اللهم صل على محمد وآل محمد
روي عن الإمام زين العابدين (عليه السّلام) أنّه قال في حقّ عمّه أبي الفضل العبّاس (عليه السّلام) كلاماً جاء فيه : (( رحم الله عمّي العبّاس ؛ فلقد آثر ، وأبلى ، وفدى أخاه بنفسه )) .
والكلام هنا في تفدية العبّاس (عليه السّلام) أخاه الإمام الحسين (عليه السّلام) بنفسه ؛ حيث منه عُرف (عليه السّلام) بالفادي ، علماً بأنّ الفادي من حيث المعنى الغوي هو مَنْ يقدّم ماله ويقدّم نفسه ودمه فداءً لغيره حتّى يخلّصه به ، ويقيه عبره من الأسر والقتل ، فكأنّه يشتري بذلك حياة غيره ، ويخلّصه من الخطر المحدق به .
الفداء العظيم
قال الله تعالى في قصة إبراهيم الخليل (عليه السّلام) عندما أمره بذبح ابنه إسماعيل الذبيح (عليه السّلام) ، ثمّ عفا عن ذلك : ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) ؛ فلقد جاء في عيون الأخبار مسنداً عن الإمام الرضا (عليه السّلام) أنّه قال : (( لمّا أمر الله تعالى إبراهيم أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبش الذي أنزله عليه ، تمنّى إبراهيم (عليه السّلام) أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل بيده ، وأنّه لم يُؤمر بذبح الكبش مكانه ؛ ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعزّ ولده بيده ، فيستحق بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب .
فأوحى الله (عزّ وجلّ) إليه : يا إبراهيم ، مَنْ أحبّ خلقي إليك ؟
قال : يا ربّ ، ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ من حبيبك محمّد (صلّى الله عليه وآله) .
فأوحى الله إليه : يا إبراهيم ، أفهو أحبّ إليك أو نفسك ؟
قال : بل هو أحبّ إليّ من نفسي .
قال : فولده أحبّ إليك أو ولدك ؟
قال : بل ولده .
قال : فذبحُ ولده ظلماً على أيدي أعدائه أوجع لقلبك ، أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي ؟
قال : يا ربّ ، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي .
قال يا إبراهيم ، إنّ طائفة تزعم أنّها من اُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ستقتل الحسين (عليه السّلام) ابنه من بعده ظلماً وعدواناً كما يُذبح الكبش ، ويستوجبون بذلك سخطي .
فجزع إبراهيم لذلك وتوجّع قلبه ، وأقبل يبكي ، فأوحى الله تعالى إليه : يا إبراهيم ، قد قبلت جزعك على ولدك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسين (عليه السّلام) وقتله ، وأوجبت لك أرفع درجات الثواب على المصائب . وذلك قول الله (عزّ وجلّ) : ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) .
فالفادي هنا في هذه القصة هو إبراهيم الخليل (عليه السّلام) ، والفداء هو الكبش الذي أتى به جبرائيل (عليه السّلام) من الجنّة ، والمُفدّى هو إسماعيل الذبيح ، فكون إبراهيم الخليل (عليه السّلام) قد اشترى حياة ابنه إسماعيل الذبيح (عليه السّلام) بتفدية الكبش عنه )) .
ولكن في قصّة كربلاء كان الفادي هو أبو الفضل العبّاس (عليه السّلام) ، والفداء هو نفسه الزكيّة ، ودمه الشريف ، والمُفدّى هو الإمام الحسين (عليه السّلام) ، فيكون أبو الفضل العبّاس (عليه السّلام) قد اشترى حياة أخيه الإمام الحسين (عليه السّلام) بتفدية نفسه ، وبذل دمه عنه .
العبّاس (عليه السّلام) يشبه أباه
ولقد أشبه أبو الفضل العبّاس (عليه السّلام) في تفدية أخاه الإمام الحسين (عليه السّلام) بنفسه أباه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ؛ حيث فدى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) أخاه وابن عمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بنفسه ، وذلك في ليلة المبيت .
فقد روى الشيخ الطوسي في أماليه مسنداً عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السّلام) في قول الله (عزّ وجلّ) : ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ ) أنّه قال : (( نزلت في علي (عليه السّلام) حين بات على فراش رسول الله (صلّى الله عليه وآله) )) .
وفي شرح الآيات الباهرة وغيره من كتب التفسير : إنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لمّا أراد الهجرة خلّف عليّاً (عليه السّلام) لقضاء ديونه ، وردّ الودائع التي كانت عنده ، وأمره ليلة خروجه إلى الغار وقد أحاط المشركون في الدار أن ينام على فراشه ، قائلاً : (( أُخبرك يا عليّ ، إنّ الله يمتحن أوليائه على قدر إيمانهم ومنازلهم في دينه ، فأشدّ الناس بلاءً الأنبياء ، ثمّ الأمثل فالأمثل . وقد امتحنك يابن العمّ وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم (عليه السّلام) والذبيح إسماعيل (عليه السّلام) ، فصبراً صبراً ؛ فإنّ رحمة الله قريب من المحسنين )) .
ثمّ ضمّه النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى صدره وبكى وجداً به ، وبكى عليّ (عليه السّلام) جشعاً لفراق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ثمّ أوصاه بوصاياه ، وأمره في ذلك بالصبر حتّى صلّى العشائين ، ثمّ خرج (صلّى الله عليه وآله) في فحمة العشاء الآخرة والرصد من قريش قد أطافوا بداره .
نام علي (عليه السّلام) على فراش رسول الله (صلّى الله عليه وآله) موطّناً نفسه على القتل ، فأوحى الله تعالى إلى جبرائيل وميكائيل : (( إنّي آخيت بينكما ، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر ، فأيّكما يؤثر صاحبه بحياته ؟ )) .
فاختار كلّ منهما الحياة ، فأوحى الله (عزّ وجلّ) إليهما : (( أفلا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) ؛ آخيت بينه وبين محمّد (صلّى الله عليه وآله) فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره
بالحياة ؟ اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه )) .
فنزلا ، فكان جبرائيل عند رأسه ، وميكائيل عند رجيله ، وجبرائيل يقول : بخٍ بخٍ ! مَنْ مثلك يا عليّ بن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة !
فأنزل الله (عزّ وجلّ) على رسوله (صلّى الله عليه وآله) وهو متوجّه إلى المدينة في شأن عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) : ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ ) .
الفادي بزعم المسيحيِّين
يزعم المسيحيون أنّ الفادي هو المسيح عيسى بن مريم (عليه السّلام) ، فإنّهم يقولون ( الفادي ) لقب السيّد المسيح الذي فدى البشر بدمه الكريم ، ثمّ يرتّبون على زعمهم هذا غفران كلّ ما يرتكبونه من ذنوب وخطايا ، ويبرّرون به جميع جرائمهم وجناياتهم بحجّة أنّ المسيح كفّرها عنهم ، وهذا غير تامّ من وجوه :
1 ـ إنّ المسيح (عليه السّلام) لم يصلب ولم يُقتل ، وإنّما رفعه الله تعالى إليه ، كما في القرآن الكريم : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلكِن شُبّهَ لَهُمْ وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) .
وفي تفسير مجمع البيان عن ابن عبّاس أنّه قال : لمّا مسخ الله تعالى الذين سبّوا عيسى واُمّه بدعائه ، بلغ ذلك يهوذا وهو رأس اليهود ، فخاف أن يدعو عليه , فجمع اليهود فاتّفقوا على قتله ، فبعث الله تعالى جبرائيل يمنعه منهم ويعينه عليهم ، وذلك معنى قوله تعالى : ( وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) .
فاجتمع اليهود حول عيسى فجعلوا يسألونه فيقول لهم : يا معشر اليهود ، إنّ الله تعالى يبغضكم . فساروا إليه ليقتلوه ، فأدخله جبرائيل في خوخة البيت الداخل لها روزنة في سقفها ، فرفعه جبرائيل إلى السماء ، فبعث يهوذا رأس اليهود رجلاً من أصحابه
اسمه ( طيطانوس ) ليدخل عليه الخوخة فيقتله ، فدخل فلم يره ، فأبطأ عليهم فظنوا أنّه يقاتله في الخوخة ، فألقى الله عليه شبه عيسى ، فلمّا خرج على أصحابه قتلوه وصلبوه .
وقيل : أُلقي عليه شبه وجه عيسى ولم يلقَ عليه شبه جسده ، فقال بعض القوم : إنّ الوجه وجه عيسى ، والجسد جسد طيطانوس ! وقال بعضهم : إن كان هذا طيطانوس فأين عيسى ؟! وإن كان هذا عيسى فأين طيطانوس ؟! فاشتبه الأمر عليهم .
ومع هذا الترديد والتشكيك من الذين تولّوا القتل والصلب لا يثبت كون المقتول والمصلوب هو عيسى (عليه السّلام) وإن تواتروا وأجمعوا عليه ، وهو واضح لا غبار عليه .
فالقصّة إذاً من أساسها متزلزلة ومشكوكة ، فلا يعتمد عليها ؛ إذ لا أساس رصين لها رأساً .
2 ـ إنّ المسيح (عليه السّلام) بعد إخبار الله تعالى بعدم قتله لم يكن فادياً ، وإذا كان كذلك لم يصدق عليه لقب ( الفادي ) فبطل مزاعم المسيحيّين .
3 ـ إنّ ( الفادي ) على زعم المسيحيّين بالمعنى الذي يصوّرونه للسيّد المسيح (عليه السّلام) هو إسفاف بالسيّد المسيح (عليه السّلام) ، وهبوط به من مستواه الرفيع ، ومقامه المنيع الذي هو هداية البشر إلى مستوى تكفير خطايا البشر ، الذي يكون هو خير مبرّر لارتكاب البشر كلّ ما يشتهيه من جرائم وجنايات ، وما يهواه من خطايا وذنوب والذي من جملتها ، بل ومن أكبرها وأعظمها جناية هو الإسفاف بالسيّد المسيح (عليه السّلام) إلى مستوى تكفير خطايا البشر وتبريرها .
الفادي لدى المسلمين
بينما ( الفادي ) عند المسلمين هو الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ؛ حيث فدى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بنفسه ، ثمّ من بعده ابنه أبو الفضل العبّاس (عليه السّلام) الذي فدى أخاه
الإمام الحسين (عليه السّلام) بنفسه .
وما كان فداء ( الفادي ) الأوّل إلاّ لخلاص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من الأعداء ، وبقائه سالماً قادراً على تبليغ رسالات الله , وهداية الناس إلى الله تعالى وإلى دينه الحنيف . كما إنّه لم يكن فداء ( الفادي ) الثاني إلاّ وقاءً لابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي فدى دين الله بنفسه ، وقدّم دمه لإنقاذه وإبقائه ، والحفاظ على أتعاب جدّه (صلّى الله عليه وآله) .
فأيقض به عقول البشر وضمائرهم ، وأرهف عبره شعورهم وعواطفهم ؛ ليدلّهم على الله ، ويهديهم إلى دينه القويم ، وسراطه المستقيم ، وذلك كما قال فيه الإمام الصادق (عليه السّلام) عند زيارته : (( وبذل مهجته فيك ؛ ليستنقذ عبادك من الجهالة وحَيرة الضلالة )) .
المقارنة بين الفاديين
ومن المعلوم أنّ هناك فرقاً كبيراً وواضحاً بين أن يكون ( الفادي ) مكفّراً لذنوب البشر بدمه الكريم كما يزعمه المسيحيّون بالنسبة إلى السيّد المسيح (عليه السّلام) ، وبين أن يكون ( الفادي ) مضيئاً لدرب التائهين من البشر ، وهادياً لهم إلى الطريق القويم ، ودالاً إيّاهم على الصراط المستقيم ، ومنقذاً لهم من ظلمات الجهل والجهالة إلى نور العلم والثقافة ، ومن حيرة الباطل والضلالة إلى مرفأ الحقّ والهداية .
وذلك على ما يعتقده المسلمون بالنسبة إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وابنه أبي الفضل العبّاس (عليه السّلام) ؛ فإنّ ( الفادي ) بالمعنى الأوّل الذي يزعمه المسيحيّون بالنسبة إلى السيّد المسيح (عليه السّلام) ، إضافة إلى أنّه إسفاف بالسيّد المسيح (عليه السّلام) من مستواه الرفيع إلى هوّة الحضيض ، هو ترويج للظلم والجرم ، والذنوب والخطايا ، وتشجيع للجناة والظالمين ، والعصاة والمذنبين ، وتبرير لأعمالهم
السيئة وأفعالهم القبيحة .
أليس مَنْ يعلم بأنّ سيّئاته وقبائحه مكفّرة يتمادى في ظلمه وجوره ، وينغمر في السيئات والقبائح ، بينما ( الفادي ) بالمعنى الثاني الذي يعتقده المسلمون بالنسبة إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وابنه أبي الفضل العبّاس (عليه السّلام) ؛ فإنّه إضافة إلى إعطاء الإمام وابنه ما يستحقّانه من المقام الذي خصّهما الله تعالى به ، هو ترويج للعدل والإحسان ، والمثل والقيم ، وتشجيع للمحسنين والمقسطين ، والمؤثرين والمواسين ، وترغيب في الأعمال الصالحة والأفعال الحسنة ؟!
أليس مَنْ يرى إمامه ويرى ابن إمامه يفدي نفسه للهدى والحقّ ، ويبذل دمه لنصرة دين الله ، ويضحّي بكلّ ما لديه لأجل هداية الناس إلى نور العلم والعدل ، والخير والتقوى ، يرغب في الخير والتقوى ، ويضّحي من أجل تعميم القسط والعدل ، وتعزيز المثل والقيم ؟!
تعليق