بسم الله الرحمن الرحيم
{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي}
{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي}
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
القسم الثاني المبني على الضم:
بعد الانتهاء من القسم الاول من الاسم المبني وهو المبني على الكسر نشرع في بيان القسم الثاني منه وهو المبني على الضم. وقد مثل المصنف لهذا القسم من المبني بـ(قبلُ و بعدُ وأخواتهما) وسيأتي بيان أخوات قبل وبعد في نهاية هذا المطلب. وتمثيل -المصنف- للمبني على الضم بـ(قبلُ وبعدُ) إنما هو على بعض حالاتهما لان (قبلُ وبعدُ) لهما أربع حالات ثلاث منها تكونان معربتين وفي حالة واحدة تكونان مبنيتين على الضم وهي مورد التمثيل بهما للمبني على الضم.
وقبل بيان حالات (قبلُ وبعدُ) تفصيلاً نذكر مقدمتين:
المقدمة الأولى:
إن الإضافة لا تجتمع مع التنوين بمعنى إن الاسم إذا كان منونا نحو (جاء غلامٌ) فلا يمكن إضافته فلا يقال (جاء غلامٌ زيدٍ) والسبب في ذلك هو- كما قال المصنف في الجزء الثاني من الشرح في باب المجرور بالإضافة - (إن التنوين يدل على كمال الاسم والإضافة تدل على نقصانه ولا يكون الشيء كاملاً وناقصاً....).
المقدمة الثانية:
الاسم النكرة يتعرف إذا أضيف الى معرفة من المعارف نحو (كتابي وكتاب زيدٍ وكتاب هذا وكتاب الذي في الدار وكتاب الرجل) فكتاب نكرة صار معرفة بإضافته الى الضمير في الأول والى العلم في الثاني والى اسم الإشارة في الثالث والى الاسم الموصول في الرابع والى المعرف بأل في الخامس إذاً الإضافة تفيد التعريف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
بعد ذكر المقدمتين نأتي الى بيان حالات قبلُ وبعدُ:
لقبلُ وبعدُ أربع حالات وسنبين هذه الحالات بصيغة تختلف عن صيغة المصنف لها وصيغتنا لها إجمالا هي:
(قبلُ وبعدُ) اما ان يكونا مضافين او لا -أي يقطعا عن الاضافة- والشق الاول - وهو ان يكونا مضافين- فيه ثلاث حالات:
لان المضاف اليه اما ان يكون مصرحاً به - أي ملفوظ- او لا يصرح به - أي يكون محذوفا - وهذا الذي يكون محذوفا- اما ان ينوى لفظه بنصه الحرفي - اي انك تلاحظ لفظه المعين الدال عليه ويكون هذا اللفظ هو مقصودا بذاته- - الحالة الثانية - او لا ينوى بلفظه بل الذي يكون منويا هو معناه - (ان انك تلاحظ معنى المضاف اليه من غير نظر الى لفظ معين يدل عليه بل يكون المقصود لك هو هذا المعنى مدلولا عليه بلفظِ أي لفظٍ بحيث يمكن لك ان تنوي كلمة اخرى تؤدي معنى ذلك المحذوف) - وهذه هي الحالة الثالثة - والشق الثاني- وهو القطع عن الاضافة - هو الحالة الرابعة-
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتفصيل الحالات هو كالتالي:
الحالة الاولى:
ان يكونا مضافين ويذكر المضاف اليه وحكمهما الاعرابي في هذه الحالة هو إما:
(النصب على الظرفية - الزمانية او المكانية - ) او (يكونا مجرورين بحرف الجر - مِن- دون غيرها من حروف الجر).
فمثال النصب على الظرفية الزمانية قوله تعالى {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} وقوله تعالى { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} (فقبل وبعد) في الآيتين مضافتين والمضاف اليه مصرح به وهو الضمير - هم - في الآية الاولى ولفظ الجلالة في الاية الثانية, فيقال في اعرابهما (ظرف زمان منصوب وعلامة نصبه الفتحة).
ومثال النصب على الظرفية المكانية قولك (داري قبلَ دارِ زيد) و (داري بعدَ دارِ زيد) فيعربان (ظرف مكان منصوب بالفتحة).
ومثال جرهما بـ(من)قوله تعالى {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } وقوله تعالى {مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} فقبل وبعد في الايتين (اسمان مجروران بمن).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
الحالة الثانية:
ان يكونا مضافين ايضا إلا ان المضاف إليه محذوف منوي - لفظه أي ان يكون ملتفتا اليه في الذهن وملحوظا فيه - بنصه وبنفس لفظه الحرفي وحكم قبلُ وبعدُ في هذه الحالة حكمهما في الحالة السابقة أي (اما النصب على الظرفية او الجر بمن).
فمثال النصب على الظرفية - في هذه الحالة- (جئتك قبلَ الظهرِ وبعدَ)أي (وبعد الظهر) فالمضاف اليه هنا محذوف لكنه منوي بلفظه.
ومثال الجر بمن (جئتك من قبلِ الظهرِ ومن بعدِ) أي(ومن بعد الظهر) فلا تقدر في المثالين المتقدمين غير لفظ (الظهر) وان كان ماتقدره يعطي نفس المعنى, لان المنوي هو لفظ المضاف اليه لا معناه.
ففي مثال النصب وهو (جئتك قبل الظهر وبعدَ) لاتنوي المضاف اليه مثلا(الزوال) أي زوال الشمس وان كان المعنى واحداً. ومن الأمثلة التي يحذف فيها المضاف اليه وينوى ثبوت لفظه هو قول الشاعر:
ومن قبلِ نادى كل مولى قرابة فما عطفت مولى عليه العواطف
أي ومن قبلِ ذلك نادى.... فالمضاف اليه هو اسم الاشارة - ذلك - محذوف لكنه قد نوي لفظه والمشار اليه هو كلامه قبل هذا البيت والذي يدل على وجود مضاف اليه محذوف هو جره (قبل) بدون تنوينها.
وفي هذه الحالة وكذلك الحالة الاولى لاينون (قبلُ وبعدُ) وذلك لانهما مضافين والاضافة لاتجتمع مع التنوين - كما هو واضح من المقدمة الاولى- وهذا ظاهر في الحالة الاولى للتصريح بالمضاف اليه.
واما في الحالة الثانية فانه وان كان المضاف اليه محذوف إلا انه قد نوي ثبوت لفظه والمنوي كالموجود فالاضافة متحققة فلا ينونان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
الحالة الثالثة:
ان يكونا مضافين ويحذف المضاف اليه ايضا الا انه ينوى معناه دون لفظه. بمعنى ان الملاحظ في هذه الحالة هو معنى المضاف اليه من دون نظر الى لفظ معين يدل عليه ويترتب على ذلك انه يمكنك ان تقدر أي كلمة تعطي معنى ذلك المحذوف.
وحكم (قبل وبعد) في هذه الحالة هو البناء على الضم وهي مع بنائها على الضم اما في محل نصب على الظرفية او في محل جر بـ(من).
فمثال البناء على الضم في محل نصب على الظرفية (عندما غربت الشمس جاء زيدٌ بعدُ) أي (بعد غروبها او بعد ذلك او أي كلمة اخرى تعطي هذا المعنى). فيكون اعراب (بعدُ) هنا ظرف زمان مبني على الضم في محل نصب.
ومن امثلة هذا النوع هو مايكثر وقوعه في الخطب والرسائل كقول امير المؤمنين في كتاب له (اما بعدُ, فانما مثل الدنيا مثل الحيةِ لين مسها قاتل سمها...............)(نهج البلاغة ج3 ص492)
ومثال بنائهما على الضم وهما في محل جر بـ(من) قوله تعالى {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم : 4]
وايضا نحو(طلعت الشمس وجاء زيد من بعدُ) أي (من بعد طلوعها او من بعد ذلك). وعلى هذه الحالة تكون - قبلُ وبعدُ- مثالاً للمبني على الضم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
الحالة الرابعة:
القطع عن الاضافة بمعنى يحذف المضاف اليه ولا ينوى شيء منه لا لفظه - كما في الحالة الثانية- ولا معناه - كما في الحالة الثالثة- وحكمهما الاعرابي في هذه الحالة هو كحكمِهما في الحالة الاولى والثانية (أي النصب على الظرفية او الخفض بمن).
فمثال النصب على الظرفية (جاء زيدٌ قبلاَ وبعداَ) ومثال الخفض بمن (جاء زيدٌ من قبلٍ ومن بعدٍ)
قال الشاعر(فساغ لي الشراب وكنت قبلاَ.....)
( فجاء الشاعر بقبل منصوبة منونة لانه قطعها عن الاضافة ولم ينوِ المضاف اليه لا لفظه ولا معناه بدليل انه نون (قبل) فلو كان ناويا للمضاف اليه لما صح تنوينه لان المنوي كالثابت والاضافة لا تجتمع مع التنوين كما ذكرناه ).
ــــــــــــــــ
الفرق بين هذه الحالة وبين الاولى والثانية :
حكم الحالات الثلاث - الاولى والثانية والرابعة - هو الاعراب نصبا على الظرفية او خفضا بمن فحكمهما من هذه الجهة واحد. إلا ان هناك فرقان بين - الحالة الاولى والثانية - من جهة وبين الحالة الرابعة من جهة اخرى.
الفرق الاول:
هو ان - قبل وبعد- في الحالة الاولى والثانية - بل وفي الحالة الثالثة ايضا- معرفتان بالاضافة (لفظا في الاولى وتقديرا في الثانية -لانه محذوف ومنوي لفظه والمنوي كالموجود كما ذكرنا لذلك عبرننا عنه بالتقدير-) والاضافة تفيد التعريف كما ذكرنا. واما في الحالة الرابعة فهما نكرتان لعدم الاضافة لفظا وتقديرا.
الفرق الثاني:
انهما - في الحالة الاولى والثانية بل وفي الحالة الثالثة ايضا- لا يلحقهما التنوين لاضافتهما. واما في هذه الحالة فينونان لانهما اسمان تامان - أي غير محتاجين الى المحذوف وهو المضاف اليه- وتنوينهما تنوين تمكين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنبيهات:
قبل ان ننهي الكلام عن هذا القسم من المبني لايفوتنا ان نذكر بعض التنبيهات المتعلقة بكلام المصنف:
التنبيه الاول:
ان - قبل وبعد- تعتبر من الظروف والظروف منها ما هو مختص بالزمان كـ(إذا وإذ) ومنها ما هو مختص بالمكان كـ(حيثُ وثَمَّ) ومنها ماهو مشترك بين الزمان والمكان وهو (قبل وبعد) كما ذكرنا في امثلة الحالة الاولى.
قال صاحب التصريح (..... ولايختصان - أي قبل وبعد- بالزمان فقد يكونان للمكان كقولك ( داري قبلَ دارك او بعدَها)(شرح التصريح على التوضيح ج2 ص50)
فلا يتوهم من كلام المصنف انهما لا يأتيان للمكان لانه لم يأتِ بأمثلتهما إلا وهما للزمان كما هو واضح لمن راجع الشرح.
التنبيه الثاني:
ذكر المصنف في قوله تعالى {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}[الروم : 4] ثلاث قراءات في كل قراءة من هذه القراءات تكون الاية مثالا لحالة معينة من الحالات المذكورة لـ(قبل وبعد):
القراءة الاولى:
{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلِ وَمِنْ بَعْدِ} بخفض - قبل وبعد- بـ(من) بدون تنوين وعليه تكون مثالا للحالة الثانية (حذف المضاف اليه ونية لفظه) وقدره المصنف -الغلَبِ- أي من قبل الغلب ومن بعده- والله العالم, وهذه القراءة هي قراءة الجحدري وهو احد القراء السبعة ولكن هذه القراءة غير مشهورة عنه فليست من القراءات السبع فهي شاذة.
القراءة الثانية:
{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلٍ وَمِنْ بَعْدٍ} بخفض - قبل وبعد- وتنوينهما فتكون مثالا للحالة الرابعة - القطع عن الإضافة لوجود التنوين فيهما-.
القراءة الثالثة:
{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} بضم - قبلُ وبعدُ- فتكون مثالا للحالة الثالثة - حذف المضاف إليه ونية معناه دون لفظه. وقال المصنف في الشذور(.....وقدره ابن يعيش على أن الأصل (من قبل كل شيء ومن بعده) انتهى- تقدير ابن يعيش- وقال بعده-وهذا المعنى حق إلا أن الأنسب للمقام أن يقدر (من قبل الغلب ومن بعده)- شذور الذهب ص 137-
وقدرها ابن مالك بـ(لله الأمر من قبل الحوادث ومن بعدها)(التسهيل ج3 ص 243) والله وحده العالم بالواقع...
وهذه القراءة هي قراءة القراء السبعة وعليها تقرأ هذه الآية في المصحف حاليا. والذي دعا المصنف الى تقدير الآية بـ(من قبل الغلب ومن بعده) هو ما قبل الآية وهو قوله تعالى {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ........ } [الروم].
التنبيه الثالث:
في قول المصنف (وأخواتهما) أي أخوات (قبل وبعد) والمراد من أخوات - قبل وبعد- أسماء الجهات الست وهي (الفوق والتحت واليمين والشمال والوراء والامام) وكل اسم يدل على جهة من هذه الجهات الست كالأعلى والأسفل والخلف وقدام فان الجهات وان كانت ستا لكن الأسماء التي تدل عليها أكثر من ذلك.
وجميع هذه الظروف يجري عليها التفصيل الذي ذكرناه في -قبل وبعد- فتعرب في ثلاث حالات وتبنى في حالة واحدة على الضم وهي إذا حذف المضاف إليه ونوي معناه.
فمثلا تقول (جاء الرجال وأبوك خلفُ أو أمامُ أو أولُ) وأنت تريد (خلفهم أو أمامهم أو أولهم) ولكن حذفت المضاف إليه -وهو الضمير الذي يعود على الرجال- ونويت معناه فبنيتها على الضم ومن أمثلة ذلك قول الشاعر:
لعمرك ما أدري واني لأوجلُ على أينا تعدو المنية أولُ
بضم - أولُ - على حذف المضاف إليه ونية معناه. والأصل أو الوقتين وذلك لان لكل منهما - الشاعر والمخاطب- وقتا يموت فيه يقدر احدهما سابقا ولا يعرف عدو المنية في أول الوقتين المقدرين لهما على أي الرجلين والمنية الموت (قاله الأزهري في شرح التصريح على التوضيح ج2 ص 52).
وكقول الشاعر أيضا:
إذا أنا لم أؤمن عليك ولم يكن لقاؤك إلا من وراءُ وراءُ.
بضم (الوراء الأولى) والثانية تأكيد مع تقدم حرف الجر - من- عليها فيدل ذلك على أنها مبنية على الضم لحذف المضاف إليه ونية معناه.
الى هنا انتهى بحثنا في المبني على الضم.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين