من المذاهب الفلسفية تنظر إلى الحياة نظرة ملؤها الشر والغضب ، وهي تحسب أنّ هناك نقصاً في العالم أو تناقضاً ، وإنّ الإنسان أسمى من أن يعيش في هذه العالم ، فليست هناك أيّة رابطة ـ في نظرها ـ تربط الإنسان بهذه الحياة إلاّ علاقة السجين بسجنه أو الواقع في البئر ، فلا نجاة له إلاّ أن يتخلّص من شرور هذه الحياة ، فهل الإسلام ينظر إلى الحياة بهذه النظرة أيضاً ؟ كلا .
إنّ الإسلام ـ المتمثّل في نهج بلاغة الإمام ( عليه السلام ) ـ يرى علاقة الإنسان بالدنيا كعلاقة الزارع بزرعه : ( الدنيا مزرعة الآخرة )، أو علاقة التاجر بالمتجر : ( إنّ الدنيا متجر أولياء الله ) (4) ، أو علاقة المسابق بميدان السباق : ( ألا وإنّ اليوم المظمار وغداً السباق ، والسبقة الجنّة والغاية النار ) (5) ، أو علاقة العابد بالمسجد : ( الدنيا ... مسجد أحباء الله ) (6) .
ويمكننا أن نلخّص القول في وجهة نظر نهج البلاغة إلى الحياة في الحكمة 131 من كلمات ردّ بها الإمام ( عليه السلام ) على من سمعه يذم الدنيا ( غداة الندامة ) وهو يحسبها ( متجرمة عليه ) ، بناء على فكرة ( الفلك الظالم ) و( جور الدهر ) كما يتبيّن هذا من مطاوي كلامه ( عليه السلام ) :
( أيّها الذام للدنيا ، المغتر بغرورها ، المخدوع بأباطيلها ، ثمّ تذمّها ! أتغتر بالدنيا ثمّ تذمّها ؟ أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك ؟! متى استهوتك أم متى غرّتك ! أبمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمّهاتك تحت الثرى ؟! كم عللت بكفيك وكم مرضت بيديك ؟ أتبغي لهم الشفاء وتستوصف لهم الأطباء ، لم ينفع أحدهم إشفاقك ، ولم تسعف فيه بطلبتك ، ولم تدفع عنهم بقوّتك ، قد مثلت لك به الدنيا نفسك وبمصرعه مصرعك .
إنّ الدنيا دار صدق لمن صدّقها ، ودار عافية لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزوّد منها ، ودار موعظة لمن اتعظ بها ، مسجد أحباء الله ومهبط وحي الله ، ومتجر أولياء الله ، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنّة .
فمن ذا يذمّها وقد أذنت بينها ونادت بفراقها ، ونعت نفسها وأهلها ؟ فمثلت لهم ببلائها البلاء ، وشوقتهم بسرورها إلى السرور ، راحت بعافية وابتكرت بفجيعة ترغيباً ، وترهيباً ، وتخويفاً ، وتحذيراً .
فذمّها رجال غداة الندامة ، وحمدها آخرون يوم القيامة ، ذكرتهم الدنيا فتذكّروا ، وحدّثتهم فصدّقوا ، ووعظتهم فاتعظوا ) .
وخلاصة ما يستفاد من كلام الإمام ( عليه السلام ) ، هو أنّه سمع رجلاً قد اغتر بغرور الدنيا وخدع بأباطيلها ، فلمّا ندم ذمّها غداة الندامة ، وهو يحسب أنّها هي المتجرمة عليه ، فردّ الإمام : بأنّك أنت المتجرم عليها ، لأنّك أنت المغتر بغرورها المخدوع بأباطيلها ، ولكن ليست هي التي استهوتك وغرّتك ، بل قد أذنت ببينها ونادت بفراقها ونعت أهلها ونفسها ، تخويفاً وتحذيراً وترهيباً ، فما تخوّفت وما حذرت ، بينما تذكّر رجال آخرون فصدّقوها واتعظوا بها ، فجعلوها مسجداً ومصلّى ، ومكسباً ومتّجراً ترددّوا منه فربحوا الجنّة ، وسيحمدها هؤلاء يوم القيامة ، وتذمّها أنت يوم الندامة ، فأنت المتجرم عليها لا هي المتجرمة ، وليست عليها بل عليك الملامة !
إذن ، فالإسلام لا يرى العالم عبثاً ، ولا وجود الإنسان فيه خطأً ، ولا عواطفه الفطرية غلطاً ، وإذن : فماذا يعني ذم الدنيا في نهج البلاغة ؟
ونقول : من غرائز الإنسان الطبيعية غريزة التعبّد والتقديس ، والسعي وراء السعادة والكمال ، وما يرتبط به ويعتمد عليه أكثر من ارتباط عادي ، يجعله منتهى مناه وكل أمله ، وهنا إذا لم يهتد الإنسان إلى الصراط المستقيم في قدسه وأمله ، فسوف يضل عن الصراط السوي ويتيه في متاهات الضلالة ، سادراً في الغي يخبط في عمياء لا يهدي سبيلاً ، وحينذاك تتبدّل ( الوسيلة بالغاية ) و( الطريق بالهدف ) و( وسيلة النجاة بسلاسل الأسر والعبودية ) ، وحينئذ تتبدّل حرّية حركته ونشاطه ومساعيه إلى أسر وعبودية وجمود .
وهذا هو الذي ينبغي أن لا يكون ، وهو على خلاف نظام التكامل في الحياة ، بل هو نقص ونوع من الفناء لا البقاء ، وهو آفة الإنسان في معاشه ، ويراه الإمام والإسلام خطراً ينبه للحذر منه .
ولا شك أنّ الإسلام يعد الإنسان إزاء هذه الحياة بحياة أخرى أفضل منها بمراتب ، ولا يرى لهذه الحياة الدنيا ما ينبغي أن تكون غاية مناه ومنتهى آماله ، بل يراها مجالاً لأعمال صالحة تصبح وسيلة إلى السعادة الدائمة ، ويرى الإنسان أمسى وأعز من أن يكون عبداً لها ، ولمن في يده شيء منها !
ولهذا نرى الإمام ( عليه السلام ) يؤكّد على حسن هذه الحياة ، ولكن ليس ذلك إلاّ لمن لم يرض بها دار مقر دائم ، فيقول : ( ولنعم دار لمن لم يرض بها داراً ... )،
ويكرّر : ( الدنيا دار مجاز لا دار قرار ، فخذوا من ممرّكم لمقرّكم ) والإنسان حر طليق ، ولهذا فإنّ كل أسر أو قيد أو حدّ ، يحدّ من شخصيته وعظمته .
هل تعتبر الحياة سجن للمؤمن
إنّ الإسلام ـ المتمثّل في نهج بلاغة الإمام ( عليه السلام ) ـ يرى علاقة الإنسان بالدنيا كعلاقة الزارع بزرعه : ( الدنيا مزرعة الآخرة )، أو علاقة التاجر بالمتجر : ( إنّ الدنيا متجر أولياء الله ) (4) ، أو علاقة المسابق بميدان السباق : ( ألا وإنّ اليوم المظمار وغداً السباق ، والسبقة الجنّة والغاية النار ) (5) ، أو علاقة العابد بالمسجد : ( الدنيا ... مسجد أحباء الله ) (6) .
ويمكننا أن نلخّص القول في وجهة نظر نهج البلاغة إلى الحياة في الحكمة 131 من كلمات ردّ بها الإمام ( عليه السلام ) على من سمعه يذم الدنيا ( غداة الندامة ) وهو يحسبها ( متجرمة عليه ) ، بناء على فكرة ( الفلك الظالم ) و( جور الدهر ) كما يتبيّن هذا من مطاوي كلامه ( عليه السلام ) :
( أيّها الذام للدنيا ، المغتر بغرورها ، المخدوع بأباطيلها ، ثمّ تذمّها ! أتغتر بالدنيا ثمّ تذمّها ؟ أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك ؟! متى استهوتك أم متى غرّتك ! أبمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمّهاتك تحت الثرى ؟! كم عللت بكفيك وكم مرضت بيديك ؟ أتبغي لهم الشفاء وتستوصف لهم الأطباء ، لم ينفع أحدهم إشفاقك ، ولم تسعف فيه بطلبتك ، ولم تدفع عنهم بقوّتك ، قد مثلت لك به الدنيا نفسك وبمصرعه مصرعك .
إنّ الدنيا دار صدق لمن صدّقها ، ودار عافية لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزوّد منها ، ودار موعظة لمن اتعظ بها ، مسجد أحباء الله ومهبط وحي الله ، ومتجر أولياء الله ، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنّة .
فمن ذا يذمّها وقد أذنت بينها ونادت بفراقها ، ونعت نفسها وأهلها ؟ فمثلت لهم ببلائها البلاء ، وشوقتهم بسرورها إلى السرور ، راحت بعافية وابتكرت بفجيعة ترغيباً ، وترهيباً ، وتخويفاً ، وتحذيراً .
فذمّها رجال غداة الندامة ، وحمدها آخرون يوم القيامة ، ذكرتهم الدنيا فتذكّروا ، وحدّثتهم فصدّقوا ، ووعظتهم فاتعظوا ) .
وخلاصة ما يستفاد من كلام الإمام ( عليه السلام ) ، هو أنّه سمع رجلاً قد اغتر بغرور الدنيا وخدع بأباطيلها ، فلمّا ندم ذمّها غداة الندامة ، وهو يحسب أنّها هي المتجرمة عليه ، فردّ الإمام : بأنّك أنت المتجرم عليها ، لأنّك أنت المغتر بغرورها المخدوع بأباطيلها ، ولكن ليست هي التي استهوتك وغرّتك ، بل قد أذنت ببينها ونادت بفراقها ونعت أهلها ونفسها ، تخويفاً وتحذيراً وترهيباً ، فما تخوّفت وما حذرت ، بينما تذكّر رجال آخرون فصدّقوها واتعظوا بها ، فجعلوها مسجداً ومصلّى ، ومكسباً ومتّجراً ترددّوا منه فربحوا الجنّة ، وسيحمدها هؤلاء يوم القيامة ، وتذمّها أنت يوم الندامة ، فأنت المتجرم عليها لا هي المتجرمة ، وليست عليها بل عليك الملامة !
إذن ، فالإسلام لا يرى العالم عبثاً ، ولا وجود الإنسان فيه خطأً ، ولا عواطفه الفطرية غلطاً ، وإذن : فماذا يعني ذم الدنيا في نهج البلاغة ؟
ونقول : من غرائز الإنسان الطبيعية غريزة التعبّد والتقديس ، والسعي وراء السعادة والكمال ، وما يرتبط به ويعتمد عليه أكثر من ارتباط عادي ، يجعله منتهى مناه وكل أمله ، وهنا إذا لم يهتد الإنسان إلى الصراط المستقيم في قدسه وأمله ، فسوف يضل عن الصراط السوي ويتيه في متاهات الضلالة ، سادراً في الغي يخبط في عمياء لا يهدي سبيلاً ، وحينذاك تتبدّل ( الوسيلة بالغاية ) و( الطريق بالهدف ) و( وسيلة النجاة بسلاسل الأسر والعبودية ) ، وحينئذ تتبدّل حرّية حركته ونشاطه ومساعيه إلى أسر وعبودية وجمود .
وهذا هو الذي ينبغي أن لا يكون ، وهو على خلاف نظام التكامل في الحياة ، بل هو نقص ونوع من الفناء لا البقاء ، وهو آفة الإنسان في معاشه ، ويراه الإمام والإسلام خطراً ينبه للحذر منه .
ولا شك أنّ الإسلام يعد الإنسان إزاء هذه الحياة بحياة أخرى أفضل منها بمراتب ، ولا يرى لهذه الحياة الدنيا ما ينبغي أن تكون غاية مناه ومنتهى آماله ، بل يراها مجالاً لأعمال صالحة تصبح وسيلة إلى السعادة الدائمة ، ويرى الإنسان أمسى وأعز من أن يكون عبداً لها ، ولمن في يده شيء منها !
ولهذا نرى الإمام ( عليه السلام ) يؤكّد على حسن هذه الحياة ، ولكن ليس ذلك إلاّ لمن لم يرض بها دار مقر دائم ، فيقول : ( ولنعم دار لمن لم يرض بها داراً ... )،
ويكرّر : ( الدنيا دار مجاز لا دار قرار ، فخذوا من ممرّكم لمقرّكم ) والإنسان حر طليق ، ولهذا فإنّ كل أسر أو قيد أو حدّ ، يحدّ من شخصيته وعظمته .
هل تعتبر الحياة سجن للمؤمن