بدين الله ، والعلم بسنن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، والإحاطة بما تحتاج إليه الاُمّة في مجالاتها الاقتصادية والسياسيّة ولا تتوفّر بعض هذه الصفات في غيرهم ، ولو أنّ القوم استجابوا لنداء الإمام لجنّبوا العالم الإسلامي الكثير من المشكلات والأزمات ولكنّهم انسابوا وراء أطماعهم وشهواتهم وتهالكهم على الإمرة والسلطان .
وعلى أيّ حال ، فقد رجع الإمام (عليه السّلام) إلى داره لم يبايع أبا بكر ، وقد أحاطت به موجات من الأسى على ضياع حقّه وحرمان الاُمّة من قيادته ، وقد التاعت سيّدة النساء زينب وغزاها الحزن على ما حلّ بأبيها من الآلام والكوارث ؛ فقد رأته جالساً في بيته يساور الهموم والأحزان ، وحوله اُمّها سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) وهي تبكي أباها , وتندبه بأشجى ما تكون الندبة ، وقد شاركت زوجها في مصابه على ضياع حقّه ، ونهب مركزه ومقامه .
إجراءات صارمة
وقضت سياسة أبي بكر أن يقابل الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بجميع الإجراءات الصارمة ؛
ــــــــــــــــ
(1) الإمامة والسياسة 1 / 11 ـ 12 .
الصفحة (95)
لأنّه الممثّل الوحيد للقوى المعارضة لحكومته . ومن بين تلك الوسائل التي سلكها أبو بكر :
1 ـ إسقاط الخمس
أمّا الخمس فهو حقّ مفروض لآل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نصّ عليه القرآن الكريم ، قال تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ )(1) ، وأجمع الرواة أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) كان يختصّ بسهم من الخمس ويخصّ أرحامه بسهم آخر منه ، وكانت هذه سيرته إلى أن اختاره الله إلى جواره .
ولمّا ولي أبو بكر أسقط سهم النبي , وسهم ذي القربى ، ومنع بني هاشم من الخمس(2) ؛ وبذلك فقد قضى على أهم مورد اقتصادي لهم . وقد أرسلت سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) إلى أبي بكر تسأله أن يدفع إليها ما بقي من خمس (خيبر) ، فأبى أن يدفع إليها شيئاً(3) ؛ وبذلك فقد ترك شبح الفقر على آل النبي ، وحجب عنهم ما فرضه الله لهم .
2 ـ الاستيلاء على تركة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
واستولى أبو بكر على جميع ما تركه الرسول (صلّى الله عليه وآله) من بلغة العيش وحازه إلى بيت المال ، وبذلك فقد فرض حصاراً اقتصادياً على آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) حتّى لا يتمكّنون من القيام بأيّ حركة ضدّه .
3 ـ تأميم فدك
وأمّم أبو بكر (فدكاً) وصادرها من أهل البيت ، ومنعهم من أخذ وارداتها ،
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأنفال / 41 .
(2) الكشّاف 2 / 158 ـ 159 (في تفسير آية الخمس) .
(3) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 1 / 260 .
الصفحة (96)
وقد ضيّق عليهم بذلك غاية التضييق ، ومنع عنهم جميع وسائل العيش .
الزهراء (عليها السّلام) مع أبي بكر
والتاعت بضعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أبي بكر ؛ فقد سدّ عليها جميع نوافذ الحياة الاقتصادية ، فخرجت (سلام الله عليها) غضبى , فلاثت خمارها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتّى دخلت على أبي بكر وهو في جامع أبيها ، وكان في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها ملاءة .
فوقفت مفخرة الإسلام فأنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء , وارتجّ المجلس ، فأمهلتهم حتّى إذا سكن نشيجهم وهدأت فورتهم افتتحت خطابها الخالد بحمد الله والثناء عليه ، وانحدرت في خطابها كالسيل ، فلم يُسمع أخطب ولا أبلغ منها ، وحسبها أنّها بضعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي أفاض عليها بمكرمات نفسه ، وغذّاها بحكمه وآدابه .
وتحدّثت في خطابها عن معارف الإسلام ، وفلسفة تشريعاته ، وعلل أحكامه ، وعرضت إلى الحالة الراهنة التي كانت عليها اُمم العالم وشعوب الأرض قبل أن يشرق عليها نور الإسلام ؛ فقد غرقت الاُمم بالجهل والانحطاط خصوصاً (الجزيرة العربية) ؛ فقد كانت في أقصى مكان من الذلّ والهوان ، وكانت الأكثرية الساحقة تقتاد القِدّ ، وتشرب الطَرق ، وترسف في قيود الفقر والبؤس إلى أن أنقذها الله بنبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، فرفعها إلى واحات الحضارة وجعلها سادة الاُمم والشعوب ، فما أعظم عائدته على العرب والمسلمين !
وعرضت سيّدة نساء العالمين في خطبتها إلى فضل ابن عمّها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وعظيم جهاده في نصرة الإسلام ، وذبّه عن حياض الدين ، في حين أنّ المهاجرين من قريش بالخصوص كانوا في رفاهية من العيش وادعين آمنين ، لم يكن لهم أيّ ضلع في نصرة القضية الإسلاميّة والدفاع عنها , فلم يُؤثر عن أعلامهم أنّهم قتلوا مشركاً , أو برزوا ببسالة وصمود إلى مقارعة الأقران في الحروب ، وإنّما كانوا ينكصون عند النزال ، ويفرّون من القتال ـ على حدّ تعبيرها ـ وكانوا يتربّصون الدوائر بأهل بيت النبوّة , ويتوقعون بهم نزول الأحداث .
وأعربت مفخرة الإسلام في خطابها عن أسفها البالغ على ما مُني به المسلمون من الزيغ والانحراف , والاستجابة لدواعي الهوى والغرور , وذلك بإقصائهم لأهل البيت (عليهم السّلام) عن مركز القيادة العامة , وتنبّأت عمّا سيحلّ بهم من الكوارث والخطوب التي تدع فيئهم حصيداً ، وجمعهم بديداً من جرّاء إبعادهم لأهل بيت النبوّة عن مقامهم الذي نصبهم فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
ثمّ عرضت إلى حرمانها من إرث أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقالت : (( وأنتم تزعمون أن لا إرث لي من أبي ! أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ . وَيهاً أيّها المسلمون ! أاُغلب على تراث أبي ؟! )) .
ثمّ وجهت خطابها إلى أبي بكر : (( يابن أبي قُحافة , أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئاً فريّاً ! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) ؟ وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريّا ، إذ يقول : ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) , وقال : ( وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) , وقال : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ) ,
لا يستطيع أيّ كاتب مهما كان بارعاً في تصوير دقائق النفوس ، وكشف أسرار المجتمع وأحداث التأريخ أن يصوّر بدقّة عمق الكوارث والأوبئة التي داهمت الاُمّة الإسلاميّة بعد وفاة نبيّها العظيم ، كما صوّرها القرآن الكريم ، قال تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ... )(1) .
إنّه تصوير هائل للأزمات المفجعة والنكبات السود التي مُني بها العالم الإسلامي ، إنّه انقلاب على الأعقاب ، وانسلاخ عن العقيدة الإسلاميّة ، وتدمير لشريعة الله ، فأيّ زلزال مدمّر كهذا الزلزال الذي عصف بالاُمّة الإسلاميّة وأخلد لها الفتن والكوارث على امتداد التأريخ .
وكان من أقسى ما فُجعت به الاُمّة إبعاد العترة الطاهرة عن المسرح السياسي وتحويل القيادة إلى غيرها ، الأمر الذي نجم عنه فوز الاُمويِّين وغيرهم بالحكم ، وإمعانهم بوحشية قاسية في ظلم العلويِّين ومطاردتهم ، ومجزرة كربلاء كانت من النتائج المباشرة لصرف الخلافة عن أهل البيت (عليهم السّلام) .
وعلى أيّ حال ، فإنّا نعرض ـ بإيجاز ـ لبعض تلك الأحداث ، والتي منها حكومة الخلفاء الذين عاصرتهم حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ؛ فإنّ بها ترتبط ارتباطاً موضوعياً بالكشف عن حياتها وما عانته من كوارث وأهوال ، وفيما يلي ذلك :
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران / 144 .
الصفحة (88)
مؤتمر السقيفة
أمّا مؤتمر السقيفة فهو مصدر الفتنة الكبرى التي مُني بها المسلمون والتي كان من جرّائها الأحداث المروّعة التي رُزئ بها أهل البيت (عليهم السّلام) . يقول الإمام محمّد حسين آل كاشف الغطاء :
تاللهِ مـا كـربلا لولا (سقيفتُهمْ) ومثل هذا الفرعِ ذاك الأصل أنتجه
ويقول بولس سلامة :
وتوالت تحتَ السقيفةِ أحدا ثٌ أثـارت كوامناً وميولا
نزعات تفرّقت كغصونِ الـ ـعوسج الخفيّ شائكاً مدخولا
لقد أسرع الأنصار إلى عقد مؤتمرهم في (سقيفة بني ساعدة) لترشيح أحدهم لمنصب الخلافة , وإقامة حكومة تضمن مصالحهم وترعى شؤونهم . لقد عقدوا مؤتمرهم في وقت كان جثمان الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) لم يوارَ في مثواه الأخير ، وأكبر الظنّ إنّما قاموا بهذه السرعة الخاطفة بذلك ؛ لأنّهم خافوا من استيلاء المهاجرين على الحكم ، فقدر رأوا تحرّكهم السياسي في صرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وكراهيتهم له .
وعلى أيّ حال ، فقد خطب سعد بن عبادة زعيم الخزرج في الأنصار ، وكان منطق خطابه الإشادة بنضال الأنصار وجهادهم في نصرة الإسلام وقهر القوى المعادية لهم ، فهم الذين حملوا النبي (صلّى الله عليه وآله) ونصروه في أيام محنته ، فإذاً هم أولى بمركز النبي (صلّى الله عليه وآله) , وأحقّ بمنصبه من غيرهم .
كما حفل خطابه بالتنديد بالاُسر القرشية التي ناهضت النبي (صلّى الله عليه وآله) , وناجزته الحرب حتّى اضطر للهجرة إلى يثرب ، فهم خصومه وأعداؤه , ولا حقّ لهم بأيّ حالٍ في التدخّل بشؤون الدولة ومصيرها .
وقام زعيم آخر من الأنصار هو الحبّاب بن المنذر ، فحذّر الأنصار من القرشيّين ،
الصفحة (89)
وأهاب بهم أن يجعلوا لهم نصيباً في الحكم ، قائلاً : لكنّنا نخاف أن يليها بعدكم مَنْ قتلنا أبناءهم وآباءهم وإخوانهم .
وتحقّق تنبؤ الحبّاب ؛ فإنّه لم يكن ينتهي حكم الخلفاء حتّى آل الأمر إلى الاُمويِّين , فأمعنوا في إذلال الأنصار , وإشاعة البؤس والفقر فيهم ، وقد انتقم منهم معاوية كأشرّ وأقسى ما يكون الانتقام .
ولمّا وليَ الأمر من بعده يزيد جهد في الوقيعة بهم ، فأباح أموالهم ودماءهم وأعراضهم لجيوشه في واقعة (الحرّة) التي اُنتهكت فيها جميع ما حرّمه الله .
وعلى أيّ حال ، فقد تجاهل سعد وغيره من الأنصار الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) الذي هو من النبيّ بمنزلة هارون من موسى ، وأبو سبطيه ، وباب مدينة علمه ، وسيّد عترته .
ولا نرى أيّ مبرر لسعد في إغضائه وتجاهله حقّ الإمام (عليه السّلام) ، فقد فتح باب الشرّ على الاُمّة ، وأخلد لها المصاعب والفتن على امتداد التأريخ .
مباغتة الأنصار
وحينما كان الأنصار في سقيفتهم يدبّرون أمرهم ويتداولون الرأي في شؤون الخلافة , إذ خرج من مؤتمرهم عويم بن ساعدة الأوسي ومعن بن عدي حليف الأنصار ، وكانا من أولياء أبي بكر , ومن أعضاء حزبه ، وكانا يحقدان على سعد ، فانطلقا مسرعَين إلى أبي بكر فأخبراه بالأمر .
ففزع أبو بكر وأسرع ومعه عمر وأبو عبيدة الجرّاح وسالم مولى أبي حذيفة وآخرون من المهاجرين(1) ، فكبسوا الأنصار في ندوتهم ، فذُهل الأنصار وأُسقط ما بأيديهم ؛ لأنّهم أحاطوا ندوتهم بسريّة وكتمان ، وتغيّر لون سعد ، فقد انهارت جميع مخطّطاته ، وفشلت جميع تدابيره .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 3 / 62 .
الصفحة (90)
خطاب أبي بكر
واستغلّ أبو بكر الموقف ، وأراد صاحبه عمر أن يفتح الحديث مع الأنصار ، فنهره أبو بكر ؛ لعلمه بشدّته وهي لا تساعد في مثل هذا الموقف الملبّد الذي يجب أن تستعمل فيه الأساليب السياسيّة والكلمات الناعمة لكسب الموقف .
فبادر أبو بكر فخاطب الأنصار بكلمات معسولة وبسمات فيّاضة بالبشر ، قائلاً : نحن المهاجرون أوّل الناس إسلاماً ، وأكرمهم أحساباً ، وأوسطهم داراً ، وأحسنهم وجوهاً ، وأمسّهم برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنتم إخواننا في الإسلام ، وشركاؤنا في الدين ، نصرتم الإسلام وواسيتم فجزاكم الله خيراً ، فنحن الاُمراء وأنتم الوزراء .
لا تدين العرب إلاّ لهذا الحيّ من قريش ، فلا تنفسوا على إخوتكم المهاجرين ما فضّلهم الله به ، فقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين , يعني عمر بن الخطّاب وأبا عبيدة بن الجراح(1) .
ولم يعرض هذا الخطاب إلى وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) التي هي أعظم كارثة مُني بها المسلمون ، فكان الواجب أن يُعزّي المسلمين بوفاة منقذهم ونبيّهم ، كما أنّ الواجب يقضي بتأخير المؤتمر إلى بعد مواراة النبي (صلّى الله عليه وآله) حتّى يجتمع جميع المسلمين وينتخبوا عن إرادتهم وحرّيتهم مَنْ شاؤوا .
وشيء آخر في هذا الخطاب أنّه لم يمعن إلاّ بطلب الإمرة والسلطان ؛ فقد طلب من الأنصار أن يتنازلوا عن الخلافة إلى المهاجرين ، وأنّهم سينالون عوض ذلك الوزارة ، إلاّ أنّه لمّا تمّ الأمر لأبي بكر أقصاهم ولم يمنحهم أيّ منصبٍ من مناصب الدولة .
وممّا يؤخذ على هذا الخطاب أنّه تجاهل بصورة كاملة أهل البيت (عليهم السّلام) الذين هم
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 3 / 62 .
الصفحة (91)
وديعة النبي في اُمّته ، والثقل الأكبر فيها ، فلم يُشر إليهم أبو بكر بقليل ولا بكثير .
بيعة أبي بكر
وانبرى حزب أبي بكر إلى تأييده ، فكان من أعظم المناصرين له عمر بن الخطاب ، وسارع إلى بيعته مع بقية أعضاء حزبه خوفاً من تطوّر الأحداث ، واشتدّ عمر في إرغام الناس على بيعة أبي بكر ، وقد لعبت درّته شوطاً في الميدان ، وقد سمع الأنصار يقولون : قتلتم سعداً ! فجعل يقول بعنف : اقتلوه ! قتله الله ؛ فإنّه صاحب فتنة(1) .
وبعدما تمّت البيعة لأبي بكر بهذه السرعة الخاطفة أقبل به حزبه يزفّونه زفاف العروس إلى مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ولم يشترك أبو بكر ولا أيّ فرد من حزبه في تشييع جثمان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومواراته ؛ فقد انشلغوا بالمُلك والسلطان وتدبير اُمورهم .
لقد أُهمل في بيعة أبي بكر رأي العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم ، فلم يُعنَ بها , ولم يُؤخذ رأيها ، ومنذ ذلك اليوم واجهت جميع ألوان الرزايا والنكبات ، وما كارثة كربلاء وغيرها من مآسي العترة الطاهرة إلاّ وهي متفرّعة من يوم السقيفة حسبما نصّت عليه الوثائق التاريخية والدراسات العلميّة .
امتناع الإمام (عليه السّلام) عن البيعة
والتاع الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) من بيعة أبي بكر ، واعتبرها تعدّياً صارخاً عليه ، فقد كان محلّه من الخلافة محلّ القطب من الرحى ، ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه
ـــــــــــــــــــــ
(1) العقد الفريد 3 / 62 .
الطير على حدّ تعبيره ، وقد تخلّف عن بيعة أبي بكر وأعلن معارضته لها ، وقد شاع ذلك بين المسلمين . ومَنْ يقرأ نهج البلاغة يجد فيه لواحات من تذمّره وأساه على ضياع حقّه .
إرغامه على البيعة
وأجمع أبو بكر وسائر أعضاء حزبه على إرغام الإمام على البيعة لأبي بكر وحمله بالقوّة عليها ، فأرسلوا إليه شرطتهم فكبسوا داره وأخرجوه منها بالقسر والقوّة ، وجاءوا به إلى أبي بكر ، فصاحوا به : بايع أبا بكر ...
فأجابهم الإمام بمنطقه الفيّاض وحجّته الحاسمة ، قائلاً : (( أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، لا اُبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ؛ أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً !
ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمّد (صلّى الله عليه وآله) منكم ، فأعطوكم المقادة , وسلّموا إليكم الإمارة ، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ؛ نحن أولى برسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيّاً وميّتاً ، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون ، وإلاّ فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون )) .
وأعلن الإمام بهذا الخطاب الرائع أنّه أولى بمركز النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وأحقّ بخلافته من غيره ، فهو أقرب الناس وألصق بالرسول (صلّى الله عليه وآله) من المهاجرين الذين فازوا بالحكم لقربهم من النبي ، فهو ابن عمّه وأبو سبطيه ، ولا يملك أحد من القرب إلى النبي غيره .
وثار ابن الخطاب بعد أن أعوزته الحجّة والبرهان ، فاندفع بعنفٍ قائلاً : إنّك لست متروكاً حتّى تبايع .
الصفحة (93)
فزجره الإمام (عليه السّلام) قائلاً : (( احلب حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم أمره ، يردده عليك غداً )) .
وكشف الإمام الوجه في اندفاع ابن الخطاب وتهالكه على نصرة أبي بكر ؛ فإنّه يأمل أن ترجع إليه الخلافة والملك بعد أبي بكر .
وثار الإمام (عليه السّلام) وهتف قائلاً : (( والله يا عمر ، لا أقبل قولك ولا أبايعه )) .
وخاف أبو بكر من تطوّر الأحداث ، وخشي أن ترجع إلى المسلمين حوازب أحلامهم فيقصوه عن منصبه ، فخاطب الإمام بناعم القول : إن لم تبايع فلا اُكرهك .
وانبرى أبو عبيدة بن الجراح وهو من أبرز حزب أبي بكر ، فخاطب الإمام قائلاً : يابن عمّ ، إنّك حدث السن ، وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتم بالاُمور ، ولا أرى إلاّ أبا بكر أقوى على هذا الأمر منك ، وأشدّ احتمالاً واضطلاعاً به ، فسلّم لأبي بكر هذا الأمر ؛ فإنّك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق ، وبه حقيق ؛ في فضلك ودينك , وعلمك وفهمك , وسابقتك ونسبك وصهرك .
وليس في هذا القول إلاّ الخداع والتضليل ؛ فإنّ التقدّم في السن ليس له أيّ ترجيح في منصب الخلافة التي تتطلّب الطاقات الخلاّقة بما تحتاج إليه الاُمّة في الميادين السياسيّة والاقتصادية والقضائية ، ولا يملك أحد المسلمين ذلك غير الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) .
وأثارت مخادعة أبي عبيدة كوامن الألم في نفس الإمام ، فانبرى يخاطب المهاجرين قائلاً :
الصفحة (94)
(( الله الله يا معشر المهاجرين ، لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه ؛ فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به ؛ لأنّا أهل البيت ، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم .
ما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعية ، الدافع عنهم الاُمور السيئة ، القاسم بينهم بالسوية ؟ والله إنّه لفينا ، فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحقّ بُعداً ))(1) .
وحفلت هذه الكلمات بالصفات الرفيعة الماثلة في أهل بيت النبوّة من الفقه بدين الله ، والعلم بسنن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، والإحاطة بما تحتاج إليه الاُمّة في مجالاتها الاقتصادية والسياسيّة ولا تتوفّر بعض هذه الصفات في غيرهم ، ولو أنّ القوم استجابوا لنداء الإمام لجنّبوا العالم الإسلامي الكثير من المشكلات والأزمات ولكنّهم انسابوا وراء أطماعهم وشهواتهم وتهالكهم على الإمرة والسلطان .
وعلى أيّ حال ، فقد رجع الإمام (عليه السّلام) إلى داره لم يبايع أبا بكر ، وقد أحاطت به موجات من الأسى على ضياع حقّه وحرمان الاُمّة من قيادته ، وقد التاعت سيّدة النساء زينب وغزاها الحزن على ما حلّ بأبيها من الآلام والكوارث ؛ فقد رأته جالساً في بيته يساور الهموم والأحزان ، وحوله اُمّها سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) وهي تبكي أباها , وتندبه بأشجى ما تكون الندبة ، وقد شاركت زوجها في مصابه على ضياع حقّه ، ونهب مركزه ومقامه .
إجراءات صارمة
وقضت سياسة أبي بكر أن يقابل الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بجميع الإجراءات الصارمة ؛
ــــــــــــــــ
(1) الإمامة والسياسة 1 / 11 ـ 12 .
الصفحة (95)
لأنّه الممثّل الوحيد للقوى المعارضة لحكومته . ومن بين تلك الوسائل التي سلكها أبو بكر :
1 ـ إسقاط الخمس
أمّا الخمس فهو حقّ مفروض لآل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نصّ عليه القرآن الكريم ، قال تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ )(1) ، وأجمع الرواة أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) كان يختصّ بسهم من الخمس ويخصّ أرحامه بسهم آخر منه ، وكانت هذه سيرته إلى أن اختاره الله إلى جواره .
ولمّا ولي أبو بكر أسقط سهم النبي , وسهم ذي القربى ، ومنع بني هاشم من الخمس(2) ؛ وبذلك فقد قضى على أهم مورد اقتصادي لهم . وقد أرسلت سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) إلى أبي بكر تسأله أن يدفع إليها ما بقي من خمس (خيبر) ، فأبى أن يدفع إليها شيئاً(3) ؛ وبذلك فقد ترك شبح الفقر على آل النبي ، وحجب عنهم ما فرضه الله لهم .
2 ـ الاستيلاء على تركة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
واستولى أبو بكر على جميع ما تركه الرسول (صلّى الله عليه وآله) من بلغة العيش وحازه إلى بيت المال ، وبذلك فقد فرض حصاراً اقتصادياً على آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) حتّى لا يتمكّنون من القيام بأيّ حركة ضدّه .
3 ـ تأميم فدك
وأمّم أبو بكر (فدكاً) وصادرها من أهل البيت ، ومنعهم من أخذ وارداتها ،
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأنفال / 41 .
(2) الكشّاف 2 / 158 ـ 159 (في تفسير آية الخمس) .
(3) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 1 / 260 .
الصفحة (96)
وقد ضيّق عليهم بذلك غاية التضييق ، ومنع عنهم جميع وسائل العيش .
الزهراء (عليها السّلام) مع أبي بكر
والتاعت بضعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أبي بكر ؛ فقد سدّ عليها جميع نوافذ الحياة الاقتصادية ، فخرجت (سلام الله عليها) غضبى , فلاثت خمارها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتّى دخلت على أبي بكر وهو في جامع أبيها ، وكان في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها ملاءة .
فوقفت مفخرة الإسلام فأنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء , وارتجّ المجلس ، فأمهلتهم حتّى إذا سكن نشيجهم وهدأت فورتهم افتتحت خطابها الخالد بحمد الله والثناء عليه ، وانحدرت في خطابها كالسيل ، فلم يُسمع أخطب ولا أبلغ منها ، وحسبها أنّها بضعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي أفاض عليها بمكرمات نفسه ، وغذّاها بحكمه وآدابه .
وتحدّثت في خطابها عن معارف الإسلام ، وفلسفة تشريعاته ، وعلل أحكامه ، وعرضت إلى الحالة الراهنة التي كانت عليها اُمم العالم وشعوب الأرض قبل أن يشرق عليها نور الإسلام ؛ فقد غرقت الاُمم بالجهل والانحطاط خصوصاً (الجزيرة العربية) ؛ فقد كانت في أقصى مكان من الذلّ والهوان ، وكانت الأكثرية الساحقة تقتاد القِدّ ، وتشرب الطَرق ، وترسف في قيود الفقر والبؤس إلى أن أنقذها الله بنبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، فرفعها إلى واحات الحضارة وجعلها سادة الاُمم والشعوب ، فما أعظم عائدته على العرب والمسلمين !
وعرضت سيّدة نساء العالمين في خطبتها إلى فضل ابن عمّها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وعظيم جهاده في نصرة الإسلام ، وذبّه عن حياض الدين ، في حين أنّ المهاجرين من قريش بالخصوص كانوا في رفاهية من العيش وادعين آمنين ، لم يكن لهم أيّ ضلع في نصرة القضية الإسلاميّة والدفاع عنها , فلم يُؤثر عن أعلامهم أنّهم قتلوا مشركاً , أو برزوا ببسالة وصمود إلى مقارعة الأقران في الحروب ، وإنّما كانوا ينكصون عند النزال ، ويفرّون من القتال ـ على حدّ تعبيرها ـ وكانوا يتربّصون الدوائر بأهل بيت النبوّة , ويتوقعون بهم نزول الأحداث .
وأعربت مفخرة الإسلام في خطابها عن أسفها البالغ على ما مُني به المسلمون من الزيغ والانحراف , والاستجابة لدواعي الهوى والغرور , وذلك بإقصائهم لأهل البيت (عليهم السّلام) عن مركز القيادة العامة , وتنبّأت عمّا سيحلّ بهم من الكوارث والخطوب التي تدع فيئهم حصيداً ، وجمعهم بديداً من جرّاء إبعادهم لأهل بيت النبوّة عن مقامهم الذي نصبهم فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
ثمّ عرضت إلى حرمانها من إرث أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقالت : (( وأنتم تزعمون أن لا إرث لي من أبي ! أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ . وَيهاً أيّها المسلمون ! أاُغلب على تراث أبي ؟! )) .
ثمّ وجهت خطابها إلى أبي بكر : (( يابن أبي قُحافة , أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئاً فريّاً ! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) ؟ وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريّا ، إذ يقول : ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) , وقال : ( وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) , وقال : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ) ,