حتى يظهر الحقّ من خاصرته ، فقل لقريش فليضج ضجيجها )) .
لقد حقدت قريش على الإمام كما حقدت على ابن عمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد صرفت الخلافة تارة عنه إلى تيم ، وإلى عدي اُخرى ، وإلى بني اُميّة ثالثة .
وقد جهدت على محاربته وإشاعة التمرّد في أيام خلافته ، وقد ظهرت بوادر ذلك في حرب الجمل وصفين .
إجراءات حاسمة
وقام الإمام رائد العدالة الاجتماعيّة بإجراءات حاسمة ضدّ الحكم المباد كان منها :
1 ـ مصادرة الأموال المنهوبة
وأوّل عمل قام به الإمام أنّه أصدر أوامره بمصادرة القطائع التي اقتطعها عثمان ، وباسترجاع الأموال التي استأثر بها لنفسه ، والأموال التي منحها لبني اُميّة وآل أبي معيط ؛ لأنّها أُخذت بغير وجه مشروع ، وقد صودرت أموال عثمان حتّى سيفه ودرعه .
وقد كتب عمرو بن العاص إلى معاوية رسالة جاء فيها : ما كنت صانعاً فاصنع إذا قشّرك ابن أبي طالب من كلّ مال تملكه كما تُقشّر عن العصا لحاها .
وعمّ الذعر والخوف جميع الرأسماليين القرشيّين الذين أقطعهم عثمان ووهبهم الثراء العريض ؛ فقد خافوا من مصادرتها وتأميمها للدولة كما صنع الإمام بأموال عثمان ؛ فلذا أعلنوا التمرّد والبغي على حكومة الإمام (عليه السّلام) .
2 ـ عزل الولاة
وقام رائد العدالة الاجتماعيّة بعزل ولاة عثمان ؛ لأنّهم أظهروا الجور والفساد
الصفحة (133)
في الأرض ؛ فقد عزل معاوية بن هند ، وقد نصحه جماعة من المخلصين له وطلبوا منه إبقاء معاوية , فأبى وامتنع من المداهنة في دينه ، وكيف يُبقي الإمام في جهاز حكمه هذا الذئب الجاهلي ، ويقرّه على عمله وهو رأس المنافقين ومصدر قوّتهم .
وكذلك عزل غير معاوية من ولاة عثمان ، ولم يُبقِ واحداً منهم والياً على قطر من الأقطار .
3 ـ المساواة بين المسلمين
وأعلن الإمام (عليه السّلام) المساواة العادلة بين جميع المسلمين ، مساواة في العطاء , ومساواة في الحقوق وغيرهما من الشؤون الاجتماعيّة ، وقد عوتب على مساواته في العطاء ، فأجاب : (( أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ ؟! وَاللَّهِ لا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ , وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً . لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ , فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ ؟ أَلا وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ , وَهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَيَضَعُهُ فِي الآخِرَةِ , وَيُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَيُهِينُهُ عِنْدَ اللَّهِ ... )) .
وهكذا سلك عليّ في أيام حكومته مسلكاً مشرقاً لا التواء ولا منعطف فيه ؛ فطبّق العدل ونشر المساواة ، فلم يؤثر أيّ أحد من أبنائه وأرحامه على غيرهم ، ولم يمنحهم أيّ امتياز في دولته .
وكان من بوادر عدله أنّه دخل بيت المال فقسّمه , فجاءت طفلة إمّا للحسن أو للحسين , فتناولت منه شيئاً , فلمّا بصر بها أسرع إليها فأخذه منها وأرجعه إلى بيت المال ، فقال له أصحابه : يا أمير المؤمنين ، إنّ لها فيه حقّاً .
فأنكر عليهم ذلك , وقال :
الصفحة (134)
(( إذا أخذ أبوها منه فليعطها منه ما شاء ))(1) .
لقد تحرّج في سلوكه كأشدّ وأقسى ما يكون التحرّج , وأرهق نفسه إرهاقاً شديداً ، فلم يرَ الناس مثل عدله في جميع فترات التاريخ .
على خطّة العدل والشرف غذّى أبناءه ، وقد رأت ابنته حفيدة الرسول زينب (عليها السّلام) هذه السيرة المشرقة التي تأخذ بأعماق القلوب قد سار عليها أبوها , فكانت من عناصر تربيتها ومن مقوّمات ذاتها ، وهي التي خلقت له الخصوم والأعداء .
ـــــــــــــــــــــ
التمرّد على حكومة الإمام (عليه السّلام)
وثارت القوى المنحرفة عن الحقّ والمعادية للإصلاح الاجتماعي على حكومة الإمام رائد الحقّ والعدالة في دنيا الإسلام ، وقد أرادوا منه أن يعدل عن منهجه ، ويسير وفق مخطّطاتهم الهادفة إلى ضمان مصالحهم ، ومنحهم الامتيازات الخاصة فأبى (عليه السّلام) إلاّ أن يسير بسيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ويطبّق قانون الإسلام وتعاليم القرآن .
ونشير إلى بعض هؤلاء المتمرّدين الذين شقّوا صفوف المسلمين ، وأغرقوا البلد في المحن والاضطراب ، وأشاعوا بين المسلمين الحزن والحداد ، وهم :
طلحة والزّبير
وبايع طلحة والزّبير الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وانعقدت بيعته في أعناقهما ، ولكنّ الأطماع السياسيّة والشورى العمرية التي نفخت فيهما روح الطموح ، وساوت بينهما وبين بطل الإسلام وأخي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هي التي دفعتهما إلى إعلان التمرّد ، وقد خفّا إلى الإمام (عليه السّلام) وقد أترعت نفوسهما بالأطماع والكيد للإسلام ، فقالا للإمام : هل تدري على ما بايعناك يا أمير المؤمنين ؟
فأسرع الإمام قائلاً : (( نعم , على السمع والطاعة ، وعلى ما بايعتم عليه أبا بكر وعمر وعثمان )) .
فرفضا ذلك ، وقالا :
الصفحة (136)
لا ، ولكن بايعناك على أنّا شريكاك في الأمر .
فرمقهما الإمام بطرفه ، وأوضح لهما ما ينبغي أن يكونا شريكين له قائلاً : (( لا ، ولكنّكما شريكان في القول والاستقامة ، والعون على العجز والأولاد )) .
لقد أعربا عن أطماعهما وأنّ بيعتهما للإمام لم تكن من أجل صالح المسلمين وجمع كلمتهم ، وقاما مغضبين ، فقال الزّبير في ملأ من قريش : هذا جزاؤنا من عليّ ، قمنا له في أمر عثمان حتّى أثبتنا عليه الذنب ، وسبّبنا له القتل وهو جالس في بيته , وكُفي الأمر ، فلمّا نال بنا ما أراد جعل دوننا غيرنا .
وقال طلحة : ما اللوم إلاّ أنّا كنّا ثلاثة من أهل الشورى كرهه أحدنا(1) وبايعناه ، وأعطيناه ما في أيدينا ومنعنا ما في يده ، فأصبحنا قد أخطأنا ما رجونا .
والشيء المؤكّد أنّهما لم يعرفا عليّاً ، ولم يعيا أهدافه في عالم الحكم ، ولو عرفاه ما نازعاه ، أو أنّهما عرفاه وحالت أطماعهما وجشعهما على منازعته ، وانتهى حديثهما إلى الإمام (عليه السّلام) , فاستدعى مستشاره عبد الله بن عباس فقال له : (( بلغك قول الرجلين ؟ )) .
ـ نعم , أرى أنّهما أحبّا الولاية فولّ البصرة الزّبير ، وولّ طلحة الكوفة .
ولم يرتضِ الإمام رأي ابن عباس ، فقال مفنّداً لرأيه : (( ويحك ! إنّ العراقين ـ البصرة والكوفة ـ بهما الرجال والأموال ، ومتى تملّكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع ، ويضربا الضعيف بالبلاء ، ويقويا على القوي بالسلطان . ولو كنت مستعملاً أحداً لضرّه ونفعه لاستعملت معاوية على الشام ،
ـــــــــــــــــــــ
(1) يريد به سعد بن أبي وقّاص , فإنّه امتنع عن بيعة الإمام (عليه السّلام) , والذي دفعه على ذلك حقده له .
(1) أنساب الأشراف 1 / 160 ، القسم الأوّل .
ولولا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي )) .
لقد كان الإمام (عليه السّلام) عالماً بأطماعهما وما انطوت عليه نفوسهما من التهالك على الإمرة والسلطان ، ولو كان يعلم نزاهتهما واستقامتهما لولاّهما البصرة والكوفة .
ولمّا علم طلحة والزّبير أنّ الإمام لا يولّيهما على قطر من أقطار المسلمين خفّا إليه طالبين منه الإذن بالخروج قائلين : ائذن لنا يا أمير المؤمنين .
ـ (( إلى أين ؟ )) .
ـ نريد العمرة .
فرمقهما الإمام بطرفه ، وعرّفهما ما يريدان قائلاً لهما : (( والله ما العمرة تريدان , بل الغدرة ونكث البيعة )) . فأقسما له بالأيمان المغلّظة أنّهما لا يخلعان بيعته ، وأنّهما يريدان أن يعتمرا بالبيت الحرام ، وطلب منهما الإمام أن يُعيدا له البيعة ثانياً ففعلا دون تردد ، ومضيا منهزمين إلى مكة يثيرا الفتنة ، ويلحقا بعائشة ليتّخذوها واجهة لتمرّدهما على الحقّ وشقّ كلمة المسلمين .
تمرّد عائشة
ويجمع المؤرّخون على أنّ عائشة في طليعة مَنْ أشعل نار الثورة على عثمان ؛ فقد أفتت بقتله ومروقة من الدين ، وكانت تسمّيه نعثلاً ، ولمّا أحاط به الثوار خرجت إلى مكة ، وبعد أدائهما لمناسك الحج قفلت راجعة إلى يثرب ، وهي تجدّ في السير لتنظر ما آل إليه أمر عثمان ، فلمّا انتهت إلى سرف لقيها رجل من أخوالها كان قادماً من المدينة ، فأسرعت قائلة : مهيم(1) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مهيم : كلمة استفهام , من معانيها : ما وراؤك .
الصفحة (138)
ـ قتلوا عثمان .
وأسرعت قائلة : ثمّ صنعوا ماذا ؟
ـ واجتمعوا على بيعة عليّ فجازت بهم إلى خير مجاز .
ولمّا سمعت أنّ الخلافة قد آلت إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) انهارت أعصابها , وتحطّمت قواها ، وهتفت وهي حانقة , وبصرها يشير إلى السماء ثمّ ينخفض فيشير إلى الأرض , قائلة : والله , ليت هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لابن أبي طالب ! قُتل عثمان مظلوماً ، والله لأطلبنّ بدمه .
وبُهر عبيد من منطقها ، فقال لها باستهزاء وسخرية : ولِمَ ؟ فوالله إنّ أوّل مَنْ أمال حرفه لأنت ، ولقد كنت تقولين : اقتلوا نعثلاً فقد كفر !
وانبرت عائشة تبرّر هذا التناقض في كلامها وسلوكها ، فقالت له : إنّهم استتابوه ثمّ قتلوه ، وقد قلت وقالوا ، وقولي الأخير خير من قولي الأوّل .
وهي حجّة واهية لا واقع لها ، فهل أنّها كانت حاضرة حينما أحاط الثوار بعثمان فأعلن لهم توبته فلم يحفلوا بها , وعدوا عليه فقتلوه كما تقول ؟!
ولم يخفَ على ابن خالها هذا التناقض الصريح في قولها ، فراح يردّ عليها :
فمـنكِ البداء ومنكِ الغِيَرْ ومنكِ الرياح ومنكِ المطرْ
وأنـتِ أمرتِ بقتلِ الإمام وقُـلتِ لـنا إنّـه قد كفرْ
فهبنا(1) أطعناكِ في قتلِه وقـاتِلُه عـندنا مَنْ أمرْ
ـــــــــــــــــــــ
(1) في رواية : ( ونحن ) .
الصفحة (139)
ولـم يسقُطِ السقفُ من فوقنا ولـم تنكسف شمسُنا والقمرْ
وقد بايعَ الناسُ ذا تُدرَأٍ(1) يُـزيلُ الـشبا ويقيمُ الصَّعرْ
و يـلبسُ لـلحربِ أثـوابها وما مَنْ وفى مثلُ مَنْ قد غدرْ
وغاظها قوله فأعرضت عنه , وقفلت راجعة إلى مكة(2) وهي كئيبة حزينة ؛ لأنّ الخلافة آلت إلى باب مدينة علم النبي (صلّى الله عليه وآله) وأبي سبطيه , وراحت تندب عثمان ؛ فقد اتّخذت قتله ورقة رابحة للإطاحة بحكم الإمام ، يقول شوقي :
أثأرُ عثمانَ الذي شجاها أم غصّةٌ لم ينتزع شجاها
ذلـك فتقٌ لم يكن بالبالِ كيدُ النساءِ موهنُ الجبالِ
إنّ دم عثمان لا يصلح بأيّ حال من الأحوال أن يكون من بواعث ثورتها على حكومة الإمام ؛ فقد كانت هناك أسباب وثيقة دعتها إلى هذا الموقف الذي لا تُحمد عليه ، وقد ذكرناها بالتفصيل في كتابنا (حياة الإمام الحسن) .
الزحف إلى البصرة
وانضمّ طلحة والزّبير إلى عائشة ومعهما جميع رجال الحكم المُباد من ولاة عثمان وغيرهم من المعادين لحكومة الإمام (عليه السّلام) ، وقد قرّر زعماء الفتنة الزحف إلى البصرة لاحتلالها ، ونادى المنادي في مكة : أيّها الناس ، إنّ اُمّ المؤمنين وطلحة والزّبير شاخصون إلى البصرة ، فمَنْ كان يريد إعزاز الإسلام , وقتال المحلّين , والطلب بدم عثمان ، ولم يكن عنده مركب
ـــــــــــــــــــــ
(1) ذو تُدرأٍ : أي ذو عزيمة ومنعة . الشبا : المكرون . الصعر : ميل في الوجه أو في أحد الشفتين ، والمراد أنّه يقيم الشيء الملتوي .
(2) تاريخ الطبري 3 / 454 ، وغيره .
الصفحة (140)
ولا جهاز , فهذا جهازه وهذه نفقته .
وزوّدوا الجند بالسلاح والعتاد والأموال ، وقد كان قسم من النفقات من يعلي بن اُمية والي عثمان ؛ فقد أعان بأربعمئة ألف , وحمل سبعين رجلاً(1) .
واعتلت عائشة على جملها ولم ترغب فيه ، وصادفوا في الطريق العرني , وكان عنده جمل اُعجب به أتباع عائشة ، فقالوا للعرني : يا صاحب الجمل , تبيع جملك ؟
ـ نعم .
ـ بِكَم ؟
ـ بألف درهم .
ـ مجنون أنت ، جمل يباع بألف درهم !
ـ نعم ، جملي هذا .
ـ وممّ ذلك ؟
ـ ما طلبت عليه أحداً إلاّ أدركته ، ولا طلبني وأنا عليه قطّ إلاّ فتّه .
ـ لو تعلم لمَنْ نريده لأحسنت بيعنا .
ـ لمَنْ تريده ؟
ـ لاُمّك .
ـ قد تركت اُمّي في بيتها قاعدة ما تريد براحاً .
ـ إنّما نريده لاُمّ المؤمنين عائشة .
ـ هو لكم ، خذوه بغير ثمن .
ـ لا , ارجع معنا إلى الرحل نعطيك ناقة ونزيدك دراهم .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 3 / 454 ، وغيره .
الصفحة (141)
ورجع معهم فأعطوه ناقة مهرية , وزادوه أربعمئة أو ستمئة درهم(1) .
واعتلت عليه عائشة وقد احتفى بها أنصارها من الاُمويِّين وغيرهم من الطامعين في الحكم .
ماء الحوأب
وسارت قافلة عائشة تجدّ في السير لا تلوي على شيء ، فاجتازت على مكان يُقال له الحوأب ، فتلقّت كلاب الحيّ القافلة بهرير وعواء ، فذعرت عائشة من شدّة ذلك النباح ، فقالت لمحمد بن طلحة : أيّ ماء هذا ؟
ـ ماء الحوأب .
فذعرت عائشة ، وقالت : ما أراني إلاّ راجعة .
ـ لِمَ يا اُمّ المؤمنين ؟
ـ سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول لنسائه : (( كأنّي بإحداكنَّ قد نبحتها كلاب الحوأب(2) ، وإيّاك أن تكوني يا حُميراء )) .
فردّ عليها محمّد وقال لها : تقدّمي رحمك الله ، ودعي هذا القول . ولم تقتنع عائشة , وذاب قلبها أسى على ما فرّطت في أمرها .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 3 / 475 .
(2) روى ابن عباس عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال يوماً لنسائه وهنّ جميعاً عنده : (( أيّتكنّ صاحبة الجمل الأدبب , تنبحها كلاب الحوأب ، يُقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة كلّهم في النار ، وتنجو بعد ما كادت ؟ )) . جاء ذلك في شرح النهج 2 / 497 ، وهذا الحديث من أعلام النبوّة ، ومن إخباره بالمغيّبات .
الصفحة (142)
وعلم طلحة والزّبير بإصرارها على الرجوع إلى يثرب , فأقبلا يلهثان ؛ لأنّها متى انفصلت عن الجيش تفرّق وذهبت آمالهما أدراج الرياح ، فتكلّما معها في الأمر فامتنعت من إجابتهما ، فجاؤوا لها بشهود اشتروا ضمائرهم فشهدوا عندها أنّه ليس بماء الحوأب . وهي أوّل شهادة زور تُقام في الإسلام(1) ، وبهذه الشهادة الكاذبة استطاعوا أن يحرفوها عمّا صمّمت عليه .
في ربوع البصرة
وأشرفت قافلة عائشة على البصرة ، فلمّا علم ذلك عثمان بن حنيف والي البصرة أرسل إلى عائشة أبا الأسود الدؤلي ليسألها عن قدومها ، ولمّا التقى بها قال : ما أقدمك يا اُمّ المؤمنين ؟
ـ أطلب بدم عثمان .
فردّ عليها من منطقه الفيّاض قائلاً : ليس في البصرة من قتلة عثمان أحد .
ـ صدقت , ولكنّهم مع علي بن أبي طالب بالمدينة ، وجئت أستنهض أهل البصرة لقتاله ، أنغضب لكم من سوط عثمان ولا نغضب لعثمان من سيوفكم ؟!
فردّ عليها أبو الأسود ببالغ الحجّة قائلاً : ما أنتِ من السوط والسيف , إنّما أنتِ حبيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، أمرك أن تقرّي في بيتك وتتلي كتاب ربّك , وليس على النساء قتال ، ولا لهنّ الطلب بالدماء ، وأنّ عليّاً لأولى منكم وأمسّ رحماً ؛ فإنّهما ابنا عبد مناف ؟!
ولم تقنع عائشة وأصرّت على محاربة الإمام (عليه السّلام) ، وقالت لأبي الأسود : لست بمنصرفة حتّى أمضي لما قدمت إليه ، أفتظنّ [يا] أبا الأسود أنّ أحداً يقدم
ـــــــــــــــــــــ
(1) مروج الذهب 2 / 342 ، تاريخ اليعقوبي 2 / 181 .
لقد حقدت قريش على الإمام كما حقدت على ابن عمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد صرفت الخلافة تارة عنه إلى تيم ، وإلى عدي اُخرى ، وإلى بني اُميّة ثالثة .
وقد جهدت على محاربته وإشاعة التمرّد في أيام خلافته ، وقد ظهرت بوادر ذلك في حرب الجمل وصفين .
إجراءات حاسمة
وقام الإمام رائد العدالة الاجتماعيّة بإجراءات حاسمة ضدّ الحكم المباد كان منها :
1 ـ مصادرة الأموال المنهوبة
وأوّل عمل قام به الإمام أنّه أصدر أوامره بمصادرة القطائع التي اقتطعها عثمان ، وباسترجاع الأموال التي استأثر بها لنفسه ، والأموال التي منحها لبني اُميّة وآل أبي معيط ؛ لأنّها أُخذت بغير وجه مشروع ، وقد صودرت أموال عثمان حتّى سيفه ودرعه .
وقد كتب عمرو بن العاص إلى معاوية رسالة جاء فيها : ما كنت صانعاً فاصنع إذا قشّرك ابن أبي طالب من كلّ مال تملكه كما تُقشّر عن العصا لحاها .
وعمّ الذعر والخوف جميع الرأسماليين القرشيّين الذين أقطعهم عثمان ووهبهم الثراء العريض ؛ فقد خافوا من مصادرتها وتأميمها للدولة كما صنع الإمام بأموال عثمان ؛ فلذا أعلنوا التمرّد والبغي على حكومة الإمام (عليه السّلام) .
2 ـ عزل الولاة
وقام رائد العدالة الاجتماعيّة بعزل ولاة عثمان ؛ لأنّهم أظهروا الجور والفساد
الصفحة (133)
في الأرض ؛ فقد عزل معاوية بن هند ، وقد نصحه جماعة من المخلصين له وطلبوا منه إبقاء معاوية , فأبى وامتنع من المداهنة في دينه ، وكيف يُبقي الإمام في جهاز حكمه هذا الذئب الجاهلي ، ويقرّه على عمله وهو رأس المنافقين ومصدر قوّتهم .
وكذلك عزل غير معاوية من ولاة عثمان ، ولم يُبقِ واحداً منهم والياً على قطر من الأقطار .
3 ـ المساواة بين المسلمين
وأعلن الإمام (عليه السّلام) المساواة العادلة بين جميع المسلمين ، مساواة في العطاء , ومساواة في الحقوق وغيرهما من الشؤون الاجتماعيّة ، وقد عوتب على مساواته في العطاء ، فأجاب : (( أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ ؟! وَاللَّهِ لا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ , وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً . لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ , فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ ؟ أَلا وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ , وَهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَيَضَعُهُ فِي الآخِرَةِ , وَيُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَيُهِينُهُ عِنْدَ اللَّهِ ... )) .
وهكذا سلك عليّ في أيام حكومته مسلكاً مشرقاً لا التواء ولا منعطف فيه ؛ فطبّق العدل ونشر المساواة ، فلم يؤثر أيّ أحد من أبنائه وأرحامه على غيرهم ، ولم يمنحهم أيّ امتياز في دولته .
وكان من بوادر عدله أنّه دخل بيت المال فقسّمه , فجاءت طفلة إمّا للحسن أو للحسين , فتناولت منه شيئاً , فلمّا بصر بها أسرع إليها فأخذه منها وأرجعه إلى بيت المال ، فقال له أصحابه : يا أمير المؤمنين ، إنّ لها فيه حقّاً .
فأنكر عليهم ذلك , وقال :
الصفحة (134)
(( إذا أخذ أبوها منه فليعطها منه ما شاء ))(1) .
لقد تحرّج في سلوكه كأشدّ وأقسى ما يكون التحرّج , وأرهق نفسه إرهاقاً شديداً ، فلم يرَ الناس مثل عدله في جميع فترات التاريخ .
على خطّة العدل والشرف غذّى أبناءه ، وقد رأت ابنته حفيدة الرسول زينب (عليها السّلام) هذه السيرة المشرقة التي تأخذ بأعماق القلوب قد سار عليها أبوها , فكانت من عناصر تربيتها ومن مقوّمات ذاتها ، وهي التي خلقت له الخصوم والأعداء .
ـــــــــــــــــــــ
التمرّد على حكومة الإمام (عليه السّلام)
وثارت القوى المنحرفة عن الحقّ والمعادية للإصلاح الاجتماعي على حكومة الإمام رائد الحقّ والعدالة في دنيا الإسلام ، وقد أرادوا منه أن يعدل عن منهجه ، ويسير وفق مخطّطاتهم الهادفة إلى ضمان مصالحهم ، ومنحهم الامتيازات الخاصة فأبى (عليه السّلام) إلاّ أن يسير بسيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ويطبّق قانون الإسلام وتعاليم القرآن .
ونشير إلى بعض هؤلاء المتمرّدين الذين شقّوا صفوف المسلمين ، وأغرقوا البلد في المحن والاضطراب ، وأشاعوا بين المسلمين الحزن والحداد ، وهم :
طلحة والزّبير
وبايع طلحة والزّبير الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وانعقدت بيعته في أعناقهما ، ولكنّ الأطماع السياسيّة والشورى العمرية التي نفخت فيهما روح الطموح ، وساوت بينهما وبين بطل الإسلام وأخي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هي التي دفعتهما إلى إعلان التمرّد ، وقد خفّا إلى الإمام (عليه السّلام) وقد أترعت نفوسهما بالأطماع والكيد للإسلام ، فقالا للإمام : هل تدري على ما بايعناك يا أمير المؤمنين ؟
فأسرع الإمام قائلاً : (( نعم , على السمع والطاعة ، وعلى ما بايعتم عليه أبا بكر وعمر وعثمان )) .
فرفضا ذلك ، وقالا :
الصفحة (136)
لا ، ولكن بايعناك على أنّا شريكاك في الأمر .
فرمقهما الإمام بطرفه ، وأوضح لهما ما ينبغي أن يكونا شريكين له قائلاً : (( لا ، ولكنّكما شريكان في القول والاستقامة ، والعون على العجز والأولاد )) .
لقد أعربا عن أطماعهما وأنّ بيعتهما للإمام لم تكن من أجل صالح المسلمين وجمع كلمتهم ، وقاما مغضبين ، فقال الزّبير في ملأ من قريش : هذا جزاؤنا من عليّ ، قمنا له في أمر عثمان حتّى أثبتنا عليه الذنب ، وسبّبنا له القتل وهو جالس في بيته , وكُفي الأمر ، فلمّا نال بنا ما أراد جعل دوننا غيرنا .
وقال طلحة : ما اللوم إلاّ أنّا كنّا ثلاثة من أهل الشورى كرهه أحدنا(1) وبايعناه ، وأعطيناه ما في أيدينا ومنعنا ما في يده ، فأصبحنا قد أخطأنا ما رجونا .
والشيء المؤكّد أنّهما لم يعرفا عليّاً ، ولم يعيا أهدافه في عالم الحكم ، ولو عرفاه ما نازعاه ، أو أنّهما عرفاه وحالت أطماعهما وجشعهما على منازعته ، وانتهى حديثهما إلى الإمام (عليه السّلام) , فاستدعى مستشاره عبد الله بن عباس فقال له : (( بلغك قول الرجلين ؟ )) .
ـ نعم , أرى أنّهما أحبّا الولاية فولّ البصرة الزّبير ، وولّ طلحة الكوفة .
ولم يرتضِ الإمام رأي ابن عباس ، فقال مفنّداً لرأيه : (( ويحك ! إنّ العراقين ـ البصرة والكوفة ـ بهما الرجال والأموال ، ومتى تملّكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع ، ويضربا الضعيف بالبلاء ، ويقويا على القوي بالسلطان . ولو كنت مستعملاً أحداً لضرّه ونفعه لاستعملت معاوية على الشام ،
ـــــــــــــــــــــ
(1) يريد به سعد بن أبي وقّاص , فإنّه امتنع عن بيعة الإمام (عليه السّلام) , والذي دفعه على ذلك حقده له .
(1) أنساب الأشراف 1 / 160 ، القسم الأوّل .
ولولا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي )) .
لقد كان الإمام (عليه السّلام) عالماً بأطماعهما وما انطوت عليه نفوسهما من التهالك على الإمرة والسلطان ، ولو كان يعلم نزاهتهما واستقامتهما لولاّهما البصرة والكوفة .
ولمّا علم طلحة والزّبير أنّ الإمام لا يولّيهما على قطر من أقطار المسلمين خفّا إليه طالبين منه الإذن بالخروج قائلين : ائذن لنا يا أمير المؤمنين .
ـ (( إلى أين ؟ )) .
ـ نريد العمرة .
فرمقهما الإمام بطرفه ، وعرّفهما ما يريدان قائلاً لهما : (( والله ما العمرة تريدان , بل الغدرة ونكث البيعة )) . فأقسما له بالأيمان المغلّظة أنّهما لا يخلعان بيعته ، وأنّهما يريدان أن يعتمرا بالبيت الحرام ، وطلب منهما الإمام أن يُعيدا له البيعة ثانياً ففعلا دون تردد ، ومضيا منهزمين إلى مكة يثيرا الفتنة ، ويلحقا بعائشة ليتّخذوها واجهة لتمرّدهما على الحقّ وشقّ كلمة المسلمين .
تمرّد عائشة
ويجمع المؤرّخون على أنّ عائشة في طليعة مَنْ أشعل نار الثورة على عثمان ؛ فقد أفتت بقتله ومروقة من الدين ، وكانت تسمّيه نعثلاً ، ولمّا أحاط به الثوار خرجت إلى مكة ، وبعد أدائهما لمناسك الحج قفلت راجعة إلى يثرب ، وهي تجدّ في السير لتنظر ما آل إليه أمر عثمان ، فلمّا انتهت إلى سرف لقيها رجل من أخوالها كان قادماً من المدينة ، فأسرعت قائلة : مهيم(1) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مهيم : كلمة استفهام , من معانيها : ما وراؤك .
الصفحة (138)
ـ قتلوا عثمان .
وأسرعت قائلة : ثمّ صنعوا ماذا ؟
ـ واجتمعوا على بيعة عليّ فجازت بهم إلى خير مجاز .
ولمّا سمعت أنّ الخلافة قد آلت إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) انهارت أعصابها , وتحطّمت قواها ، وهتفت وهي حانقة , وبصرها يشير إلى السماء ثمّ ينخفض فيشير إلى الأرض , قائلة : والله , ليت هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لابن أبي طالب ! قُتل عثمان مظلوماً ، والله لأطلبنّ بدمه .
وبُهر عبيد من منطقها ، فقال لها باستهزاء وسخرية : ولِمَ ؟ فوالله إنّ أوّل مَنْ أمال حرفه لأنت ، ولقد كنت تقولين : اقتلوا نعثلاً فقد كفر !
وانبرت عائشة تبرّر هذا التناقض في كلامها وسلوكها ، فقالت له : إنّهم استتابوه ثمّ قتلوه ، وقد قلت وقالوا ، وقولي الأخير خير من قولي الأوّل .
وهي حجّة واهية لا واقع لها ، فهل أنّها كانت حاضرة حينما أحاط الثوار بعثمان فأعلن لهم توبته فلم يحفلوا بها , وعدوا عليه فقتلوه كما تقول ؟!
ولم يخفَ على ابن خالها هذا التناقض الصريح في قولها ، فراح يردّ عليها :
فمـنكِ البداء ومنكِ الغِيَرْ ومنكِ الرياح ومنكِ المطرْ
وأنـتِ أمرتِ بقتلِ الإمام وقُـلتِ لـنا إنّـه قد كفرْ
فهبنا(1) أطعناكِ في قتلِه وقـاتِلُه عـندنا مَنْ أمرْ
ـــــــــــــــــــــ
(1) في رواية : ( ونحن ) .
الصفحة (139)
ولـم يسقُطِ السقفُ من فوقنا ولـم تنكسف شمسُنا والقمرْ
وقد بايعَ الناسُ ذا تُدرَأٍ(1) يُـزيلُ الـشبا ويقيمُ الصَّعرْ
و يـلبسُ لـلحربِ أثـوابها وما مَنْ وفى مثلُ مَنْ قد غدرْ
وغاظها قوله فأعرضت عنه , وقفلت راجعة إلى مكة(2) وهي كئيبة حزينة ؛ لأنّ الخلافة آلت إلى باب مدينة علم النبي (صلّى الله عليه وآله) وأبي سبطيه , وراحت تندب عثمان ؛ فقد اتّخذت قتله ورقة رابحة للإطاحة بحكم الإمام ، يقول شوقي :
أثأرُ عثمانَ الذي شجاها أم غصّةٌ لم ينتزع شجاها
ذلـك فتقٌ لم يكن بالبالِ كيدُ النساءِ موهنُ الجبالِ
إنّ دم عثمان لا يصلح بأيّ حال من الأحوال أن يكون من بواعث ثورتها على حكومة الإمام ؛ فقد كانت هناك أسباب وثيقة دعتها إلى هذا الموقف الذي لا تُحمد عليه ، وقد ذكرناها بالتفصيل في كتابنا (حياة الإمام الحسن) .
الزحف إلى البصرة
وانضمّ طلحة والزّبير إلى عائشة ومعهما جميع رجال الحكم المُباد من ولاة عثمان وغيرهم من المعادين لحكومة الإمام (عليه السّلام) ، وقد قرّر زعماء الفتنة الزحف إلى البصرة لاحتلالها ، ونادى المنادي في مكة : أيّها الناس ، إنّ اُمّ المؤمنين وطلحة والزّبير شاخصون إلى البصرة ، فمَنْ كان يريد إعزاز الإسلام , وقتال المحلّين , والطلب بدم عثمان ، ولم يكن عنده مركب
ـــــــــــــــــــــ
(1) ذو تُدرأٍ : أي ذو عزيمة ومنعة . الشبا : المكرون . الصعر : ميل في الوجه أو في أحد الشفتين ، والمراد أنّه يقيم الشيء الملتوي .
(2) تاريخ الطبري 3 / 454 ، وغيره .
الصفحة (140)
ولا جهاز , فهذا جهازه وهذه نفقته .
وزوّدوا الجند بالسلاح والعتاد والأموال ، وقد كان قسم من النفقات من يعلي بن اُمية والي عثمان ؛ فقد أعان بأربعمئة ألف , وحمل سبعين رجلاً(1) .
واعتلت عائشة على جملها ولم ترغب فيه ، وصادفوا في الطريق العرني , وكان عنده جمل اُعجب به أتباع عائشة ، فقالوا للعرني : يا صاحب الجمل , تبيع جملك ؟
ـ نعم .
ـ بِكَم ؟
ـ بألف درهم .
ـ مجنون أنت ، جمل يباع بألف درهم !
ـ نعم ، جملي هذا .
ـ وممّ ذلك ؟
ـ ما طلبت عليه أحداً إلاّ أدركته ، ولا طلبني وأنا عليه قطّ إلاّ فتّه .
ـ لو تعلم لمَنْ نريده لأحسنت بيعنا .
ـ لمَنْ تريده ؟
ـ لاُمّك .
ـ قد تركت اُمّي في بيتها قاعدة ما تريد براحاً .
ـ إنّما نريده لاُمّ المؤمنين عائشة .
ـ هو لكم ، خذوه بغير ثمن .
ـ لا , ارجع معنا إلى الرحل نعطيك ناقة ونزيدك دراهم .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 3 / 454 ، وغيره .
الصفحة (141)
ورجع معهم فأعطوه ناقة مهرية , وزادوه أربعمئة أو ستمئة درهم(1) .
واعتلت عليه عائشة وقد احتفى بها أنصارها من الاُمويِّين وغيرهم من الطامعين في الحكم .
ماء الحوأب
وسارت قافلة عائشة تجدّ في السير لا تلوي على شيء ، فاجتازت على مكان يُقال له الحوأب ، فتلقّت كلاب الحيّ القافلة بهرير وعواء ، فذعرت عائشة من شدّة ذلك النباح ، فقالت لمحمد بن طلحة : أيّ ماء هذا ؟
ـ ماء الحوأب .
فذعرت عائشة ، وقالت : ما أراني إلاّ راجعة .
ـ لِمَ يا اُمّ المؤمنين ؟
ـ سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول لنسائه : (( كأنّي بإحداكنَّ قد نبحتها كلاب الحوأب(2) ، وإيّاك أن تكوني يا حُميراء )) .
فردّ عليها محمّد وقال لها : تقدّمي رحمك الله ، ودعي هذا القول . ولم تقتنع عائشة , وذاب قلبها أسى على ما فرّطت في أمرها .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 3 / 475 .
(2) روى ابن عباس عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال يوماً لنسائه وهنّ جميعاً عنده : (( أيّتكنّ صاحبة الجمل الأدبب , تنبحها كلاب الحوأب ، يُقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة كلّهم في النار ، وتنجو بعد ما كادت ؟ )) . جاء ذلك في شرح النهج 2 / 497 ، وهذا الحديث من أعلام النبوّة ، ومن إخباره بالمغيّبات .
الصفحة (142)
وعلم طلحة والزّبير بإصرارها على الرجوع إلى يثرب , فأقبلا يلهثان ؛ لأنّها متى انفصلت عن الجيش تفرّق وذهبت آمالهما أدراج الرياح ، فتكلّما معها في الأمر فامتنعت من إجابتهما ، فجاؤوا لها بشهود اشتروا ضمائرهم فشهدوا عندها أنّه ليس بماء الحوأب . وهي أوّل شهادة زور تُقام في الإسلام(1) ، وبهذه الشهادة الكاذبة استطاعوا أن يحرفوها عمّا صمّمت عليه .
في ربوع البصرة
وأشرفت قافلة عائشة على البصرة ، فلمّا علم ذلك عثمان بن حنيف والي البصرة أرسل إلى عائشة أبا الأسود الدؤلي ليسألها عن قدومها ، ولمّا التقى بها قال : ما أقدمك يا اُمّ المؤمنين ؟
ـ أطلب بدم عثمان .
فردّ عليها من منطقه الفيّاض قائلاً : ليس في البصرة من قتلة عثمان أحد .
ـ صدقت , ولكنّهم مع علي بن أبي طالب بالمدينة ، وجئت أستنهض أهل البصرة لقتاله ، أنغضب لكم من سوط عثمان ولا نغضب لعثمان من سيوفكم ؟!
فردّ عليها أبو الأسود ببالغ الحجّة قائلاً : ما أنتِ من السوط والسيف , إنّما أنتِ حبيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، أمرك أن تقرّي في بيتك وتتلي كتاب ربّك , وليس على النساء قتال ، ولا لهنّ الطلب بالدماء ، وأنّ عليّاً لأولى منكم وأمسّ رحماً ؛ فإنّهما ابنا عبد مناف ؟!
ولم تقنع عائشة وأصرّت على محاربة الإمام (عليه السّلام) ، وقالت لأبي الأسود : لست بمنصرفة حتّى أمضي لما قدمت إليه ، أفتظنّ [يا] أبا الأسود أنّ أحداً يقدم
ـــــــــــــــــــــ
(1) مروج الذهب 2 / 342 ، تاريخ اليعقوبي 2 / 181 .