بسم الله الرحمن الرحيم
جاء في مقدمة الطبعة الثانية من كتاب فقه اللغة الثعالبي:
ان هناك فروق أساسية بين النحو وما يفهم الآن من اصطلاح " فقه اللغة ":
1- النحو من شأنه أن يسجل ما هو صحيح أو غير صحيح في اللغة ما هو جائز وما هو غير جائز فيَبني اللغة على قواعد تساعد على تعلمها . مثلا الحرف " إنَّ " يجب أن يتلوه الإسم منصوبا فإن استعملته بعده مرفوعا أو مجرورا فهذا خطأ فالنحو علم تطبيقي قبل كل شيء يعلمنا الصحيح .
أما " فقه اللغة " فهو علم نظري بحت لا يبحث في اللغة من حيث الصحة أو عدمها بل يشرح أطوار الحياة اللغوية . إذاً فميدان فقه اللغة أوسع من ميدان البحث النحوي إذ كان النحو لا يقنع إلا بما اصطُلِحَ عليه بالصحيح.
2- " فقه اللغة " يجتهد في تدوين قواعد وقوانين اللغة لعلها غير قواعد النحو وقوانينه فقواعد النحو لها قيمتها العملية أو التعليمية
أما " فقه اللغة " فيجتهد أن يكشف قوانين نظرية هي أشمل وأعم كما أنه يجتهد في تدوين ما هو القاعدة اللغوية وإلى أي حد يمكن تطبيقها ويفسر الأسباب التي دعت اللغة إلى اختيار صيغة من الصيغ أو بنية أو تركيب دون غيره وما العوامل التي تدعو اللغة إلى اتباع ما نسميه قواعد ؟
يرى مثلا أن جمع التكسير يستعمل معه الفعل مؤنثا فلا يكتفي بهذا الإثبات بل يفسر لنا لماذا كان هذا ؟ وما القواعد النفسية التي اقتضته . واللغة المصرية تبدل همزة من القاف في مثل قال فلماذا كان ذلك ؟ إذاً فالنحو يقتصر على القاعدة اللغوية أما فقه اللغة فيعلل.
3 - وفرق آخر هو أن النحو يقتصر في عمله على لغة واحدة أما فقه اللغة فهو يقابل ويقارن لغة بلغة لا من حيث قرابة اللغات بعضها من بعض فحسب بل من حيث إنه يعلمنا أن قواعد اللغة التي نبحث عنها يوجد مثلها في لغات أخرى وجميع اللغات تخضع لقوانين يمكن الاستفادة منها في اللغة التي ندرسها فإذا كشفنا أن فروقا صرفية في اللهجات العربية ووجدنا مثلها في بعض اللغات الأخرى فلعلنا نستطيع أن نستنبط قواعد تتجاوز حدود اللغة الواحدة إلى قواعد أعم.
4 - وفرق آخر لعله أهم من هذه الفروق كلها هو أن النحو يعتبر المادة اللغوية ثابتة غير متغيرة ويدَّعي أن القواعد التي في اللغة يجب الرجوع إليها في كل زمان أما فقه اللغة فيَعْرِض للّغات الأخرى ويرى أن اللغة في تغير دائم وأن ما يقوله النحو في ذلك ليس إلا دعوى . فهناك اللغة البدوية قبل الإسلام وهناك الفروق الواضحة بين الشعر الجاهلي والشعر العباسي وبين المعاني التي أتى بها القرآن ولم تكن معروفة للجاهليين والنثر الحديث يغاير النثر القديم
وقد نشأت مصطلحات للفقهاء والمتكلمين واللغويين وأهل التديّن والتصوّف وغيرهم فللثقافات الأجنبية وللترجمة أثر في توسيع نطاق اللغة وتعبيرها عن معان لا قِبَلَ للغة العربية بها . ويظهر هذا في تركيب الجمل أيضا وقد حاول المترجمون في العصر العباسي محاكاة الأسلوب اليوناني كحنين بن إسحاق فنجحوا في هذا حتى صارت اللغة العربية تتسع للثقافات العلمية . ونرى هذا اليوم فإن كل سطر نقرؤه في الكتب الحديثة شاهد على قدرة اللغة العربية على تحمل الاصطلاحات الحديثة الأجنبية . واللغة اليونانية لغة تحليلية من مزاياها أنها ترتب المعاني ترتيبا منطقيا وترتب الجملة وأجزاءها على حسب المعاني
إذاً فاللغة في تطور وتغير طبقا للعوامل الاجتماعية وطبقا للتأثيرات الأجنبية التي تأتي من الخارج وهذا في اللغة الكتابية التي تحفظ وتوضع لها قواعد يظن أنها ثابتة فكيف بلغة الحديث التي يتناقلها الجمهور . ولا شك أن تغير اللغة وتطورها يطابق التغيرات التي ترى على سائر مظاهر النشاط الاجتماعي والفن أو العلم الذي يدرس تغييرات هذه المظاهر هو التاريخ فكما أننا نبحث عن التطورات السياسية والدينية كذلك الحال في اللغة فتاريخ اللغة يشمل حياتها في جميع مظاهرها "
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين