بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمد وآله الطيبين الطاهرين
لا زال الكلام حول التقية وهل هي من مختصات الشيعة او انها عند جميع المذاهب ولكنهم تنكروا عنها عمدا وفعلوها سرا وقالوا بها جوازا ووصل الكلام الى المذهب المالكي بعد الكلام عنها عند المذهب الحنفي فأقول :
2 ـ المالكية وقولهم بالتقيّة:
ما ذكره مالك بن أنس في " المدوّنة الكبرى ": أخبرني ابن وهب عن رجال من أهل العلم عن علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وابن عباس وعطاء بن أبي رباح وعبد الله بن عبيد بن عمير ومجاهد وطاووس وغيرهم من أهل العلم، أنّهم كانوا لا يرون طلاق المكره شيئاً، وقال ذلك عبد الرحمن بن القاسم ويزيد بن القسيط، وقال عطاء قال الله تبارك وتعالى: (إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة) ، وقال ابن عبيد الليثي: إنّهم قوم فتّانون (ابن وهب) عن حيوة عن محمّد بن العجلان أنّ عبد الله بن مسعود قال: ما من
كلام يدرأ عنّي سوطين من سلطان إلاّ كنت متكلّماً به(1) .
ـ وقال أبو بكر ابن العربي عند كلامه على الآية 106 من سورة النحل (إلاّ من أُكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان) : فذكر استثناء من تكلّم بالكفر بلسانه عن إكراه، ولم يعقد على ذلك قلبه، فإنّه خارج عن هذا الحكم، معذور في الدنيا، مغفورٌ في الأُخرى.
ثمّ قال: والمُكرَه: هو الذي لم يُخَلّ وتصريف إرادته في متعلّقاتها المحتملة لها، فهو مختار، بمعنى أنّه بقيَ له في مجال إرادته ما يتعلّق به على البدل، وهو مكره بمعنى أنّه حذف له من متعلّقات الإرادة ما كان تصرّفها يجري عليه قبل الإكراه، وسبب حذفها قول أو فعل ; فالقول هو التهديد، والفعل هو أخذ المال، أو الضرب، أو السجن...
ثمّ قال: وقد اختلف الناس في التهديد، هل هو إكراه أم لا؟ والصحيح أنّه إكراه ; فإنّ القادر الظالم إذا قال لرجل: إن لم تفعل كذا وإلاّ قتلتك، أو ضربتك، أو أخذت مالك، أو سجنتك، ولم يكن له من يحميه إلاّ الله، فله أن يقدم على الفعل، ويسقط عنه الإثم في الجملة، إلاّ في القتل، فلا خلاف بين الأُمّة أنّه إذا أُكره عليه بالقتل أنّه لا يحلّ له أن يفدي نفسه بقتل غيره، ويلزمه أن يصبر على البلاء الذي ينزل به.
ثمّ قال: واختلف في الزنا، والصحيح أنّه يجوز له الإقدام عليه، ولا حدّ عليه خلافاً لابن الماجشون، فإنّه ألزمه الحدّ ; لأنّه رأى أنّها شهوة خلقية لا يتصوّر عليها إكراه، ولكنّه غفل عن السبب في باعث الشهوة، وأنّه باطل، وإنّما وجب الحدّ على شهوة بعث عليها سبب اختياري، فقاس الشيء على ضدّه، فلم يَحْل بصواب من عنده.
ثم قال: وأمّا الكفر بالله فذلك جائز له بغير خلاف على شرط أن يلفظ بلسانه وقلبه منشرح بالإيمان، فإن ساعد قلبه في الكفر لسانه كان آثماً كافراً ; لأنّ الإكراه لا سلطان له في الباطن وإنّما سلطته على الظاهر، بل قد قال المحقّقون من علمائنا: إنّه إذا تلفظ بالكفر أنّه لا يجوز له أن يجري على لسانه إلاّ جريان المعاريض...
ثمّ قال: ولمّا كان هذا أمراً متّفقاً عليه عند الأئمّة، مشهوراً عند العلماء ألّف في ذلك شيخ اللغة ورئيسها أبو بكر بن دريد كتاب " الملاحن " للمكرهين، فجاء ببدع للعالمين، ثم ركّب عليه المفجع الكابت، فجمع في ذلك مجموعاً وافراً حسناً، استولى فيه على الأمد وقرطس الغرض.
ثمّ قال: إنّ الكفر وإنْ كان بالإكراه جائزاً عند العلماء فإنّ من صبر على البلاء ولم يفتتن حتّى قتل فإنّه شهيد ولا خلاف في ذلك، وعليه تدلّ آثار الشريعة التىّ يطول سردها، وإنّما وقع الإذن رخصة من الله رفقاً بالخلق، وإبقاءً عليهم، ولما في هذه الشريعة من السماحة، ونفي الحرج، ووضع الإصْر.
ثمّ قال: لمّا سمح الله تعالى في الكفر به، وهو أصل الشريعة، عند الإكراه، ولم يؤاخِذْ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به، ولا يترتّب حكم عليه، وعليه جاء الأثر المشهور عند الفقهاء (رفع عن أُمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (2) .
وقال القرطبي في تفسيره ـ بعد أن ذكر حديث تعذيب عمّار بن ياسر وقوله: كلّنا تكلّم بالذي قالوا، لولا أنّ الله تداركنا، غير بلال فإنّه هانت عليه نفسه في الله فهان على قومه حتّى ملّوه وتركوه ـ: أجمع أهل العلم على أنّ من أُكره على الكفر حتّى خشي على نفسه القتل، أنّه لا أثم عليه إن كفر وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر ; هذا قول مالك والكوفيّين والشافعي.
وقال: إذا استكرهت المرأة على الزنا فلا حدّ عليها ; لقوله (إلاّ من أُكره) وقوله (عليه السلام) : " إنّ الله تجاوز عن أُمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "، ولقول الله تعالى: (فإنّ الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم) (3) يريد الفتيات، وبهذا المعنى حكم عمر في الوليدة التي استكرهها العبد فلم يحدّها، والعلماء متّفقون على أنّه لا حدّ على امرأة مستكرهة.
ثمّ، قال: أجمع العلماء على من أُكره على الكفر فاختار القتل أنّه أعظم أمراً عند الله ممّن اختار الرخصة، واختلفوا في من أُكره على غير القتل من فعل ما لا يحلّ له ; فقال أصحاب مالك: الأخذ بالشدّة في ذلك واختيار القتل والضرب أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة، ذكره ابن حبيب وسحنون، وذكر ابن سحنون عن أهل العراق أنّه إذا تهدّد بقتل أو قطع أو ضرب يخاف منه التلف فله أن يفعل ما أُكره عليه من شرب خمر أو أكل خنزير ; فإن لم يفعل حتّى قتل خفنا أن يكون آثماً كالمضطرّ...
ثمّ قال: وذكر أبو بكر محمّد بن محمّد بن الفرج البغدادي، قال: حدثنا شريح بن يونس، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن، أن عيوناً لمسيلمة أخذوا رجلين من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) فذهبوا بهما إلى مسيلمة، فقال لأحدهما: أتشهد أنّ محمّداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أنّي رسول الله؟ قال: نعم، فخلّى عنه، وقال للآخر: أتشهد أنّ محمّداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: وتشهد أنّي رسول الله؟ قال: أنا أصمّ لا أسمع ; فقدّمه وضرب عنقه، فجاء هذا إلى النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: هلكت، قال: وما أهلكك؟ فذكر الحديث، قال: أمّا صاحبك فأخذ بالثقة وأمّا أنت فأخذت بالرخصة على ما أنت عليه الساعة، قال: أشهد أنّك رسول الله، قال: أنت على ما أنت عليه.
ثمّ قال: الرخصة في من حلّفه سلطان ظالم على نفسه أو على أن يدلّه على رجل أو مال رجل ; فقال الحسن: إذا خاف عليه وعلى ماله، فليحلف ولا يكفّر يمينه ; وهو قول قتادة، إذا حلف على نفسه أو مال نفسه، وقد تقدّم ما للعلماء في هذا، وذكر موسى بن معاوية أنّ أبا سعيد ابن أشرس صاحب مالك استحلفه السلطان بتونس على رجل أراد السلطان قتله أنّه ما آواه، ولا يعلم له موضعاً ; قال: فحلف ابن أشرس ; وابن أشرس يومئذ قد علم موضعه وآواه، فحلّفه بالطلاق ثلاثاً، فحلف له ابن أشرس، ثمّ قال لامرأته: اعتزلي، فاعتزلته ; ثمّ ركب ابن أشرس حتّى قدم على البهلول بن راشد القيرواني، فأخبره الخبر ; فقال له البهلول: قال مالك: إنّك حانث، فقال ابن أشرس: وأنا سمعت مالكاً يقول ذلك، وإنّما أردت الرخصة، أو كلام هذا معناه ; فقال له البهلول ابن راشد: قال الحسن البصري: إنّه لا حنث عليك، قال: فرجع ابن أشرس إلى زوجته وأخذ بقول الحسن.
وذكر عبد الملك بن حبيب قال: حدثني معبد، عن المسيب بن
شريك، عن أبي شيبة، قال: سألت أنس بن مالك عن الرجل يؤخذ بالرجل، هل ترى أن يحلف ليقيه بيمينه؟ فقال: نعم، ولأن أحلف سبعين يميناً وأحنث أحبّ إليّ أن أدلّ على مسلم.
وقال إدريس بن يحيى: كان الوليد بن عبد الملك يأمر جواسيس يتجسّسون الخلق يأتونه بالأخبار، قال: فجلس رجل منهم في حلقة رجاء ابن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد، فرفع ذلك إليه، فقال: يا رجاء! أُذْكَر بالسوء في مجلسك ولم تغيّر؟!
فقال: ما كان ذلك يا أمير المؤمنين.
فقال له الوليد: قل الله الذي لا إله إلاّ هو.
قال: الله الذي لا إله إلاّ هو.
فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطاً.
فكان يلقى رجاء، فيقول: يا رجاء! بك يستقى المطر، وسبعون سوطاً في ظهري!
فيقول رجاء: سبعون سوطاً في ظهرك خير لك من أن يقتل رجل مسلم.
ثمّ قال: واختلف العلماء في حدّ الإكراه، فروي عن عمر بن الخطّاب (رض) أنّه قال: ليس الرجل آمن على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته، وقال ابن مسعود: ما كلام يدرأ عنّي سوطين من [سلطان] إلاّ كنت متكلماً به، وقال الحسن: التقيّة جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة، إلاّ أنّ الله تبارك وتعالى ليس يجعل في القتل تقيّة(4) .
وهو عين ما نقول به، فإذا وصلت إلى الدماء، فلا تقيّة، كما ورد عن أئمّتنا (عليهم السلام) (5) .
سنكمل البحث مع بقية الماهب والحركات في مشاركاتة آتية إن شاء الله تعالى
والحمدلله ربِّ العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته,
____________
(1) المدوّنة الكبرى ج 2 ص 129 ـ 130.
(2) أحكام القرآن ج 3 ص 160 ـ 163.
(3) سورة النور 24: 33.
(4) الجامع لأحكام القرآن ج 10 ص 119 ـ 125
(1) الوسائل ج 16 ص 234 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ باب عدم جواز التقيّة في الدم.
اللهم صلِّ على محمد وآله الطيبين الطاهرين
لا زال الكلام حول التقية وهل هي من مختصات الشيعة او انها عند جميع المذاهب ولكنهم تنكروا عنها عمدا وفعلوها سرا وقالوا بها جوازا ووصل الكلام الى المذهب المالكي بعد الكلام عنها عند المذهب الحنفي فأقول :
2 ـ المالكية وقولهم بالتقيّة:
ما ذكره مالك بن أنس في " المدوّنة الكبرى ": أخبرني ابن وهب عن رجال من أهل العلم عن علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وابن عباس وعطاء بن أبي رباح وعبد الله بن عبيد بن عمير ومجاهد وطاووس وغيرهم من أهل العلم، أنّهم كانوا لا يرون طلاق المكره شيئاً، وقال ذلك عبد الرحمن بن القاسم ويزيد بن القسيط، وقال عطاء قال الله تبارك وتعالى: (إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة) ، وقال ابن عبيد الليثي: إنّهم قوم فتّانون (ابن وهب) عن حيوة عن محمّد بن العجلان أنّ عبد الله بن مسعود قال: ما من
كلام يدرأ عنّي سوطين من سلطان إلاّ كنت متكلّماً به(1) .
ـ وقال أبو بكر ابن العربي عند كلامه على الآية 106 من سورة النحل (إلاّ من أُكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان) : فذكر استثناء من تكلّم بالكفر بلسانه عن إكراه، ولم يعقد على ذلك قلبه، فإنّه خارج عن هذا الحكم، معذور في الدنيا، مغفورٌ في الأُخرى.
ثمّ قال: والمُكرَه: هو الذي لم يُخَلّ وتصريف إرادته في متعلّقاتها المحتملة لها، فهو مختار، بمعنى أنّه بقيَ له في مجال إرادته ما يتعلّق به على البدل، وهو مكره بمعنى أنّه حذف له من متعلّقات الإرادة ما كان تصرّفها يجري عليه قبل الإكراه، وسبب حذفها قول أو فعل ; فالقول هو التهديد، والفعل هو أخذ المال، أو الضرب، أو السجن...
ثمّ قال: وقد اختلف الناس في التهديد، هل هو إكراه أم لا؟ والصحيح أنّه إكراه ; فإنّ القادر الظالم إذا قال لرجل: إن لم تفعل كذا وإلاّ قتلتك، أو ضربتك، أو أخذت مالك، أو سجنتك، ولم يكن له من يحميه إلاّ الله، فله أن يقدم على الفعل، ويسقط عنه الإثم في الجملة، إلاّ في القتل، فلا خلاف بين الأُمّة أنّه إذا أُكره عليه بالقتل أنّه لا يحلّ له أن يفدي نفسه بقتل غيره، ويلزمه أن يصبر على البلاء الذي ينزل به.
ثمّ قال: واختلف في الزنا، والصحيح أنّه يجوز له الإقدام عليه، ولا حدّ عليه خلافاً لابن الماجشون، فإنّه ألزمه الحدّ ; لأنّه رأى أنّها شهوة خلقية لا يتصوّر عليها إكراه، ولكنّه غفل عن السبب في باعث الشهوة، وأنّه باطل، وإنّما وجب الحدّ على شهوة بعث عليها سبب اختياري، فقاس الشيء على ضدّه، فلم يَحْل بصواب من عنده.
ثم قال: وأمّا الكفر بالله فذلك جائز له بغير خلاف على شرط أن يلفظ بلسانه وقلبه منشرح بالإيمان، فإن ساعد قلبه في الكفر لسانه كان آثماً كافراً ; لأنّ الإكراه لا سلطان له في الباطن وإنّما سلطته على الظاهر، بل قد قال المحقّقون من علمائنا: إنّه إذا تلفظ بالكفر أنّه لا يجوز له أن يجري على لسانه إلاّ جريان المعاريض...
ثمّ قال: ولمّا كان هذا أمراً متّفقاً عليه عند الأئمّة، مشهوراً عند العلماء ألّف في ذلك شيخ اللغة ورئيسها أبو بكر بن دريد كتاب " الملاحن " للمكرهين، فجاء ببدع للعالمين، ثم ركّب عليه المفجع الكابت، فجمع في ذلك مجموعاً وافراً حسناً، استولى فيه على الأمد وقرطس الغرض.
ثمّ قال: إنّ الكفر وإنْ كان بالإكراه جائزاً عند العلماء فإنّ من صبر على البلاء ولم يفتتن حتّى قتل فإنّه شهيد ولا خلاف في ذلك، وعليه تدلّ آثار الشريعة التىّ يطول سردها، وإنّما وقع الإذن رخصة من الله رفقاً بالخلق، وإبقاءً عليهم، ولما في هذه الشريعة من السماحة، ونفي الحرج، ووضع الإصْر.
ثمّ قال: لمّا سمح الله تعالى في الكفر به، وهو أصل الشريعة، عند الإكراه، ولم يؤاخِذْ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به، ولا يترتّب حكم عليه، وعليه جاء الأثر المشهور عند الفقهاء (رفع عن أُمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (2) .
وقال القرطبي في تفسيره ـ بعد أن ذكر حديث تعذيب عمّار بن ياسر وقوله: كلّنا تكلّم بالذي قالوا، لولا أنّ الله تداركنا، غير بلال فإنّه هانت عليه نفسه في الله فهان على قومه حتّى ملّوه وتركوه ـ: أجمع أهل العلم على أنّ من أُكره على الكفر حتّى خشي على نفسه القتل، أنّه لا أثم عليه إن كفر وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر ; هذا قول مالك والكوفيّين والشافعي.
وقال: إذا استكرهت المرأة على الزنا فلا حدّ عليها ; لقوله (إلاّ من أُكره) وقوله (عليه السلام) : " إنّ الله تجاوز عن أُمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "، ولقول الله تعالى: (فإنّ الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم) (3) يريد الفتيات، وبهذا المعنى حكم عمر في الوليدة التي استكرهها العبد فلم يحدّها، والعلماء متّفقون على أنّه لا حدّ على امرأة مستكرهة.
ثمّ، قال: أجمع العلماء على من أُكره على الكفر فاختار القتل أنّه أعظم أمراً عند الله ممّن اختار الرخصة، واختلفوا في من أُكره على غير القتل من فعل ما لا يحلّ له ; فقال أصحاب مالك: الأخذ بالشدّة في ذلك واختيار القتل والضرب أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة، ذكره ابن حبيب وسحنون، وذكر ابن سحنون عن أهل العراق أنّه إذا تهدّد بقتل أو قطع أو ضرب يخاف منه التلف فله أن يفعل ما أُكره عليه من شرب خمر أو أكل خنزير ; فإن لم يفعل حتّى قتل خفنا أن يكون آثماً كالمضطرّ...
ثمّ قال: وذكر أبو بكر محمّد بن محمّد بن الفرج البغدادي، قال: حدثنا شريح بن يونس، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن، أن عيوناً لمسيلمة أخذوا رجلين من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) فذهبوا بهما إلى مسيلمة، فقال لأحدهما: أتشهد أنّ محمّداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أنّي رسول الله؟ قال: نعم، فخلّى عنه، وقال للآخر: أتشهد أنّ محمّداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: وتشهد أنّي رسول الله؟ قال: أنا أصمّ لا أسمع ; فقدّمه وضرب عنقه، فجاء هذا إلى النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: هلكت، قال: وما أهلكك؟ فذكر الحديث، قال: أمّا صاحبك فأخذ بالثقة وأمّا أنت فأخذت بالرخصة على ما أنت عليه الساعة، قال: أشهد أنّك رسول الله، قال: أنت على ما أنت عليه.
ثمّ قال: الرخصة في من حلّفه سلطان ظالم على نفسه أو على أن يدلّه على رجل أو مال رجل ; فقال الحسن: إذا خاف عليه وعلى ماله، فليحلف ولا يكفّر يمينه ; وهو قول قتادة، إذا حلف على نفسه أو مال نفسه، وقد تقدّم ما للعلماء في هذا، وذكر موسى بن معاوية أنّ أبا سعيد ابن أشرس صاحب مالك استحلفه السلطان بتونس على رجل أراد السلطان قتله أنّه ما آواه، ولا يعلم له موضعاً ; قال: فحلف ابن أشرس ; وابن أشرس يومئذ قد علم موضعه وآواه، فحلّفه بالطلاق ثلاثاً، فحلف له ابن أشرس، ثمّ قال لامرأته: اعتزلي، فاعتزلته ; ثمّ ركب ابن أشرس حتّى قدم على البهلول بن راشد القيرواني، فأخبره الخبر ; فقال له البهلول: قال مالك: إنّك حانث، فقال ابن أشرس: وأنا سمعت مالكاً يقول ذلك، وإنّما أردت الرخصة، أو كلام هذا معناه ; فقال له البهلول ابن راشد: قال الحسن البصري: إنّه لا حنث عليك، قال: فرجع ابن أشرس إلى زوجته وأخذ بقول الحسن.
وذكر عبد الملك بن حبيب قال: حدثني معبد، عن المسيب بن
شريك، عن أبي شيبة، قال: سألت أنس بن مالك عن الرجل يؤخذ بالرجل، هل ترى أن يحلف ليقيه بيمينه؟ فقال: نعم، ولأن أحلف سبعين يميناً وأحنث أحبّ إليّ أن أدلّ على مسلم.
وقال إدريس بن يحيى: كان الوليد بن عبد الملك يأمر جواسيس يتجسّسون الخلق يأتونه بالأخبار، قال: فجلس رجل منهم في حلقة رجاء ابن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد، فرفع ذلك إليه، فقال: يا رجاء! أُذْكَر بالسوء في مجلسك ولم تغيّر؟!
فقال: ما كان ذلك يا أمير المؤمنين.
فقال له الوليد: قل الله الذي لا إله إلاّ هو.
قال: الله الذي لا إله إلاّ هو.
فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطاً.
فكان يلقى رجاء، فيقول: يا رجاء! بك يستقى المطر، وسبعون سوطاً في ظهري!
فيقول رجاء: سبعون سوطاً في ظهرك خير لك من أن يقتل رجل مسلم.
ثمّ قال: واختلف العلماء في حدّ الإكراه، فروي عن عمر بن الخطّاب (رض) أنّه قال: ليس الرجل آمن على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته، وقال ابن مسعود: ما كلام يدرأ عنّي سوطين من [سلطان] إلاّ كنت متكلماً به، وقال الحسن: التقيّة جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة، إلاّ أنّ الله تبارك وتعالى ليس يجعل في القتل تقيّة(4) .
وهو عين ما نقول به، فإذا وصلت إلى الدماء، فلا تقيّة، كما ورد عن أئمّتنا (عليهم السلام) (5) .
سنكمل البحث مع بقية الماهب والحركات في مشاركاتة آتية إن شاء الله تعالى
والحمدلله ربِّ العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته,
____________
(1) المدوّنة الكبرى ج 2 ص 129 ـ 130.
(2) أحكام القرآن ج 3 ص 160 ـ 163.
(3) سورة النور 24: 33.
(4) الجامع لأحكام القرآن ج 10 ص 119 ـ 125
(1) الوسائل ج 16 ص 234 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ باب عدم جواز التقيّة في الدم.
تعليق