ثمّ جعلها ـ عمر ـ شورى بين ستّة نفر ، فلم يكن رجل منهم إلاّ رجاها لنفسه ورجاها له قومه ، وتطلّعت إلى ذلك نفسه(1) .
لقد شاعت الأطماع السياسيّة بشكل سافر عند بعض أعضاء الشورى وغيرهم ، فاندفعوا إلى خلق الحزبية في المجتمع الإسلامي للوصول إلى كرسي الحكم والظفر بخيرات البلاد .
وعلى أيّ حال , فقد ذكرنا بصورة موضوعية وشاملة آفات الشورى في كتابنا (حياة الإمام الحسين) ، وقد ألمحنا إليها في هذه البحوث ؛ وذلك لأنّها تُلقي الأضواء على الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة في ذلك العصر الذي عاشت فيه عقيلة بني هاشم ، والتي أدّت إلى ما عانته من الأهوال والكوارث التي تذهل كلّ كائن حيّ .
انتخاب عثمان وحكومته
واجتمع أعضاء الشورى في بيت المال ، وقيل في بيت مسرور بن مخرمة ، وتداولوا الحديث عمّن أحقّ بأمر المسلمين ، وكثر الجدل فيما بينهم ، فانبرى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فحذّرهم من الخلاف والفتنة إن استجابوا لعواطفهم ، ولم يؤثروا المصلحة العامة للمسلمين , قائلاً : (( لم يسرع أحد قبلي إلى دعوة حقّ , وصلة رحم , وعائدة كرم ، فاسمعوا قولي وعوا منطقي عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتطي فيه السيوف ، وتخالف منه العهود , حتّى يكون بعضكم أئمّة لأهل الضلال , وشيعة لأهل الجهالة )) .
ولم يعوا منطق الإمام ونصيحته ؛ فقد استجابوا لعواطفهم ، وكان الاُمويّون قد حفوا بأهل الشورى وهم يقدّمون لهم الوعود المعسولة إن انتخبوا عميدهم عثمان .
ـــــــــــــــــــــ
(1) العقد الفريد 3 / 73 ـ 74 .
الصفحة (121)
وانقضت الثلاثة أيام التي حدّدها عمر ولم ينتخب أعضاء الشورى أحداً منهم ، فحذّرهم أبو طلحة الأنصاري وجعل يتهدّهم ويتوعدّهم إن لم ينتخبوا أحداً منهم ، انبرى طلحة فوهب حقّه لعثمان ؛ لأنّه كان شديد الكراهية للإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ؛ لأنّه نافس ابن عمّه أبا بكر على الخلافة .
ووهب سعد بن أبي وقّاص حقّه لابن عمّه عبد الرحمن بن عوف ، وأصبح رأيه هو الفيصل ؛ لأنّ عمر وضع ثقته به ، وكان رأيه مع عثمان ؛ لأنّه صهره , وقد زهّده القرشيون في الإمام وحرّضوه على انتخاب عثمان ؛ لأنّه يحقّق رغباتهم وأطماعهم .
وأمر عبد الرحمن مسوراً بإحضار أمير المؤمنين (عليه السّلام) وعثمان بن عفان , فلمّا حضرا عنده في الجامع النبوي التفت إلى الحاضرين فقال لهم : أيّها الناس ، إنّ الناس قد اجتمعوا على أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم , فأشيروا عليّ .
وانبرى الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر فأشار عليه بما يضمن للاُمّة مصالحها ويصونها من الاختلاف والفرقة قائلاً : إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع علياً .
وأيّد المقداد مقالة صاحبه عمّار , فقال : صدق عمّار ، إن بايعت علياً سمعنا وأطعنا .
وشجبت الاُسر القرشيّة المعادية للإسلام والحاقدة عليه مقالة عمار ، ورشحّت عميد الاُمويِّين عثمان بن عفان ، وقد كان الممثل لها عبد الله بن أبي سرح فخاطب ابن عوف قائلاً : إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان .
وكأنّ شؤون الخلافة ومصير المسلمين موكول إلى قريش وهي التي حاربت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وناهضت دعوته , وعذّبت أنصاره حتّى هرب منها ، وتابعته إلى يثرب
الصفحة (122)
بجيوش مكثفة لاستئصال دعوته ومحو دينه ، ولكنّ الله تعالى ردّ كيدهم وأفشل خططهم ، ونصر نبيّه العظيم ، ولولا سماحة النبي (صلّى الله عليه وآله) ورأفته لأجرى عليهم حكم بني قريضة ، ولكنّه عفا عنهم وجعلهم من الطلقاء .
وعلى أيّ حال , فقد اندفع عبد الله بن أبي ربيعة فأيّد مقالة ابن سرح قائلاً : إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا . وانبرى الصحابي الجليل عمّار بن ياسر فردّ على ابن أبي سرح قائلاً : متى كنت تنصح للمسلمين ؟
وصدق عمّار , فمتى كان ابن أبي سرح ينصح المسلمين وهو من ألدّ أعداء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وقد أمر بقتله ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة(1) ؟
واحتدم الجدال بين الهاشميين وخصومهم الاُمويِّين ، وانبرى ابن الإسلام البار عمّار بن ياسر فجعل يدعو لصالح المسلمين قائلاً : أيّها الناس ، إنّ الله أكرمنا بنبيّه ، وأعزّنا بدينه , فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم ؟
وانبرى رجل من مخزوم فقطع على عمّار كلامه قائلاً : لقد عدوت طورك يابن سميّة ، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها !
وطفحت الروح الجاهليّة على هذه الكلمات ، فليس فيها إلاّ الدعوة إلى الباطل ؛ فقد اعتبر المخزومي أمر الخلافة وشؤونها إلى قريش التي ما آمنت بالله وكفرت بقيم الإسلام ، فأيّ حقّ لها في خلافة المسلمين ؟ وقبله أعلن أحد أعلام القرشيين : أبت قريش أن تجتمع النبوّة والإمامة في بيت واحد .
إنّ أمر الخلافة بيد جميع المسلمين يشترك فيه ابن سميّة وغيره من الضعفاء
ـــــــــــــــــــــ
(1) الاستيعاب 2 / 375 .
الصفحة (123)
الذين أعزّهم الله بدينه ، وليس لأيّ قرشي الحقّ في التدخّل بشؤون المسلمين لو كان هناك منطق وحساب .
وعلى أيّ حال , فقد احتدم النزاع بين القوى الإسلاميّة وبين القرشيّين ، فخاف سعد أن يفلت الأمر من أيديهم وتفوز الاُسرة النبويّة بالحكم فالتفت إلى عبد الرحمن قائلاً له : يا عبد الرحمن ، افرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس .
والتفت عبد الرحمن إلى الإمام (عليه السّلام) فقال له : هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه , وفعل أبي بكر وعمر ؟
فرمقه الإمام بطرفه وأجابه بمنطق الإسلام قائلاً : (( بل على كتاب الله وسنّة رسوله ، واجتهاد رأيي )) .
إنّ ابن عوف يعلم علماً جازماً أنّ الإمام لا يسوس المسلمين بسيرة الشيخين , ولا يحفل بها ، وإنّما يسوسهم بكتاب الله وسنّة نبيّه , ورأيه المشرق الذي هو امتداد ذاتي لرأي النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وإنّما شرط عليه ذلك لصرف الخلافة عنه .
ولو كان الإمام ممّن يبغي الحكم والسلطان لوافق على هذا الشرط ثمّ خالفه ، ولكنّه (سلام الله عليه) في جميع أدوار حياته واكب الصدق والحقّ , ولم يحد عنهما مهما كانت الظروف .
وعلى أيّ حال ، فإنّ عبد الرحمن لمّا يئس من إجابة الإمام اتّجه صوب عثمان فعرض عليه شروطه فأجابه بلا تردّد ، فصفق بكفّه على يده وقال له : اللّهمّ إنّي قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان .
والتاع الإمام فخاطب ابن عوف : (( والله , ما فعلتها إلاّ لأنّك رجوت منه ما رجا صاحبها من صاحبه ، دقّ الله بينكما عطر منشم )) .
الصفحة (124)
لقد رجا ابن عوف من بيعته لعثمان أن يكون خليفة من بعده كما كان ذلك بالنسبة للشيخين ، واتّجه الإمام صوب القرشيّين فقال لهم : (( ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل , والله المستعان على ما تصفون )) .
ولذع منطق الإمام ابن عوف فراح يهدّده : يا عليّ ، لا تجعل على نفسك سبيلاً . وغادر الإمام المظلوم قاعة الاجتماع وهو يقول : (( سيبلغ الكتاب أجله )) .
والتفت الصحابي العظيم عمّار بن ياسر فخاطب ابن عوف : يا عبد الرحمن ، أما والله لقد تركته ، وإنّه من الذين يقضون بالحقّ وبه كانوا يعدلون .
وانبرى المقداد فرفع صوته قائلاً : تالله , ما رأيت مثل ما أُتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم ! وا عجباً لقريش ! لقد تركت رجلاً ما أقول ولا أعلم أنّ أحداً أقضى بالعدل , ولا أعلم ولا ولا أتقى منه ! أما والله لو أجد أعواناً !
وصاح به عبد الرحمن : اتّق الله يا مقداد ؛ فإنّي خائف عليك الفتنة .
وانتهت بذلك مأساة الشورى التي وضعها عمر لصرف الخلافة عن أهل بيت النبوّة ومنحها لبني اُميّة ، وقد رأت عقيلة الوحي السيدة زينب (عليها السّلام) أضغان القرشيّين وحقدهم على أبيها ، وأنّهم قد عملوا جاهدين على إطفاء نور الله ، والإجهاز على رسالة الإسلام الهادفة لتطوير الوعي الاجتماعي ، وإشاعة الخير والهدى بين الناس .
الصفحة (125)
لقد خلقت الشورى العمرية الفتن والضغائن بين المسلمين , وحجبت الاُسرة النبويّة عن القيادة العامة للعالم الإسلامي ، وسلّطت عليهم شرار خلق الله ؛ فأمعنوا في ظلمهم والتنكيل بهم .
وما كارثة كربلاء وما عانته عقيلة بني هاشم السيّدة زينب (عليها السّلام) من صنوف الظلم والكوارث التي هي ـ من دون شك ـ من النتائج المباشرة لأحداث الشورى والسقيفة , فإنّهما الأساس لكلّ ما لحق بآل النبي (صلّى الله عليه وآله) من الكوارث والخطوب .
حكومة عثمان
وتسلّم عثمان قيادة الاُمّة ، وقد احتفّ به بنو اُميّة وآل أبي معيط ، وأخذوا يتصرّفون في شؤون الدولة حسب رغباتهم وميولهم ، ولا شأن لعثمان في جميع المناحي السياسيّة والاقتصادية ؛ فقد كان بمعزل عنها ، وقد سيطر عليها وتسلّم قيادتها مروان بن الحكم الوزغ بن الوزغ ، والذي يسمّيه معاصروه بالخيط الباطل ؛ وذلك لخبثه وسوء سريرته ، فكان وزيره ومستشاره . وقد هام عثمان بحبّ اُسرته ، وتفانى في الولاء لهم فكان يقول : لو كانت مفاتيح الجنّة بيدي لأعطيتها لبني اُميّة(1) .
وقد أسند مناصب الدولة لهم ، كما عيّنهم ولاة في معظم الأقاليم الإسلاميّة ، ووهبهم الثراء العريض فكانوا في طليعة الرأسماليين في العالم الإسلامي ، وقد عرضنا في بعض كتبنا(2) بصورة موضوعية وشاملة إلى الهبات المالية الهائلة التي منحها عثمان لاُسرته ، كما عرض لها الحجّة الأميني , والدكتور طه حسين , والعقّاد وغيرهم .
وقد أدّت هباته ومنحه الامتيازات الخاصة لهم إلى نقمة المسلمين ,
ـــــــــــــــــــــ
(1) مسند أحمد 1 / 62 .
(2) حياة الإمام الحسن ، وحياة الإمام الحسين (عليهما السّلام) .
الصفحة (126)
وشيوع السخط والتذمّر عليه في معظم الأقاليم الإسلاميّة .
الجبهة المعارضة
ونقمت على عثمان وسخطت على سياسته معظم الصحابة وأعلام الإسلام , وفي طليعتهم :
1 ـ أبو ذرّ الغفاري
2 ـ عمّار بن ياسر
3 ـ السيّدة عائشة
4 ـ طلحة
5 ـ الزبير
6 ـ عبد الرحمن بن عوف
7 ـ عبد الله بن مسعود ، وغيرهم من أقطاب الإسلام وحماته
وقد نكّل عثمان بالكثيرين من معارضيه ؛ فقد نفى الصحابي العظيم أبا ذرّ الغفاري إلى الشام ، ثمّ نفاه إلى الربذة ، وهي صحراء قاحلة خالية من جميع مقوّمات الحياة ، وقد أنهكه الجوع حتّى توفي غريباً جائعاً مظلوماً ، كما نكّل بالصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ، وقطع عنه مرتبه فلم يسعفه شيء حتّى أهلكه الفقر وفي يد عثمان ذهب الأرض وخيراتها .
كما نكّل بأعظم صحابي وأجلّ مجاهد إسلامي , وهو الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر ؛ فقد ضربه ضرباً مبرحاً حتّى أصابه فتق واُغمي عليه .
وقد رفعت السيدة عائشة قميص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهي تقول : هذا قميص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يبلَ وعثمان قد أبلى سنّته ! كما أفتت بحلّية قتله فقالت : اقتلوا نعثلاً فقد كفر .
وقد اشتدّت عليه المعارضة وقويت وامتدّت إلى معظم الأقاليم الإسلاميّة ، وقد استجارت المعارضة بالعراق ومصر وغيرها لإنقاذ المسلمين من
الصفحة (127)
عثمان وبطانته ، فخفّت بعض الكتائب العسكريّة فزحفت إلى يثرب ، وأحاطت بدار عثمان وطلبت منه إبعاد مروان وإقصاء بني اُميّة عنه , أو الاستقالة من منصبه ، فوعدهم بتنفيذ أهم متطلباتهم , وهي إقصاء بني اُميّة , إلاّ أنّه خان بوعده ، وكتب إلى ولاته على الأقطار بالتنكيل بمَنْ استجاب للمعارضة ممّن قدموا إلى يثرب .
وقبض الثوار في أثناء رجوعهم إلى مدنهم على رسائله التي بعثها إلى ولاته في التنكيل بهم , ففزعوا وقفلوا راجعين إلى يثرب ، وعرضوا عليه رسائله وطالبوه بالاستقالة الفورية من منصبه فلم يستجب لهم ، وأصرّ على الاحتفاظ بكرسي الحكم ، فعمدوا إلى الإجهاز عليه فقتلوه شرّ قتلة ، وتركوا جسده مرمياً على مزبلة من مزابل يثرب ؛ استهانة به ، ولم يسمحوا بمواراته إلاّ أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) توسّط في دفنه , فاستجاب له الثوار على كره , فدفنوه في حش كوكب .
لقد انتهت حكومة عثمان , وقد أخلدت للمسلمين المصاعب والفتن وألقتهم في شرّ عظيم ؛ فقد اتّخذت عائشة قتله وسيلة لتحقيق مآربها وأطماعها السياسيّة , فراحت تُطالب الإمام بدمه ، وهي التي أفتت بقتله وكفره ، كما اتّخذ الذئب الجاهلي معاوية بن هند قتل عثمان ورقة رابحة للتمرّد على حكومة الإمام والمطالبة بدمه .
وعلى أيّ حال , فقد رأت حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله) السيّدة زينب (عليها السّلام) هذه الأحداث الجسام ووعت أهدافها السياسيّة , فكان لها أعمق الأثر في نفسها ؛ فقد كان لها من المضاعفات السيئة ما اهتز من هولها العالم الإسلامي ، والتي كان من نتائجها كارثة كربلاء التي رُزئت فيها السيدة زينب ؛ فقد عانت من الكوارث والخطوب ما تذوب من هولها الجبال .
حكومة الإمام (عليه السّلام)
وبعدما أطاح الثوار بحكومة عثمان أحاطوا بالإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وهم يهتفون
الصفحة (128)
بحياته ، ويعلنون ترشيحه لقيادة الاُمّة فليس غيره أولى وأحق بهذا المركز الخطير ، فهو ابن عمّ النبي (صلّى الله عليه وآله) وأبو سبطيه ، ومَنْ كان منه بمنزل هارون من موسى ، وهو صاحب المواقف المشهورة في نصرة الإسلام والذبّ عنه ، وليس في المسلمين مَنْ يساويه في فضائله وعلومه وعبقرياته ، إلاّ أنّ الإمام رفض دعوتهم ولم يستجب لهم ؛ لعلمه بما سيواجهه من الأزمات السياسيّة ، فإنّ منهجه في عالم الحكم يتصادم مع رغبات الاُسر القرشيّة التي تريد السيطرة على السلطة وإخضاعها لرغباتها الخاصة .
فقال (عليه السّلام) للثوار : (( لا حاجة لي في أمركم , فمَنْ اخترتم رضيت به )) .
فهتفوا بلسان واحد : ما نختار غيرك .
وعقدت القوات المسلحة مؤتمراً خاصاً عرضت فيه ما تواجهه الاُمّة من الأخطار إن بقيت بلا إمام يدير شؤونها ، وقد قرّرت إحضار المدنيّين وإرغامهم على انتخاب إمام المسلمين ، فلمّا حضروا هدّدوهم بالتنكيل إن لم ينتخبوا إماماً وخليفة للمسلمين ، ففزعوا إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وأحاطوا به رافعين عقيرتهم : البيعة , البيعة .
فامتنع الإمام (عليه السّلام) من إجابتهم ، فأخذوا يتضرّعون إليه قائلين : أما ترى ما نزل بالإسلام ، وما ابتلينا به من أبناء القرى ؟!
فأجابهم الإمام بالرفض الكامل قائلاً : (( دعوني والتمسوا غيري )) . ثمّ أعرب لهم الإمام (عليه السّلام) عمّا ستعانيه الاُمّة من الأزمات قائلاً : (( أيّها الناس ، إنّا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان , لا تقوم به القلوب ، ولا تثبت له العقول )) .
الصفحة (129)
لقد كشف الإمام عمّا سيواجهه المسلمون من الأحداث المروّعة التي تعصف بالحلم وتميد بالصبر ، الناجمة من الحكم المباد الذي عاث فساداً في الأرض ؛ فقد أقام عثمان اُسرته حكّاماً وولاةً على الأقاليم الإسلاميّة فاستأثروا بأموال المسلمين واحتكروها لأنفسهم ، وإنّهم حتماً سيقاومون كلّ مَنْ يريد الإصلاح الاجتماعي ؛ فلذلك امتنع الإمام من إجابة القوم .
ثمّ عرض الإمام على القوات المسلحة وعلى الصحابة وغيرهم منهجه فيما إذا ولي اُمورهم قائلاً : (( إنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، وإن تركتموني فإنّما أنا كأحدكم ، ألا وإنّي من أسمعكم وأطوعكم لمَنْ ولّيتموه )) . واستجاب الجميع لما عرضه الإمام عليهم قائلين : ما نحن بمفارقيك حتّى نبايعك .
وأجّلهم الإمام إلى الغد لينظر في الاُمور ، ولمّا أصبح الصبح هرعت الجماهير إلى الجامع الأعظم ، فأقبل الإمام (عليه السّلام) فاعتلى أعواد المنبر فخطب الناس ، وكان من جملة خطابه : (( أيّها الناس ، إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلاّ مَنْ أمّرتم ، وقد افترقنا بالأمس وكنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلاّ أن أكون عليكم ، ألا وإنّه ليس لي أن آخذ درهماً دونكم ، فإن شئتم قعدت لكم , وإلاّ فلا آخذ على أحد )) .
وتعالى هتاف الجماهير بالتأييد والرضا قائلين : نحن على ما فارقناك عليه بالأمس . وطفق الإمام قائلاً : (( اللّهمّ اشهد عليهم )) .
وقد اتّجهت الناس كالموج صوب الإمام لتبايعه ، وأوّل مَنْ بايعه طلحة , فبايعه
الصفحة (130)
بيده الشلاّء التي سرعان ما نكث بها عهد الله , فتطيّر منها الإمام وقال : (( ما أخلفه أن ينكث ))(1) .
ثمّ بايعه الزبير وهو ممّن نكث بيعته ، وبايعته القوات العسكريّة ، كما بايعه مَنْ بقي من أهل بدر والمهاجرين والأنصار كافة(2) .
ولم يظفر أحد من خلفاء المسلمين بمثل هذه البيعة في شمولها ، وقد فرح بها المسلمون وابتهجوا , ووصف الإمام (عليه السّلام) مدى سرورهم بقوله : (( وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير , وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب )) .
لقد ابتهج المسلمون ، وعمّت الفرحة الكبرى جميع الأوساط الإسلاميّة بخلافة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) رائد العدالة الاجتماعيّة ، والمتبنّي لحقوق الإنسان الذي شارك البؤساء والمحرومين في سغبهم ومحنهم ، القائل : (( أأقنع من نفسي بأن يُقال : أمير المؤمنين , ولا اُشاركهم في مكاره الدهر ، أو أكون اُسوة لهم في جشوبة العيش ؟! )) .
وجوم القرشيّين
واستقبلت قريش خلافة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بكثير من الوجوم والقلق والاضطراب كما استقبلوا نبوّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؛ فإنّ الروح الجاهليّة بما تحمل من عادات وتقاليد وكراهية للحقّ لم تزل مائلة فيهم , ولم يغيّر الإسلام من طباعهم أيّ شيء .
وقريش تعرف الإمام جيداً ؛ فهو الذي حصد رؤوس أعلامهم بسيفه ، ومحق
ـــــــــــــــــــــ
(1) العقد الفريد 3 / 93 .
(2) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 1 / 376 .
الصفحة (131)
كبرياءهم في سبيل الإسلام الذي ناهضوه ، وقد خفّ إليه الاُمويّون وفي طليعتهم الوليد فقال للإمام : إنّك قد وترتنا جميعاً ؛ أمّا أنا فقتلت أبي صبراً يوم بدر ، وأمّا سعيد فقتلت أباه يوم بدر ، وكان أبوه من نور قريش ، وأمّا مروان فشتمت أباه ، وعبت على عثمان حين ضمّه إليه , فنبايع على أن تضع عنّا ما أصبنا ، وتعفو عنّا عمّا في أيدينا ، وتقتل قتلة صاحبنا .
فردّ الإمام عليه مقالته التي لا بصيص فيها من نور الحقّ قائلاً : (( أمّا ما ذكرت من وتري إيّاكم فالحقّ وتركم ؛ وأمّا وضعي عنكم عمّا في أيديكم فليس لي أن أضع حقّ الله ؛ وأمّا إعفائي عمّا في أيديكم فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم ؛ وأمّا قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتالهم اليوم لزمني قتالهم غداً ، ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنّة نبيّه ، فمَنْ ضاق عليه الحقّ فالباطل عليه أضيق ، وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم ))(1) .
إنّ الاُمويِّين أرادوا المساومة فيما نهبوه من أموال المسلمين وما اختلسوه من بيت المال ، وهيهات أن يستجيب لهم رائد الحقّ والعدالة في دنيا الإسلام الذي لا تساوي السلطة عنده قيمة حذائه الذي كان من ليف ، وقد انصرفوا عنه وقلوبهم مترعة بالحقد والكراهية له .
وعلى أيّ حال , فقد فزع القرشيّون من حكومة الإمام (عليه السّلام) وخافوا على مصالحهم ونفوذهم وامتيازاتهم التي ظفروا بها في عهد الخلفاء .
لقد أيقنوا أنّ الإمام سيعاملهم معاملة عادية ، ولا يميّزهم على أيّ أحد من المسلمين ، وقد كان سيء الظنّ بهم ، وقد أعرب عن مدى استيائه منهم بقوله : (( ما لي ولقريش ! لقد قاتلتهم كافرين , ولأقتلنهم مفتونين . والله لأبقرنّ الباطل
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 155 .
لقد شاعت الأطماع السياسيّة بشكل سافر عند بعض أعضاء الشورى وغيرهم ، فاندفعوا إلى خلق الحزبية في المجتمع الإسلامي للوصول إلى كرسي الحكم والظفر بخيرات البلاد .
وعلى أيّ حال , فقد ذكرنا بصورة موضوعية وشاملة آفات الشورى في كتابنا (حياة الإمام الحسين) ، وقد ألمحنا إليها في هذه البحوث ؛ وذلك لأنّها تُلقي الأضواء على الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة في ذلك العصر الذي عاشت فيه عقيلة بني هاشم ، والتي أدّت إلى ما عانته من الأهوال والكوارث التي تذهل كلّ كائن حيّ .
انتخاب عثمان وحكومته
واجتمع أعضاء الشورى في بيت المال ، وقيل في بيت مسرور بن مخرمة ، وتداولوا الحديث عمّن أحقّ بأمر المسلمين ، وكثر الجدل فيما بينهم ، فانبرى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فحذّرهم من الخلاف والفتنة إن استجابوا لعواطفهم ، ولم يؤثروا المصلحة العامة للمسلمين , قائلاً : (( لم يسرع أحد قبلي إلى دعوة حقّ , وصلة رحم , وعائدة كرم ، فاسمعوا قولي وعوا منطقي عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتطي فيه السيوف ، وتخالف منه العهود , حتّى يكون بعضكم أئمّة لأهل الضلال , وشيعة لأهل الجهالة )) .
ولم يعوا منطق الإمام ونصيحته ؛ فقد استجابوا لعواطفهم ، وكان الاُمويّون قد حفوا بأهل الشورى وهم يقدّمون لهم الوعود المعسولة إن انتخبوا عميدهم عثمان .
ـــــــــــــــــــــ
(1) العقد الفريد 3 / 73 ـ 74 .
الصفحة (121)
وانقضت الثلاثة أيام التي حدّدها عمر ولم ينتخب أعضاء الشورى أحداً منهم ، فحذّرهم أبو طلحة الأنصاري وجعل يتهدّهم ويتوعدّهم إن لم ينتخبوا أحداً منهم ، انبرى طلحة فوهب حقّه لعثمان ؛ لأنّه كان شديد الكراهية للإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ؛ لأنّه نافس ابن عمّه أبا بكر على الخلافة .
ووهب سعد بن أبي وقّاص حقّه لابن عمّه عبد الرحمن بن عوف ، وأصبح رأيه هو الفيصل ؛ لأنّ عمر وضع ثقته به ، وكان رأيه مع عثمان ؛ لأنّه صهره , وقد زهّده القرشيون في الإمام وحرّضوه على انتخاب عثمان ؛ لأنّه يحقّق رغباتهم وأطماعهم .
وأمر عبد الرحمن مسوراً بإحضار أمير المؤمنين (عليه السّلام) وعثمان بن عفان , فلمّا حضرا عنده في الجامع النبوي التفت إلى الحاضرين فقال لهم : أيّها الناس ، إنّ الناس قد اجتمعوا على أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم , فأشيروا عليّ .
وانبرى الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر فأشار عليه بما يضمن للاُمّة مصالحها ويصونها من الاختلاف والفرقة قائلاً : إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع علياً .
وأيّد المقداد مقالة صاحبه عمّار , فقال : صدق عمّار ، إن بايعت علياً سمعنا وأطعنا .
وشجبت الاُسر القرشيّة المعادية للإسلام والحاقدة عليه مقالة عمار ، ورشحّت عميد الاُمويِّين عثمان بن عفان ، وقد كان الممثل لها عبد الله بن أبي سرح فخاطب ابن عوف قائلاً : إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان .
وكأنّ شؤون الخلافة ومصير المسلمين موكول إلى قريش وهي التي حاربت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وناهضت دعوته , وعذّبت أنصاره حتّى هرب منها ، وتابعته إلى يثرب
الصفحة (122)
بجيوش مكثفة لاستئصال دعوته ومحو دينه ، ولكنّ الله تعالى ردّ كيدهم وأفشل خططهم ، ونصر نبيّه العظيم ، ولولا سماحة النبي (صلّى الله عليه وآله) ورأفته لأجرى عليهم حكم بني قريضة ، ولكنّه عفا عنهم وجعلهم من الطلقاء .
وعلى أيّ حال , فقد اندفع عبد الله بن أبي ربيعة فأيّد مقالة ابن سرح قائلاً : إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا . وانبرى الصحابي الجليل عمّار بن ياسر فردّ على ابن أبي سرح قائلاً : متى كنت تنصح للمسلمين ؟
وصدق عمّار , فمتى كان ابن أبي سرح ينصح المسلمين وهو من ألدّ أعداء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وقد أمر بقتله ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة(1) ؟
واحتدم الجدال بين الهاشميين وخصومهم الاُمويِّين ، وانبرى ابن الإسلام البار عمّار بن ياسر فجعل يدعو لصالح المسلمين قائلاً : أيّها الناس ، إنّ الله أكرمنا بنبيّه ، وأعزّنا بدينه , فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم ؟
وانبرى رجل من مخزوم فقطع على عمّار كلامه قائلاً : لقد عدوت طورك يابن سميّة ، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها !
وطفحت الروح الجاهليّة على هذه الكلمات ، فليس فيها إلاّ الدعوة إلى الباطل ؛ فقد اعتبر المخزومي أمر الخلافة وشؤونها إلى قريش التي ما آمنت بالله وكفرت بقيم الإسلام ، فأيّ حقّ لها في خلافة المسلمين ؟ وقبله أعلن أحد أعلام القرشيين : أبت قريش أن تجتمع النبوّة والإمامة في بيت واحد .
إنّ أمر الخلافة بيد جميع المسلمين يشترك فيه ابن سميّة وغيره من الضعفاء
ـــــــــــــــــــــ
(1) الاستيعاب 2 / 375 .
الصفحة (123)
الذين أعزّهم الله بدينه ، وليس لأيّ قرشي الحقّ في التدخّل بشؤون المسلمين لو كان هناك منطق وحساب .
وعلى أيّ حال , فقد احتدم النزاع بين القوى الإسلاميّة وبين القرشيّين ، فخاف سعد أن يفلت الأمر من أيديهم وتفوز الاُسرة النبويّة بالحكم فالتفت إلى عبد الرحمن قائلاً له : يا عبد الرحمن ، افرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس .
والتفت عبد الرحمن إلى الإمام (عليه السّلام) فقال له : هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه , وفعل أبي بكر وعمر ؟
فرمقه الإمام بطرفه وأجابه بمنطق الإسلام قائلاً : (( بل على كتاب الله وسنّة رسوله ، واجتهاد رأيي )) .
إنّ ابن عوف يعلم علماً جازماً أنّ الإمام لا يسوس المسلمين بسيرة الشيخين , ولا يحفل بها ، وإنّما يسوسهم بكتاب الله وسنّة نبيّه , ورأيه المشرق الذي هو امتداد ذاتي لرأي النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وإنّما شرط عليه ذلك لصرف الخلافة عنه .
ولو كان الإمام ممّن يبغي الحكم والسلطان لوافق على هذا الشرط ثمّ خالفه ، ولكنّه (سلام الله عليه) في جميع أدوار حياته واكب الصدق والحقّ , ولم يحد عنهما مهما كانت الظروف .
وعلى أيّ حال ، فإنّ عبد الرحمن لمّا يئس من إجابة الإمام اتّجه صوب عثمان فعرض عليه شروطه فأجابه بلا تردّد ، فصفق بكفّه على يده وقال له : اللّهمّ إنّي قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان .
والتاع الإمام فخاطب ابن عوف : (( والله , ما فعلتها إلاّ لأنّك رجوت منه ما رجا صاحبها من صاحبه ، دقّ الله بينكما عطر منشم )) .
الصفحة (124)
لقد رجا ابن عوف من بيعته لعثمان أن يكون خليفة من بعده كما كان ذلك بالنسبة للشيخين ، واتّجه الإمام صوب القرشيّين فقال لهم : (( ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل , والله المستعان على ما تصفون )) .
ولذع منطق الإمام ابن عوف فراح يهدّده : يا عليّ ، لا تجعل على نفسك سبيلاً . وغادر الإمام المظلوم قاعة الاجتماع وهو يقول : (( سيبلغ الكتاب أجله )) .
والتفت الصحابي العظيم عمّار بن ياسر فخاطب ابن عوف : يا عبد الرحمن ، أما والله لقد تركته ، وإنّه من الذين يقضون بالحقّ وبه كانوا يعدلون .
وانبرى المقداد فرفع صوته قائلاً : تالله , ما رأيت مثل ما أُتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم ! وا عجباً لقريش ! لقد تركت رجلاً ما أقول ولا أعلم أنّ أحداً أقضى بالعدل , ولا أعلم ولا ولا أتقى منه ! أما والله لو أجد أعواناً !
وصاح به عبد الرحمن : اتّق الله يا مقداد ؛ فإنّي خائف عليك الفتنة .
وانتهت بذلك مأساة الشورى التي وضعها عمر لصرف الخلافة عن أهل بيت النبوّة ومنحها لبني اُميّة ، وقد رأت عقيلة الوحي السيدة زينب (عليها السّلام) أضغان القرشيّين وحقدهم على أبيها ، وأنّهم قد عملوا جاهدين على إطفاء نور الله ، والإجهاز على رسالة الإسلام الهادفة لتطوير الوعي الاجتماعي ، وإشاعة الخير والهدى بين الناس .
الصفحة (125)
لقد خلقت الشورى العمرية الفتن والضغائن بين المسلمين , وحجبت الاُسرة النبويّة عن القيادة العامة للعالم الإسلامي ، وسلّطت عليهم شرار خلق الله ؛ فأمعنوا في ظلمهم والتنكيل بهم .
وما كارثة كربلاء وما عانته عقيلة بني هاشم السيّدة زينب (عليها السّلام) من صنوف الظلم والكوارث التي هي ـ من دون شك ـ من النتائج المباشرة لأحداث الشورى والسقيفة , فإنّهما الأساس لكلّ ما لحق بآل النبي (صلّى الله عليه وآله) من الكوارث والخطوب .
حكومة عثمان
وتسلّم عثمان قيادة الاُمّة ، وقد احتفّ به بنو اُميّة وآل أبي معيط ، وأخذوا يتصرّفون في شؤون الدولة حسب رغباتهم وميولهم ، ولا شأن لعثمان في جميع المناحي السياسيّة والاقتصادية ؛ فقد كان بمعزل عنها ، وقد سيطر عليها وتسلّم قيادتها مروان بن الحكم الوزغ بن الوزغ ، والذي يسمّيه معاصروه بالخيط الباطل ؛ وذلك لخبثه وسوء سريرته ، فكان وزيره ومستشاره . وقد هام عثمان بحبّ اُسرته ، وتفانى في الولاء لهم فكان يقول : لو كانت مفاتيح الجنّة بيدي لأعطيتها لبني اُميّة(1) .
وقد أسند مناصب الدولة لهم ، كما عيّنهم ولاة في معظم الأقاليم الإسلاميّة ، ووهبهم الثراء العريض فكانوا في طليعة الرأسماليين في العالم الإسلامي ، وقد عرضنا في بعض كتبنا(2) بصورة موضوعية وشاملة إلى الهبات المالية الهائلة التي منحها عثمان لاُسرته ، كما عرض لها الحجّة الأميني , والدكتور طه حسين , والعقّاد وغيرهم .
وقد أدّت هباته ومنحه الامتيازات الخاصة لهم إلى نقمة المسلمين ,
ـــــــــــــــــــــ
(1) مسند أحمد 1 / 62 .
(2) حياة الإمام الحسن ، وحياة الإمام الحسين (عليهما السّلام) .
الصفحة (126)
وشيوع السخط والتذمّر عليه في معظم الأقاليم الإسلاميّة .
الجبهة المعارضة
ونقمت على عثمان وسخطت على سياسته معظم الصحابة وأعلام الإسلام , وفي طليعتهم :
1 ـ أبو ذرّ الغفاري
2 ـ عمّار بن ياسر
3 ـ السيّدة عائشة
4 ـ طلحة
5 ـ الزبير
6 ـ عبد الرحمن بن عوف
7 ـ عبد الله بن مسعود ، وغيرهم من أقطاب الإسلام وحماته
وقد نكّل عثمان بالكثيرين من معارضيه ؛ فقد نفى الصحابي العظيم أبا ذرّ الغفاري إلى الشام ، ثمّ نفاه إلى الربذة ، وهي صحراء قاحلة خالية من جميع مقوّمات الحياة ، وقد أنهكه الجوع حتّى توفي غريباً جائعاً مظلوماً ، كما نكّل بالصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ، وقطع عنه مرتبه فلم يسعفه شيء حتّى أهلكه الفقر وفي يد عثمان ذهب الأرض وخيراتها .
كما نكّل بأعظم صحابي وأجلّ مجاهد إسلامي , وهو الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر ؛ فقد ضربه ضرباً مبرحاً حتّى أصابه فتق واُغمي عليه .
وقد رفعت السيدة عائشة قميص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهي تقول : هذا قميص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يبلَ وعثمان قد أبلى سنّته ! كما أفتت بحلّية قتله فقالت : اقتلوا نعثلاً فقد كفر .
وقد اشتدّت عليه المعارضة وقويت وامتدّت إلى معظم الأقاليم الإسلاميّة ، وقد استجارت المعارضة بالعراق ومصر وغيرها لإنقاذ المسلمين من
الصفحة (127)
عثمان وبطانته ، فخفّت بعض الكتائب العسكريّة فزحفت إلى يثرب ، وأحاطت بدار عثمان وطلبت منه إبعاد مروان وإقصاء بني اُميّة عنه , أو الاستقالة من منصبه ، فوعدهم بتنفيذ أهم متطلباتهم , وهي إقصاء بني اُميّة , إلاّ أنّه خان بوعده ، وكتب إلى ولاته على الأقطار بالتنكيل بمَنْ استجاب للمعارضة ممّن قدموا إلى يثرب .
وقبض الثوار في أثناء رجوعهم إلى مدنهم على رسائله التي بعثها إلى ولاته في التنكيل بهم , ففزعوا وقفلوا راجعين إلى يثرب ، وعرضوا عليه رسائله وطالبوه بالاستقالة الفورية من منصبه فلم يستجب لهم ، وأصرّ على الاحتفاظ بكرسي الحكم ، فعمدوا إلى الإجهاز عليه فقتلوه شرّ قتلة ، وتركوا جسده مرمياً على مزبلة من مزابل يثرب ؛ استهانة به ، ولم يسمحوا بمواراته إلاّ أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) توسّط في دفنه , فاستجاب له الثوار على كره , فدفنوه في حش كوكب .
لقد انتهت حكومة عثمان , وقد أخلدت للمسلمين المصاعب والفتن وألقتهم في شرّ عظيم ؛ فقد اتّخذت عائشة قتله وسيلة لتحقيق مآربها وأطماعها السياسيّة , فراحت تُطالب الإمام بدمه ، وهي التي أفتت بقتله وكفره ، كما اتّخذ الذئب الجاهلي معاوية بن هند قتل عثمان ورقة رابحة للتمرّد على حكومة الإمام والمطالبة بدمه .
وعلى أيّ حال , فقد رأت حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله) السيّدة زينب (عليها السّلام) هذه الأحداث الجسام ووعت أهدافها السياسيّة , فكان لها أعمق الأثر في نفسها ؛ فقد كان لها من المضاعفات السيئة ما اهتز من هولها العالم الإسلامي ، والتي كان من نتائجها كارثة كربلاء التي رُزئت فيها السيدة زينب ؛ فقد عانت من الكوارث والخطوب ما تذوب من هولها الجبال .
حكومة الإمام (عليه السّلام)
وبعدما أطاح الثوار بحكومة عثمان أحاطوا بالإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وهم يهتفون
الصفحة (128)
بحياته ، ويعلنون ترشيحه لقيادة الاُمّة فليس غيره أولى وأحق بهذا المركز الخطير ، فهو ابن عمّ النبي (صلّى الله عليه وآله) وأبو سبطيه ، ومَنْ كان منه بمنزل هارون من موسى ، وهو صاحب المواقف المشهورة في نصرة الإسلام والذبّ عنه ، وليس في المسلمين مَنْ يساويه في فضائله وعلومه وعبقرياته ، إلاّ أنّ الإمام رفض دعوتهم ولم يستجب لهم ؛ لعلمه بما سيواجهه من الأزمات السياسيّة ، فإنّ منهجه في عالم الحكم يتصادم مع رغبات الاُسر القرشيّة التي تريد السيطرة على السلطة وإخضاعها لرغباتها الخاصة .
فقال (عليه السّلام) للثوار : (( لا حاجة لي في أمركم , فمَنْ اخترتم رضيت به )) .
فهتفوا بلسان واحد : ما نختار غيرك .
وعقدت القوات المسلحة مؤتمراً خاصاً عرضت فيه ما تواجهه الاُمّة من الأخطار إن بقيت بلا إمام يدير شؤونها ، وقد قرّرت إحضار المدنيّين وإرغامهم على انتخاب إمام المسلمين ، فلمّا حضروا هدّدوهم بالتنكيل إن لم ينتخبوا إماماً وخليفة للمسلمين ، ففزعوا إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وأحاطوا به رافعين عقيرتهم : البيعة , البيعة .
فامتنع الإمام (عليه السّلام) من إجابتهم ، فأخذوا يتضرّعون إليه قائلين : أما ترى ما نزل بالإسلام ، وما ابتلينا به من أبناء القرى ؟!
فأجابهم الإمام بالرفض الكامل قائلاً : (( دعوني والتمسوا غيري )) . ثمّ أعرب لهم الإمام (عليه السّلام) عمّا ستعانيه الاُمّة من الأزمات قائلاً : (( أيّها الناس ، إنّا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان , لا تقوم به القلوب ، ولا تثبت له العقول )) .
الصفحة (129)
لقد كشف الإمام عمّا سيواجهه المسلمون من الأحداث المروّعة التي تعصف بالحلم وتميد بالصبر ، الناجمة من الحكم المباد الذي عاث فساداً في الأرض ؛ فقد أقام عثمان اُسرته حكّاماً وولاةً على الأقاليم الإسلاميّة فاستأثروا بأموال المسلمين واحتكروها لأنفسهم ، وإنّهم حتماً سيقاومون كلّ مَنْ يريد الإصلاح الاجتماعي ؛ فلذلك امتنع الإمام من إجابة القوم .
ثمّ عرض الإمام على القوات المسلحة وعلى الصحابة وغيرهم منهجه فيما إذا ولي اُمورهم قائلاً : (( إنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، وإن تركتموني فإنّما أنا كأحدكم ، ألا وإنّي من أسمعكم وأطوعكم لمَنْ ولّيتموه )) . واستجاب الجميع لما عرضه الإمام عليهم قائلين : ما نحن بمفارقيك حتّى نبايعك .
وأجّلهم الإمام إلى الغد لينظر في الاُمور ، ولمّا أصبح الصبح هرعت الجماهير إلى الجامع الأعظم ، فأقبل الإمام (عليه السّلام) فاعتلى أعواد المنبر فخطب الناس ، وكان من جملة خطابه : (( أيّها الناس ، إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلاّ مَنْ أمّرتم ، وقد افترقنا بالأمس وكنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلاّ أن أكون عليكم ، ألا وإنّه ليس لي أن آخذ درهماً دونكم ، فإن شئتم قعدت لكم , وإلاّ فلا آخذ على أحد )) .
وتعالى هتاف الجماهير بالتأييد والرضا قائلين : نحن على ما فارقناك عليه بالأمس . وطفق الإمام قائلاً : (( اللّهمّ اشهد عليهم )) .
وقد اتّجهت الناس كالموج صوب الإمام لتبايعه ، وأوّل مَنْ بايعه طلحة , فبايعه
الصفحة (130)
بيده الشلاّء التي سرعان ما نكث بها عهد الله , فتطيّر منها الإمام وقال : (( ما أخلفه أن ينكث ))(1) .
ثمّ بايعه الزبير وهو ممّن نكث بيعته ، وبايعته القوات العسكريّة ، كما بايعه مَنْ بقي من أهل بدر والمهاجرين والأنصار كافة(2) .
ولم يظفر أحد من خلفاء المسلمين بمثل هذه البيعة في شمولها ، وقد فرح بها المسلمون وابتهجوا , ووصف الإمام (عليه السّلام) مدى سرورهم بقوله : (( وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير , وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب )) .
لقد ابتهج المسلمون ، وعمّت الفرحة الكبرى جميع الأوساط الإسلاميّة بخلافة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) رائد العدالة الاجتماعيّة ، والمتبنّي لحقوق الإنسان الذي شارك البؤساء والمحرومين في سغبهم ومحنهم ، القائل : (( أأقنع من نفسي بأن يُقال : أمير المؤمنين , ولا اُشاركهم في مكاره الدهر ، أو أكون اُسوة لهم في جشوبة العيش ؟! )) .
وجوم القرشيّين
واستقبلت قريش خلافة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بكثير من الوجوم والقلق والاضطراب كما استقبلوا نبوّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؛ فإنّ الروح الجاهليّة بما تحمل من عادات وتقاليد وكراهية للحقّ لم تزل مائلة فيهم , ولم يغيّر الإسلام من طباعهم أيّ شيء .
وقريش تعرف الإمام جيداً ؛ فهو الذي حصد رؤوس أعلامهم بسيفه ، ومحق
ـــــــــــــــــــــ
(1) العقد الفريد 3 / 93 .
(2) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 1 / 376 .
الصفحة (131)
كبرياءهم في سبيل الإسلام الذي ناهضوه ، وقد خفّ إليه الاُمويّون وفي طليعتهم الوليد فقال للإمام : إنّك قد وترتنا جميعاً ؛ أمّا أنا فقتلت أبي صبراً يوم بدر ، وأمّا سعيد فقتلت أباه يوم بدر ، وكان أبوه من نور قريش ، وأمّا مروان فشتمت أباه ، وعبت على عثمان حين ضمّه إليه , فنبايع على أن تضع عنّا ما أصبنا ، وتعفو عنّا عمّا في أيدينا ، وتقتل قتلة صاحبنا .
فردّ الإمام عليه مقالته التي لا بصيص فيها من نور الحقّ قائلاً : (( أمّا ما ذكرت من وتري إيّاكم فالحقّ وتركم ؛ وأمّا وضعي عنكم عمّا في أيديكم فليس لي أن أضع حقّ الله ؛ وأمّا إعفائي عمّا في أيديكم فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم ؛ وأمّا قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتالهم اليوم لزمني قتالهم غداً ، ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنّة نبيّه ، فمَنْ ضاق عليه الحقّ فالباطل عليه أضيق ، وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم ))(1) .
إنّ الاُمويِّين أرادوا المساومة فيما نهبوه من أموال المسلمين وما اختلسوه من بيت المال ، وهيهات أن يستجيب لهم رائد الحقّ والعدالة في دنيا الإسلام الذي لا تساوي السلطة عنده قيمة حذائه الذي كان من ليف ، وقد انصرفوا عنه وقلوبهم مترعة بالحقد والكراهية له .
وعلى أيّ حال , فقد فزع القرشيّون من حكومة الإمام (عليه السّلام) وخافوا على مصالحهم ونفوذهم وامتيازاتهم التي ظفروا بها في عهد الخلفاء .
لقد أيقنوا أنّ الإمام سيعاملهم معاملة عادية ، ولا يميّزهم على أيّ أحد من المسلمين ، وقد كان سيء الظنّ بهم ، وقد أعرب عن مدى استيائه منهم بقوله : (( ما لي ولقريش ! لقد قاتلتهم كافرين , ولأقتلنهم مفتونين . والله لأبقرنّ الباطل
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 155 .