على قتالي ؟
فأجابها أبو الأسود : أما والله لتقاتلنَ قتالاً أهونه الشديد .
ثمّ تركها وانصرف صوب الزّبير , فقابله وذكّره بماضي جهاده وولائه للإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) قائلاً له : يا أبا عبد الله ، عهد الناس بك وأنت يوم بويع أبو بكر آخذ بقائم سيفك تقول : لا أحد أولى بهذا الأمر من ابن أبي طالب ، وأين هذا المقام من ذاك ؟
فأجابه الزّبير : نطلب بدم عثمان .
ونظر إليه أبو الأسود فأجابه بسخرية : أنت وصاحبك ولّيتماه فيما بلغنا .
ورأى الزّبير في كلام أبي الأسود النصح والسداد فانصاع لقوله ، إلاّ أنّه طلب منه مواجهة طلحة , وعرض الأمر عليه ، فمضى أبو الأسود مسرعاً نحو طلحة وكلّمه في الأمر فلم يجد منه أيّة استجابة ، وقفل أبو الأسود راجعاً إلى ابن حنيف فأخبره بنيّة القوم وإصرارهم على الحرب .
وعقد الفريقان هدنة مؤقتة ، وكتبا في ذلك وثيقة وقّعها كلا الطرفين على أن لا يفتح أحدهما على الآخر باب الحرب حتّى يستبين في ذلك رأي الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) .
مظاهرة نسوية لتأييد عائشة
وقامت بعض السيّدات من النساء بمظاهرة لتأييد عائشة وهنَّ يجبنَ في شوارع يثرب ويضربنَ بالدفوف ، وقد رفعنَ أصواتهنَّ بهذا النشيد : ما الخبر ، ما الخبر ، إنّ عليّاً كالأشقر ، إن تقدّم عقر ، وإن تأخّر نحر .
الصفحة (144)
ولمّا سمعت ذلك اُمّ المؤمنين السيدة اُمّ سلمة خرجت هي وحفيدة الرسول العقيلة زينب (عليها السّلام) تحفّ بها إماؤها , فجعلت توبّخهنّ ، وقالت لهنّ : إن تظاهرتنَ على أبي فقد تظاهرتنَ من قبل على جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . فاستحيت النساء وتفرّقنَ ، وعادت السيدة زينب (عليها السّلام) إلى بيتها(1) .
نقض الاتفاق
وعمل حزب عائشة إلى نقض الهدنة ؛ فقد هجموا على والي البصرة ابن حنيف , وكان مقيماً في دار الإمارة , فاعتقلوه ونكّلوا به ، فنتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه ، ونهبوا ما في بيت المال ، وثارت الفتنة في البصرة ؛ فقد قتلوا خزّان بيت المال وبعض الشرطة ، ووقعت معركة رهيبة بين أنصار الإمام (عليه السّلام) وحزب عائشة ، وقد حملوها على جمل ، وسُمّيت تلك الوقعة بيوم الجمل الأصغر ، وقد استشهد فيها جمع من المسلمين(2) .
زحف الإمام (عليه السّلام) إلى البصرة
وزحف الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بجيوشه إلى البصرة للقضاء على هذا الجيب المتمرّد الذي ينذر بانتشار التمرّد وسقوط الحكم ، وحينما انتهى إلى البصرة بعث عبد الله بن عباس وزيد بن صوحان إلى عائشة وطلحة والزّبير يدعوهم إلى السلم وعدم إراقة الدماء ، فلم يستجيبوا لدعوته وأصرّوا على التمرّد والبغي ومناجزة الإمام (عليه السّلام) .
وأرسل الإمام فتىً نبيلاً وأمره أن يحمل كتاب الله تعالى ويدعوهم إلى تحكيمه ، فأخذ الفتى الكتاب العزيز وجعل يلوّح به أمام عسكر عائشة , وهو يدعوهم إلى العمل بما فيه ويدعوهم إلى السلم والوئام ، فحملوا عليه فقطعوا
ـــــــــــــــــــــ
(1) زينب الكبرى / 25 .
(2) عرضنا لهذه الأحداث بصورة مفصّلة في كتابنا حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) .
الصفحة (145)
يمينه ، فأخذ المصحف بيساره , وجعل يدعوهم إلى السلم والعمل بما في الكتاب ، فحملوا عليه فقطعوا يساره ، فأخذ المصحف بأسنانه ، وجعل يناديهم : الله في دمائنا ودمائكم .
فانثالوا عليه يرشقونه بسهامهم حتّى سقط إلى الأرض جثة هامدة ، ولم تُجْدِ معهم هذه الدعوة الكريمة , وأصرّوا على الحرب .
إعلان الحرب
ولم تُجب مع عائشة وحزبها دعوة الإمام (عليه السّلام) إلى السلم وعدم إراقة الدماء ؛ فقد أصرّوا على الحرب والتمرّد على الحقّ ؛ فاضطرّ الإمام إلى مناجزتهم ، فعبّأ جنوده ، ونظرت إليه عائشة وهو يجول بين الصفوف , فقالت : انظروا إليه كأنّ فعله فعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم بدر ! أما والله ما ينتظر بكم إلاّ زوال الشمس .
ومع علمها بأنّ فعله كفعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , كيف ساغ لها أن تحاربه ؟!وخاطبها الإمام (عليه السّلام) , فقال لها : (( يا عائشة ، عمّا قليل ليصبحنَّ نادمين ))(1) .
وأعطى الإمام خطته العسكريّة لجنوده ، فقال لهم : (( أيّها الناس ، إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح ، ولا تقتلوا أسيراً ، ولا تتّبعوا مولّياً ، ولا تطلبوا مدبراً ، ولا تكشفوا عورة ، ولا تمثّلوا بقتيل ، ولا تهتكوا ستراً ، ولا تقربوا من أموالهم إلاّ ما تجدونه في معسكرهم من سلاح أو كراع , أو عبد أو أمة ، وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم على كتاب الله )) .
ومثّلت هذه الوصية الشرف والرأفة والرحمة ، كما وضعت الأصول الفقهية في حرب المسلمين بعضهم مع بعض ، كما أعلن ذلك بعض الفقهاء .
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 1 / 447 .
الصفحة (146)
واعتلت عائشة جملها المسمّى بعسكر وأخذت كفّاً من حصباء فرمت به أصحاب الإمام (عليه السّلام) , وقالت : شاهت الوجوه . فأجابها رجل من شيعة الإمام : يا عائشة ، وما رميت إذ رميت ولكنّ الشيطان رمى .
وتولّت عائشة القيادة العامة للقوات المسلحة ، فكانت هي التي تصدر الأوامر للجيش . وبدأ القتال كأشدّه ، وقد حمل الإمام (عليه السّلام) على معسكر عائشة وقد رفع العلم بيسراه ، وشهر بيمينه ذا الفقار الذي طالما كشف به الكرب عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
واشتدّ القتال ، وقد بان الانكسار في جيش عائشة , وقد قُتل طلحة والزّبير والكثيرون من قادة عسكر عائشة ، وأخذت عائشة تبثّ في نفوس عسكرها روح التضحية والنضال ، وقد دافعوا عنها بحماس بالغ ، وقد شاعت القتلى بين الفريقين .
عقر الجمل
وأحاط أصحاب عائشة بجمل اُمّهم ، فدعا الإمام (عليه السّلام) عمّار بن ياسر ومالك الأشتر ، وأمرهما بعقر الجمل قائلاً : (( اذهبا فاعقرا هذا الجمل ؛ فإنّ الحرب لا يخمد ضرامها ما دام حيّاً ؛ فإنّهم قد اتّخذوه قبلة لهم )) .
وانطلق الأشتر وعمّار ومعهما فتية من مراد ، فوثب فتى يُعرف بمعمر بن عبد الله إلى الجمل فضربه على عرقوبه فهوى إلى الأرض , وله صوت منكر لم يُسمع مثله ، وتفرّق أصحاب عائشة حينما هوى الصنم الذي قدّموا له آلاف القتلى ، وأمر الإمام (عليه السّلام) بحرقه وذرّ رماده في الهواء ؛ لئلا تبقى منه بقيّة يفتتن بها الغوغاء ، وبعدما فرغ من ذلك قال : (( لعنه الله من دابة ، فما أشبهه بعجل بني إسرائيل ! )) .
الصفحة (147)
ثمّ مدّ بصره نحو الرماد الذي تناهبته الريح وتلا قوله تعالى : ( وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً )(1) .
وانتهت بذلك حرب الجمل التي أثارتها الأحقاد والأطماع ، وقد أشاعت بين المسلمين الضغائن والفتن , وألقتهم في شرّ عظيم .
العفو العام
وأصدر الإمام (عليه السّلام) أوامره بالعفو العام عن جميع أعدائه وخصومه ، وطلبت عائشة من الإمام أن يعفو عن ابن أختها عبد الله بن الزّبير وهو من ألدّ أعدائه فعفا عنه ، وكذلك عفا عن مروان بن الحكم ، وقد توسّط في أمره الحسن والحسين (عليهما السّلام) ، وآمن الأسود والأحمر ـ على حدّ تعبير اليعقوبي ـ ، ولم ينكّل بأيّ أحد من خصومه وأعدائه .
تسريح عائشة
وسرّح الإمام (عليه السّلام) عائشة وردّها إلى يثرب ، ولم يعرض لها بأيّ مكروه أو أذى ، وقد غادرت البصرة ونشرت في ربوعها الحزن والحداد والثكل ، وتصدّعت الوحدة بين المسلمين ، وشاعت بينهم الكراهية والبغضاء .
وعلى أيّ حال , فقد وعت سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) هذه الأحداث , وعرفت ما تحمله الاُسر القرشيّة من العداء العارم والبغض الشديد لأبيها (عليه السّلام) ، وأنّها قد شنّت الحرب عليه كما شنّته على أخيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من قبل .
تمرّد معاوية
ومهّدت عائشة الطريق إلى معاوية ، وفتحت له أبواب المعارضة لحكومة الإمام
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة طه / 97 .
الصفحة (148)
أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فلولاها لما تمكّن ابن هند من مناجزة الإمام ورفضه لبيعته .
وقد اتّخذ معاوية دم عثمان ورقة رابحة للمطالبة بدمه ، ومن المؤكّد زيف هذه الدعوى وعدم واقعيتها ؛ فقد استنجد به عثمان حينما حوصر وطلب منه أن يسعفه بقوّة عسكرية لرفع الحصار عنه فلم يستجب له حتّى أجهز عليه الثوار .
إنّ الذي دعا معاوية إلى التمرّد على حكومة الإمام (عليه السّلام) هو ما يعلمه من سيرة الإمام وسياسته الهادفة إلى إقامة الحقّ وتدمير الباطل ؛ فالإمام لا يُبقي معاوية في جهاز الحكم لحظة واحدة ، ويُجرّده من جميع أمواله التي اختلسها من بيت مال المسلمين ، ويُحاسبه حساباً عسيراً على جميع تصرّفاته المجافية لروح الإسلام ؛ من لبس الحرير والديباج , واستعمال أواني الذهب والفضة ، والإسراف الفظيع في بناء القصور ، ولا يقرّ شرعيّة دعم عمر له وثنائه عليه ومبالغته في تأييده ؛ فهو الذي لم يحاسبه على أعماله التي تصادمت مع تعاليم الإسلام , وقال فيه : إنّه كسرى العرب . واعتبر الإمام ذلك تعدٍّ على سياسة العدل التي تبنّاها في جميع مراحل حكمه وحياته .
وعلى أيّ حال , فقد بعث الإمام إلى معاوية جرير بن عبد الله البجلي وزوّده برسالة يدعوه فيها إلى مبايعته والدخول في طاعته ، إلاّ أنّ معاوية أصرّ على غيّه ورفض الاستجابة لدعوة الحقّ والوئام ؛ فقد توفّرت عنده القوّة العسكريّة التي يستطيع بها على محاربة الإمام .
زحف معاوية لصفّين
وبعدما توفّرت لمعاوية الإمكانيات العسكريّة والقوى المكثفة زحف بها إلى صفّين وأقام فيها ، وكان أوّل عمل قام به احتلال الفرات , واعتبر ذلك أوّل الفتح ؛ لأنّه حبس الماء على عدوّه ، وظلّت جيوشه مقيمة هناك تصلح أمرها وتنظّم قواها لتستعدّ إلى حرب وصيّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه .
الصفحة (149)
مسير الإمام (عليه السّلام) إلى صفّين
وتهيّأ الإمام (عليه السّلام) للخروج إلى صفّين ، وأمر الحارث بن الأعور أن ينادي في الناس بالخروج إلى معسكرهم في النخيلة , فعجّت الكوفة بالنفار ، وخرج الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) تحفّ به البقية الخيرة من صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفي طليعتهم الصحابي العظيم عمّار بن ياسر .
ولزمت جيوش الإمام (عليه السّلام) في زحفها السريع الفرات حتّى انتهت إلى صفّين ، فلم يجدوا شريعة يستقون منها الماء إلاّ وعليها الحرس الكثير وهم يُمانعونهم أشدّ الممانعة من الوصول إليه ، فأخبروا الإمام (عليه السّلام) , فدعا صعصعة بن صوحان وأمره بمقابلة معاوية ليسمح لجنوده بورود الماء ، وسار إليه صعصعة وعرض عليه مقالة الإمام ، فامتنع من إجابته , واعتبر ذلك أوّل الفتح .
وحملت جيوش الإمام حتّى احتلت الفرات وانهزمت جيوش معاوية ، وطلب أصحاب الإمام منه أن يمنع الماء عن عسكر معاوية فأبى (عليه السّلام) ، وأبى أن يكيل لهم الصاع بالصاع ، وقابلهم مقابة المحسن الكريم إلى أعدائه وخصومه.
الحرب
وأوفد الإمام إلى معاوية رسل السّلام رجاءً في الصلح وحقن الدماء ، فردّهم بعنف وأعلمهم أنّه مصمّم على الحرب ، ورجعت كتائب السلام إلى الإمام ، وعرّفته برفض معاوية لدعوته وإصراره على الحرب .
ولم يجد الإمام بدّاً من الحرب ، فأصدر تعاليمه لعموم جيشه بعدم قتل المدبر ، وعدم الإجهاز على الجريح ، وعدم المُثلة بأيّ قتيل منهم ، وعدم أخذ أموالهم إلاّ ما وجد في معسكرهم ، وغير ذلك من صنوف الشرف والرحمة التي لم يعهد لها نظير في عالم الحروب .
وبدت الحرب بين جيش الإمام (عليه السّلام) وجيش معاوية , فكانت كتائب من عسكر
الصفحة (150)
الإمام تخرج إلى فرق من أهل الشام فيقتتل الفريقان نهاراً كاملاً أو طرفاً منه ، ولم يرغب الإمام (عليه السّلام) أن تقع حرب عامة بين الفريقين ؛ رجاء أن يجيب معاوية إلى الصلح .
وخرج الزعيم الكبير مالك الأشتر يتأمّل في رايات أهل الشام فإذا هي رايات المشركين التي خرجت لحرب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فراح يقول لأصحابه : أكثر ما معكم رايات كانت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ومع معاوية رايات كانت مع المشركين على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فما يشكّ في قتال هؤلاء إلاّ ميّت القلب .
وخطب الصحابي العظيم عمّار بن ياسر فجعل يبيّن للمسلمين واقع معاوية , وأنّه جاهلي لا إيمان له ، وأنّه معاد لله ورسوله .
وعلى أيّ حال ، فلم تقع حرب عامة بين الفريقين ، وقد سئم الجيش العراقي هذه الحرب وآثر العافية ، كما سئم ذلك جيش أهل الشام .
الحرب العامة
ولمّا رأى الإمام (عليه السّلام) أنّه لا أمل في الإصلاح وجمع الكلمة عبّأ أصحابه وتهيّأ للحرب العامة ، وفعل معاوية مثل ذلك ، وبدأ الهجوم العام ، وبذلك فقد استعرت نار الحرب واشتدّ أوارها ، وقد خيّم الذعر والفزع على كلا الجيشين ، وقد انكشفت ميمنة الإمام وتضعضع قلب جيشه إلاّ أنصار ربيعة قد ثبتت في الميدان ، وأخذت على عاتقها أن تقوم بحماية الإمام ونصرة الحقّ .
وقد استشهد في المعركة بطل الإسلام المجاهد العظيم عمّار بن ياسر ، وقد حزن عليه الإمام كأشدّ ما يكون الحزن ، وكذلك استشهد غيره من أعلام الإسلام وكان لفقدهم أثر كبير في انهيار الجيش العراقي .
هزيمة معاوية
وبدا الانكسار في جيش ابن هند وكاد أصحابه يبلغون فسطاطه ، وهمّ بالفرار إلاّ أنّه
الصفحة (151)
تذكر قول ابن الإطنابة :
أبت لي عفّتي وحياءُ نفسي وإقدامي على البطلِ المشيحِ
وإعطائي على المكروهِ مالي وأخذي الحمدَ بالثمنِ الربيحِ
وقولي كلّما جشأت وجاشتْ مكانك تحمدي أو تستريحي
فردّه هذا الشعر إلى الثبات وعدم الهزيمة كما كان يتحدّث بذلك أيام العافية .
مكيدة رفع المصاحف
ولم تكن مكيدة رفع المصاحف وليدة الساعة , ولم تأت عفواً ، وإنّما كانت نتيجة مؤامرة سرّية بين عمرو بن العاص وبعض قادة الجيش العراقي , وعلى رأسهم الخائن العميل الأشعث بن قيس . لقد رفع أهل الشام المصاحف على أطراف الرماح وهم يدعون الجيش العراقي إلى تحكيم كتاب الله ، فاندفعت كتائب من عسكر الإمام (عليه السّلام) وهم يهتفون : لقد أعطى معاوية الحقّ ؛ دعاك إلى كتاب الله فاقبل منه .
لقد استجاب لهذه الدعوة الكاذبة السذّج , والسائمون من الحرب , والطامعون في الحكم , وعملاء الحكم الاُموي ، وجعل الأشعث بن قيس يشتدّ كالكلب رافعاً صوته ليُسمع الجيش : ما أرى الناس إلاّ قد رضوا ، وسرّهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن ، فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد .
وأخذ الأشعث يلحّ على الإمام (عليه السّلام) وهو يمتنع من إجابته وكثرة إلحاحه ، وقد استجابت له فرق من الجيش فلم يجد الإمام بُدّاً من إجابته ، فمضى مسرعاً نحو معاوية فقال له : لأي شيء رفعتم هذه المصاحف ؟
الصفحة (152)
والأشعث يعلم لِمَ رفعوا المصاحف ولاذوا بها , فأجابه معاوية : لنرجع نحن وأنتم إلى أمر الله عزّ وجلّ في كتابه ؛ تبعثون منكم رجلاً ترضون به ونبعث منّا رجلاً ، ثمّ نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ، ثم نتّبع ما اتّفقنا عليه .
وهل ابن هند يؤمن بكتاب الله ويتّبع ما حكم به ؟! أوَليس خروجه على السلطة الشرعيّة مجافية لتعاليم القرآن ؟!
وعلى أيّ حال , فقد انبرى الخائن الأشعث يصدّق مقالة معاوية قائلاً : هذا هو الحقّ .
وانبرى الإمام (عليه السّلام) فزيّف دعوة التحكيم ، وعرّف الجماهير أنّها خدعة ومكيدة ، وأنّ معاوية وحزبه لا يؤمنون بالقرآن ، وأنّهم على ضلالهم القديم .
وأصرّ جيش الإمام على الاستجابة لدعوة معاوية , وهدّدوه بالقتل إن رفض ما أرادوه ؛ فاستجاب (عليه السّلام) مرغماً مكرهاً على ذلك ، وقد أشرفت بعض قطعات جيشه بقيادة الزعيم الكبير مالك الأشتر على الفتح ، ولم يبقَ بينها وبين القبض على معاوية إلاّ مقدار حلبة شاة ، فطلب منه الإمام (عليه السّلام) في تلك الساعة الحرجة أن يسحب الجيش ويوقف القتال ، فلم يستجب أوّلاً إلى ذلك ، فأمره الإمام (عليه السّلام) ثانياً بالانسحاب ؛ لأنّ جيشه قد أحاط به وأعلنوا العصيان وهدّدوه بالقتل ، فاستجاب الأشتر وانسحب عن ميدان القتال .
وعلى أيّ حال , فقد أوقف القتال ، وكان ذلك فوزاً ساحقاً لمعاوية ؛ فقد سلم من الخطر المحدق به ، ومُني جيش الإمام بالتمرّد والعصيان ، وشاعت في جميع قطعاته التفرقة والخلاف .
انتخاب الأشعري
وأصرّ المتمرّدون على انتخاب الأشعري ليكون ممثلاً للجيش العراقي ، فرفض
الصفحة (153)
الإمام ذلك ورشّح عبد الله بن عباس أو مالك الأشتر فلم يستجيبوا له وأرغموه ثانياً على انتخابه فخلّى بينهم وبين رغباتهم ، وقد ذابت نفسه أسى وحسرات على ذلك ؛ فقد أيقن بانتهاء حكومته وفوز معاوية بالحكم .
وانتخب الشاميون عمرو بن العاص ممثّلاً لهم ، وهو أدهى سياسي في ذلك العصر ، وبذلك فقد عُقدت هدنة مؤقتة راح فيها معاوية يبني جيشه ويُصلح شؤونه . وأمّا جيش الإمام فقد مُني بالتفكّك والانحلال والتخاذل ، وانتشرت في جميع قطعاته الفكرة الهدّامة , وهي فكرة الخوارج كما سنتحدّث عن ذلك .
اجتماع الحكمين
وأوفد معاوية إلى الإمام (عليه السّلام) رسله يستنجزه الوفاء بالتحكيم ، وإنّما طلب منه ذلك لعلمه بما اُصيب به جيش الإمام من التخاذل والفتن والانحلال ، وأجابه الإمام إلى ذلك ؛ فأوفد أربعمئة رجل عليهم شريح بن هانئ الحارثي وهو من أجلّ أصحاب الإمام ، كما كان معهم عبد الله بن عباس حبر الاُمّة ، ومعهم قاضي التحكيم الخامل الغبي أبو موسى الأشعري , فأرشاه ابن العاص بالولائم , وقابله بمزيد من الحفاوة والتكريم ليجعله طوع إرادته ، وقد اتّفق معه على أن يعزل كل صاحبه ويرشّحا عبد الله بن عمر .
وقدّم ابن العاص الأشعري فاعتلى المنبر فخلع عليّاً عن منصبه , وكذلك خلع معاوية ورشّح ابن عمر ، وقام بعده ابن العاص فأقرّ صاحبه وخلع عليّاً . ولمّا أعلن ابن العاص خلعه لعليّ وإقامته لمعاوية انطلق صوبه الأشعري فقال له : ما لك عليك لعنة الله ؟! ما أنت إلاّ كمثل الكلب تلهث . فصاح ابن العاص : لكنّك مثل الحمار يحمل أسفاراً .
نعم ، هما كلب وحمار ، وهرب الأشعري إلى مكة يصحب معه الخزي والعار
الصفحة (154)
بعدما أحدث الفتنة والانشقاق بين جيش الإمام (عليه السّلام) ، وقد أكثر شعراء ذلك العصر في ذمّه . يقول فيه أيمن بن خزيم الأسدي :
لـو كانَ للقومِ رأيٌ يعصمونَ بهِ مـن الضلالِ رموكم بابنِ عباسِ
لـلـهِ درّ أبـيـهِ أيّـما رجـلٍ ما مثلهُ لفصالِ الخطبِ في الناسِ
لـكن رموكم بشيخٍ من ذوي يمنٍ لم يدرِ ما ضرب أخماسٍ بأسداسِ
إن يـخلُ عمرو به يقذفهُ في لججٍ يـهوي بهِ النجمُ تيساً بين أتياسِ
أبـلغ لـديكَ عـلياً غـير عاتبه قولَ امرئ لا يرى بالحقِّ من باسِ
مـا الأشـعري بمأمونٍ أبا حسنٍ فاعلم هُديتَ وليس العجزُ كالراسِ
فـاصدم بصاحبكَ الأدنى زعيمهمُ إنّ ابـنَ عـمِّكَ عباسٌ هو الآسي
لقد امتحن الإمام (عليه السّلام) كأشدّ وأقسى ما يكون الامتحان بهؤلاء الأوغاد الذين وقفوا أمام الإصلاح الاجتماعي ، ومكّنوا الظالمين والمنحرفين من الاستبداد باُمور المسلمين .
فتنة الخوارج
وتمرّد الخوارج على الإمام (عليه السّلام) وألزموا بأمر التحكيم ، وهم الذين أرغموه على ذلك وهدّدوه بالقتل إن لم يوقف القتال مع معاوية ، وأخذوا يعيثون في الأرض فساداً ؛ فقد رحلوا عن الكوفة وعسكروا في النهروان ، فاجتاز عليهم الصحابي الجليل عبد الله بن خبّاب بن الأرت فأحاطوا به قائلين : مَنْ أنت ؟
ـ رجل مؤمن .
ـ ما تقول في عليّ بن أبي طالب ؟
ـ إنّه أمير المؤمنين ، وأوّل المسلمين إيماناً بالله ورسوله .
ـ ما اسمك ؟
الصفحة (155)
ـ عبد الله بن خباب بن الأرت صاحب رسول الله .
ـ أفزعناك ؟
ـ نعم .
ـ لا روع عليك , حدّثنا عن أبيك بحديث سمعه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعلّ الله أن ينفعنا به .
ـ نعم ، حدّثني عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : (( ستكون فتنة بعدي يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه ، يُمسي مؤمناً ويُصبح كافراً )) .
فهتفوا جميعاً : لهذا الحديث سألناك , والله لنقتلنّك قتلة ما قتلنا بمثلها أحداً . وعمدوا مصرّين على الغيّ والعدوان , فأوثقوه كتافاً وأقبلوا به وبامرأته ، وكانت حبلى قد أشرفت على الولادة ، فأنزلوهما تحت نخل , فسقطت رطبة منها , فبادر بعضهم إليها فوضعها في فيه ، فأقبل إليه بعضهم منكراً عليه قائلاً : بغير حلّ أكلتها ! فألقاها بالوقت من فيه .
واخترط بعضهم سيفه فضرب به خنزيراً لأهل الذمّة فقتله ، فصاح به بعضهم : إنّ هذا من الفساد في الأرض ! فبادر الرجل إلى الذمّي فأرضاه ، ولمّا نظر عبد الله بن خباب احتياط هؤلاء في هذه الاُمور سكن روعه , وقال لهم : لئن كنتم صادقين فيما أرى ما عليَّ منكم بأس ؛ ووالله ما أحدثت حدثاً في الإسلام ، وإنّي لمؤمن , وقد آمنتموني وقلتم لا روع عليك .
فلم يعنَ هؤلاء الأخباث الذين هم صفحة خزي وعار على البشرية ، فجاؤوا به وبامرأته فأضجعوه على شفير النهر و ووضعوه على ذلك الخنزير الذي قتلوه , ثمّ ذبحوه ، وأقبلوا على امرأته وهي ترتعد من الخوف , فقالت لهم مسترحمة :
الصفحة (156)
إنّما أنا امرأة ، أما تتّقون الله ؟
فلم يعنوا باسترحامها , وأقبلوا عليها كالكلاب فقتلوها وبقروا بطنها ، وانعطفوا على ثلاث نسوة فقتلوهنّ ، وفيهنّ اُمّ سنان الصيداوية , وكانت قد صحبت النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ولم يقف شرّ هؤلاء الأرجاس عند هذا الحدّ ، وإنّما أخذوا يذيعون الذعر وينشرون القتل والفساد في الأرض .
واقعة النهروان
وبعدما أعلن الخوارج تمرّدهم على حكومة الإمام (عليه السّلام) ، ورفعوا شعارهم ( لا حكم إلاّ لله ) , ولكنّه لم يعد في جميع تصرفاتهم وشؤونهم ظلاً وواقعاً لهذا الشعار ؛ فقد كان شعارهم الحقيقي لا حكم إلاّ للسيف والفساد .
ولمّا أراد الإمام (عليه السّلام) الخروج إلى محاربة معاوية ، وعبّأ أصحابه وجنوده لذلك ، أشار عليه بعض أصحابه بمناجزة الخوارج ؛ فإنّ خطرهم أعظم من خطر معاوية ، وإنّهم إذا نزحوا من الكوفة يُحدثون القتل والدمار فيها .
فاستصوب الإمام (عليه السّلام) رأيهم , وتحرّكت قوات الإمام لقتالهم ، وقبل أن تندلع نار الحرب وجّه الإمام (عليه السّلام) إليهم الحارث بن مرّة يطلب منهم قتلة عبد الله بن خباب ليقتصّ منهم , فأجابوا جميعاً : إنّا كلّنا قتلناهم ، وكلّنا مستحلّ لدمائكم ودمائهم .
وأقبل الإمام (عليه السّلام) بنفسه فوجّه لهم خطاباً رائعاً يدعوهم فيه إلى الطاعة ورفض التمرّد ، فلم يفهموا خطاب الإمام ونصيحته ، وطلبوا منه أن يشهد على نفسه بالكفر ويتوب إلى الله تعالى على قبوله للتحكيم ، فامتنع الإمام من إجابتهم ؛ فإنّه لم يقترف أيّ ذنب في أمر التحكيم , وإنّما هم أرغموه على ذلك .
ولمّا يئس الإمام (عليه السّلام) من إرجاعهم إلى الحقّ عبّأ جنوده لحربهم ، وفعل الخوارج مثل ذلك ، وهتف بعضهم :
فأجابها أبو الأسود : أما والله لتقاتلنَ قتالاً أهونه الشديد .
ثمّ تركها وانصرف صوب الزّبير , فقابله وذكّره بماضي جهاده وولائه للإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) قائلاً له : يا أبا عبد الله ، عهد الناس بك وأنت يوم بويع أبو بكر آخذ بقائم سيفك تقول : لا أحد أولى بهذا الأمر من ابن أبي طالب ، وأين هذا المقام من ذاك ؟
فأجابه الزّبير : نطلب بدم عثمان .
ونظر إليه أبو الأسود فأجابه بسخرية : أنت وصاحبك ولّيتماه فيما بلغنا .
ورأى الزّبير في كلام أبي الأسود النصح والسداد فانصاع لقوله ، إلاّ أنّه طلب منه مواجهة طلحة , وعرض الأمر عليه ، فمضى أبو الأسود مسرعاً نحو طلحة وكلّمه في الأمر فلم يجد منه أيّة استجابة ، وقفل أبو الأسود راجعاً إلى ابن حنيف فأخبره بنيّة القوم وإصرارهم على الحرب .
وعقد الفريقان هدنة مؤقتة ، وكتبا في ذلك وثيقة وقّعها كلا الطرفين على أن لا يفتح أحدهما على الآخر باب الحرب حتّى يستبين في ذلك رأي الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) .
مظاهرة نسوية لتأييد عائشة
وقامت بعض السيّدات من النساء بمظاهرة لتأييد عائشة وهنَّ يجبنَ في شوارع يثرب ويضربنَ بالدفوف ، وقد رفعنَ أصواتهنَّ بهذا النشيد : ما الخبر ، ما الخبر ، إنّ عليّاً كالأشقر ، إن تقدّم عقر ، وإن تأخّر نحر .
الصفحة (144)
ولمّا سمعت ذلك اُمّ المؤمنين السيدة اُمّ سلمة خرجت هي وحفيدة الرسول العقيلة زينب (عليها السّلام) تحفّ بها إماؤها , فجعلت توبّخهنّ ، وقالت لهنّ : إن تظاهرتنَ على أبي فقد تظاهرتنَ من قبل على جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . فاستحيت النساء وتفرّقنَ ، وعادت السيدة زينب (عليها السّلام) إلى بيتها(1) .
نقض الاتفاق
وعمل حزب عائشة إلى نقض الهدنة ؛ فقد هجموا على والي البصرة ابن حنيف , وكان مقيماً في دار الإمارة , فاعتقلوه ونكّلوا به ، فنتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه ، ونهبوا ما في بيت المال ، وثارت الفتنة في البصرة ؛ فقد قتلوا خزّان بيت المال وبعض الشرطة ، ووقعت معركة رهيبة بين أنصار الإمام (عليه السّلام) وحزب عائشة ، وقد حملوها على جمل ، وسُمّيت تلك الوقعة بيوم الجمل الأصغر ، وقد استشهد فيها جمع من المسلمين(2) .
زحف الإمام (عليه السّلام) إلى البصرة
وزحف الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بجيوشه إلى البصرة للقضاء على هذا الجيب المتمرّد الذي ينذر بانتشار التمرّد وسقوط الحكم ، وحينما انتهى إلى البصرة بعث عبد الله بن عباس وزيد بن صوحان إلى عائشة وطلحة والزّبير يدعوهم إلى السلم وعدم إراقة الدماء ، فلم يستجيبوا لدعوته وأصرّوا على التمرّد والبغي ومناجزة الإمام (عليه السّلام) .
وأرسل الإمام فتىً نبيلاً وأمره أن يحمل كتاب الله تعالى ويدعوهم إلى تحكيمه ، فأخذ الفتى الكتاب العزيز وجعل يلوّح به أمام عسكر عائشة , وهو يدعوهم إلى العمل بما فيه ويدعوهم إلى السلم والوئام ، فحملوا عليه فقطعوا
ـــــــــــــــــــــ
(1) زينب الكبرى / 25 .
(2) عرضنا لهذه الأحداث بصورة مفصّلة في كتابنا حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) .
الصفحة (145)
يمينه ، فأخذ المصحف بيساره , وجعل يدعوهم إلى السلم والعمل بما في الكتاب ، فحملوا عليه فقطعوا يساره ، فأخذ المصحف بأسنانه ، وجعل يناديهم : الله في دمائنا ودمائكم .
فانثالوا عليه يرشقونه بسهامهم حتّى سقط إلى الأرض جثة هامدة ، ولم تُجْدِ معهم هذه الدعوة الكريمة , وأصرّوا على الحرب .
إعلان الحرب
ولم تُجب مع عائشة وحزبها دعوة الإمام (عليه السّلام) إلى السلم وعدم إراقة الدماء ؛ فقد أصرّوا على الحرب والتمرّد على الحقّ ؛ فاضطرّ الإمام إلى مناجزتهم ، فعبّأ جنوده ، ونظرت إليه عائشة وهو يجول بين الصفوف , فقالت : انظروا إليه كأنّ فعله فعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم بدر ! أما والله ما ينتظر بكم إلاّ زوال الشمس .
ومع علمها بأنّ فعله كفعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , كيف ساغ لها أن تحاربه ؟!وخاطبها الإمام (عليه السّلام) , فقال لها : (( يا عائشة ، عمّا قليل ليصبحنَّ نادمين ))(1) .
وأعطى الإمام خطته العسكريّة لجنوده ، فقال لهم : (( أيّها الناس ، إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح ، ولا تقتلوا أسيراً ، ولا تتّبعوا مولّياً ، ولا تطلبوا مدبراً ، ولا تكشفوا عورة ، ولا تمثّلوا بقتيل ، ولا تهتكوا ستراً ، ولا تقربوا من أموالهم إلاّ ما تجدونه في معسكرهم من سلاح أو كراع , أو عبد أو أمة ، وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم على كتاب الله )) .
ومثّلت هذه الوصية الشرف والرأفة والرحمة ، كما وضعت الأصول الفقهية في حرب المسلمين بعضهم مع بعض ، كما أعلن ذلك بعض الفقهاء .
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 1 / 447 .
الصفحة (146)
واعتلت عائشة جملها المسمّى بعسكر وأخذت كفّاً من حصباء فرمت به أصحاب الإمام (عليه السّلام) , وقالت : شاهت الوجوه . فأجابها رجل من شيعة الإمام : يا عائشة ، وما رميت إذ رميت ولكنّ الشيطان رمى .
وتولّت عائشة القيادة العامة للقوات المسلحة ، فكانت هي التي تصدر الأوامر للجيش . وبدأ القتال كأشدّه ، وقد حمل الإمام (عليه السّلام) على معسكر عائشة وقد رفع العلم بيسراه ، وشهر بيمينه ذا الفقار الذي طالما كشف به الكرب عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
واشتدّ القتال ، وقد بان الانكسار في جيش عائشة , وقد قُتل طلحة والزّبير والكثيرون من قادة عسكر عائشة ، وأخذت عائشة تبثّ في نفوس عسكرها روح التضحية والنضال ، وقد دافعوا عنها بحماس بالغ ، وقد شاعت القتلى بين الفريقين .
عقر الجمل
وأحاط أصحاب عائشة بجمل اُمّهم ، فدعا الإمام (عليه السّلام) عمّار بن ياسر ومالك الأشتر ، وأمرهما بعقر الجمل قائلاً : (( اذهبا فاعقرا هذا الجمل ؛ فإنّ الحرب لا يخمد ضرامها ما دام حيّاً ؛ فإنّهم قد اتّخذوه قبلة لهم )) .
وانطلق الأشتر وعمّار ومعهما فتية من مراد ، فوثب فتى يُعرف بمعمر بن عبد الله إلى الجمل فضربه على عرقوبه فهوى إلى الأرض , وله صوت منكر لم يُسمع مثله ، وتفرّق أصحاب عائشة حينما هوى الصنم الذي قدّموا له آلاف القتلى ، وأمر الإمام (عليه السّلام) بحرقه وذرّ رماده في الهواء ؛ لئلا تبقى منه بقيّة يفتتن بها الغوغاء ، وبعدما فرغ من ذلك قال : (( لعنه الله من دابة ، فما أشبهه بعجل بني إسرائيل ! )) .
الصفحة (147)
ثمّ مدّ بصره نحو الرماد الذي تناهبته الريح وتلا قوله تعالى : ( وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً )(1) .
وانتهت بذلك حرب الجمل التي أثارتها الأحقاد والأطماع ، وقد أشاعت بين المسلمين الضغائن والفتن , وألقتهم في شرّ عظيم .
العفو العام
وأصدر الإمام (عليه السّلام) أوامره بالعفو العام عن جميع أعدائه وخصومه ، وطلبت عائشة من الإمام أن يعفو عن ابن أختها عبد الله بن الزّبير وهو من ألدّ أعدائه فعفا عنه ، وكذلك عفا عن مروان بن الحكم ، وقد توسّط في أمره الحسن والحسين (عليهما السّلام) ، وآمن الأسود والأحمر ـ على حدّ تعبير اليعقوبي ـ ، ولم ينكّل بأيّ أحد من خصومه وأعدائه .
تسريح عائشة
وسرّح الإمام (عليه السّلام) عائشة وردّها إلى يثرب ، ولم يعرض لها بأيّ مكروه أو أذى ، وقد غادرت البصرة ونشرت في ربوعها الحزن والحداد والثكل ، وتصدّعت الوحدة بين المسلمين ، وشاعت بينهم الكراهية والبغضاء .
وعلى أيّ حال , فقد وعت سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) هذه الأحداث , وعرفت ما تحمله الاُسر القرشيّة من العداء العارم والبغض الشديد لأبيها (عليه السّلام) ، وأنّها قد شنّت الحرب عليه كما شنّته على أخيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من قبل .
تمرّد معاوية
ومهّدت عائشة الطريق إلى معاوية ، وفتحت له أبواب المعارضة لحكومة الإمام
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة طه / 97 .
الصفحة (148)
أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فلولاها لما تمكّن ابن هند من مناجزة الإمام ورفضه لبيعته .
وقد اتّخذ معاوية دم عثمان ورقة رابحة للمطالبة بدمه ، ومن المؤكّد زيف هذه الدعوى وعدم واقعيتها ؛ فقد استنجد به عثمان حينما حوصر وطلب منه أن يسعفه بقوّة عسكرية لرفع الحصار عنه فلم يستجب له حتّى أجهز عليه الثوار .
إنّ الذي دعا معاوية إلى التمرّد على حكومة الإمام (عليه السّلام) هو ما يعلمه من سيرة الإمام وسياسته الهادفة إلى إقامة الحقّ وتدمير الباطل ؛ فالإمام لا يُبقي معاوية في جهاز الحكم لحظة واحدة ، ويُجرّده من جميع أمواله التي اختلسها من بيت مال المسلمين ، ويُحاسبه حساباً عسيراً على جميع تصرّفاته المجافية لروح الإسلام ؛ من لبس الحرير والديباج , واستعمال أواني الذهب والفضة ، والإسراف الفظيع في بناء القصور ، ولا يقرّ شرعيّة دعم عمر له وثنائه عليه ومبالغته في تأييده ؛ فهو الذي لم يحاسبه على أعماله التي تصادمت مع تعاليم الإسلام , وقال فيه : إنّه كسرى العرب . واعتبر الإمام ذلك تعدٍّ على سياسة العدل التي تبنّاها في جميع مراحل حكمه وحياته .
وعلى أيّ حال , فقد بعث الإمام إلى معاوية جرير بن عبد الله البجلي وزوّده برسالة يدعوه فيها إلى مبايعته والدخول في طاعته ، إلاّ أنّ معاوية أصرّ على غيّه ورفض الاستجابة لدعوة الحقّ والوئام ؛ فقد توفّرت عنده القوّة العسكريّة التي يستطيع بها على محاربة الإمام .
زحف معاوية لصفّين
وبعدما توفّرت لمعاوية الإمكانيات العسكريّة والقوى المكثفة زحف بها إلى صفّين وأقام فيها ، وكان أوّل عمل قام به احتلال الفرات , واعتبر ذلك أوّل الفتح ؛ لأنّه حبس الماء على عدوّه ، وظلّت جيوشه مقيمة هناك تصلح أمرها وتنظّم قواها لتستعدّ إلى حرب وصيّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه .
الصفحة (149)
مسير الإمام (عليه السّلام) إلى صفّين
وتهيّأ الإمام (عليه السّلام) للخروج إلى صفّين ، وأمر الحارث بن الأعور أن ينادي في الناس بالخروج إلى معسكرهم في النخيلة , فعجّت الكوفة بالنفار ، وخرج الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) تحفّ به البقية الخيرة من صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفي طليعتهم الصحابي العظيم عمّار بن ياسر .
ولزمت جيوش الإمام (عليه السّلام) في زحفها السريع الفرات حتّى انتهت إلى صفّين ، فلم يجدوا شريعة يستقون منها الماء إلاّ وعليها الحرس الكثير وهم يُمانعونهم أشدّ الممانعة من الوصول إليه ، فأخبروا الإمام (عليه السّلام) , فدعا صعصعة بن صوحان وأمره بمقابلة معاوية ليسمح لجنوده بورود الماء ، وسار إليه صعصعة وعرض عليه مقالة الإمام ، فامتنع من إجابته , واعتبر ذلك أوّل الفتح .
وحملت جيوش الإمام حتّى احتلت الفرات وانهزمت جيوش معاوية ، وطلب أصحاب الإمام منه أن يمنع الماء عن عسكر معاوية فأبى (عليه السّلام) ، وأبى أن يكيل لهم الصاع بالصاع ، وقابلهم مقابة المحسن الكريم إلى أعدائه وخصومه.
الحرب
وأوفد الإمام إلى معاوية رسل السّلام رجاءً في الصلح وحقن الدماء ، فردّهم بعنف وأعلمهم أنّه مصمّم على الحرب ، ورجعت كتائب السلام إلى الإمام ، وعرّفته برفض معاوية لدعوته وإصراره على الحرب .
ولم يجد الإمام بدّاً من الحرب ، فأصدر تعاليمه لعموم جيشه بعدم قتل المدبر ، وعدم الإجهاز على الجريح ، وعدم المُثلة بأيّ قتيل منهم ، وعدم أخذ أموالهم إلاّ ما وجد في معسكرهم ، وغير ذلك من صنوف الشرف والرحمة التي لم يعهد لها نظير في عالم الحروب .
وبدت الحرب بين جيش الإمام (عليه السّلام) وجيش معاوية , فكانت كتائب من عسكر
الصفحة (150)
الإمام تخرج إلى فرق من أهل الشام فيقتتل الفريقان نهاراً كاملاً أو طرفاً منه ، ولم يرغب الإمام (عليه السّلام) أن تقع حرب عامة بين الفريقين ؛ رجاء أن يجيب معاوية إلى الصلح .
وخرج الزعيم الكبير مالك الأشتر يتأمّل في رايات أهل الشام فإذا هي رايات المشركين التي خرجت لحرب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فراح يقول لأصحابه : أكثر ما معكم رايات كانت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ومع معاوية رايات كانت مع المشركين على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فما يشكّ في قتال هؤلاء إلاّ ميّت القلب .
وخطب الصحابي العظيم عمّار بن ياسر فجعل يبيّن للمسلمين واقع معاوية , وأنّه جاهلي لا إيمان له ، وأنّه معاد لله ورسوله .
وعلى أيّ حال ، فلم تقع حرب عامة بين الفريقين ، وقد سئم الجيش العراقي هذه الحرب وآثر العافية ، كما سئم ذلك جيش أهل الشام .
الحرب العامة
ولمّا رأى الإمام (عليه السّلام) أنّه لا أمل في الإصلاح وجمع الكلمة عبّأ أصحابه وتهيّأ للحرب العامة ، وفعل معاوية مثل ذلك ، وبدأ الهجوم العام ، وبذلك فقد استعرت نار الحرب واشتدّ أوارها ، وقد خيّم الذعر والفزع على كلا الجيشين ، وقد انكشفت ميمنة الإمام وتضعضع قلب جيشه إلاّ أنصار ربيعة قد ثبتت في الميدان ، وأخذت على عاتقها أن تقوم بحماية الإمام ونصرة الحقّ .
وقد استشهد في المعركة بطل الإسلام المجاهد العظيم عمّار بن ياسر ، وقد حزن عليه الإمام كأشدّ ما يكون الحزن ، وكذلك استشهد غيره من أعلام الإسلام وكان لفقدهم أثر كبير في انهيار الجيش العراقي .
هزيمة معاوية
وبدا الانكسار في جيش ابن هند وكاد أصحابه يبلغون فسطاطه ، وهمّ بالفرار إلاّ أنّه
الصفحة (151)
تذكر قول ابن الإطنابة :
أبت لي عفّتي وحياءُ نفسي وإقدامي على البطلِ المشيحِ
وإعطائي على المكروهِ مالي وأخذي الحمدَ بالثمنِ الربيحِ
وقولي كلّما جشأت وجاشتْ مكانك تحمدي أو تستريحي
فردّه هذا الشعر إلى الثبات وعدم الهزيمة كما كان يتحدّث بذلك أيام العافية .
مكيدة رفع المصاحف
ولم تكن مكيدة رفع المصاحف وليدة الساعة , ولم تأت عفواً ، وإنّما كانت نتيجة مؤامرة سرّية بين عمرو بن العاص وبعض قادة الجيش العراقي , وعلى رأسهم الخائن العميل الأشعث بن قيس . لقد رفع أهل الشام المصاحف على أطراف الرماح وهم يدعون الجيش العراقي إلى تحكيم كتاب الله ، فاندفعت كتائب من عسكر الإمام (عليه السّلام) وهم يهتفون : لقد أعطى معاوية الحقّ ؛ دعاك إلى كتاب الله فاقبل منه .
لقد استجاب لهذه الدعوة الكاذبة السذّج , والسائمون من الحرب , والطامعون في الحكم , وعملاء الحكم الاُموي ، وجعل الأشعث بن قيس يشتدّ كالكلب رافعاً صوته ليُسمع الجيش : ما أرى الناس إلاّ قد رضوا ، وسرّهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن ، فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد .
وأخذ الأشعث يلحّ على الإمام (عليه السّلام) وهو يمتنع من إجابته وكثرة إلحاحه ، وقد استجابت له فرق من الجيش فلم يجد الإمام بُدّاً من إجابته ، فمضى مسرعاً نحو معاوية فقال له : لأي شيء رفعتم هذه المصاحف ؟
الصفحة (152)
والأشعث يعلم لِمَ رفعوا المصاحف ولاذوا بها , فأجابه معاوية : لنرجع نحن وأنتم إلى أمر الله عزّ وجلّ في كتابه ؛ تبعثون منكم رجلاً ترضون به ونبعث منّا رجلاً ، ثمّ نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ، ثم نتّبع ما اتّفقنا عليه .
وهل ابن هند يؤمن بكتاب الله ويتّبع ما حكم به ؟! أوَليس خروجه على السلطة الشرعيّة مجافية لتعاليم القرآن ؟!
وعلى أيّ حال , فقد انبرى الخائن الأشعث يصدّق مقالة معاوية قائلاً : هذا هو الحقّ .
وانبرى الإمام (عليه السّلام) فزيّف دعوة التحكيم ، وعرّف الجماهير أنّها خدعة ومكيدة ، وأنّ معاوية وحزبه لا يؤمنون بالقرآن ، وأنّهم على ضلالهم القديم .
وأصرّ جيش الإمام على الاستجابة لدعوة معاوية , وهدّدوه بالقتل إن رفض ما أرادوه ؛ فاستجاب (عليه السّلام) مرغماً مكرهاً على ذلك ، وقد أشرفت بعض قطعات جيشه بقيادة الزعيم الكبير مالك الأشتر على الفتح ، ولم يبقَ بينها وبين القبض على معاوية إلاّ مقدار حلبة شاة ، فطلب منه الإمام (عليه السّلام) في تلك الساعة الحرجة أن يسحب الجيش ويوقف القتال ، فلم يستجب أوّلاً إلى ذلك ، فأمره الإمام (عليه السّلام) ثانياً بالانسحاب ؛ لأنّ جيشه قد أحاط به وأعلنوا العصيان وهدّدوه بالقتل ، فاستجاب الأشتر وانسحب عن ميدان القتال .
وعلى أيّ حال , فقد أوقف القتال ، وكان ذلك فوزاً ساحقاً لمعاوية ؛ فقد سلم من الخطر المحدق به ، ومُني جيش الإمام بالتمرّد والعصيان ، وشاعت في جميع قطعاته التفرقة والخلاف .
انتخاب الأشعري
وأصرّ المتمرّدون على انتخاب الأشعري ليكون ممثلاً للجيش العراقي ، فرفض
الصفحة (153)
الإمام ذلك ورشّح عبد الله بن عباس أو مالك الأشتر فلم يستجيبوا له وأرغموه ثانياً على انتخابه فخلّى بينهم وبين رغباتهم ، وقد ذابت نفسه أسى وحسرات على ذلك ؛ فقد أيقن بانتهاء حكومته وفوز معاوية بالحكم .
وانتخب الشاميون عمرو بن العاص ممثّلاً لهم ، وهو أدهى سياسي في ذلك العصر ، وبذلك فقد عُقدت هدنة مؤقتة راح فيها معاوية يبني جيشه ويُصلح شؤونه . وأمّا جيش الإمام فقد مُني بالتفكّك والانحلال والتخاذل ، وانتشرت في جميع قطعاته الفكرة الهدّامة , وهي فكرة الخوارج كما سنتحدّث عن ذلك .
اجتماع الحكمين
وأوفد معاوية إلى الإمام (عليه السّلام) رسله يستنجزه الوفاء بالتحكيم ، وإنّما طلب منه ذلك لعلمه بما اُصيب به جيش الإمام من التخاذل والفتن والانحلال ، وأجابه الإمام إلى ذلك ؛ فأوفد أربعمئة رجل عليهم شريح بن هانئ الحارثي وهو من أجلّ أصحاب الإمام ، كما كان معهم عبد الله بن عباس حبر الاُمّة ، ومعهم قاضي التحكيم الخامل الغبي أبو موسى الأشعري , فأرشاه ابن العاص بالولائم , وقابله بمزيد من الحفاوة والتكريم ليجعله طوع إرادته ، وقد اتّفق معه على أن يعزل كل صاحبه ويرشّحا عبد الله بن عمر .
وقدّم ابن العاص الأشعري فاعتلى المنبر فخلع عليّاً عن منصبه , وكذلك خلع معاوية ورشّح ابن عمر ، وقام بعده ابن العاص فأقرّ صاحبه وخلع عليّاً . ولمّا أعلن ابن العاص خلعه لعليّ وإقامته لمعاوية انطلق صوبه الأشعري فقال له : ما لك عليك لعنة الله ؟! ما أنت إلاّ كمثل الكلب تلهث . فصاح ابن العاص : لكنّك مثل الحمار يحمل أسفاراً .
نعم ، هما كلب وحمار ، وهرب الأشعري إلى مكة يصحب معه الخزي والعار
الصفحة (154)
بعدما أحدث الفتنة والانشقاق بين جيش الإمام (عليه السّلام) ، وقد أكثر شعراء ذلك العصر في ذمّه . يقول فيه أيمن بن خزيم الأسدي :
لـو كانَ للقومِ رأيٌ يعصمونَ بهِ مـن الضلالِ رموكم بابنِ عباسِ
لـلـهِ درّ أبـيـهِ أيّـما رجـلٍ ما مثلهُ لفصالِ الخطبِ في الناسِ
لـكن رموكم بشيخٍ من ذوي يمنٍ لم يدرِ ما ضرب أخماسٍ بأسداسِ
إن يـخلُ عمرو به يقذفهُ في لججٍ يـهوي بهِ النجمُ تيساً بين أتياسِ
أبـلغ لـديكَ عـلياً غـير عاتبه قولَ امرئ لا يرى بالحقِّ من باسِ
مـا الأشـعري بمأمونٍ أبا حسنٍ فاعلم هُديتَ وليس العجزُ كالراسِ
فـاصدم بصاحبكَ الأدنى زعيمهمُ إنّ ابـنَ عـمِّكَ عباسٌ هو الآسي
لقد امتحن الإمام (عليه السّلام) كأشدّ وأقسى ما يكون الامتحان بهؤلاء الأوغاد الذين وقفوا أمام الإصلاح الاجتماعي ، ومكّنوا الظالمين والمنحرفين من الاستبداد باُمور المسلمين .
فتنة الخوارج
وتمرّد الخوارج على الإمام (عليه السّلام) وألزموا بأمر التحكيم ، وهم الذين أرغموه على ذلك وهدّدوه بالقتل إن لم يوقف القتال مع معاوية ، وأخذوا يعيثون في الأرض فساداً ؛ فقد رحلوا عن الكوفة وعسكروا في النهروان ، فاجتاز عليهم الصحابي الجليل عبد الله بن خبّاب بن الأرت فأحاطوا به قائلين : مَنْ أنت ؟
ـ رجل مؤمن .
ـ ما تقول في عليّ بن أبي طالب ؟
ـ إنّه أمير المؤمنين ، وأوّل المسلمين إيماناً بالله ورسوله .
ـ ما اسمك ؟
الصفحة (155)
ـ عبد الله بن خباب بن الأرت صاحب رسول الله .
ـ أفزعناك ؟
ـ نعم .
ـ لا روع عليك , حدّثنا عن أبيك بحديث سمعه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعلّ الله أن ينفعنا به .
ـ نعم ، حدّثني عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : (( ستكون فتنة بعدي يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه ، يُمسي مؤمناً ويُصبح كافراً )) .
فهتفوا جميعاً : لهذا الحديث سألناك , والله لنقتلنّك قتلة ما قتلنا بمثلها أحداً . وعمدوا مصرّين على الغيّ والعدوان , فأوثقوه كتافاً وأقبلوا به وبامرأته ، وكانت حبلى قد أشرفت على الولادة ، فأنزلوهما تحت نخل , فسقطت رطبة منها , فبادر بعضهم إليها فوضعها في فيه ، فأقبل إليه بعضهم منكراً عليه قائلاً : بغير حلّ أكلتها ! فألقاها بالوقت من فيه .
واخترط بعضهم سيفه فضرب به خنزيراً لأهل الذمّة فقتله ، فصاح به بعضهم : إنّ هذا من الفساد في الأرض ! فبادر الرجل إلى الذمّي فأرضاه ، ولمّا نظر عبد الله بن خباب احتياط هؤلاء في هذه الاُمور سكن روعه , وقال لهم : لئن كنتم صادقين فيما أرى ما عليَّ منكم بأس ؛ ووالله ما أحدثت حدثاً في الإسلام ، وإنّي لمؤمن , وقد آمنتموني وقلتم لا روع عليك .
فلم يعنَ هؤلاء الأخباث الذين هم صفحة خزي وعار على البشرية ، فجاؤوا به وبامرأته فأضجعوه على شفير النهر و ووضعوه على ذلك الخنزير الذي قتلوه , ثمّ ذبحوه ، وأقبلوا على امرأته وهي ترتعد من الخوف , فقالت لهم مسترحمة :
الصفحة (156)
إنّما أنا امرأة ، أما تتّقون الله ؟
فلم يعنوا باسترحامها , وأقبلوا عليها كالكلاب فقتلوها وبقروا بطنها ، وانعطفوا على ثلاث نسوة فقتلوهنّ ، وفيهنّ اُمّ سنان الصيداوية , وكانت قد صحبت النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ولم يقف شرّ هؤلاء الأرجاس عند هذا الحدّ ، وإنّما أخذوا يذيعون الذعر وينشرون القتل والفساد في الأرض .
واقعة النهروان
وبعدما أعلن الخوارج تمرّدهم على حكومة الإمام (عليه السّلام) ، ورفعوا شعارهم ( لا حكم إلاّ لله ) , ولكنّه لم يعد في جميع تصرفاتهم وشؤونهم ظلاً وواقعاً لهذا الشعار ؛ فقد كان شعارهم الحقيقي لا حكم إلاّ للسيف والفساد .
ولمّا أراد الإمام (عليه السّلام) الخروج إلى محاربة معاوية ، وعبّأ أصحابه وجنوده لذلك ، أشار عليه بعض أصحابه بمناجزة الخوارج ؛ فإنّ خطرهم أعظم من خطر معاوية ، وإنّهم إذا نزحوا من الكوفة يُحدثون القتل والدمار فيها .
فاستصوب الإمام (عليه السّلام) رأيهم , وتحرّكت قوات الإمام لقتالهم ، وقبل أن تندلع نار الحرب وجّه الإمام (عليه السّلام) إليهم الحارث بن مرّة يطلب منهم قتلة عبد الله بن خباب ليقتصّ منهم , فأجابوا جميعاً : إنّا كلّنا قتلناهم ، وكلّنا مستحلّ لدمائكم ودمائهم .
وأقبل الإمام (عليه السّلام) بنفسه فوجّه لهم خطاباً رائعاً يدعوهم فيه إلى الطاعة ورفض التمرّد ، فلم يفهموا خطاب الإمام ونصيحته ، وطلبوا منه أن يشهد على نفسه بالكفر ويتوب إلى الله تعالى على قبوله للتحكيم ، فامتنع الإمام من إجابتهم ؛ فإنّه لم يقترف أيّ ذنب في أمر التحكيم , وإنّما هم أرغموه على ذلك .
ولمّا يئس الإمام (عليه السّلام) من إرجاعهم إلى الحقّ عبّأ جنوده لحربهم ، وفعل الخوارج مثل ذلك ، وهتف بعضهم :