بسم الله الرحمن الرحيم
قال بعض العارفين: ارباب القلوب و المشاهدات قد انطق الله في حقهم كل ذرة في الارض و السماوات بقدرته التي انطق بها كل شىء، حتى سمعوا تقديسها و تسبيحها و شهادتها على نفسها بالعجز، بلسان الواقع الذى هو ليس بعربي و لا اعجمي و ليس فيه حرف و صوت، و لا يسمعه احد الا بالسمع العقلى الملكوتى دون السمع الظاهر الحسى الناسوتى، و هذا النطق الذى لكل ذرة من الارض و السماوات مع ارباب القلوب انما هو (مناجاة السر) ، و ذلك مما لا ينحصر و لا يتناهى، فانها كلمات تستعد (31) من بحر كلام الله الذى لا نهاية له:«قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحرقبل ان تنفد كلمات ربي و لو جئنا بمثله مددا» (32) .ثم انها لما كانت مناجية باسرار الملك و الملكوت، و ليس كل احد موضعا للسر، بل صدور الاحرار قبور الاسرار، فاختصت مناجاتها بالاحرار من ارباب القلوب. و هم ايضا لا يحكون هذه الاسرار لغيرهم، اذ افشاء السر لؤم و هل رايت قط امينا على اسرار الملك قد نوجى بخفاياه فينادى بها على الملا من الخلق، و لو جاز افشاء كل سر لما نهى النبي-صلى الله عليه و آله و سلم-عن افشاء سر القدر، و لما خص امير المؤمنين (ع) ببعض الاسرار، و لما قال-صلى الله عليه و آله و سلم-: «لو تعلمون ما اعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا» بل كان يذكر لهم ذلك حتى يبكون و لا يضحكون.فاذن عن حكايات مناجاة ذرات الملك و الملكوت لقلوب ارباب المشاهدة مانعان: (احدهما) المنع عن افشاء السر، (ثانيهما) خروج كلماتها عن الحصر و النهاية. و نحن نحكي في فعل الكتابة قدرا يسيرا من مناجاة بعض ما يرى اسبابا و وسائط، و اقرارها بالعجز على انفسها، ليقاس عليه جميع الافعال الصادرة عن جميع الاسباب و الوسائط المسخرة تحت قدرة الله، و يفهم به على الاجمال كيفية ابتناء التوكل عليه، و نرد لضرورة التفهم كلماتها الملكوتية الى الحروف و الاصوات، و ان لم تكن اصواتا و حروفا، فنقول:قال بعض الناظرين عن مشكاة نور الله للكاغد، و قد راى وجهه اسود بالحبر: «لم سودت وجهك و قد كان ابيض مشرقا؟ » .فقال: «ما سودت وجهي، و انما سوده الحبر، فاساله لم فعل كذا؟ » .فسال الحبر عن ذلك، فقال: «هذا السؤال على القلم الذى اخرجنى من مستقرى ظلما» .فسال القلم، فاحاله الى اليد و الاصابع، و هي الى القدرة و القوة، و هي الى الارادة، معترفا كل واحد منهم بعجز نفسه، و بكونه مقهورا مسخرا تحت قهر المحال عليه من دون استطاعة لمخالفته.و لما سال الارادة، قالت: «ما انتهضتبنفسي، بل بعثت على اشخاص.القدرة و انهاضها، و بحكم رسول قاهر ورد علي من حضرة القلب بلسان العقل، و هذا الرسول هو العلم، فالسؤال عن انتهاضى يتوجه على العقل و القلب و العلم» .و لما سالها قال (العقل) : «اما انا فسراج ما اشتعلتبنفسي و لكنى اشعلت» .و قال (القلب) : «اما انا فلوح ما انبسطتبنفسي و لكنى بسطت» .و قال (العلم) : «اما انا فنقش نقشت في لوح القلب لما اشرق سراج العقل، و ما نتقشتبنفسي بل نقشنى غيرى، فسل القلم الذى نقشني و رسمنى على لوح القلب بعد اشتعال سراج العقل» .و عند هذا تحير السائل و قال: «ما هذا القلم و هذا اللوح و هذا الخط و هذا السراج؟ فانى لا اعلم قلما الا من القصب، و لا لوحا الا من الحديد او الخشب، و لا خطا الا بالحبر، و لا سراجا الا من النار. و انى لاسمع في هذا المنزل حديث اللوح و القلم و الخط و السراج، و لا اشاهد من ذلك شيئا» فقال له (العلم) : «فاذن بضاعتك مزجاة، و زادك قليل، و مركبك ضعيف، و المهالك في الطريق الذى توجهت اليه كثيرة، فان كنت راغبا في استتمام الطريق الى المقصد، فاعلم ان العوالم في طريقك ثلاثة: (اولها) عالم الملك و الشهادة، و لقد كان الكاغد و الحبر و القلم و اليد و الاصابع من هذا العالم، و قد جاوزت تلك المنازل على سهولة، (و ثانيها) عالم الملكوت الاسفل و هو يشبه السفينة التي بين الارض و الماء، فلا هى حد اضطراب الماء، و لا هي في حد سكون الارض و ثباتها، و القدرة و الارادة و العلم من منازل هذا العالم. (و ثالثها) عالم الملكوت الاعلى، و هو من ورائى، فاذا جاوزتنى انتهيت الى منازله. و اول منازله القلم الذى يكتب به العلم على لوح القلب و في هذا العالم المهامه الفسيحة و الجبال الشاهقة و البحار المغرقة» .فقال له السائل السالك: «قد تحيرت في امرى و لست ادرى انى اقدر على قطع هذا الطريق المخوف ام لا، فهل لذلك علامة اعرف بها تمكنى على قطع هذا الطريق؟ » .فقال: «نعم! افتح بصرك، و اجمع ضوء عينك و حدقه نحوى، فان ظهر لك القلم الذي به يكتب في لوح القلب، فيشبه ان تكون اهلا لهذا الطريق، فان كل من جاوز الملكوت الاسفل و قرع اول باب من الملكوت الاعلى كوشف بالقلم. اما ترى النبي-صلى الله عليه و آله و سلم-كوشف به و انزل عليه قوله تعالى:«اقرا باسم ربك الذي خلق. . . » الى قوله: «اقرا و ربكالاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم» (33) .و هذا القلم قلم الهي ليس بقصب و لا خشب. او ما سمعت ان متاع البيتيشبه رب البيت؟ و قد علمت ان الله تعالى لا تشبه ذاته سائر الذوات فليس في ذاته بجسم و لا هو في مكان، فكذلك لا تشبه يده سائر الايدى، و لا قلمه سائر الاقلام، و لا كلامه سائر الكلام، و لا خطه سائر الخطوط.بل هذه امور الهية من عالم الملكوت الاعلى، فليستيده من لحم و عظم و دم، و لا قلمه من قصب، و لا لوحه من خشب، و لا كلامه من صوت و حرف، و لا خطه من نقش و رسم و رقم، و لا حبره من زاج و عفص. فان كنت لا تشاهد هذا هكذا فانت من اهل التشبيه و التجسم و ما عرفت ربك اذ لو نزهت ذاته تعالى و صفاته عن ذات الاجسام و صفاتها و نزهت كلامه عن الحروف و الاصوات، فما بالك تتوقف في يده و قلمه و لوحه و خطه، و لا تنزهها عن الجسمية و التشبيه بغيرها؟ » .فلما سمع السائل السالك من العلم ذلك، استشعر قصور نفسه و فتح بصر بصيرته، بعد الابتهال الى ربه، فانكشف له القلم الالهي، فاذا هو كما وصفه العلم، ما هو من خشب و لا قصب، و لا له راس و لا ذنب، و هو يكتب على الدوام في قلوب البشر اصناف العلم، فشكر العلم و ودعه، و سافر الى حضرة القلم الالهي، و قال له:«ايها القلم! ما لك تخط على الدوام في القلوب من العلوم ما تبعثبه الارادات الى انهاض القدرة و اشخاصها و صرفها الى المقدورات؟ » .فقال له (القلم الالهي) : «ا فنسيت ما رايت في عالم الملك و سمعته من جواب القلم الآدمي حيث احالك الى اليد؟ فجوابي مثل جوابه، فانى مسخر تحتيد الله تعالى الملقبة: (يمين الملك) ، فاساله عن شانى فانى في قبضته و هو الذى يرددني، و انا مقهور مسخر، فلا فرق بين القلم الالهي و القلم الآدمى في معنى التسخير، و انما الفرق في ظاهر الصورة» .فقال السائل: «من يمين الملك؟ » .قال القلم: «اما سمعت قوله تعالى:«و السموات مطويات بيمينه؟ » (34) » .قال: «نعم! سمعته» .قال: «و الاقلام ايضا في قبضته و هو الذي يرددها» .فسافر السائل من عند القلم الى اليمين، حتى شاهده، و راى من عجائبه ما يزيد على عجائب القلم، و راى انه يمين لا كالايمان، و يدلا كالايدى، و اصبع لا كالاصابع، فراى القلم متحركا في قبضته، فساله عن سبب تحريكه القلم فقال: «جوابي ما سمعته من اليمين التى رايتها في عالم الشهادة، و هوالحوالة على القدرة، اذ اليد لا حكم لها في نفسها، و انما محركها القدرة» .فسافر الى عالم القدرة و راى فيها من العجائب ما استحقر لاجلها ما قبلها فسالها عن سبب تحريكها اليمين.فقالت: «انما انا صفة فاسال القادر، اذ العهدة على الموصوف دون الصفة» .و عند هذا كاد ان يزيغ قلب السائل، و ينطلق بالجراة لسان السؤال، فثبتبالقول الثابت و نودي من وراء سرادقات الحضرة:«لا يسال عما يفعل و هم يسالون» (35) .فغشيته دهشة الحضرة، فخر صعقا في غشيته مدة، فلما افاق قال:«سبحانك! ما اعظم شانك و اعز سلطانك، تبت اليك و توكلت عليك، و آمنتبانك الملك الجبار الواحد القهار، فلا اخاف غيرك و لا ارجو سواك و لا اعوذ الا بعفوك من عقابك، و برضاك من سخطك، و ما لى الا ان اسالك و اتضرع اليك، و اقول:« (اشرح لي صدري) » لا عرفك، « (و احلل عقدة من لساني) » (36) لاثنى عليك.فنودى من وراء الحجاب: «اياك ان تطمع في الثناء، فان سيد الانبياء -صلى الله عليه و آله و سلم-ما زاد في هذه الحضرة على ان قال: (سبحانك لا اثنى ثناء عليك كما انت اثنيت على نفسك) . و اياك ان تطمع في المعرفة فان سيد الاوصياء قال: (العجز عن ادرك الادراك ادراك، و الفحص عن سر ذات السر اشراك) . فيكفيك نصيبا من حضرتنا انك عاجز عن ملاحظة جلالنا و جمالنا، و قاصر عن ادراك دقائق حكمنا و افعالنا» .فعند هذا رجع السائل السالك، و اعتذر عن اسئلته و معاتبته، و قال للقدرة و اليمين و القلم و العلم و الارادة و القدرة و ما بعدها: «اقبلوا عذرى فانى كنت غريبا جديد العهد بالدخول في هذه البلاد. و الآن قد صح عندى عذركم و انكشف لى ان المتفرد بالملك و الملكوت و العزة و الجبروت هو الواحد القهار و ما انتم الا مسخرون تحت قهره و قدرته، مرددون في قبضته، و هو الاول بالاضافة الى الوجود، اذ صدر منه الكل على ترتيبه واحدا بعد واحد، و هو الآخر بالاضافة الى سير المسافرين اليه، فانهم لا يزالون مترقين من منزل الى منزل الى ان يقع الانتهاء الى حضرته، فهو اول في الوجود و آخر في المشاهدة و هو الظاهر بالاضافة الى من يطلبه بالسراج الذى اشتعل في قلبه بالبصيرة الباطنة النافذة في عالم الملكوت، و هو الباطن بالاضافة الى العاكفين في عالم الشهادة الطالبين لادراكه بالحواس» .و هذا هو التوحيد في الفعل للسالكين، الذين انكشف لهم وحدة الفاعل بالمشاهدة و استماع كلام ذرات الملك و الملكوت، و هو موقوف على الايمان بعالم الملكوت و التمكن من المسافرة اليه و استماع الكلام من اهله. و من كان اجنبيا من هذا العالم و لم يكن له استعداد الوصول اليه و لم يمكنه ان يسلك السبيل الذى ذكرناه، فينبغى ان يرد مثله الى التوحيد الاعتقادى الذي يوجد في عالم الشهادة، و هو ان يعلم ببعض الادلة وحدة الفاعل، مثل ان يقال له: ان كل احد يعلم ان المنزل يفسد بصاحبين و البلد يفسد باميرين، فاله العالم و مدبره واحد، اذ:«لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا» (37)فيكون ذلك على ذوق ما رآه في عالم الشهادة، فينغرس اعتقاد التوحيد في قلبه بهذا الطريق بقدر عقله و استعداده، و قد كلفوا الانبياء ان يكلموا الناس على قدر عقولهم.ثم الحق ان هذا التوحيد الاعتقادي اذا قوى يصلح ان يكون عمادا للتوكل و اصلا فيه، اذ الاعتقاد اذ قوى عمل عمل الكشف في اثارة الاحوال الا انه في الغالب يضعف و يتسارع اليه الاضطراب، فيحتاج الى من يحرسه بكلامه، و اما الذي شاهد الطريق و سلكه بنفسه، فلا يخاف عليه شيء من ذلك، بل لو كشف له الغطاء لما ازداد يقينا و ان كان يزداد وضوحا.(تنبيه) اعلم ان ما يبتني عليه التوحيد المذكور، اعني كون جميع الاشياء من الاسباب و الوسائط مقهورات مسخرات تحت القدرة الازلية ظاهر. و سائر ما اوردنا في هذا المقام مما ذكره ابو حامد الغزالي و تبعه بعض اصحابنا «و لا اشكال فيه الا في افعال الانسان و حركاته» (38) . فان البديهة تشهد بثبوت نوع اختيار له، لانه يتحرك ان شاء و يسكن ان شاء، مع انه لو كان مسخرا مقهورا في جميع افعاله و حركاته، لزم الجبر و لم يصح التكليف و الثواب و العقاب. و لتحقيق هذه المسالة موضع آخر، و لا يليق ذكرها هنا.و الحق ان كل ما قيل فيها لا يخلو عن قصور و نقصان، و الاولى فيها السكوت و التادب
بآداب الشرع .