وقبل الشروع في البحث ينبغي تقديم أمور:
الأول: في تعريف القضاء، وهو لغة لمعان كثيرة أنهاها في الجواهر وغيرها إلى عشرة: الحكم، والعلم، والإعلام، وعبر عنه بعضهم بالانهاء، والقول، والحتم، والامر والخلق، والفعل، والإتمام والفراغ.
ويمكن ارجاع بعضها إلى بعض بل كلها إلى معنى واحد.
وعرفوه في الاصطلاح:
تارة: بما في المسالك والرياض بأنه ولاية الحكم شرعا لمن له أهلية الفتوى بجزئيات القوانين الشرعية على أشخاص معينين من البرية باثبات الحقوق واستيفائها للمستحق، وهو المنسوب إلى جماعة من الفقهاء بل في المسالك والرياض نسبته إليهم.
واخرى: بما أفاده الشهيد الأول (قدس سره) وهو أنه ولاية شرعية على الحكم والمصالح العامة من قبل الامام، والثاني أعم من الاول.
أقول: القضاء بحسب المتفاهم العرفي وعلى ما يظهر من موارد استعماله في النصوص وغيرها مرادف للحكم، فكما أنه لا يتوهم أحد أخذ الولاية في الحكم كذلك لا وجه لتوهم كون القضاء هو الولاية، والذي أوجب تفسيره بذلك أمران:
أحدهما: أنه لا ريب في كونه من المناصب المجعولة في العرف والشرع، ففي صحيح أبي خديجة، قال أبو عبد الله (ع): إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه ، وليس المجعول إلا الولاية والامارة والسلطنة على الغير في نفسه أو ماله أو أمر من اموره، وأما الحكم فهو غير قابل للجعل منصبا كما هو واضح.
وفيه: أولا: النقض بالحاكم، ففي مقبولة ابن حنظلة عنه (ع): فإني قد جعلته عليكم حاكما وثانيا: بالحل وهو أن هناك أمرين:
1- القضاوة.
2- كونه منصوبا للفصل ورفع النزاع والحكم بين الناس لا اشكال في أن الثاني من أقسام الولاية، ولكن القضاء هو الاول.
ثانيهما: أنه يصدق القاضي على المنصوب لرفع الخصومة ولو لم يتلبس بالقضاء والحكم، فيعلم من ذلك أن المبدأ فيه الساري فيالمصدر أيضا بمعنى الولاية المزبورة.
وفيه: أولا: النقض بالحاكم.
وثانيا: انه في جملة من المشتقات نرى اطلاق المشتق على غير المتلبس بالمبدأ كالتاجر وغيره من ارباب الحرف والصنائع، والوجه في ذلك ليس هو التصرف في المبدأ الذي هو في ضمن هذه الهيئة الاشتقاقية خاصة كما أفاده المحقق الخراساني ، بل الوجه فيه التوسعة في دائرة التلبس الفعلي بنحو يشمل الشأنية والصلاحية للاتصاف بالمبدأ وتمام الكلام في محله، فعلى هذا المنوال اطلاق القاضي على الشخص بمجرد ما لو نصب لذلك وإن لم يتلبس بعد بالقضاء.
فالمتحصل: مما ذكرناه أن القضاء عبارة عن الحكم بين الناس عند التنازع والتشاجر ورفع الخصومة وفصل الامر بينهم، ولكن كونه منصوبا لذلك ولاية ومنصب من المناصب الشرعية.
وهو منصب عال عظيم وشرفه جسيم فإنه من توابع الرئاسة العامة الثابتة للنبي (ص) والائمة (عليهم السلام) بل هو غصن من تلك الدوحة العظمى وخلافة عنهم (عليهم السلام) ولذلك خصه الله سبحانه بالانبياء والاوصياء من بعدهم ثم بمن يحذو حذوهم ويقتدي بهداهم ويسيربسيرهم من العلماء الذين هم خلفاء الرسول، كما في الخبر ولاجل علو مرتبته جعل الله يده فوق رأس القاضي واهبط الله الملك يسدده.
ففي قوي السكوني عن أبي عبد الله (ع) عن أمير المؤمنين (ع): يد الله فوق رأس الحاكم ترفرف بالرحمة فإذا جاف وكله الله إلى نفسه
كما أنه منصب جليل كذلك خطره عظيم فإن القاضي على شفير جهنم.
ففي خبر إسحاق بن عمار عن الامام الصادق (ع): قال أمير المؤمنين (ع) لشريح: يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي
وعن النبي (ص): من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين. وفي خبر ابن أبي يعفور عن الامام الصادق (ع): من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عز وجل ممن له سوط أو عصا فهو كافر بما أنزل الله على محمد (ص)
وفي خبر أبي بصير عنه (ع): من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عز وجل فهو كافر بالله العظيم ، إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الدالة على ذلك.
الثاني: لا خلاف بين فقهائنا في أن القضاء واجب كفائي، وفي المسالك والرياض والمستند وغيرها دعوى الاجماع عليه، بل في الاخير جعله من الضروريات الدينية.
والكلام فيه تارة: في الدليل على وجوب القضاء، واخرى في تعيين محله، وثالثة في الجمع بين وجوب القضاء وما اشتهر بينهم من الاستحباب لمن يثق بنفسه عينا.
أما الجهة الاولى: فقد استدل له بقوله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَليفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَق»
وبقوله عز وجل: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّه
وبقوله تعالى: وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وقريب منها آيات اخر.
والايراد على الاستدلال بها: بأن غاية ما تدل عليه هذه الآيات وجوب الحكم على الانبياء ولا ملازمة بينه وبين وجوبه على غيرهم كما أفاده المحقق العراقي.
مندفع بعدم كون ذلك من مختصاته وإلا لبين كما بين سائر ما يختص به من الاحكام.
وقد يستدل له: بجملة من النصوص كخبر معلى بن خنيس عن الامام الصادق (ع) في حديث: وامرت الائمة أن يحكموا بالعدل وامر الناس أن يتبعوهم
والنبوي: إن الله لا يقدس أمة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقه ونحوهما غيرهما.
والايراد على النبوي بأنه يمكن حمله على الاخذ بعنوان عون الضعيف لا بملاك فصل الخصومة يرده أنه خلاف الظاهر مع أنه يكفي في الحكم بالوجوب ولو بالعنوان الآخر، وأضعف منه دعوى إشعاره بالكراهة.
ويمكن أن يستدل له: بأنه لا ريب في توقف نظام نوع الانسان عليه، إذ الظلم من شيم النفوس فلابد من قاض وحاكم ينصف من الظالم للمظلوم، ولذلك بنى العقلاء على لزوم ذلك حفظا للنظام كما في سائر الامور التي عليها بناء العقلاء والشارع الاقدس أمضى ذلك غاية الامر قيده بقيود.
وإن شئت قلت: إن ذلك من الامور التي تطابقت عليها آراء العقلاء لعموم مصالحها التي يعبر عنها بالقضايا المشهورة.
ويمكن أن يقرب هذا الوجه بنحو يدخل في القضايا العقلية، لا القضايا المشهورة، بأن يقال: إنه وجوب فطري بمناط وجوب دفع الضرر المحتمل عن المجتمع، أو أن العقل مستقل بحسنه وقبح تركه المستلزم لاختلال النظام، ويستكشف من ذلك ببرهان الملازمة وجوبه الشرعي، وعلى هذا فلا يبقى ترديد وشك في وجوبه، وترديد المحقق العراقي فيه، من قبيل الترديد في ما هو من قبيل الواضحات.
ويؤيد ذلك: اجماع الامة عليه، وما يترتب عليه من النهي عن المنكر والامر بالمعروف.
وأما الجهة الثانية: فالظاهر أن محل الوجوب هو نفس الحكم والقضاء للامر به في الكتاب والسنة وبه يحفظ النظام وبتركه يلزم الاختلال، وما قبله من تولي مجلس القضاء وتحصيل أصل الولاية من الاجتهاد والعدالة من مقدماته.
وما أفاده المحقق العراقي (رحمة الله عليه) من أنه حيث يكون الحكم مشروطا بالترافع وتمامية الميزان عندالقاضي، فمع الشك في تحقق هذا الشرط يوجب جريان البراءة عن بقية المقدمات ولازمه جوازترك كل أحد تحصيل المراحل السابقة وليس كذلك ومثل ذلك شاهد عدم كون الحكم تحت خطاب الشارع.
يرد عليه: انه في كل قضية شخصية خارجية وإن كان يحتمل عدم تمامية الميزان عند القاضي ولكن يعلم اجمالا بتحقق موارد يتم فيها الموازين للقضاء وهو يكفي في ثبوت وجوب المقدمات.
وأما الجهة الثالثة: فلا اشكال ولا ريب في ثبوت الاستحباب النفسي عينا لمن يثق بنفسه لما تضمن من النصوص من الترغيب فيه والتحريض عليه وان يد الله فوق رأس القاضي وان الله يهبط الملك ليسدده.
ولا ينافيه ما ورد من التحذير والتهديد في أمر القضاء فإنه بالنسبة إلى عدم مراعاة الموازين الشرعية لا بالنسبة إلى أصل القضاء.
وإنما وقع الاشكال في الجمع بين ذلك وبين وجوب القضاء بتوهم استحالة اجتماع الوجوب ولو كفائيا مع الاستحباب العيني والكفائي.
ويمكن الجواب عنه بوجوه:
1 - إنه أي محذور في اجتماع الوجوب الكفائي مع الاستحباب العيني، فما المانع من الالتزام بالتأكد كما في سائر موارده، افلا تكون الطهارات الثلاث مستحبات نفسية وفي وقت الصلاة يعرضها الوجوب، وكم له نظير في الفقه.
2- إن المستحب هو تحصيل الولاية أو الحضور لسماع الدعوى والموازين والواجب هو الحكم في ظرفها.
3- إن الواجب هو ما إذا لم يكن متصد للقضاء أو كان ولم يكن الناس يترافعون إليه لتخيلهم عدم أهليته لذلك، والمستحب ما إذا كان المتصدي الذي يترافع الناس إليه موجودا.
الثالث: الظاهر عدم فورية القضاء بعد الترافع، إلا إذا لزم من التأخير تضررهما أو أحدهما فإنه تجب حينئذ المبادرة إلا إذا كان هناك عذر، والوجه في عدم الفورية الاصل والاجماع وما تضمن تأخير أمير المؤمنين (ع) الحكم في بعض القضايا إلى الغد أو إلى ما بعد الصلاة.
الرابع: إذا كان من له أهلية التصدي للقضاء متعددا، ولكن المتنازعين اختاروا شخصا خاصا للقضاء والحكم، فإن كانوا يعتقدون عدم أهلية غيره يجب عليه عينا القضاء، وإلا فلا، ولا يخفى وجهه
شرائط القاضي:
وتنقيح القول في هذا الفصل بالبحث في مسائل:
الاولى: في الشرائط المعتبرة في القاضي و هي امور:
الاول: إنه لا بد أن يكون مكلفا فلا ينفذ قضاء الصبي وإن كان مراهقا ومجتهدا جامعا للشرائط، ولا المجنون ولو كان ادواريا في دور جنونه وإن كان عارفا بالاحكام الشرعية بلا خلاف فيه، وفي المسالك انه عندنا موضع وفاق، وقد حكاه سيد الرياض والمقدس الاردبيلي عن غيرها.
ويشهد له مضافا إلى الاجماع: أنه لا يحصل الاطمئنان من حكم غير المكلف كونه عن مدرك شرعي ولا طريق لنا إلى احراز ذلك ولو تعبدا.
وبعبارة اخرى: لا طريق لنا إلى احراز عدم خيانته وكذبه بعد عدم وجود الرادع له شرعا ولا عرفا.
وقد استدل جماعة من الاساطين لاعتباره بوجوه اخر بعضها مختص بالبلوغ وبعضها شامل للعقل أيضا:
منها: قوله (ع) في مشهورة أبي خديجة الآتية: اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا وقوله (ع) في صحيحته المتقدمة: ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا
ومنها: ان غير المكلف محجور عن التصرف والقلم مرفوع عنه ومولى عليه، وعمده خطاء ومنصب القضاوة من أعظم المناصب الالهية فلا يكون قابلا لتصديه.
ومنها: انصراف أدلة النفوذ إلى البالغ العاقل.
ومنها: انه سيأتي أن لزوم ترتيب الآثار على الحكم وعدم جواز نقضه ورده خلاف الاصل فيقتصر على المتيقن وهو المكلف.
وفي الجميع نظر:
أما الاولان: فلان الظاهر أن المراد بالرجل في الخبرين هو الجنس لا خصوص البالغ، مع أنهما أخص من المدعى كما أشرنا إليه، أضف إليهما أنه لا مفهوم لهما كي يقيد به اطلاق مقبولة ابن حنظلة الآتية.
اللهم إلا أن يقال: إنهما من جهة ورودهما في مقام الردع عن الرجوع إلى قضاة الجور وصرفهم إلى قضاة الشيعة، ظاهران في كونهما في مقام التحديد لمن يرجع إليه من القضاة، فلا محالة يكون لهما المفهوم، فتأمل.
وأما الثالث: فلمنع سلب أفعاله وأقواله، وكونه صبيا مولى عليه لا ينافي صحة قضاوته كيف ومنصب الامامة والنبوة أعظم من منصب القضاء وقد حازهما الصبي.
وأما الرابع: فلمنع الانصراف.
وأما الخامس: فلانه مع وجود الاطلاق لا وجه للاقتصار على المتيقن.
الثاني: أن يكون مؤمنا فلا ينفذ قضاء الكافر ولا المخالف، ويشهد به اجماع الامة، وصحيح أبي خديجة: قال أبو عبد الله (ع): إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه
ومقبولة ابن حنظلة عنه (ع): عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل ذلك؟
قال (ع): من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقا ثابتا له لانه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: يُريدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِه قلت: فكيف يصنعان؟ قال (ع): ينظران من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا ولم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والرد علينا الراد على الله، وهو على حد الشرك بالله، الحديث.
ونحوهما غيرهما من النصوص المستفيضة.
وما دل على النهي عن الركون إلى الظالم فإن التحاكم إلى غير المؤمن من أظهر انحاء الركون إلى الظالم، وربما يستدل له بوجوه اخر منظور فيها وإن كانت للتأييد صالحة لكن وضوح الحكم يغنينا عن التعرض لها.
الثالث: أن يكون عدلا فلا ينفذ القضاء الفاسق، ويشهد به مضافا إلى الاجماع، وإلى أن هذا المنصب من المناصب المهمة في الشريعة بل من المناصب المختصة بالنبي (ص) وأوصيائه (عليهم السلام) ولا يحتمل جعل الشارع هذا المنصب لمن هو خارج عن طريقته.
وبعبارة اخرى لا يكون الفاسق وصي نبي، كيف وقد اعتبر الشارع العدالة في امام الجماعة فكيف بالقضاء الذي هو أهم منه: صحيح سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (ع): اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنما هي للامام العالم بالقضاء العادل في المسلمين كنبي أو وصي نبي. وما دل على النهي عن الركون إلى الظالم فإن التحاكم إلى الفاسق من أظهر أنحاء الركون إلى الظالم.
وصحيح أبي خديجة عن الامام الصادق (ع): إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شيء من الاخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق الحديث فإنه وإن كان في قضاة العامة إلا أن تعليق الحكم على الموصف مشعر بالعلية، وإن الفاسق لا يكون أهلا للقضاوة، وعدم الامن من خيانة الفاسق وكذبه.
الرابع: أن يكون القاضي عالما بأحكام القضاء ليكون حكمه حكما بحكم الله تعالى وبالحق والعدل والقسط ويشهد به: الآيات الآمرة بالحكم بالقسط والعدل والحق كقوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل.
وقوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا.
وقوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُون ونحوها غيرها.
والنصوص المستفيضة، لاحظ صحيح أبي خديجة عن الامام الصادق (ع) في حديث: اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم قاضيا.
والخبر عنه (ع): القضاة أربعة ثلاثة في النار وواحد في الجنة: رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لايعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة.
والنبوي الخاصي: من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء والارض وفي آخر: فليتبوأ مقعده من النار.
وصحيح سليمان بن خالد عن مولانا الصادق (ع): اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنما هي للامام العالم بالقضاء العادل في المسلمين كنبي أو وصي نبي ، إلى غير تلكم من النصوص.
وهل يعتبر كونه عالما بالكتابة قراءة وكتابة كما عن الشيخ والحلي ، وفي المسالك نسبه الشهيد (رحمة الله عليه) إلى الاكثر؟أم لا يعتبر ذلك كما عن جماعة ، وجهان:
من اصالة عدم الاشتراط وعدم اعتباره في النبوة التي هي أكمل المناصب، ومنها يتفرع الاحكام والقضاء، ومن اضطراره إلى معرفة الوقائع والاحكام التي لا يتيسر ضبطها غالبا إلا بها.والاظهر عدم الاعتبار.
الخامس: أن يكون القاضي طاهر المولد فلا يكون قضاء ولد الزنا نافذا بلا خلاف.
ويشهد له مضافا إلى ذلك فحوى ما دل على اعتبار طهارة المولد في امام الجماعة والشاهد، الذين هما دون هذا المنصب العظيم.
السادس: أن يكون ضابطا ذكره جماعة ، ولا دليل على اعتباره.
كما أن جملة من الامور التي اعتبروها في القاضي، كالحرية، والسمع، والبصر، وما شاكل، لا دليل على اعتبارها، واطلاق الادلة والاصل يقتضيان عدم الاعتبار.
نعم في المقام شئ يعتبر فيه قطعا ولم يذكره المصنف (رحمة الله عليه) وهو الذكورية فلا ينفذ قضاء المرأة وفي المسالك وهو موضع وفاق وخالف فيه بعض العامة
ويشهد له مضافا إلى ذلك، وإلى التقييد بالرجل في خبري أبي خديجة المتقدمين، نصوص كثيرة، لاحظ خبر الجعفي عن الامام الباقر (ع): ليس على النساء اذان ولا إقامة- إلى أن قال-: ولا تولى المرأة القضاء ولا تولى الامارة ولا تستشار ،الحديث
والنبوي الخاصي: يا علي ليس على المرأة جمعة- إلى أن قال-: ولا تولى القضاء ولا تستشار.
وما روي عن النبي (ص) أنه قال: لا يفلح قوم وليتهم امرأة.
وخبر عبد الرحمان بن كثير عن أبي عبد الله (ع) قال: في رسالة أمير المؤمنين (ع) إلى الحسن (ع): لا تملك المرأة من الامر ما يجاوز نفسها فإن ذلك أنعم لحالها وأرجى لبالها وأدوم لجمالها، فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة الحديث.
وما رواه ابن عباس عن النبي (ص) في حديث: ولو خلقت حواء من كله لجاز القضاء في النساء كما جاز في الرجال ، إلى غير تلكم من النصوص الكثيرة.
ويمكن أن يستدل له بالروايات الناهية عن مشاورة النساء، وعن أطاعتهن، وعن ائتمانهن على مال وغيره، كخبر سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (ع): إياكم ومشاورة النساء فإن فيهن الضعف والوهن والعجز.
وخبر الحسين بن مختار عنه (ع) قال أمير المؤمنين (ع) في كلامه له: اتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر ولا تطيعوهن في المعروف فخالفوهن كي لا يطمعن منكم في المنكر.
وصحيح ابن سنان عنه (ع) في حديث، قال علي (ع): معاشر الناس لا تطيعوا النساء على حال ولا تأمنوهن على مال، ولا تذروهن يدبرن أمر العيال الحديث إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة.
وهذه كما ترى دالة على عدم جواز تصدي المرأة للقضاوة ولا ينفذ حكمها.
وتدل أيضا على عدم جواز تولي المرأة الامارة وما شاكلها من المناصب وانها لا تستشار.
ولكن في زماننا هذا في بعض الممالك الاسلامية يدبرون النساء الامور ويتصدون للمناصب الهامة من القضاوة والوكالة والوزارة وما شاكل، وقد ساووا فيه بين النساء والرجال في جميع الامور حتى في الطلاق وما شاكله، وأفجع من ذلك ادعاء المتصدين لامور المملكة أن ذلك كله مطابق للموازين الشرعية فإن الاسلام هو الذي حكم بالمساواة بين الرجل والمرأة في جميع الشؤون الاجتماعية، وقولهم إن الحجاب ليس من الدين وانه كما يجوز للرجال النظر إلى مماثلهم يجوز لهم النظر إلى النساء، إلى غير ذلك من ما يفعلون ويقولون، ووصل الفساد في المجتمع إلى حد لا يقبل للذكر، نسأل الله تعالى ظهور ولي الامر عجل الله تعالى فرجه الشريف، وحفظ المسلمين من يد الاجانب ومنعبثهم في عقول المسلمين، ونجاتهم من دسائس الرتل الخامس وهلاك كل من تسول له نفسه العبث في بلاد المسلمين.
ويعتبر في القاضي زائدا على ما ذكرناه أن يكون عالما بالاحكام عن اجتهاد ولا يكفيه فتوى العلماء بلا خلاف، بل عليه الاجماع في كثير من الكلمات، لما سيمر عليك من عدم جواز التصدي لمنصب القضاوة بدون اذن الامام، و أنه لا بدَّ في ذلك من اذن الامام وقد اذن (ع) للفقيه أن يتصدى لذلك و دلت النصوص على أنه ينفذ قضاء الفقيه مع الغيبة إذا جمع الصفات المعتبرة فيه.
توضيح ذلك: انه لا اشكال وخلاف في أنه لا يجوز لاحد أن يتصدى لمنصب القضاوة بدون اذن من ولاة الامر من جانب الملك العلام.ويشهد بذلك جملة من الآيات قال الله تعالى: فلا ربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم
وقال عز وجل: فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول
وقال سبحانه: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس
وصحيح سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (ع): اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنما هي للامام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي كنبي- خ ل أو وصي او نبي
وخبر إسحاق بن عمار عنه (ع) قال أمير المؤمنين (ع) لشريح: يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه ما جلسه خ ل إلا نبي أو وصي نبي أو شقي.
وقد اذن ولاة الامر أن يتصدى المجتهد الجامع للشرائط لذلك كما تشهد به النصوص:
لاحظ مقبولة ابن حنظلة عن أبي عبد الله (ع): عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحل ذلك؟ قال (ع): من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقا ثابتا لانه أخذه بحكم الطاغوت وما امر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد امروا أن يكفروا به، قلت: فكيف يصنعان؟
قال (ع): ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا ولم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله، وعلينا رد والراد علينا الراد على الله، وهو على حد الشرك بالله.
وظهوره في معرفة الحكم عن اجتهاد وعدم شموله لمن علم بالحكم من التقليد لا ينبغي انكارهما.
وتضعيف الخبر كما عن بعض لا وجه له، لانه ليس في السند
من يتوقف فيه سوى داود بن الحصين وقد وثقه النجاشي فلو ثبتما عن الشيخ (رحمة الله عليه) من وقفه فالخبر موثق.
وعمر بن حنظلة وقد وثقه جماعة منهم الشهيد الثاني (رحمة الله عليه) وورد في مدحه روايات وكثير من الاجلاء يروون عنه مع أن الراوي عنهما صفوان بن يحيى وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم، أضف إلى ذلك تلقي الاصحاب إياه بالقبول.فإذا لا اشكال في الخبر سندا ودلالة.
وصحيحة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال، قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (ع): إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا قضانا- خ ل فإنه قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه
وإنما عبرنا عنه بالصحيحة نظرا إلى أن الصدوق رواه باسنادهعن أحمد بن عائذ، وطريقه إليه صحيح وأحمد نفسه موثق امامي.
وأما أبو خديجة فالشيخ وإن ضعفه في موضع ، ولكنه وثقهفي موضع آخر ، ووثقه النجاشي ، وعد المصنف في كتاب الخمس خبره من الصحيح.
وقويه الآخر أو صحيحه قال بعثني أبو عبد الله (ع) إلى أصحابنا فقال: قل لهم: إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شئ من الاخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا فإني جعلته عليكم قاضيا وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر ، وعدم صدق العارف بالحلال والحرام على المقلد الآخذ مسائله من المجتهد، واضح، كيف وان موضوع التقليد رجوع الجاهل إلى العالم فلا يرتفع الموضوع باعمال الحكم.
والمرسل القوي: قال الصدوق: قال علي (ع): قال رسولالله (ص): اللهم ارحم خلفائي ثلاثا قيل: يا رسول الله ومن خلفائك؟ قال: الذين يأتون بعدي ويروون حديثي وسنتي.
فإن المتيقن مما يثبت بالخلافة هو الرجوع إليه في الاحكام والقضاء الذين هما وظيفة الرسول بما هو رسول.
والتوقيع الشريف: وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وأنا حجة الله
واختصاصهما بالمجتهد ظاهر، إلى غير ذلك من النصوص الخاصة.
وقد يقال: إن جملة من الآيات والاخبار تدل على جواز تصدي غير المجتهد للقضاوة كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامينَ بِالْقِسْطِ.
ومفهوم قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُون- كما في آية- أو: فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُون- كما في اخرى-.
وقوله (ع): القضاة أربعة- إلى أن قال-: ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة وغير ذلك، بدعوى أنه إذا علم الحكم بالتقليد فله أن يحكم به ويصدق عليه انه حكم بالقسط والعدل والحق وبما أنزل الله.
وفيه أولا: إن الآيات ليست في مقام بيان من له أهلية الحكم، وإنما هي في مقام بيان أن من له الحكم إذا أراد أن يحكم فليحكم بالعدل والقسط وإن من له الحكم إذا حكم بغير ما أنزل الله فهو فاسق أو كافر، فلا يصح التمسك باطلاقها لاثبات أهلية غير المجتهد للقضاء.
وأما الخبر وما شابهه فالعلم فيه منصرف إلى العلم بالاحكام عن طريق الاجتهاد ولا يصدق العالم عرفا على المقلد الآخذ مسائله من الغير.
وإن شئت قلت: إن وظيفة المقلد وإن كان هو العمل بما أفتى به المجتهد، ولكن ذلك لا يوجب علمه بالحكم كيف وجواز التقليدإنما هو من باب رجوع الجاهل إلى العالم.
وثانيا: لو سلم اطلاقها يتعين تقييده بما مر، فإذا لا اشكال في أنه ليس لغير المجتهد التصدي للقضاوة ولو تصدى لا يكون حكمه نافذا.
وقبل الشروع في البحث ينبغي تقديم أمور:
الأول: في تعريف القضاء، وهو لغة لمعان كثيرة أنهاها في الجواهر وغيرها إلى عشرة: الحكم، والعلم، والإعلام، وعبر عنه بعضهم بالانهاء، والقول، والحتم، والامر والخلق، والفعل، والإتمام والفراغ.
ويمكن ارجاع بعضها إلى بعض بل كلها إلى معنى واحد.
وعرفوه في الاصطلاح:
تارة: بما في المسالك والرياض بأنه ولاية الحكم شرعا لمن له أهلية الفتوى بجزئيات القوانين الشرعية على أشخاص معينين من البرية باثبات الحقوق واستيفائها للمستحق، وهو المنسوب إلى جماعة من الفقهاء بل في المسالك والرياض نسبته إليهم.
واخرى: بما أفاده الشهيد الأول (قدس سره) وهو أنه ولاية شرعية على الحكم والمصالح العامة من قبل الامام، والثاني أعم من الاول.
أقول: القضاء بحسب المتفاهم العرفي وعلى ما يظهر من موارد استعماله في النصوص وغيرها مرادف للحكم، فكما أنه لا يتوهم أحد أخذ الولاية في الحكم كذلك لا وجه لتوهم كون القضاء هو الولاية، والذي أوجب تفسيره بذلك أمران:
أحدهما: أنه لا ريب في كونه من المناصب المجعولة في العرف والشرع، ففي صحيح أبي خديجة، قال أبو عبد الله (ع): إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه ، وليس المجعول إلا الولاية والامارة والسلطنة على الغير في نفسه أو ماله أو أمر من اموره، وأما الحكم فهو غير قابل للجعل منصبا كما هو واضح.
وفيه: أولا: النقض بالحاكم، ففي مقبولة ابن حنظلة عنه (ع): فإني قد جعلته عليكم حاكما وثانيا: بالحل وهو أن هناك أمرين:
1- القضاوة.
2- كونه منصوبا للفصل ورفع النزاع والحكم بين الناس لا اشكال في أن الثاني من أقسام الولاية، ولكن القضاء هو الاول.
ثانيهما: أنه يصدق القاضي على المنصوب لرفع الخصومة ولو لم يتلبس بالقضاء والحكم، فيعلم من ذلك أن المبدأ فيه الساري فيالمصدر أيضا بمعنى الولاية المزبورة.
وفيه: أولا: النقض بالحاكم.
وثانيا: انه في جملة من المشتقات نرى اطلاق المشتق على غير المتلبس بالمبدأ كالتاجر وغيره من ارباب الحرف والصنائع، والوجه في ذلك ليس هو التصرف في المبدأ الذي هو في ضمن هذه الهيئة الاشتقاقية خاصة كما أفاده المحقق الخراساني ، بل الوجه فيه التوسعة في دائرة التلبس الفعلي بنحو يشمل الشأنية والصلاحية للاتصاف بالمبدأ وتمام الكلام في محله، فعلى هذا المنوال اطلاق القاضي على الشخص بمجرد ما لو نصب لذلك وإن لم يتلبس بعد بالقضاء.
فالمتحصل: مما ذكرناه أن القضاء عبارة عن الحكم بين الناس عند التنازع والتشاجر ورفع الخصومة وفصل الامر بينهم، ولكن كونه منصوبا لذلك ولاية ومنصب من المناصب الشرعية.
وهو منصب عال عظيم وشرفه جسيم فإنه من توابع الرئاسة العامة الثابتة للنبي (ص) والائمة (عليهم السلام) بل هو غصن من تلك الدوحة العظمى وخلافة عنهم (عليهم السلام) ولذلك خصه الله سبحانه بالانبياء والاوصياء من بعدهم ثم بمن يحذو حذوهم ويقتدي بهداهم ويسيربسيرهم من العلماء الذين هم خلفاء الرسول، كما في الخبر ولاجل علو مرتبته جعل الله يده فوق رأس القاضي واهبط الله الملك يسدده.
ففي قوي السكوني عن أبي عبد الله (ع) عن أمير المؤمنين (ع): يد الله فوق رأس الحاكم ترفرف بالرحمة فإذا جاف وكله الله إلى نفسه
كما أنه منصب جليل كذلك خطره عظيم فإن القاضي على شفير جهنم.
ففي خبر إسحاق بن عمار عن الامام الصادق (ع): قال أمير المؤمنين (ع) لشريح: يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي
وعن النبي (ص): من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين. وفي خبر ابن أبي يعفور عن الامام الصادق (ع): من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عز وجل ممن له سوط أو عصا فهو كافر بما أنزل الله على محمد (ص)
وفي خبر أبي بصير عنه (ع): من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عز وجل فهو كافر بالله العظيم ، إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الدالة على ذلك.
الثاني: لا خلاف بين فقهائنا في أن القضاء واجب كفائي، وفي المسالك والرياض والمستند وغيرها دعوى الاجماع عليه، بل في الاخير جعله من الضروريات الدينية.
والكلام فيه تارة: في الدليل على وجوب القضاء، واخرى في تعيين محله، وثالثة في الجمع بين وجوب القضاء وما اشتهر بينهم من الاستحباب لمن يثق بنفسه عينا.
أما الجهة الاولى: فقد استدل له بقوله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَليفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَق»
وبقوله عز وجل: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّه
وبقوله تعالى: وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وقريب منها آيات اخر.
والايراد على الاستدلال بها: بأن غاية ما تدل عليه هذه الآيات وجوب الحكم على الانبياء ولا ملازمة بينه وبين وجوبه على غيرهم كما أفاده المحقق العراقي.
مندفع بعدم كون ذلك من مختصاته وإلا لبين كما بين سائر ما يختص به من الاحكام.
وقد يستدل له: بجملة من النصوص كخبر معلى بن خنيس عن الامام الصادق (ع) في حديث: وامرت الائمة أن يحكموا بالعدل وامر الناس أن يتبعوهم
والنبوي: إن الله لا يقدس أمة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقه ونحوهما غيرهما.
والايراد على النبوي بأنه يمكن حمله على الاخذ بعنوان عون الضعيف لا بملاك فصل الخصومة يرده أنه خلاف الظاهر مع أنه يكفي في الحكم بالوجوب ولو بالعنوان الآخر، وأضعف منه دعوى إشعاره بالكراهة.
ويمكن أن يستدل له: بأنه لا ريب في توقف نظام نوع الانسان عليه، إذ الظلم من شيم النفوس فلابد من قاض وحاكم ينصف من الظالم للمظلوم، ولذلك بنى العقلاء على لزوم ذلك حفظا للنظام كما في سائر الامور التي عليها بناء العقلاء والشارع الاقدس أمضى ذلك غاية الامر قيده بقيود.
وإن شئت قلت: إن ذلك من الامور التي تطابقت عليها آراء العقلاء لعموم مصالحها التي يعبر عنها بالقضايا المشهورة.
ويمكن أن يقرب هذا الوجه بنحو يدخل في القضايا العقلية، لا القضايا المشهورة، بأن يقال: إنه وجوب فطري بمناط وجوب دفع الضرر المحتمل عن المجتمع، أو أن العقل مستقل بحسنه وقبح تركه المستلزم لاختلال النظام، ويستكشف من ذلك ببرهان الملازمة وجوبه الشرعي، وعلى هذا فلا يبقى ترديد وشك في وجوبه، وترديد المحقق العراقي فيه، من قبيل الترديد في ما هو من قبيل الواضحات.
ويؤيد ذلك: اجماع الامة عليه، وما يترتب عليه من النهي عن المنكر والامر بالمعروف.
وأما الجهة الثانية: فالظاهر أن محل الوجوب هو نفس الحكم والقضاء للامر به في الكتاب والسنة وبه يحفظ النظام وبتركه يلزم الاختلال، وما قبله من تولي مجلس القضاء وتحصيل أصل الولاية من الاجتهاد والعدالة من مقدماته.
وما أفاده المحقق العراقي (رحمة الله عليه) من أنه حيث يكون الحكم مشروطا بالترافع وتمامية الميزان عندالقاضي، فمع الشك في تحقق هذا الشرط يوجب جريان البراءة عن بقية المقدمات ولازمه جوازترك كل أحد تحصيل المراحل السابقة وليس كذلك ومثل ذلك شاهد عدم كون الحكم تحت خطاب الشارع.
يرد عليه: انه في كل قضية شخصية خارجية وإن كان يحتمل عدم تمامية الميزان عند القاضي ولكن يعلم اجمالا بتحقق موارد يتم فيها الموازين للقضاء وهو يكفي في ثبوت وجوب المقدمات.
وأما الجهة الثالثة: فلا اشكال ولا ريب في ثبوت الاستحباب النفسي عينا لمن يثق بنفسه لما تضمن من النصوص من الترغيب فيه والتحريض عليه وان يد الله فوق رأس القاضي وان الله يهبط الملك ليسدده.
ولا ينافيه ما ورد من التحذير والتهديد في أمر القضاء فإنه بالنسبة إلى عدم مراعاة الموازين الشرعية لا بالنسبة إلى أصل القضاء.
وإنما وقع الاشكال في الجمع بين ذلك وبين وجوب القضاء بتوهم استحالة اجتماع الوجوب ولو كفائيا مع الاستحباب العيني والكفائي.
ويمكن الجواب عنه بوجوه:
1 - إنه أي محذور في اجتماع الوجوب الكفائي مع الاستحباب العيني، فما المانع من الالتزام بالتأكد كما في سائر موارده، افلا تكون الطهارات الثلاث مستحبات نفسية وفي وقت الصلاة يعرضها الوجوب، وكم له نظير في الفقه.
2- إن المستحب هو تحصيل الولاية أو الحضور لسماع الدعوى والموازين والواجب هو الحكم في ظرفها.
3- إن الواجب هو ما إذا لم يكن متصد للقضاء أو كان ولم يكن الناس يترافعون إليه لتخيلهم عدم أهليته لذلك، والمستحب ما إذا كان المتصدي الذي يترافع الناس إليه موجودا.
الثالث: الظاهر عدم فورية القضاء بعد الترافع، إلا إذا لزم من التأخير تضررهما أو أحدهما فإنه تجب حينئذ المبادرة إلا إذا كان هناك عذر، والوجه في عدم الفورية الاصل والاجماع وما تضمن تأخير أمير المؤمنين (ع) الحكم في بعض القضايا إلى الغد أو إلى ما بعد الصلاة.
الرابع: إذا كان من له أهلية التصدي للقضاء متعددا، ولكن المتنازعين اختاروا شخصا خاصا للقضاء والحكم، فإن كانوا يعتقدون عدم أهلية غيره يجب عليه عينا القضاء، وإلا فلا، ولا يخفى وجهه
شرائط القاضي:
وتنقيح القول في هذا الفصل بالبحث في مسائل:
الاولى: في الشرائط المعتبرة في القاضي و هي امور:
الاول: إنه لا بد أن يكون مكلفا فلا ينفذ قضاء الصبي وإن كان مراهقا ومجتهدا جامعا للشرائط، ولا المجنون ولو كان ادواريا في دور جنونه وإن كان عارفا بالاحكام الشرعية بلا خلاف فيه، وفي المسالك انه عندنا موضع وفاق، وقد حكاه سيد الرياض والمقدس الاردبيلي عن غيرها.
ويشهد له مضافا إلى الاجماع: أنه لا يحصل الاطمئنان من حكم غير المكلف كونه عن مدرك شرعي ولا طريق لنا إلى احراز ذلك ولو تعبدا.
وبعبارة اخرى: لا طريق لنا إلى احراز عدم خيانته وكذبه بعد عدم وجود الرادع له شرعا ولا عرفا.
وقد استدل جماعة من الاساطين لاعتباره بوجوه اخر بعضها مختص بالبلوغ وبعضها شامل للعقل أيضا:
منها: قوله (ع) في مشهورة أبي خديجة الآتية: اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا وقوله (ع) في صحيحته المتقدمة: ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا
ومنها: ان غير المكلف محجور عن التصرف والقلم مرفوع عنه ومولى عليه، وعمده خطاء ومنصب القضاوة من أعظم المناصب الالهية فلا يكون قابلا لتصديه.
ومنها: انصراف أدلة النفوذ إلى البالغ العاقل.
ومنها: انه سيأتي أن لزوم ترتيب الآثار على الحكم وعدم جواز نقضه ورده خلاف الاصل فيقتصر على المتيقن وهو المكلف.
وفي الجميع نظر:
أما الاولان: فلان الظاهر أن المراد بالرجل في الخبرين هو الجنس لا خصوص البالغ، مع أنهما أخص من المدعى كما أشرنا إليه، أضف إليهما أنه لا مفهوم لهما كي يقيد به اطلاق مقبولة ابن حنظلة الآتية.
اللهم إلا أن يقال: إنهما من جهة ورودهما في مقام الردع عن الرجوع إلى قضاة الجور وصرفهم إلى قضاة الشيعة، ظاهران في كونهما في مقام التحديد لمن يرجع إليه من القضاة، فلا محالة يكون لهما المفهوم، فتأمل.
وأما الثالث: فلمنع سلب أفعاله وأقواله، وكونه صبيا مولى عليه لا ينافي صحة قضاوته كيف ومنصب الامامة والنبوة أعظم من منصب القضاء وقد حازهما الصبي.
وأما الرابع: فلمنع الانصراف.
وأما الخامس: فلانه مع وجود الاطلاق لا وجه للاقتصار على المتيقن.
الثاني: أن يكون مؤمنا فلا ينفذ قضاء الكافر ولا المخالف، ويشهد به اجماع الامة، وصحيح أبي خديجة: قال أبو عبد الله (ع): إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه
ومقبولة ابن حنظلة عنه (ع): عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل ذلك؟
قال (ع): من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقا ثابتا له لانه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: يُريدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِه قلت: فكيف يصنعان؟ قال (ع): ينظران من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا ولم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والرد علينا الراد على الله، وهو على حد الشرك بالله، الحديث.
ونحوهما غيرهما من النصوص المستفيضة.
وما دل على النهي عن الركون إلى الظالم فإن التحاكم إلى غير المؤمن من أظهر انحاء الركون إلى الظالم، وربما يستدل له بوجوه اخر منظور فيها وإن كانت للتأييد صالحة لكن وضوح الحكم يغنينا عن التعرض لها.
الثالث: أن يكون عدلا فلا ينفذ القضاء الفاسق، ويشهد به مضافا إلى الاجماع، وإلى أن هذا المنصب من المناصب المهمة في الشريعة بل من المناصب المختصة بالنبي (ص) وأوصيائه (عليهم السلام) ولا يحتمل جعل الشارع هذا المنصب لمن هو خارج عن طريقته.
وبعبارة اخرى لا يكون الفاسق وصي نبي، كيف وقد اعتبر الشارع العدالة في امام الجماعة فكيف بالقضاء الذي هو أهم منه: صحيح سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (ع): اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنما هي للامام العالم بالقضاء العادل في المسلمين كنبي أو وصي نبي. وما دل على النهي عن الركون إلى الظالم فإن التحاكم إلى الفاسق من أظهر أنحاء الركون إلى الظالم.
وصحيح أبي خديجة عن الامام الصادق (ع): إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شيء من الاخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق الحديث فإنه وإن كان في قضاة العامة إلا أن تعليق الحكم على الموصف مشعر بالعلية، وإن الفاسق لا يكون أهلا للقضاوة، وعدم الامن من خيانة الفاسق وكذبه.
الرابع: أن يكون القاضي عالما بأحكام القضاء ليكون حكمه حكما بحكم الله تعالى وبالحق والعدل والقسط ويشهد به: الآيات الآمرة بالحكم بالقسط والعدل والحق كقوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل.
وقوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا.
وقوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُون ونحوها غيرها.
والنصوص المستفيضة، لاحظ صحيح أبي خديجة عن الامام الصادق (ع) في حديث: اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم قاضيا.
والخبر عنه (ع): القضاة أربعة ثلاثة في النار وواحد في الجنة: رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لايعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة.
والنبوي الخاصي: من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء والارض وفي آخر: فليتبوأ مقعده من النار.
وصحيح سليمان بن خالد عن مولانا الصادق (ع): اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنما هي للامام العالم بالقضاء العادل في المسلمين كنبي أو وصي نبي ، إلى غير تلكم من النصوص.
وهل يعتبر كونه عالما بالكتابة قراءة وكتابة كما عن الشيخ والحلي ، وفي المسالك نسبه الشهيد (رحمة الله عليه) إلى الاكثر؟أم لا يعتبر ذلك كما عن جماعة ، وجهان:
من اصالة عدم الاشتراط وعدم اعتباره في النبوة التي هي أكمل المناصب، ومنها يتفرع الاحكام والقضاء، ومن اضطراره إلى معرفة الوقائع والاحكام التي لا يتيسر ضبطها غالبا إلا بها.والاظهر عدم الاعتبار.
الخامس: أن يكون القاضي طاهر المولد فلا يكون قضاء ولد الزنا نافذا بلا خلاف.
ويشهد له مضافا إلى ذلك فحوى ما دل على اعتبار طهارة المولد في امام الجماعة والشاهد، الذين هما دون هذا المنصب العظيم.
السادس: أن يكون ضابطا ذكره جماعة ، ولا دليل على اعتباره.
كما أن جملة من الامور التي اعتبروها في القاضي، كالحرية، والسمع، والبصر، وما شاكل، لا دليل على اعتبارها، واطلاق الادلة والاصل يقتضيان عدم الاعتبار.
نعم في المقام شئ يعتبر فيه قطعا ولم يذكره المصنف (رحمة الله عليه) وهو الذكورية فلا ينفذ قضاء المرأة وفي المسالك وهو موضع وفاق وخالف فيه بعض العامة
ويشهد له مضافا إلى ذلك، وإلى التقييد بالرجل في خبري أبي خديجة المتقدمين، نصوص كثيرة، لاحظ خبر الجعفي عن الامام الباقر (ع): ليس على النساء اذان ولا إقامة- إلى أن قال-: ولا تولى المرأة القضاء ولا تولى الامارة ولا تستشار ،الحديث
والنبوي الخاصي: يا علي ليس على المرأة جمعة- إلى أن قال-: ولا تولى القضاء ولا تستشار.
وما روي عن النبي (ص) أنه قال: لا يفلح قوم وليتهم امرأة.
وخبر عبد الرحمان بن كثير عن أبي عبد الله (ع) قال: في رسالة أمير المؤمنين (ع) إلى الحسن (ع): لا تملك المرأة من الامر ما يجاوز نفسها فإن ذلك أنعم لحالها وأرجى لبالها وأدوم لجمالها، فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة الحديث.
وما رواه ابن عباس عن النبي (ص) في حديث: ولو خلقت حواء من كله لجاز القضاء في النساء كما جاز في الرجال ، إلى غير تلكم من النصوص الكثيرة.
ويمكن أن يستدل له بالروايات الناهية عن مشاورة النساء، وعن أطاعتهن، وعن ائتمانهن على مال وغيره، كخبر سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (ع): إياكم ومشاورة النساء فإن فيهن الضعف والوهن والعجز.
وخبر الحسين بن مختار عنه (ع) قال أمير المؤمنين (ع) في كلامه له: اتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر ولا تطيعوهن في المعروف فخالفوهن كي لا يطمعن منكم في المنكر.
وصحيح ابن سنان عنه (ع) في حديث، قال علي (ع): معاشر الناس لا تطيعوا النساء على حال ولا تأمنوهن على مال، ولا تذروهن يدبرن أمر العيال الحديث إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة.
وهذه كما ترى دالة على عدم جواز تصدي المرأة للقضاوة ولا ينفذ حكمها.
وتدل أيضا على عدم جواز تولي المرأة الامارة وما شاكلها من المناصب وانها لا تستشار.
ولكن في زماننا هذا في بعض الممالك الاسلامية يدبرون النساء الامور ويتصدون للمناصب الهامة من القضاوة والوكالة والوزارة وما شاكل، وقد ساووا فيه بين النساء والرجال في جميع الامور حتى في الطلاق وما شاكله، وأفجع من ذلك ادعاء المتصدين لامور المملكة أن ذلك كله مطابق للموازين الشرعية فإن الاسلام هو الذي حكم بالمساواة بين الرجل والمرأة في جميع الشؤون الاجتماعية، وقولهم إن الحجاب ليس من الدين وانه كما يجوز للرجال النظر إلى مماثلهم يجوز لهم النظر إلى النساء، إلى غير ذلك من ما يفعلون ويقولون، ووصل الفساد في المجتمع إلى حد لا يقبل للذكر، نسأل الله تعالى ظهور ولي الامر عجل الله تعالى فرجه الشريف، وحفظ المسلمين من يد الاجانب ومنعبثهم في عقول المسلمين، ونجاتهم من دسائس الرتل الخامس وهلاك كل من تسول له نفسه العبث في بلاد المسلمين.
ويعتبر في القاضي زائدا على ما ذكرناه أن يكون عالما بالاحكام عن اجتهاد ولا يكفيه فتوى العلماء بلا خلاف، بل عليه الاجماع في كثير من الكلمات، لما سيمر عليك من عدم جواز التصدي لمنصب القضاوة بدون اذن الامام، و أنه لا بدَّ في ذلك من اذن الامام وقد اذن (ع) للفقيه أن يتصدى لذلك و دلت النصوص على أنه ينفذ قضاء الفقيه مع الغيبة إذا جمع الصفات المعتبرة فيه.
توضيح ذلك: انه لا اشكال وخلاف في أنه لا يجوز لاحد أن يتصدى لمنصب القضاوة بدون اذن من ولاة الامر من جانب الملك العلام.ويشهد بذلك جملة من الآيات قال الله تعالى: فلا ربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم
وقال عز وجل: فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول
وقال سبحانه: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس
وصحيح سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (ع): اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنما هي للامام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي كنبي- خ ل أو وصي او نبي
وخبر إسحاق بن عمار عنه (ع) قال أمير المؤمنين (ع) لشريح: يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه ما جلسه خ ل إلا نبي أو وصي نبي أو شقي.
وقد اذن ولاة الامر أن يتصدى المجتهد الجامع للشرائط لذلك كما تشهد به النصوص:
لاحظ مقبولة ابن حنظلة عن أبي عبد الله (ع): عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحل ذلك؟ قال (ع): من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقا ثابتا لانه أخذه بحكم الطاغوت وما امر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد امروا أن يكفروا به، قلت: فكيف يصنعان؟
قال (ع): ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا ولم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله، وعلينا رد والراد علينا الراد على الله، وهو على حد الشرك بالله.
وظهوره في معرفة الحكم عن اجتهاد وعدم شموله لمن علم بالحكم من التقليد لا ينبغي انكارهما.
وتضعيف الخبر كما عن بعض لا وجه له، لانه ليس في السند
من يتوقف فيه سوى داود بن الحصين وقد وثقه النجاشي فلو ثبتما عن الشيخ (رحمة الله عليه) من وقفه فالخبر موثق.
وعمر بن حنظلة وقد وثقه جماعة منهم الشهيد الثاني (رحمة الله عليه) وورد في مدحه روايات وكثير من الاجلاء يروون عنه مع أن الراوي عنهما صفوان بن يحيى وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم، أضف إلى ذلك تلقي الاصحاب إياه بالقبول.فإذا لا اشكال في الخبر سندا ودلالة.
وصحيحة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال، قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (ع): إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا قضانا- خ ل فإنه قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه
وإنما عبرنا عنه بالصحيحة نظرا إلى أن الصدوق رواه باسنادهعن أحمد بن عائذ، وطريقه إليه صحيح وأحمد نفسه موثق امامي.
وأما أبو خديجة فالشيخ وإن ضعفه في موضع ، ولكنه وثقهفي موضع آخر ، ووثقه النجاشي ، وعد المصنف في كتاب الخمس خبره من الصحيح.
وقويه الآخر أو صحيحه قال بعثني أبو عبد الله (ع) إلى أصحابنا فقال: قل لهم: إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شئ من الاخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا فإني جعلته عليكم قاضيا وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر ، وعدم صدق العارف بالحلال والحرام على المقلد الآخذ مسائله من المجتهد، واضح، كيف وان موضوع التقليد رجوع الجاهل إلى العالم فلا يرتفع الموضوع باعمال الحكم.
والمرسل القوي: قال الصدوق: قال علي (ع): قال رسولالله (ص): اللهم ارحم خلفائي ثلاثا قيل: يا رسول الله ومن خلفائك؟ قال: الذين يأتون بعدي ويروون حديثي وسنتي.
فإن المتيقن مما يثبت بالخلافة هو الرجوع إليه في الاحكام والقضاء الذين هما وظيفة الرسول بما هو رسول.
والتوقيع الشريف: وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وأنا حجة الله
واختصاصهما بالمجتهد ظاهر، إلى غير ذلك من النصوص الخاصة.
وقد يقال: إن جملة من الآيات والاخبار تدل على جواز تصدي غير المجتهد للقضاوة كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامينَ بِالْقِسْطِ.
ومفهوم قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُون- كما في آية- أو: فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُون- كما في اخرى-.
وقوله (ع): القضاة أربعة- إلى أن قال-: ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة وغير ذلك، بدعوى أنه إذا علم الحكم بالتقليد فله أن يحكم به ويصدق عليه انه حكم بالقسط والعدل والحق وبما أنزل الله.
وفيه أولا: إن الآيات ليست في مقام بيان من له أهلية الحكم، وإنما هي في مقام بيان أن من له الحكم إذا أراد أن يحكم فليحكم بالعدل والقسط وإن من له الحكم إذا حكم بغير ما أنزل الله فهو فاسق أو كافر، فلا يصح التمسك باطلاقها لاثبات أهلية غير المجتهد للقضاء.
وأما الخبر وما شابهه فالعلم فيه منصرف إلى العلم بالاحكام عن طريق الاجتهاد ولا يصدق العالم عرفا على المقلد الآخذ مسائله من الغير.
وإن شئت قلت: إن وظيفة المقلد وإن كان هو العمل بما أفتى به المجتهد، ولكن ذلك لا يوجب علمه بالحكم كيف وجواز التقليدإنما هو من باب رجوع الجاهل إلى العالم.
وثانيا: لو سلم اطلاقها يتعين تقييده بما مر، فإذا لا اشكال في أنه ليس لغير المجتهد التصدي للقضاوة ولو تصدى لا يكون حكمه نافذا.