بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمد وآله الطيبين الطاهرين
ولا زلنا نبحث التقية وقد اثبتنا انها ليست من مختصات الشيعة فقد قال بها الأحناف والمالكية والشافعية حسب ما قدمنا تحت عنوان: حسب عقيدة الشيعة الصحابة كلُّهم كاذبون ، والآن نتعرف رأي الحنابلة فأقول :
4ـ الحنابلة وقولهم بالتقيّة:
أمّا الحنابلة فقد كانوا أشدّ الناس فزعاً إلى التقيّة عندما لم يجدوا مندوحة عنها لمّا دال الدهر عليهم يوماً من الأيّام، وكوتهم نار الاضطهاد، وذلك في أيّام المحنة بخلق القرآن(1) عندما حمل المأمون والواثق والمعتصم المسلمين على القول بها ، ومن لم يقل بخلق القرآن سوف يتعرّض للضرب والتعذيب والسجن والقتل ، فكلّهم أجاب إلى ذلك ومن امتنع قتل ، كأحمد بن نصر الخزاعي(2) ، وممّن أجاب إلى القول بخلق القرآن والتجأ إلى التقيّة أحمد بن حنبل ـ وإن نفى بعضهم ذلك ، ولكن الصحيح أنّه أجاب كما سيأتي ـ ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، ومحمّد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم المستملي، ويزيد بن هارون، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد ابن الدورقي، والقواريري، وعلي بن الجعد، والنضر بن شميّل، وغيرهم من أئمّة الحديث(3) .
قال ابن واضح: وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل في خلق القرآن، فقال أحمد: أنا رجل علمت علماً، ولم أعلم فيه بهذا، فأحضر له الفقهاء، وناظره عبد الرحمن بن إسحاق وغيره، فامتنع أن يقول إنّ القرآن مخلوق، فضرب عدّة سياط، فقال إسحاق بن إبراهيم: ولّني يا أمير المؤمنين مناظرته، فقال: شأنك به! فقال إسحاق: هذا العلم الذي علمته نزل به عليك ملك، أو علمته من الرجال؟
قال: بل علمته من الرجال.
قال: شيئاً بعد شيء، أو جملة؟
قال: علمته شيئاً بعد شيء.
قال: فبقي عليك شيء لم تعلمه؟
قال: بقي عليّ.
قال: فهذا ممّا لم تعلمه، وقد علّمكه أمير المؤمنين.
قال: فإنّي أقول بقول أمير المؤمنين.
قال: في خلق القرآن؟
قال: في خلق القرآن.
فأشهد عليه وخلع عليه، وأطلقه إلى منزله(4) .
وحكى أبو بكر ابن العربي التجاء أحمد بن حنبل إلى التقيّة والتورية زمن فتنة القول بخلق القرآن (أنّه دعي إلى أن يقول بخلق القرآن، فقال: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور ـ يعدّدهن بيده ـ هذه الأربعة مخلوقة، يقصد هو بقلبه أصابعه التي عدّدها بها، وفهم الذي أكرههُ أنّه يريد الكتب الأربعة المنزّلة من الله على أنبيائه، فخلص في نفسه، ولم يضره فهم الذي أكرهه) (5) .
ـ قال ابن قدامة الحنبلي في المغني: ومن أكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر لم يصر كافراً، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي، ثمّ استدلّ بقوله تعالى: (إلاّ من أُكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان) ثمّ ذكر حديث تعذيب المشركين لعمّار بن ياسر(6) ، وراجع كلامه في مسألة (من أُكره على الطلاق لم يلزمه)(7).
ـ وقال ابن الجوزي: الإكراه على كلمة الكفر يبيح النطق بها ; وفي الإكراه المبيح لذلك عن أحمد روايتان، إحداهما: أنّه يخاف على نفسه أو على بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أُمر به، والثانية: أنّ التخويف لا يكون إكراهاً حتّى ينال بعذاب، وإذ ثبت جواز التقيّة فالأفضل أن لا يفعل، نصّ عليه أحمد في أسير خُيّر بين القتل وشرب الخمر، فقال: إن صبر على القتل فله الشرف وإن لم يصبر فله الرخصة، فظاهر هذا الجواز.
وروى عنه الأثرم أنّه سُئل عن التقيّة في شرب الخمر، فقال إنّما التقيّة في القول(8) .
وسنكمل البحث حول التقية والقول بها من جميع المسلمين بل انها ممن إتفق عليها جميع البشر
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته,
____________
(1) من المسائل الكلامية التي شغلت بال المسلمين في القرن الثاني الهجري وما تلاه من القرون وبلغت الذروة زمن المأمون وحتّى زمن المتوكّل هي مسألة قدم كلام الله وحدوثه والتي عرفت بـ (محنة خلق القرآن) ، وإن شئت فسمّها مهزلة المحنة، والتي بسببها أريقت الدماء وأُزهقت النفوس، والحقّ أنّ كل عاقل يرى أنّ الخوض فيها مضيعة للوقت، بل من التفاهات، وقد أمر أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أصحابهم بعدم الخوض فيها، وعلى العموم فالأقوال فيها ثلاثة:
1 ـ جعل التكلّم من صفات الذات والقول بقدمه، وتبنّى هذا القول أهل الحديث، والحشوية، والحنابلة وعلى رأسهم أحمد بن حنبل، قال في كتاب السنّة ص 49: (والقرآن كلام الله ليس بمخلوق فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله عزّ وجلّ ووقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق فهو أخبث من الأوّل، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله، فهو جهمي، ومن لم يكفّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم، وكلّم الله موسى تكليماً، من الله سمع موسى يقيناً، وناوله التوراة من يده) ، بل قال بعضهم: الجلد والغلاف قديمان، كما في المواقف ص 293، شرح التجريد ص 416.
2 ـ جعل التكلّم من صفات الفعل والقول بخلقه، وتبنّى هذا القول المعتزلة والإمامية، وأبو حنيفة الذي استتيب من القول به تقيّة.
3 ـ ثمّ برز رأي ثالث أتى به إمام الأشاعرة أبو الحسن الأشعري والذي كما يبدو أنّه ورث الذكاء والنباهة من جدّه التاسع بطل التحكيم يوم صفّين، فقد قسّم الكلام إلى قسمين: الكلام النفسي، وجعله من صفات الذات، وقال بقدمه، والحروف والأصوات المسموعة وجلعها من صفات الفعل، وهي دالّة عليه.
ونقول: لا شكّ في أنّه تعالى متكلّم، والمعقول من الكلام عبارة عن الحروف والأصوات المسموعة، ولا تلتئم كلاماً مفهوماً إلاّ بأحد الوجوه التي يحصل بها الإفهام، وذلك بأن يكون خبراً أو أمراً أو نهياً أو استفهاماً أوتنبيهاً، وهو الشامل للتمنّي، والترجّي، والتعجّب، والقسم، والنداء، ولا وجود له إلاّ في هذه الجزئيات، غير إنّ الذين أثبتوا قدم الكلام وجعلوه مغايراً لهذه المعاني أثبتوا شيئاً لا يعقل ولا يتصوّر مطلقاً.
وخلاصة القول: إنّ الكلام إمّا أن يكون إخباراً وليس وراءه شيء سوى التصوّرات والتصديقات، فيدخل في صفة العلم، وإمّا أن يكون إنشاءً وليس وراء الجملة الإنشائية المتضمّنة للأمر والنهي سوى الإرادة والكراهة، فلا وجود للكلام النفسي، لأنّه ليس بمتصوّر ولا يعقل، حتّى الأشاعرة أنفسهم لم يعقلوه.
والصحيح أنّ كلامه تعالى محدث ليس بقديم عقلا وسمعاً، فمن جهة العقل: إنّ الكلام مركّب من حروف وأصوات، ومن المحال اجتماع حروف كلمة واحدة، بل حرفين في السماع في آن واحد ودفعةً واحدة، فلابدّ أن يكون أحدهما سابق الآخر، والمسبوق حادث بالضرورة، والسابق متناه، فهو حادث بالضرورة.
وأمّا من جهة السمع: فقد قال تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدث) سورة الأنبياء الآية 2.
وأجمع المفسّرون على أنّ الذكر هو القرآن، وقوله تعالى: (إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) سورة النحل الآية 40، وهذا إخبار عن المستقبل فيكون حادثاً.
ولا يخفى ماذا يعني الالتزام بهذه المقالة الفاسدة من استلزام نسبة السفه والجهل إليه تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، فكيف يخاطب في الأزل بمثل قوله تعالى: (أقيموا الصلاة) و (يا أيّها الناس اعبدوا ربّكم) و (أوفوا بالعقود) ولا مخاطب هناك، ولا ناس عنده؟! كما ويستلزم نسبة الكذب إليه جلّ وعلا عن ذلك بمثل قوله تعالى: (إنّا أرسلنا نوحاً) ولا نوح هناك، وقوله تعالى: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ) ولا ابن أُبَي بن سلول عنده، وقوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) ولا خولة الأنصارية عنده، وقوله تعالى: (إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات) ولا مناد ولا حجرات هناك، بل يستلزم أن يكون كلّ ما ذكر في القرآن من سماوات وأرضين ونجوم وكواكب وإنسان وحيوان وجانّ وشجر وثمر وماء وهواء أن يكون قديماً أزلياً.
نعوذ بالله من هذا الرأي الفاسد.
ولا بُدّ من التنبيه ها هنا على أنّ أصل شيوع هذه الفكرة في الأوساط الإسلامية كان على يد يوحنّا الدمشقي وأصحابه من النصارى الذين كانوا من حاشية البلاط الأُموي، لأنّه أراد بثّ فكرة قدم كلام الله حتّى يحصل القول ضمناً بقدم المسيح عيسى بن مريم، لأنّ القرآن ذكر بأنّه كلمة الله ألقاها إلى مريم، وبذلك تثبت دعوى النصارى بقدم المسيح.
(2) انظر: تاريخ الطبري ج 5 ص 283.
(3) تاريخ الطبري ج 5 ص 188، تاريخ ابن الأثير ج 6 ص 3، تاريخ ابن كثير ج 10 ص 228.
(4) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 432.
(5) أحكام القرآن ج 3 ص 161.
(6) المغني ج 10 ص 105.
(7) المغني ج 8 ص 259 وما بعدها.
(8) زاد المسير ج 4 ص 378.
اللهم صلِّ على محمد وآله الطيبين الطاهرين
ولا زلنا نبحث التقية وقد اثبتنا انها ليست من مختصات الشيعة فقد قال بها الأحناف والمالكية والشافعية حسب ما قدمنا تحت عنوان: حسب عقيدة الشيعة الصحابة كلُّهم كاذبون ، والآن نتعرف رأي الحنابلة فأقول :
4ـ الحنابلة وقولهم بالتقيّة:
أمّا الحنابلة فقد كانوا أشدّ الناس فزعاً إلى التقيّة عندما لم يجدوا مندوحة عنها لمّا دال الدهر عليهم يوماً من الأيّام، وكوتهم نار الاضطهاد، وذلك في أيّام المحنة بخلق القرآن(1) عندما حمل المأمون والواثق والمعتصم المسلمين على القول بها ، ومن لم يقل بخلق القرآن سوف يتعرّض للضرب والتعذيب والسجن والقتل ، فكلّهم أجاب إلى ذلك ومن امتنع قتل ، كأحمد بن نصر الخزاعي(2) ، وممّن أجاب إلى القول بخلق القرآن والتجأ إلى التقيّة أحمد بن حنبل ـ وإن نفى بعضهم ذلك ، ولكن الصحيح أنّه أجاب كما سيأتي ـ ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، ومحمّد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم المستملي، ويزيد بن هارون، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد ابن الدورقي، والقواريري، وعلي بن الجعد، والنضر بن شميّل، وغيرهم من أئمّة الحديث(3) .
قال ابن واضح: وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل في خلق القرآن، فقال أحمد: أنا رجل علمت علماً، ولم أعلم فيه بهذا، فأحضر له الفقهاء، وناظره عبد الرحمن بن إسحاق وغيره، فامتنع أن يقول إنّ القرآن مخلوق، فضرب عدّة سياط، فقال إسحاق بن إبراهيم: ولّني يا أمير المؤمنين مناظرته، فقال: شأنك به! فقال إسحاق: هذا العلم الذي علمته نزل به عليك ملك، أو علمته من الرجال؟
قال: بل علمته من الرجال.
قال: شيئاً بعد شيء، أو جملة؟
قال: علمته شيئاً بعد شيء.
قال: فبقي عليك شيء لم تعلمه؟
قال: بقي عليّ.
قال: فهذا ممّا لم تعلمه، وقد علّمكه أمير المؤمنين.
قال: فإنّي أقول بقول أمير المؤمنين.
قال: في خلق القرآن؟
قال: في خلق القرآن.
فأشهد عليه وخلع عليه، وأطلقه إلى منزله(4) .
وحكى أبو بكر ابن العربي التجاء أحمد بن حنبل إلى التقيّة والتورية زمن فتنة القول بخلق القرآن (أنّه دعي إلى أن يقول بخلق القرآن، فقال: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور ـ يعدّدهن بيده ـ هذه الأربعة مخلوقة، يقصد هو بقلبه أصابعه التي عدّدها بها، وفهم الذي أكرههُ أنّه يريد الكتب الأربعة المنزّلة من الله على أنبيائه، فخلص في نفسه، ولم يضره فهم الذي أكرهه) (5) .
ـ قال ابن قدامة الحنبلي في المغني: ومن أكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر لم يصر كافراً، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي، ثمّ استدلّ بقوله تعالى: (إلاّ من أُكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان) ثمّ ذكر حديث تعذيب المشركين لعمّار بن ياسر(6) ، وراجع كلامه في مسألة (من أُكره على الطلاق لم يلزمه)(7).
ـ وقال ابن الجوزي: الإكراه على كلمة الكفر يبيح النطق بها ; وفي الإكراه المبيح لذلك عن أحمد روايتان، إحداهما: أنّه يخاف على نفسه أو على بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أُمر به، والثانية: أنّ التخويف لا يكون إكراهاً حتّى ينال بعذاب، وإذ ثبت جواز التقيّة فالأفضل أن لا يفعل، نصّ عليه أحمد في أسير خُيّر بين القتل وشرب الخمر، فقال: إن صبر على القتل فله الشرف وإن لم يصبر فله الرخصة، فظاهر هذا الجواز.
وروى عنه الأثرم أنّه سُئل عن التقيّة في شرب الخمر، فقال إنّما التقيّة في القول(8) .
وسنكمل البحث حول التقية والقول بها من جميع المسلمين بل انها ممن إتفق عليها جميع البشر
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته,
____________
(1) من المسائل الكلامية التي شغلت بال المسلمين في القرن الثاني الهجري وما تلاه من القرون وبلغت الذروة زمن المأمون وحتّى زمن المتوكّل هي مسألة قدم كلام الله وحدوثه والتي عرفت بـ (محنة خلق القرآن) ، وإن شئت فسمّها مهزلة المحنة، والتي بسببها أريقت الدماء وأُزهقت النفوس، والحقّ أنّ كل عاقل يرى أنّ الخوض فيها مضيعة للوقت، بل من التفاهات، وقد أمر أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أصحابهم بعدم الخوض فيها، وعلى العموم فالأقوال فيها ثلاثة:
1 ـ جعل التكلّم من صفات الذات والقول بقدمه، وتبنّى هذا القول أهل الحديث، والحشوية، والحنابلة وعلى رأسهم أحمد بن حنبل، قال في كتاب السنّة ص 49: (والقرآن كلام الله ليس بمخلوق فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله عزّ وجلّ ووقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق فهو أخبث من الأوّل، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله، فهو جهمي، ومن لم يكفّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم، وكلّم الله موسى تكليماً، من الله سمع موسى يقيناً، وناوله التوراة من يده) ، بل قال بعضهم: الجلد والغلاف قديمان، كما في المواقف ص 293، شرح التجريد ص 416.
2 ـ جعل التكلّم من صفات الفعل والقول بخلقه، وتبنّى هذا القول المعتزلة والإمامية، وأبو حنيفة الذي استتيب من القول به تقيّة.
3 ـ ثمّ برز رأي ثالث أتى به إمام الأشاعرة أبو الحسن الأشعري والذي كما يبدو أنّه ورث الذكاء والنباهة من جدّه التاسع بطل التحكيم يوم صفّين، فقد قسّم الكلام إلى قسمين: الكلام النفسي، وجعله من صفات الذات، وقال بقدمه، والحروف والأصوات المسموعة وجلعها من صفات الفعل، وهي دالّة عليه.
ونقول: لا شكّ في أنّه تعالى متكلّم، والمعقول من الكلام عبارة عن الحروف والأصوات المسموعة، ولا تلتئم كلاماً مفهوماً إلاّ بأحد الوجوه التي يحصل بها الإفهام، وذلك بأن يكون خبراً أو أمراً أو نهياً أو استفهاماً أوتنبيهاً، وهو الشامل للتمنّي، والترجّي، والتعجّب، والقسم، والنداء، ولا وجود له إلاّ في هذه الجزئيات، غير إنّ الذين أثبتوا قدم الكلام وجعلوه مغايراً لهذه المعاني أثبتوا شيئاً لا يعقل ولا يتصوّر مطلقاً.
وخلاصة القول: إنّ الكلام إمّا أن يكون إخباراً وليس وراءه شيء سوى التصوّرات والتصديقات، فيدخل في صفة العلم، وإمّا أن يكون إنشاءً وليس وراء الجملة الإنشائية المتضمّنة للأمر والنهي سوى الإرادة والكراهة، فلا وجود للكلام النفسي، لأنّه ليس بمتصوّر ولا يعقل، حتّى الأشاعرة أنفسهم لم يعقلوه.
والصحيح أنّ كلامه تعالى محدث ليس بقديم عقلا وسمعاً، فمن جهة العقل: إنّ الكلام مركّب من حروف وأصوات، ومن المحال اجتماع حروف كلمة واحدة، بل حرفين في السماع في آن واحد ودفعةً واحدة، فلابدّ أن يكون أحدهما سابق الآخر، والمسبوق حادث بالضرورة، والسابق متناه، فهو حادث بالضرورة.
وأمّا من جهة السمع: فقد قال تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدث) سورة الأنبياء الآية 2.
وأجمع المفسّرون على أنّ الذكر هو القرآن، وقوله تعالى: (إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) سورة النحل الآية 40، وهذا إخبار عن المستقبل فيكون حادثاً.
ولا يخفى ماذا يعني الالتزام بهذه المقالة الفاسدة من استلزام نسبة السفه والجهل إليه تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، فكيف يخاطب في الأزل بمثل قوله تعالى: (أقيموا الصلاة) و (يا أيّها الناس اعبدوا ربّكم) و (أوفوا بالعقود) ولا مخاطب هناك، ولا ناس عنده؟! كما ويستلزم نسبة الكذب إليه جلّ وعلا عن ذلك بمثل قوله تعالى: (إنّا أرسلنا نوحاً) ولا نوح هناك، وقوله تعالى: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ) ولا ابن أُبَي بن سلول عنده، وقوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) ولا خولة الأنصارية عنده، وقوله تعالى: (إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات) ولا مناد ولا حجرات هناك، بل يستلزم أن يكون كلّ ما ذكر في القرآن من سماوات وأرضين ونجوم وكواكب وإنسان وحيوان وجانّ وشجر وثمر وماء وهواء أن يكون قديماً أزلياً.
نعوذ بالله من هذا الرأي الفاسد.
ولا بُدّ من التنبيه ها هنا على أنّ أصل شيوع هذه الفكرة في الأوساط الإسلامية كان على يد يوحنّا الدمشقي وأصحابه من النصارى الذين كانوا من حاشية البلاط الأُموي، لأنّه أراد بثّ فكرة قدم كلام الله حتّى يحصل القول ضمناً بقدم المسيح عيسى بن مريم، لأنّ القرآن ذكر بأنّه كلمة الله ألقاها إلى مريم، وبذلك تثبت دعوى النصارى بقدم المسيح.
(2) انظر: تاريخ الطبري ج 5 ص 283.
(3) تاريخ الطبري ج 5 ص 188، تاريخ ابن الأثير ج 6 ص 3، تاريخ ابن كثير ج 10 ص 228.
(4) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 432.
(5) أحكام القرآن ج 3 ص 161.
(6) المغني ج 10 ص 105.
(7) المغني ج 8 ص 259 وما بعدها.
(8) زاد المسير ج 4 ص 378.