بسم الله الرحمن الرحيم
معنى طول الأمل ومرجعه ـ علاجه ـ ضده قصر الأمل ـ اختلاف الناس في طول الأمل ـ ذكر الموت مقصر للامل ـ التعجب ممن ينسى الموت ـ الموت اعظم الدواهي ـ مراتب الناس في ذكر الموت. وهو أن يقدر ويعتقد بقاءه إلى مدة متمادية، مع رغبته في جميع توابع البقاء: من المال والاهل والدار وغير ذلك، وهو من رذائل قوتي العاقلة والشهوة، إذ الاعتقاد المذكور راجع إلى الجهل المتعلق بالعاقلة، وحبه لجميع توابع البقاء وميله إليه من شعب حب الدنيا. وجهله راجع إلى تعويله: إما على شبابه، فيستبعد قرب الموت مع الشباب، ولا يتفكر المسكين في ان مشايخ بلده لو عدوا لكانوا اقل من عشر عشير أهل البلد، وانما قلوا لأن الموت في الشباب اكثر، وإلى ان يموت شيخ يموت ألف صبي وشاب، أو على صحته وقوته. ويستبعد مجيء الموت فجأة، ولا يتأمل في أن ذلك غير بعيد، ولو سلم بعده فالمرض فجأة غير بعيد، إذ كل مرض انما يقع فجأة، وإذا مرض لم يكن الموت بعيداً. ولو تفكر هذا الغافل، وعلم أن الموت ليس له وقت مخصوص، من شباب وشيب وكهولة، ومن شتاء وخريف وصيف وربيع، وليل ونهار، وحضر وسفر، لكان دائماً مستشعراً غير غافل عنه، وعظم اشتغاله بالاستعداد له، لكن الجهل بهذه الأمور وحب الدنيا بعثاه على الغفلة وطول الأمل، فهو أبداً يظن أن الموت بين يديه، ولا يقدر نزوله ووقوعه فيه. ويشيع الجنائز ولا يقدر ان تشيع جنازته، لأن هذا قد تكرر عليه، والفه بتكرر مشاهدة موت غيره. وأما موت نفسه، فلم يألفه ولا يتصور أن يألفه، لانه لم يقع، وإذا وقع لا يقع دفعة أخرى بعده، فهو الأول وهو الآخر!.
واما حبه لتوابع البقاء: من المال والدار والمراكب والضياع والعقار، فراجع إلى الانس بها والالتذاذ بها في مدة مديدة، فيثقل على قلبه مفارقتها، فيمنع قلبه عن التفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، إذ كل من كره شيئاً يدفعه عن نفسه. والإنسان لما كان مشغوفاً بالاماني الباطلة، وبالدنيا وشهواتها ولذاتها وعلائقها، فتتمنى نفسه أبداً ما يوافق مراده، ومراده البقاء في الدنيا، فلا يزال يتوهمه ويقرره في نفسه، ويقدر توابع البقاء من أسباب الدنيا، فيصير قلبه عاكفاً على هذا الفكر موقوفاً عليه، فيلهو عن ذكر الموت ولا يقدر قربه، فان خطر له في بعض الاحيان أمر الموت والحاجة إلى الاستعداد له، سوف ووعد نفسه إلى ان يكبر فيتوب. وإذا كبر اخر التوبة إلى ان يصير شيخاً، وإذا صار شيخاً يؤخرها إلى أن يفرغ من عمارة هذه الضيعة أو يرجع من سفر كذا أو يفرغ من تدبير هذا الولد وجهازه وتدبير مسكن له. ولا يزال يسوف ويؤخر إلى ان يخطفه الموت في وقت لا يحتسبه، فتعظم عند ذلك بليته وتطول حسرته، وقد ورد ان اكثر أهل النار صياحهم من سوف، يقولون واحزناه من سوف! والمسوف المسكين لا يدري ان الذي يدعوه إلى التسويف اليوم هو معه غداً، وانما يزداد بطول المدة قوة ورسوخاً، إذ الخائض في الدنيا لا يتصور له الفراغ منها قط، إذ ما قضى من اخذ منها لبانته، وانما فرغ منها من اطرحها.