فصاحة الامام علي عليه السلام و بلاغته
و كان شديدا، قاصفا، مزمجرا، كالرعد في ليالي الويل!
و الينبوع هو الينبوع لا حساب في جريه لليل أو نهار!
من تتبع سير العظماء الحقيقيين في التاريخ لا فرق بين شرقي منهم أو غربي،و لا قديم و محدث،أدرك ظاهرة لا تخفى و هي أنهم،على اختلاف ميادينهم الفكرية و على تباين مذاهبهم في موضوعات النشاط الذهني،أدباء موهوبون على تفاوت في القوة و الضعف.
فهم بين منتج خلاق،و متذوق قريب التذوق من الإنتاج و الخلق.حتى لكأن الحسالأدبي،بواسع دنيواته و معانيه و أشكاله،يلزم كل موهبة خارقة في كل لون من ألوانالنشاط العظيم!
فنظرة واحدة الى الأنبياء،مثلا،تكفي لتقرير هذه الظاهرة في الأذهان.فماداود و سليمان و أشعيا و أرميا و أيوب و المسيح و محمد إلا أدباء أوتوا من الموهبة الأدبيةما أوتوا من سائر المواهب الخاصة بهم.و هذا نابوليون القائد،و أفلاطون الفيلسوف،و باسكال الرياضي،و باستور العالم الطبيعي،و الخيام الحسابي،و نهرو رجل الدولة،و ديغول السياسي،و ابن خلدون المؤرخ،إنهم جميعهم أدباء لهم في الأدب ما يجعلهم فيمصاف ذوي الشأن من أهله.فلكل منهم لون من ألوان النشاط الفكري حدده الطبعو الموهبة،ثم رعت النزعة الجمالية ما دخل منه في نطاق التعبير،فإذا هو من الأدب الخالص.
هذه الحقيقة تتركز جلية واضحة في شخصية علي بن أبي طالب،فإذا هو الإمام في الأدب،كما هو الإمام في ما أثبت من حقوق و في ما علم و هدى،و آيته في ذلك«نهج البلاغة»الذييقوم في أسس البلاغة العرب في ما يلي القرآن من أسس،و تتصل به أساليب العرب في نحوثلاثة عشر قرنا فتبني على بنائه و تقتبس منه و يحيا جيدها في نطاق من بيانه الساحر.
أما البيان فقد وصل علي سابقه بلاحقه،فضم روائع البيان الجاهلي الصافي المتحدبالفطرة السليمة اتحادا مباشرا،الى البيان الإسلامي الصافي المهذب المتحد بالفطرة السليمةو المنطق القوي اتحادا لا يجوز فيه فصل العناصر بعضها عن بعض.فكان له من بلاغةالجاهلية،و من سحر البيان النبوي،ما حدا بعضهم إلى أن يقول في كلامه إنه«دونكلام الخالق و فوق كلام المخلوق» .
و لا عجب في ذلك،فقد تهيأت لعلي جميع الوسائل التي تعده لهذا المكان بين أهلالبلاغة .فقد نشأ في المحيط الذي تسلم فيه الفطرة و تصفو،ثم إنه عايش أحكم الناسمحمد بن عبد الله،و تلقى من النبي رسالته بكل ما فيها من حرارة و قوة.أضف الى ذلكاستعداداته الهائلة و مواهبه العظيمة،فإذا بأسباب التفوق تجتمع لديه من الفطرة و من البيئةجميعا!
أما الذكاء،الذكاء المفرط،فتلقى له في كل عبارة من«نهج البلاغة»عملا عظيما.
و هو ذكاء حي،قادر،واسع،عميق،لا تفوته أغوار.إذا هو عمل في موضوع أحاطبه بعدا فما يفلت منه جانب و لا يظلم منه كثير أو قليل،و غاص عليه عمقا،و قلبهتقليبا،و عركه عركا،و أدرك منه أخفى الأسباب و أمعنها في الاختفاء كما أدرك أصدقالنتائج المترتبة على تلك الأسباب :ما قرب منها أشد القرب،و ما بعد أقصى البعد.
و من شروط الذكاء العلوي النادر هذا التسلسل المنطقي الذي تراه في النهج أني اتجهت.
و هذا التماسك بين الفكرة و الفكرة حتى تكون كل منها نتيجة طبيعية لما قبلها و علة لمابعدها .ثم إن هذه الأفكار لا تجد فيها ما يستغنى عنه في الموضوع الذي يبحث فيه.بلإنك لا تجد فيها ما يستقيم البحث بدونه.و هو،لاتساع مداه،لا يستخدم لفظا إلا و فيهذا اللفظ ما يدعوك لأن تتأمل و تمعن في التأمل،و لا عبارة إلا و تفتح أمام النظر آفاقاوراءها آفاق .
فعن أي رحب وسيع من مسالك التأمل و النظر يكشف لك قوله:«الناس أعداءما جهلوا»أو قوله :«قيمة كل امرىء ما يحسنه».أو«الفجور دار حصن ذليل!».و أي إيجاز معجز هو هذا الايجاز :«من تخفف لحق!»و أي جليل من المعنى في العباراتالأربع و ما تحويه من ألفاظ قلائل فصلت تفصيلا،بل قل أنزلت تنزيلا!
ثم عن أي حدة في الذكاء و استيعاب للموضوع و عمق في الإدراك،يشف هذا الكشفالعجيب عن طبع الحاسد و صفة نفسه و حقيقة حاله:«ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم منالحاسد:نفس دائم و قلب هائم و حزن لازم.مغتاظ على من لا ذنب له،بخيل بما لايملك!»و يستمر تولد الأفكار في«نهج البلاغة»من الأفكار،فإذا أنت منها أمام حشد لا ينتهي.
و هي مع ذلك لا تتراكم،بل تتساوق و يترتب بعضها على بعض.و لا فرق في ذلك بين مايكتبه علي و ما يلقيه ارتجالا.فالينبوع هو الينبوع و لا حساب في جريه لليل أو نهار.
ففي خطبه المرتجلة معجزات من الأفكار المضبوطة بضابط العقل الحكيم و المنطق القويم.
و إنك لتدهش،أمام هذا المقدار من الإحكام و الضبط العظيمين،حين تعلم أن عليا لم يكنليعد خطبه و لو قبيل إلقائها بدقائق أو لحظات.
فهي جائشة في ذهنه منطلقة على لسانه عفو الخاطر لا عنت و لا إجهاد،كالبرق إذ يلمعو لا خبر يأخذه أو يعطيه قبل وميضه.و كالصاعقة إذ تزمجز و لا تهيء نفسها لصعق أو زمجرة .
و كالريح إذ تهب فتلوي و تميل و تكسح و تنصب على غاية ثم إلى مداورها تعود و لا يدفعهاإلى أن تروح و تجيء إلا قانون الحادثة و منطق المناسبة في حدودها القائمة،لا قبل و لا بعد !
و من مظاهر الذكاء الضابط القوي في نهج البلاغة تلك الحدود التي كان علي يضبط بهابها عواطف الحزن العميق إذ تهيج في نفسه و تعصف.فإن عاطفته الشديدة ما تكاد تغرقه فيمحيط من الأحزان و الكآبات البعيدة،حتى يبرز سلطان العقل في جلاء و مضاء،فإذا هوآمر مطاع .
و من ذكاء علي المفرط الشامل في نهجه كذلك أنه نوع البحث و الوصف فأحكم في كلموضوع و لم يقصر جهده الفكري على واحد من الموضوعات أو سبل البحث.فهو يتحدثبمنطق الحكيم الخبير عن أحوال الدنيا و شؤون الناس،و طبائع الافراد و الجماعات.و هويصف البرق و الرعد و الأرض و السماء.و يسهب في القول في مظاهر الطبيعة الحية فيصفخفايا الخلق في الخفاش و النملة و الطاووس و الجرادة و ما إليها.و يضع للمجتمع دساتيرو للأخلاق قوانين.و يبدع في التحدث عن خلق الكون و روائع الوجود.و إنك لا تجد فيالأدب العربي كله هذا المقدار الذي تجده في نهج البلاغة من روائع الفكر السليم و المنطقالمحكم،في مثل هذا الأسلوب النادر.
أما الخيال في نهج البلاغة فمديد وسيع،خفاق الجوانح في كل أفق.و بفضل هذاالخيال القوي الذي حرم منه كثير من حكماء العصور و مفكري الأمم،كان علي يأخذمن ذكائه و تجاربه المعاني الموضوعية الخالصة،ثم يطلقها زاهية متحركة في إطار تثبتعلى جنباته ألوان الجمال على أروع ما يكون اللون.فالمعنى مهما كان عقليا جافا،لا يمرفي مخيلة علي إلا و تنبت له أجنحة تقضي فيه على صفة الجمود و تمده بالحركة و الحياة.
فخيال علي نموذج للخيال العبقري الذي يقوم على أساس من الواقع،فيحيط بهذا الواقعو يبرزه و يجليه،و يجعل له امتدادات من معدنه و طبيعته،و يصبغه بألوان كثيرة من مادتهو لونه،فإذا الحقيقة تزداد وضوحا،و إذا بطالبها يقع عليها أو تقع عليه!
و قد تميز علي بقوة ملاحظة نادرة،ثم بذاكرة واعية تخزن و تتسع.و قد مر من أطوارحياته بعواطف جرها عليه حقد الحاقدين و مكر الماكرين،و مر منها كذلك بعواطف كريمةأحاطه بها وفاء الطيبين و إخلاص المخلصين.فتيسرت له من ذلك جميعا عناصر قوية تغذيخياله المبدع .فإذا بها تتعاون في خدمة هذا الخيال و تتساوق في لوحات رائعة حية،شديدةالروعة و الحيوية،تتركز على واقعية صافية تمتد لها فروع و أغصان،ذات أوراق و أثمار!
و من ثم يمكنك،إذا أنت شئت،أن تحول عناصر الخيال القوي في نهج البلاغة الىرسوم مخطوطة باللون،لشدة واقعيتها و اتساع مجالها و امتداد أجنحتها و بروز خطوطها.أ لاما أروع خيال الإمام إذ يخاطب أهل البصرة و كان بنفسه ألم منهم بعد موقعة الجمل،قائلا:
«لتغرقن بلدتكم حتى كأنني أنظر الى مسجدها كجؤجؤ طير في لجة بحر (1) !»أو في مثل هذا التشبيه الساحر:«فتن كقطع الليل المظلم».
أو هذه الصورة المتحركة:«و إنما أنا كقطب الرحى:تدور علي و أنا بمكاني!»أو هذه اللوحة ذات الجلال التي يشبه فيها امتدادات بيوت أهل البصرة بخراطيم الفيلة،و تبدو له شرفاتهن كأنها أجنحة النسور:«ويل لسكككم العامرة،و الدور المزخرفة التيلها أجنحة كأجنحة النسور و خراطيم كخراطيم الفيلة!»
و من مزايا الخيال الرحب قوة التمثيل.و التمثيل في أدب الإمام وجه ساطع بالحياة.و إنشئت مثلا على ذلك فانظر في حال صاحب السلطان الذي يغبطه الناس و يتمنون ما هو فيه منحال،و لكنه أعلم بموضعه من الخوف و الحذر،فهو و إن أخاف بمركوبه إلا أنه يخشىأن يغتاله.ثم انظر بعد ذلك الى علي كيف يمثل هذا المعنى يقول:«صاحب السلطانكراكب الأسد:يغبط بموقعه،و هو أعلم بموضعه.»
و إن شئت مثلا آخر فاستمع اليه يمثل حالة رجل رآه يسعى على عدو له بما فيه إضراربنفسه،فيقول :«إنما أنت كالطاعن نفسه ليقتل ردفه!»و الردف هو الراكب خلفالراكب.ثم إليك هذا النهج الرائع في تمثيل صاحب الكذب:«إياك و مصادقة الكذابفإنه كالسراب:يقرب عليك البعيد و يبعد عنك القريب!»
أما النظرية الفنية القائلة بأن كل قبيح في الطبيعة يصبح جميلا في الفن،فهي إن صحتفإنما الدليل عليها قائم في كلام ابن أبي طالب في وصف من فارقوا الدنيا.فما أهول الموتو ما أبشع وجهه.و ما أروع كلام ابن أبي طالب فيه و ما أجمل وقعه.فهو قول آخذمن العاطفة العميقة نصيبا كثيرا،و من الخيال الخصب نصيبا أوفر.فإذا هو لوحة من لوحاتالفن العظيم لا تدانيها إلا لوحات عباقرة الفنون في أوروبا ساعة صوروا الموت و هولهلونا و نغما و شعرا.
فبعد أن يذكر علي الأحياء بالموت و يقيم العلاقة بينهم و بينه،يوقظهم على أنهم دانونمن منزل الوحشة بقول فيه من الغربة القاسية لون قائم و نغم حزين:«فكأن كل امرىءمنكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته،فيا له من بيت وحدة،و منزل وحشة،و مفردغربة!»ثم يهزهم بما هم مسرعون إليه و لا يدرون،بعبارات متقطعة متلاحقة و كأن فيهادوي طبول تنذر تقول«ما أسرع الساعات في اليوم،و أسرع الأيام في الشهر،و أسرعالشهور في السنة،و أسرع السنين في العمر !»بعد ذلك يطلق في أذهانهم هذه الصورةالرائعة التي يأمر بها العقل،و تشعلها العاطفة،و يجسم الخيال الوثاب عناصرها ثم يعطيهاهذه الحركات المتتابعة و هي بين عيون تدمع و أصوات تنوح و جوارح تئن،قائلا:
«و إنما الأيام بينكم و بينهم بواك و نوائح عليكم».ثم يعود فيطلق لعاطفته و خيالهالعنان فإذا بهما يبدعان هذه اللوحة الخالدة من لوحات الشعر الحي:
«و لكنهم سقوا كأسا بدلتهم بالنطق خرسا،و بالسمع صمما،و بالحركات سكونا.
فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات (2) !.
جيران لا يتآنسون،و أحباء لا يتزاورون،بليت بينهم عرى التعارف،و انقطعت منهم أسباب الإخاء .فكلهم وحيد و همجميع،و بجانب الهجر و هم أخلاء،لا يتعارفون لليل صباحا،و لا لنهار مساء .أيالجديدين (3) ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا (4) ».
ثم يقول هذا القول الرهيب:«لا يعرفون من أتاهم،و لا يحفلون من بكاهم،و لا يجيبونمن دعاهم!»
فهل رأيت الى هذا الإبداع في تصوير هول الموت و وحشة القبر و صفة سكانه فيقوله:«جيران لا يتآنسون و أحباء لا يتزاورون!»ثم هل فطنت إلى هذه الصورة الرهيبةلأبدية الموت التي لا ترسمها إلا عبقرية علي:«أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا!»
و مثل هذه الروائع في«النهج»كثير.
هذا الذكاء الخارق و هذا الخيال الخصب في أدب الإمام يتحدان اتحاد الطبيعة بالطبيعة،مع العاطفة الهادرة التي تمدهما بوهج الحياة.فإذا الفكرة تتحرك و تجري في عروقها الدماءسخية حارة.و إذا بها تخاطب فيك الشعور بمقدار ما تخاطب العقل لانطلاقها من عقلتمده العاطفة بالدفء.و قد يصعب على المرء أن يعجب بأثر من آثار الفكر أو الخيال فيميادين الأدب و سائر الفنون الرفيعة،إن لم تكن للعاطفة مشاركة فعالة في إنتاج هذاالأثر.ذلك ان المركب الإنساني لا يرضيه،طبيعيا،إلا ما كان نتاجا لهذا المركبكله.و هذا الأثر الأدبي الكامل،هو ما نراه في نهج البلاغة.و إنك لتحس نفسك مندفعافي تيار جارف من حرارة العاطفة و انت تسير في نهج البلاغة من مكان إلى آخر.
أ فلا يشيع في قلبك الحنان و العطف شيوعا و أنت تصغي إلى علي يقول:«لو أحبني جبللتهافت»أو«فقد الأحبة غربة!»أو«اللهم إني أستعديك على قريش،فإنهم قد قطعوارحمي و أكفأوا إنائي،و قالوا :«أ لا إن في الحق أن تأخذه و في الحق أن تمنعه،فاصبرمغموما أو مت متأسفا!فنظرت فإذا ليس لي رافد و لا ذاب و لا مساعد إلا أهل بيتي!»و اليك كلاما له عند دفن السيدة فاطمة،يخاطب به ابن عمه الرسول:
«السلام عليك يا رسول الله عني و عن ابنتك النازلة في جوارك،و السريعة اللحاق بك!
قل،يا رسول الله،عن صفيتك صبري،و رق عنها تجلدي،إلا أن لي في التأسيبعظيم فرقتك و فادح مصيبتك موضع تعز!»و منه«أما حزني فسرمد،و أما ليليفمسهد،إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم!»ثم إليك هذا الخبر:
روى أحدهم عن نوف البكالي بصدد إحدى خطب الإمام علي قال:
خطبنا هذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين عليه السلام،و هو قائم على حجارةنصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي،و عليه مدرعة من صوف،و حمائل سيفه ليف،و فيرجليه نعلان من ليف،فقال عليه السلام،في جملة ما قال:
«ألا إنه أدبر من الدنيا ما كان مقبلا،و أقبل منها ما كان مدبرا.و أزمع الترحال عبادالله الأخيار،و باعوا قليلا من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى!ما ضر إخوانناالذين سفكت دماؤهم و هم بصفين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص،و يشربونالرنق؟!قد،و الله،لقوا الله فوفاهم أجورهم و أحلهم دار الأمن بعد خوفهم!أينإخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحق؟أين عمار؟و أين ابن التيهان؟و أين ذوالشهادتين؟و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النية؟»قال:ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة فأطال البكاء!
و أخبر ضرار بن حمزة الضابىء قال:فأشهد لقد رأيتهـيقصد الإمامـفي بعضمواقفه،و قد أرخى الليل سدوله و هو قائم في ظلامه قابض على لحيته يتململ و يبكي بكاءالحزين و يقول:«يا دنيا يا دنيا،اليك عني!أ بي تعرضت؟أم إلي تشوقت؟لا حانحينك،هيهات!غري غيري،لا حاجة لي فيك،قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها!
فعيشك قصير،و خطرك يسير،و أملك حقير!آه من قلة الزاد و طول الطريق و بعدالسفر و عظيم المورد!»
هذه العاطفة الحارة التي عرفها الإمام في حياته،تواكبه أني اتجه في نهج البلاغة،و حيث سار.تواكبه في ما يحمل على الغضب و السخط،كما تواكبه في ما يثير العطف و الرضا.
حتى إذا رأى تخاذل أنصاره عن مساندة الحق فيما يناصر الآخرون الباطل و يحيطونهبالسلاح و بالأرواح،تألم و شكا،و وبخ و أنب،و كان شديدا قاصفا،مزمجرا،كالرعد في ليالي الويل !و يكفيك أن تقرأ خطبة الجهاد التي تبدأ بقوله:«أيها الناس المجتمعةأبدانهم،المختلفة أهواؤهم،كلامكم يوهي الصم الصلاب الخ»،لتدرك أية عاطفةمتوجعة ثائرة هي تلك التي تمد هذه الخطبة بنبض الحياة و جيشانها!
و إنه لمن المعيي أن نسوق الأمثلة على تدفق العاطفة الحية التي تبث الدفء في مآثر الإمام .
فهي في أعماله،و في خطبه و أقواله،مقياس من المقاييس الأسس.و ما عليك إلاأن تفتح هذا الكتاب،كي تقف على ألوان من عاطفة ابن أبي طالب،ذات القوة الدافقة و العمق العميق!
و كان شديدا، قاصفا، مزمجرا، كالرعد في ليالي الويل!
و الينبوع هو الينبوع لا حساب في جريه لليل أو نهار!
من تتبع سير العظماء الحقيقيين في التاريخ لا فرق بين شرقي منهم أو غربي،و لا قديم و محدث،أدرك ظاهرة لا تخفى و هي أنهم،على اختلاف ميادينهم الفكرية و على تباين مذاهبهم في موضوعات النشاط الذهني،أدباء موهوبون على تفاوت في القوة و الضعف.
فهم بين منتج خلاق،و متذوق قريب التذوق من الإنتاج و الخلق.حتى لكأن الحسالأدبي،بواسع دنيواته و معانيه و أشكاله،يلزم كل موهبة خارقة في كل لون من ألوانالنشاط العظيم!
فنظرة واحدة الى الأنبياء،مثلا،تكفي لتقرير هذه الظاهرة في الأذهان.فماداود و سليمان و أشعيا و أرميا و أيوب و المسيح و محمد إلا أدباء أوتوا من الموهبة الأدبيةما أوتوا من سائر المواهب الخاصة بهم.و هذا نابوليون القائد،و أفلاطون الفيلسوف،و باسكال الرياضي،و باستور العالم الطبيعي،و الخيام الحسابي،و نهرو رجل الدولة،و ديغول السياسي،و ابن خلدون المؤرخ،إنهم جميعهم أدباء لهم في الأدب ما يجعلهم فيمصاف ذوي الشأن من أهله.فلكل منهم لون من ألوان النشاط الفكري حدده الطبعو الموهبة،ثم رعت النزعة الجمالية ما دخل منه في نطاق التعبير،فإذا هو من الأدب الخالص.
هذه الحقيقة تتركز جلية واضحة في شخصية علي بن أبي طالب،فإذا هو الإمام في الأدب،كما هو الإمام في ما أثبت من حقوق و في ما علم و هدى،و آيته في ذلك«نهج البلاغة»الذييقوم في أسس البلاغة العرب في ما يلي القرآن من أسس،و تتصل به أساليب العرب في نحوثلاثة عشر قرنا فتبني على بنائه و تقتبس منه و يحيا جيدها في نطاق من بيانه الساحر.
أما البيان فقد وصل علي سابقه بلاحقه،فضم روائع البيان الجاهلي الصافي المتحدبالفطرة السليمة اتحادا مباشرا،الى البيان الإسلامي الصافي المهذب المتحد بالفطرة السليمةو المنطق القوي اتحادا لا يجوز فيه فصل العناصر بعضها عن بعض.فكان له من بلاغةالجاهلية،و من سحر البيان النبوي،ما حدا بعضهم إلى أن يقول في كلامه إنه«دونكلام الخالق و فوق كلام المخلوق» .
و لا عجب في ذلك،فقد تهيأت لعلي جميع الوسائل التي تعده لهذا المكان بين أهلالبلاغة .فقد نشأ في المحيط الذي تسلم فيه الفطرة و تصفو،ثم إنه عايش أحكم الناسمحمد بن عبد الله،و تلقى من النبي رسالته بكل ما فيها من حرارة و قوة.أضف الى ذلكاستعداداته الهائلة و مواهبه العظيمة،فإذا بأسباب التفوق تجتمع لديه من الفطرة و من البيئةجميعا!
أما الذكاء،الذكاء المفرط،فتلقى له في كل عبارة من«نهج البلاغة»عملا عظيما.
و هو ذكاء حي،قادر،واسع،عميق،لا تفوته أغوار.إذا هو عمل في موضوع أحاطبه بعدا فما يفلت منه جانب و لا يظلم منه كثير أو قليل،و غاص عليه عمقا،و قلبهتقليبا،و عركه عركا،و أدرك منه أخفى الأسباب و أمعنها في الاختفاء كما أدرك أصدقالنتائج المترتبة على تلك الأسباب :ما قرب منها أشد القرب،و ما بعد أقصى البعد.
و من شروط الذكاء العلوي النادر هذا التسلسل المنطقي الذي تراه في النهج أني اتجهت.
و هذا التماسك بين الفكرة و الفكرة حتى تكون كل منها نتيجة طبيعية لما قبلها و علة لمابعدها .ثم إن هذه الأفكار لا تجد فيها ما يستغنى عنه في الموضوع الذي يبحث فيه.بلإنك لا تجد فيها ما يستقيم البحث بدونه.و هو،لاتساع مداه،لا يستخدم لفظا إلا و فيهذا اللفظ ما يدعوك لأن تتأمل و تمعن في التأمل،و لا عبارة إلا و تفتح أمام النظر آفاقاوراءها آفاق .
فعن أي رحب وسيع من مسالك التأمل و النظر يكشف لك قوله:«الناس أعداءما جهلوا»أو قوله :«قيمة كل امرىء ما يحسنه».أو«الفجور دار حصن ذليل!».و أي إيجاز معجز هو هذا الايجاز :«من تخفف لحق!»و أي جليل من المعنى في العباراتالأربع و ما تحويه من ألفاظ قلائل فصلت تفصيلا،بل قل أنزلت تنزيلا!
ثم عن أي حدة في الذكاء و استيعاب للموضوع و عمق في الإدراك،يشف هذا الكشفالعجيب عن طبع الحاسد و صفة نفسه و حقيقة حاله:«ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم منالحاسد:نفس دائم و قلب هائم و حزن لازم.مغتاظ على من لا ذنب له،بخيل بما لايملك!»و يستمر تولد الأفكار في«نهج البلاغة»من الأفكار،فإذا أنت منها أمام حشد لا ينتهي.
و هي مع ذلك لا تتراكم،بل تتساوق و يترتب بعضها على بعض.و لا فرق في ذلك بين مايكتبه علي و ما يلقيه ارتجالا.فالينبوع هو الينبوع و لا حساب في جريه لليل أو نهار.
ففي خطبه المرتجلة معجزات من الأفكار المضبوطة بضابط العقل الحكيم و المنطق القويم.
و إنك لتدهش،أمام هذا المقدار من الإحكام و الضبط العظيمين،حين تعلم أن عليا لم يكنليعد خطبه و لو قبيل إلقائها بدقائق أو لحظات.
فهي جائشة في ذهنه منطلقة على لسانه عفو الخاطر لا عنت و لا إجهاد،كالبرق إذ يلمعو لا خبر يأخذه أو يعطيه قبل وميضه.و كالصاعقة إذ تزمجز و لا تهيء نفسها لصعق أو زمجرة .
و كالريح إذ تهب فتلوي و تميل و تكسح و تنصب على غاية ثم إلى مداورها تعود و لا يدفعهاإلى أن تروح و تجيء إلا قانون الحادثة و منطق المناسبة في حدودها القائمة،لا قبل و لا بعد !
و من مظاهر الذكاء الضابط القوي في نهج البلاغة تلك الحدود التي كان علي يضبط بهابها عواطف الحزن العميق إذ تهيج في نفسه و تعصف.فإن عاطفته الشديدة ما تكاد تغرقه فيمحيط من الأحزان و الكآبات البعيدة،حتى يبرز سلطان العقل في جلاء و مضاء،فإذا هوآمر مطاع .
و من ذكاء علي المفرط الشامل في نهجه كذلك أنه نوع البحث و الوصف فأحكم في كلموضوع و لم يقصر جهده الفكري على واحد من الموضوعات أو سبل البحث.فهو يتحدثبمنطق الحكيم الخبير عن أحوال الدنيا و شؤون الناس،و طبائع الافراد و الجماعات.و هويصف البرق و الرعد و الأرض و السماء.و يسهب في القول في مظاهر الطبيعة الحية فيصفخفايا الخلق في الخفاش و النملة و الطاووس و الجرادة و ما إليها.و يضع للمجتمع دساتيرو للأخلاق قوانين.و يبدع في التحدث عن خلق الكون و روائع الوجود.و إنك لا تجد فيالأدب العربي كله هذا المقدار الذي تجده في نهج البلاغة من روائع الفكر السليم و المنطقالمحكم،في مثل هذا الأسلوب النادر.
أما الخيال في نهج البلاغة فمديد وسيع،خفاق الجوانح في كل أفق.و بفضل هذاالخيال القوي الذي حرم منه كثير من حكماء العصور و مفكري الأمم،كان علي يأخذمن ذكائه و تجاربه المعاني الموضوعية الخالصة،ثم يطلقها زاهية متحركة في إطار تثبتعلى جنباته ألوان الجمال على أروع ما يكون اللون.فالمعنى مهما كان عقليا جافا،لا يمرفي مخيلة علي إلا و تنبت له أجنحة تقضي فيه على صفة الجمود و تمده بالحركة و الحياة.
فخيال علي نموذج للخيال العبقري الذي يقوم على أساس من الواقع،فيحيط بهذا الواقعو يبرزه و يجليه،و يجعل له امتدادات من معدنه و طبيعته،و يصبغه بألوان كثيرة من مادتهو لونه،فإذا الحقيقة تزداد وضوحا،و إذا بطالبها يقع عليها أو تقع عليه!
و قد تميز علي بقوة ملاحظة نادرة،ثم بذاكرة واعية تخزن و تتسع.و قد مر من أطوارحياته بعواطف جرها عليه حقد الحاقدين و مكر الماكرين،و مر منها كذلك بعواطف كريمةأحاطه بها وفاء الطيبين و إخلاص المخلصين.فتيسرت له من ذلك جميعا عناصر قوية تغذيخياله المبدع .فإذا بها تتعاون في خدمة هذا الخيال و تتساوق في لوحات رائعة حية،شديدةالروعة و الحيوية،تتركز على واقعية صافية تمتد لها فروع و أغصان،ذات أوراق و أثمار!
و من ثم يمكنك،إذا أنت شئت،أن تحول عناصر الخيال القوي في نهج البلاغة الىرسوم مخطوطة باللون،لشدة واقعيتها و اتساع مجالها و امتداد أجنحتها و بروز خطوطها.أ لاما أروع خيال الإمام إذ يخاطب أهل البصرة و كان بنفسه ألم منهم بعد موقعة الجمل،قائلا:
«لتغرقن بلدتكم حتى كأنني أنظر الى مسجدها كجؤجؤ طير في لجة بحر (1) !»أو في مثل هذا التشبيه الساحر:«فتن كقطع الليل المظلم».
أو هذه الصورة المتحركة:«و إنما أنا كقطب الرحى:تدور علي و أنا بمكاني!»أو هذه اللوحة ذات الجلال التي يشبه فيها امتدادات بيوت أهل البصرة بخراطيم الفيلة،و تبدو له شرفاتهن كأنها أجنحة النسور:«ويل لسكككم العامرة،و الدور المزخرفة التيلها أجنحة كأجنحة النسور و خراطيم كخراطيم الفيلة!»
و من مزايا الخيال الرحب قوة التمثيل.و التمثيل في أدب الإمام وجه ساطع بالحياة.و إنشئت مثلا على ذلك فانظر في حال صاحب السلطان الذي يغبطه الناس و يتمنون ما هو فيه منحال،و لكنه أعلم بموضعه من الخوف و الحذر،فهو و إن أخاف بمركوبه إلا أنه يخشىأن يغتاله.ثم انظر بعد ذلك الى علي كيف يمثل هذا المعنى يقول:«صاحب السلطانكراكب الأسد:يغبط بموقعه،و هو أعلم بموضعه.»
و إن شئت مثلا آخر فاستمع اليه يمثل حالة رجل رآه يسعى على عدو له بما فيه إضراربنفسه،فيقول :«إنما أنت كالطاعن نفسه ليقتل ردفه!»و الردف هو الراكب خلفالراكب.ثم إليك هذا النهج الرائع في تمثيل صاحب الكذب:«إياك و مصادقة الكذابفإنه كالسراب:يقرب عليك البعيد و يبعد عنك القريب!»
أما النظرية الفنية القائلة بأن كل قبيح في الطبيعة يصبح جميلا في الفن،فهي إن صحتفإنما الدليل عليها قائم في كلام ابن أبي طالب في وصف من فارقوا الدنيا.فما أهول الموتو ما أبشع وجهه.و ما أروع كلام ابن أبي طالب فيه و ما أجمل وقعه.فهو قول آخذمن العاطفة العميقة نصيبا كثيرا،و من الخيال الخصب نصيبا أوفر.فإذا هو لوحة من لوحاتالفن العظيم لا تدانيها إلا لوحات عباقرة الفنون في أوروبا ساعة صوروا الموت و هولهلونا و نغما و شعرا.
فبعد أن يذكر علي الأحياء بالموت و يقيم العلاقة بينهم و بينه،يوقظهم على أنهم دانونمن منزل الوحشة بقول فيه من الغربة القاسية لون قائم و نغم حزين:«فكأن كل امرىءمنكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته،فيا له من بيت وحدة،و منزل وحشة،و مفردغربة!»ثم يهزهم بما هم مسرعون إليه و لا يدرون،بعبارات متقطعة متلاحقة و كأن فيهادوي طبول تنذر تقول«ما أسرع الساعات في اليوم،و أسرع الأيام في الشهر،و أسرعالشهور في السنة،و أسرع السنين في العمر !»بعد ذلك يطلق في أذهانهم هذه الصورةالرائعة التي يأمر بها العقل،و تشعلها العاطفة،و يجسم الخيال الوثاب عناصرها ثم يعطيهاهذه الحركات المتتابعة و هي بين عيون تدمع و أصوات تنوح و جوارح تئن،قائلا:
«و إنما الأيام بينكم و بينهم بواك و نوائح عليكم».ثم يعود فيطلق لعاطفته و خيالهالعنان فإذا بهما يبدعان هذه اللوحة الخالدة من لوحات الشعر الحي:
«و لكنهم سقوا كأسا بدلتهم بالنطق خرسا،و بالسمع صمما،و بالحركات سكونا.
فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات (2) !.
جيران لا يتآنسون،و أحباء لا يتزاورون،بليت بينهم عرى التعارف،و انقطعت منهم أسباب الإخاء .فكلهم وحيد و همجميع،و بجانب الهجر و هم أخلاء،لا يتعارفون لليل صباحا،و لا لنهار مساء .أيالجديدين (3) ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا (4) ».
ثم يقول هذا القول الرهيب:«لا يعرفون من أتاهم،و لا يحفلون من بكاهم،و لا يجيبونمن دعاهم!»
فهل رأيت الى هذا الإبداع في تصوير هول الموت و وحشة القبر و صفة سكانه فيقوله:«جيران لا يتآنسون و أحباء لا يتزاورون!»ثم هل فطنت إلى هذه الصورة الرهيبةلأبدية الموت التي لا ترسمها إلا عبقرية علي:«أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا!»
و مثل هذه الروائع في«النهج»كثير.
هذا الذكاء الخارق و هذا الخيال الخصب في أدب الإمام يتحدان اتحاد الطبيعة بالطبيعة،مع العاطفة الهادرة التي تمدهما بوهج الحياة.فإذا الفكرة تتحرك و تجري في عروقها الدماءسخية حارة.و إذا بها تخاطب فيك الشعور بمقدار ما تخاطب العقل لانطلاقها من عقلتمده العاطفة بالدفء.و قد يصعب على المرء أن يعجب بأثر من آثار الفكر أو الخيال فيميادين الأدب و سائر الفنون الرفيعة،إن لم تكن للعاطفة مشاركة فعالة في إنتاج هذاالأثر.ذلك ان المركب الإنساني لا يرضيه،طبيعيا،إلا ما كان نتاجا لهذا المركبكله.و هذا الأثر الأدبي الكامل،هو ما نراه في نهج البلاغة.و إنك لتحس نفسك مندفعافي تيار جارف من حرارة العاطفة و انت تسير في نهج البلاغة من مكان إلى آخر.
أ فلا يشيع في قلبك الحنان و العطف شيوعا و أنت تصغي إلى علي يقول:«لو أحبني جبللتهافت»أو«فقد الأحبة غربة!»أو«اللهم إني أستعديك على قريش،فإنهم قد قطعوارحمي و أكفأوا إنائي،و قالوا :«أ لا إن في الحق أن تأخذه و في الحق أن تمنعه،فاصبرمغموما أو مت متأسفا!فنظرت فإذا ليس لي رافد و لا ذاب و لا مساعد إلا أهل بيتي!»و اليك كلاما له عند دفن السيدة فاطمة،يخاطب به ابن عمه الرسول:
«السلام عليك يا رسول الله عني و عن ابنتك النازلة في جوارك،و السريعة اللحاق بك!
قل،يا رسول الله،عن صفيتك صبري،و رق عنها تجلدي،إلا أن لي في التأسيبعظيم فرقتك و فادح مصيبتك موضع تعز!»و منه«أما حزني فسرمد،و أما ليليفمسهد،إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم!»ثم إليك هذا الخبر:
روى أحدهم عن نوف البكالي بصدد إحدى خطب الإمام علي قال:
خطبنا هذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين عليه السلام،و هو قائم على حجارةنصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي،و عليه مدرعة من صوف،و حمائل سيفه ليف،و فيرجليه نعلان من ليف،فقال عليه السلام،في جملة ما قال:
«ألا إنه أدبر من الدنيا ما كان مقبلا،و أقبل منها ما كان مدبرا.و أزمع الترحال عبادالله الأخيار،و باعوا قليلا من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى!ما ضر إخوانناالذين سفكت دماؤهم و هم بصفين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص،و يشربونالرنق؟!قد،و الله،لقوا الله فوفاهم أجورهم و أحلهم دار الأمن بعد خوفهم!أينإخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحق؟أين عمار؟و أين ابن التيهان؟و أين ذوالشهادتين؟و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النية؟»قال:ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة فأطال البكاء!
و أخبر ضرار بن حمزة الضابىء قال:فأشهد لقد رأيتهـيقصد الإمامـفي بعضمواقفه،و قد أرخى الليل سدوله و هو قائم في ظلامه قابض على لحيته يتململ و يبكي بكاءالحزين و يقول:«يا دنيا يا دنيا،اليك عني!أ بي تعرضت؟أم إلي تشوقت؟لا حانحينك،هيهات!غري غيري،لا حاجة لي فيك،قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها!
فعيشك قصير،و خطرك يسير،و أملك حقير!آه من قلة الزاد و طول الطريق و بعدالسفر و عظيم المورد!»
هذه العاطفة الحارة التي عرفها الإمام في حياته،تواكبه أني اتجه في نهج البلاغة،و حيث سار.تواكبه في ما يحمل على الغضب و السخط،كما تواكبه في ما يثير العطف و الرضا.
حتى إذا رأى تخاذل أنصاره عن مساندة الحق فيما يناصر الآخرون الباطل و يحيطونهبالسلاح و بالأرواح،تألم و شكا،و وبخ و أنب،و كان شديدا قاصفا،مزمجرا،كالرعد في ليالي الويل !و يكفيك أن تقرأ خطبة الجهاد التي تبدأ بقوله:«أيها الناس المجتمعةأبدانهم،المختلفة أهواؤهم،كلامكم يوهي الصم الصلاب الخ»،لتدرك أية عاطفةمتوجعة ثائرة هي تلك التي تمد هذه الخطبة بنبض الحياة و جيشانها!
و إنه لمن المعيي أن نسوق الأمثلة على تدفق العاطفة الحية التي تبث الدفء في مآثر الإمام .
فهي في أعماله،و في خطبه و أقواله،مقياس من المقاييس الأسس.و ما عليك إلاأن تفتح هذا الكتاب،كي تقف على ألوان من عاطفة ابن أبي طالب،ذات القوة الدافقة و العمق العميق!