بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.اما بعدإن هناك تسميات وألقابا للعلم الذي يبحث في العقائد الدينية من اشهرها:
(علم الكلام) كما قد يسمى بتسميات أخرى مثل (أصول الدين) و(الإلهيات) و (علم العقائد) و (الفقه الأكبر) وغيرها وقد تعرض للبحث عن وجه تسمية هذا العلم بـ(علم الكلام) وعن تاريخ ظهور هذا الاسم جماعة من المحققين نذكر آراءهم ثم نذكر ماهو الرأي الصحيح في هذا الموضوع:
الرأي الاول: البحث حول حدوث الكلام الإلهي وقدمه:
قالوا الوجه في تسمية هذا العلم بـ(الكلام) هو البحث الذي دار حول الكلام الإلهي في حدوثه وقدمه إذ أن هذا البحث صار معركة للآراء بين المتكلمين خصوصا وقد أصبحت مسألة حدوث الكلام الإلهي وقدمه مورد اهتمام الحكام العباسين فبعضهم(كالمأمون والمعتصم والواثق) وافقوا المعتزلة القائلين بحدوث الكلام الإلهي وبعضهم(كالمتوكل) وافق أهل الحديث القائلين بقدمه. ومن وقتها تحولت المجالات الكلامية الى نزاعات سياسية واشتدت الخصومات في ذلك وسمي علم العقائد بالكلام تسمية النوع باسم الفرد أو الكل باسم الجزء وفي ذلك يقول الشهرستاني:
(إما لان اظهر مسالة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي مسالة الكلام فسمي النوع باسمها) (الملل والنحل ج1ص30)
ويرد عليه:
إن اسم الكلام كان يطلق على هذا العلم في عصر متقدم على تلك النزاعات السياسية في مسالة الكلام الإلهي كما سيأتي بيانه في مطلب متى ظهر اصطلاح الكلام.
نعم كان البحث حول الكلام الإلهي مطروحا قبل عصر العباسيين ولكن لم يكن من اظهر المسائل ولا اشهرها حتى يؤخذ وجها للتسمية بذلك.
الرأي الثاني: المقابلة للفلاسفة:
ربما يقال أن علماء العقائد إنما سموا علمهم باسم الكلام لمقابلة الفلاسفة إذ كانوا يصدرون أبحاثهم الفلسفية بالمسائل المنطقية والمنطق مرادف للكلام فأراد علماء العقائد أن يستغنوا في أبحاثهم عن المنطق الذي جاء من اليونان مقترنا بورود الفلسفة الى العالم الإسلامي فسموا علمهم بالكلام لذلك واليه أشار الشهرستاني بقوله :
(وأما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنا من فنون علمهم بالمنطق والمنطق والكلام مترادفان.) (الملل والنحل ج1ص30)
ويرد عليه:
اولا: إن هذا الوجه (على فرض صحته) يرجع الى زمن متأخر اعني: بعد ترجمة كتب المنطق والفلسفة الى العربية في عهد المأمون فيما إن اسم الكلام والمتكلم كان معروفا في عهد متقدم على ذلك كما سيجيء بيانه.
ثانيا: إن علم الكلام ليس علما مستقلا عن علم العقائد حتى يجعل الأول مقدمة للثاني كما إن المنطق مقدمة للفلسفة.
ثالثا: علم المنطق ليس مقدمة للفلسفة فقط بل هو مقدمة لجميع العلوم خصوصا العلوم النظرية والعقلية ومنها علم الكلام فالمتكلم لا يستغني في أبحاثه عن علم المنطق.
الرأي الثالث: عناوين المسائل:
قيل: إن الوجه في تسمية علم العقائد بـ(الكلام)هو أن المتكلمين كانوا يبتدئون أبحاثهم بقولهم (الكلام في كذا) وهذا صار سببا لتسمية علم العقائد بهذا الاسم والى هذا الوجه أشار صاحب المواقف بقوله((أو لأن أبوابه عُنونت أولا بالكلام في كذا)) (المواقف في علم الكلام ص9)
يرد عليه: أن هذا احتمال مجرد عن أي شاهد ودليل مع بعده في حد ذاته.
الرأي الرابع: استحكام الدلائل:
قيل:إن دلائل علم الكلام دلائل يقينية واليقين سبب لقوة الدليل واستحكامه والكلام إذا كان مستندا بالدليل اليقيني كان له قوة واستحكام واستحق لان يسمى باسم الكلام مطلقا واليه أشار التفتازاني بقوله ((ولانه لقوة أدلته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه كما يقال للأقوى من الكلامين:هذا هو الكلام))(شرح المقاصد-ج1ص164-165)
ويرد عليه:
أولا: إن الأدلة الكلامية ليست بيقينية مطلقا بل إن المتكلم يستفيد من جميع المناهج المنطقية ولا ينحصر ذلك بالدليل اليقيني.
ثانيا: لو كان هذا الوجه لتسمية علم العقائد بالكلام لكانت الفلسفة أو الرياضيات أولى بذلك.
الرأي الخامس: القدرة على التكلم في الإلهيات:
هناك وجه آخر في تسمية علم العقائد بالكلام وهو أن هذا العلم يُعطي للباحث قدرة بالغة في المناظرة والتكلم في الإلهيات مع المخالفين وقوة كافية في تبيين العقائد وإثباتها والإجابة على الأسئلة والشبهات المطروحة في هذا المجال قال صاحب المواقف))أو لأنه يورث القدرة على الكلام في الشرعيات ومع الخصوم))(المواقف ص8).
وقريب منه ما ذكره ابن خلدون بقوله((إمّا لما فيه من المناظرة على البدع وهي كلام صرف وليست براجعة الى عمل))(مقدمة ابن خلدون ص465).
وهذا الوجه أجدر بالاعتبار من غيره إذ ركز فيه على عنصر المناظرة في علم العقائد وهو عنصر رئيسي في هذا العلم كما أن المناظرة لا تتأتى-في الغالب- إلا بالتكلم والبحث خصوصا في الأزمنة المتقدمة ومهمة علماء هذا العلم ليست براجعة الى العمل بل راجعة الى الاعتقاد والقول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــ
مطلب: متى ظهر اصطلاح علم الكلام؟
1- جاء جاثليق نصراني الى هشام بن الحكم ليناظره حول الإسلام والمسيحية فقال له((ما بقي من المسلمين احد ممن يذكر بالعلم والكلام إلا وقد ناظرته في النصرانية فما عندهم شيء وقد جئت أناظرك في الإسلام))(التوحيد ص271 الباب37 ح1)
ومن المعلوم أن النصراني لم يقصد المناظرة في المسائل الفقهية وإنما قصد البحث حول العقائد كمسألة التوحيد والنبوة والخاتمية ونحوها مما كان مورد البحث بين علماء المسيحية والإسلام آنذاك وعلى هذا يقصد بالكلام العلم الذي يبحث في العقائد.
2- جاء ابن أبي العوجاء الى الإمام الصادق -ع- ليناظره حول العقائد الدينية ولكن شخصية الإمام العلمية والمعنوية أحدثت فيه هيبة واضطرابا فامتنع عن الابتداء بالتكلم.
فقال الإمام -ع- له:لم لا تتكلم؟ فأجاب بقوله((إني شاهدت العلماء وناظرت المتكلمين فما تداخلني هيبة قط مثلما تداخلني من هيبتك))(الكافي ج1 كتاب التوحيد ص59-60).
3- جاء رجل من أهل الشام الى أبي عبد الله الصادق -ع- وقال ((إني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض وقد جئت لمناظرة أصحابك)) ولم يكن عنده-ع- من أصحابه غير يونس بن يعقوب ولم يكن من المتكلمين فقال -ع- له((لو كنت تحسن الكلام كلمته)) فقال يونس((إني سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: ويلٌ لأصحاب الكلام))فقال -ع-(انما قلت ويل لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا الى ما يريدون))ثم قال ليونس((اخرج الى الباب فانظر من ترى من المتكلمين فأدخله)) قال يونس((فأدخلت حمران بن أعين وكان يحسن الكلام وأدخلت الأحول وكان يحسن الكلام وأدخلت هشام بن سالم وكان يحسن الكلام وأدخلت قيس بن الماصر وكان عندي أحسنهم كلاما وكان قد تعلم الكلام من علي بن الحسين -ع-......))الى آخر الحديث.
وبملاحظة ما تقدم من الشواهد نجد انه لا قيمة لما ذكره الشهرستاني في تاريخ تسمية علم العقائد بـ(الكلام) حيث قال(ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين نشرت أيام المأمون فخلطت مناهجها بمناهج الكلام وأفردتها فنا من فنون العلم وسمتها باسم الكلام)(الملل والنحل ج1 ص30).
وفيه أن المأمون توفي سنة -218هـ-مع أن الإمام الصادق-ع- استشهد عام-148هـ-وقد عرفت أن مصطلح الكلام كان معروفا في عصره وذلك في النصف الأول من القرن الثاني الهجري.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين