بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمد وآله الطيبين الطاهرين
حكم منكري الرؤية
لقد تشدد بعض علماء السنة في مسألة رؤية الله تعالى حتى ذهبوا إلى تكفير مَن لم يؤمن بها ، ومِن هؤلاء إمام الحنابلة ؛ قال الشيخ محمد رشيد ( فَالْإِمَامُ أَحْمَدُ كَفَّرَ مُنْكِرِي الرُّؤْيَةِ ) 1 .
ولم يقبلوا في ذلك أيَّ استدلال ، بل لم يكن لهم استعداد لسماع أيِّ حديث من الأحاديث التي تنفي الرؤية ، فتشدَّدوا في هذا الأمر ولعنوا كلَّ مَن يُحدِّث بحديث ينفي الرؤية ، فلم يقبلوا النظر في مِثل هذه الأحاديث مخالفين بذلك المنهج العلمي الصحيح لدراسة الأحاديث ؛ فقد قيل لأحمد بن حنبل ( في رجل يحدث بحديث عن رجل عن أبي العطوف أن الله لا يُرَى في الآخرة فقال: لعن الله من يحدث بهذا الحديث اليوم، ثم قال أَخْزَى الله هذا) 2 .
ولم يكتفوا باللعن والشتم ، فقد وصل ببعضهم الحال إلى إصدار حكم القتل ضدَّ كلّ مَن لم يؤمن برؤية الله تعالى إذ ذكروا أنه قيل لمالك: إنهم يزعمون أن الله لا يُرى, فقال مالك: السيف السيف !!
واستمرَّ هذا الجمود والتطرُّف الفكري منذ القِدَم وحتَّى عصرنا الحاضر، فقد غالى مفتي السعودية عبد العزيز بن باز في فتواه فأفتى: بأن مَن ينكر رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة لا يُصَلَّى خلفه، وهو كافر ،واستدلّ لذلك بما ذكره ابن القيم في كتابه «حادي الأرواح»: ذكر الطبري وغيره أنه قيل لمالك: إنّ قوماً يزعمون أنّ الله لا يُرى يوم القيامة، فقال مالك: السيف السيف .
وقد تنبَّه بعض علماء السنَّة لهذا الجمود الفكري والتطرّف ، فراح يناقش المسألة بروح علمية كما فعل الشيخ محمد رشيد، فأخذ يعلل سبب تكفير أحمد بن حنبل لمنكري الرؤية فقال:
( لِاعْتِقَادِهِ فِيمَا نَرَى أَنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ زَنْدَقَةٍ ، لَا لِأَنَّ هَذَا الْإِنْكَارَ نَفْسَهُ زَنْدَقَةٌ ، بِحَيْثُ يَرْتَدُّ الْمُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ بِالنُّصُوصِ كُلِّهَا بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَعَمَلِهِ إِذَا فَهِمَ أَنَّ آيَاتِ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ هُوَ الْأَصْلُ الْمُحَكَّمُ الَّذِي يُرَدُّ إِلَيْهِ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي إِثْبَاتِهَا ؛ إِذِ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْعَقْلِ وَالنَّقْلِ وَهُوَ التَّنْزِيهُ ، دُونَ الْآخَرِ الْمُسْتَلْزِمِ عِنْدَهُ لِلتَّشْبِيهِ الْوَاجِبِ تَأْوِيلُهُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ النُّصُوصِ لَا لِرَدِّ شَيْءٍ مِنْهَا .
وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَعْذُرُونَ الْمُتَأَوِّلَ وَكَذَا الْجَاحِدَ لِمَا لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يُكَفِّرُونَهُ بِمُخَالَفَتِهِ لِلظَّوَاهِرِ) 3.
وقال أيضاً في سياق تضعيف حجة تلك الفتاوى التكفيرية فقال:
الرُّؤْيَةُ لَيْسَتْ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ الْقَطْعِيَّةِ.
قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ نَصٌّ أُصُولِيٌّ وَلَا لُغَوِيٌّ مُتَوَاتِرٌ قَطْعِيُّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ يَجْعَلُهَا مِنَ الْعَقَائِدِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ ، وَلَيْسَتْ مِمَّا كَانَ يُدْعَى إِلَيْهِ فِي تَبْلِيغِ الدِّينِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ مَنْ يَجْهَلُهَا أَوْ يُنْكِرُهَا كَافِرًا ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ غَرِيبِ الْعِلْمِ إِلَّا عَلَى الَّذِي يَسْتَنْبِطُهُ مِنَ الْقُرْآنِ كِبَارُ الْعَارِفِينَ ، وَرُبَّمَا كَانَ فِتْنَةً لِمَنْ دُونَهُمْ - وَكَذَلِكَ كَانَ - حَتَّى إِنَّ كِبَارَ النُّظَّارِ وَعُلَمَاءَ الْبَيَانِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي كُلٍّ مِنَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْوَارِدَةِ فِيهَا : فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ 4 ، وَالْأَعْرَافِ 5 ، وَالْقِيَامَةِ 6. فَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ مُثْبِتَةً وَبَعْضُهُمْ نَافِيَةً ، وَالْقَاعِدَةُ فِي دِينِ الرَّحْمَةِ وَالشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ أَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَّا فِيمَا كَانَ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ لُغَةً ، وَأَنَّهُمْ يُعْذَرُونَ بِاخْتِلَافِ الْأَفْهَامِ فِي غَيْرِهِ 7.
وقال أيضاً:
لَوْ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ عَقِيدَةً عَامَّةً وَرُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ لَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي آيَةٍ صَرِيحَةٍ لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ ، نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُ يُرَى بِالْأَبْصَارِ عِيَانًا بِلَا كَيْفٍ وَلَا إِحَاطَةٍ وَلَا تَمْثِيلٍ ، وَلَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه [وآله] حِينَ عَرَّفَ الْإِيمَانَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ بَعْدَ قَوْلِهِ : " أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ " : وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِأَبْصَارِهِمْ عِيَانًا بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ ، وَلَأَمَرَ بِتَلْقِينِ هَذَا لِكُلِّ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ ، وَلَتَوَاتَرَ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ الْجَرْيُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ ، وَإِذًا لَمَا وَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ ، وَلَمَا اسْتَنْكَرَتْ عَائِشَةُ سُؤَالَ مَسْرُوقٍ إِيَّاهَا عَنْ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه [وآله] لِرَبِّهِ حَتَّى قَفَّ شَعْرُهَا مِنِ اسْتِعْظَامِ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لَمَا اسْتَنْكَرَتْ وَاسْتَكْبَرَتْ حُصُولَهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه [وآله] فِي الدُّنْيَا امْتِيَازًا لَهُ ؛ لِأَنَّ رُوحَهُ فِيهَا أَقْوَى مِنْ أَرْوَاحِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ فَيَطِيقُ مَا لَا يُطِيقُهُ غَيْرُهُ حَتَّى مُوسَى - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَ لَقَاسَتْ هَذَا الِامْتِيَازَ عَلَى النَّاسِ بِامْتِيَازِهِ - عَلَيْهِ صَلَوَاتُ الله - عَلَيْهِمْ بِالْوَحْيِ وَرُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ ؛ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه [وآله] كَانَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ لَا فِي عَالَمِ الْأَرْضِ 8 .
فمسألة رؤية الله تعالى من المسائل الكلامية التي اختلفت فيها آراء علماء المسلمين ،ولكلِّ فريق منهم أدلته وحججه الخاصة التي تستند إلى الكتاب والسنة ، فلا يجوز تكفير منكري الرؤية إذا كان سبب إنكارهم يستند إلى الآيات القرآنية ، والأحاديث الشريفة إضافة إلى استلزام الرؤية إثبات الجسمية لله تعالى ، وتشبيه الخالق بالمخلوق ، وعدم القول بالرؤية يؤدِّي إلى تنزه الخالق من صفات المخلوقين.
وسنذكر الأدلة النقليَّة والعقلية الَّتي تنفي رؤية الله تعالى بالأبصار.
نقلا عن كتاب إستاذنا السيد إحسان علي الغريفي دام عزه
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته,
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
1- تفسير المنار لمحمد رشيد:9/118[سورة الأعراف/آية: 144]، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، سنة النشر : 1990 م.
2- معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول للحافظ بن أحمد حكمي:1 / 341، تحقيق : عمر بن محمود أبو عمر ، دار ابن القيم ،الدمام- السعودية،ط.الأولى؛1410 هـ- 1990 م.
3- تفسير المنار لمحمد رشيد:9/118[سورة الأعراف/آية: 144]، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، سنة النشر : 1990 م.
4- يعني قوله تعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام:103].
5- يعني : قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) [الأعراف/143].
6-يعني قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) [القيامة/22، 23].
7-تفسير المنار لمحمد رشيد:9/137[سورة الأعراف/آية: 144]، الهيئة المصرية العامة للكتاب،سنة النشر : 1990 م.
8-تفسير المنار لمحمد رشيد:9/137[سورة الأعراف/آية: 144]، الهيئة المصرية العامة للكتاب،سنة النشر : 1990 م.
اللهم صلِّ على محمد وآله الطيبين الطاهرين
حكم منكري الرؤية
لقد تشدد بعض علماء السنة في مسألة رؤية الله تعالى حتى ذهبوا إلى تكفير مَن لم يؤمن بها ، ومِن هؤلاء إمام الحنابلة ؛ قال الشيخ محمد رشيد ( فَالْإِمَامُ أَحْمَدُ كَفَّرَ مُنْكِرِي الرُّؤْيَةِ ) 1 .
ولم يقبلوا في ذلك أيَّ استدلال ، بل لم يكن لهم استعداد لسماع أيِّ حديث من الأحاديث التي تنفي الرؤية ، فتشدَّدوا في هذا الأمر ولعنوا كلَّ مَن يُحدِّث بحديث ينفي الرؤية ، فلم يقبلوا النظر في مِثل هذه الأحاديث مخالفين بذلك المنهج العلمي الصحيح لدراسة الأحاديث ؛ فقد قيل لأحمد بن حنبل ( في رجل يحدث بحديث عن رجل عن أبي العطوف أن الله لا يُرَى في الآخرة فقال: لعن الله من يحدث بهذا الحديث اليوم، ثم قال أَخْزَى الله هذا) 2 .
ولم يكتفوا باللعن والشتم ، فقد وصل ببعضهم الحال إلى إصدار حكم القتل ضدَّ كلّ مَن لم يؤمن برؤية الله تعالى إذ ذكروا أنه قيل لمالك: إنهم يزعمون أن الله لا يُرى, فقال مالك: السيف السيف !!
واستمرَّ هذا الجمود والتطرُّف الفكري منذ القِدَم وحتَّى عصرنا الحاضر، فقد غالى مفتي السعودية عبد العزيز بن باز في فتواه فأفتى: بأن مَن ينكر رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة لا يُصَلَّى خلفه، وهو كافر ،واستدلّ لذلك بما ذكره ابن القيم في كتابه «حادي الأرواح»: ذكر الطبري وغيره أنه قيل لمالك: إنّ قوماً يزعمون أنّ الله لا يُرى يوم القيامة، فقال مالك: السيف السيف .
وقد تنبَّه بعض علماء السنَّة لهذا الجمود الفكري والتطرّف ، فراح يناقش المسألة بروح علمية كما فعل الشيخ محمد رشيد، فأخذ يعلل سبب تكفير أحمد بن حنبل لمنكري الرؤية فقال:
( لِاعْتِقَادِهِ فِيمَا نَرَى أَنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ زَنْدَقَةٍ ، لَا لِأَنَّ هَذَا الْإِنْكَارَ نَفْسَهُ زَنْدَقَةٌ ، بِحَيْثُ يَرْتَدُّ الْمُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ بِالنُّصُوصِ كُلِّهَا بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَعَمَلِهِ إِذَا فَهِمَ أَنَّ آيَاتِ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ هُوَ الْأَصْلُ الْمُحَكَّمُ الَّذِي يُرَدُّ إِلَيْهِ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي إِثْبَاتِهَا ؛ إِذِ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْعَقْلِ وَالنَّقْلِ وَهُوَ التَّنْزِيهُ ، دُونَ الْآخَرِ الْمُسْتَلْزِمِ عِنْدَهُ لِلتَّشْبِيهِ الْوَاجِبِ تَأْوِيلُهُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ النُّصُوصِ لَا لِرَدِّ شَيْءٍ مِنْهَا .
وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَعْذُرُونَ الْمُتَأَوِّلَ وَكَذَا الْجَاحِدَ لِمَا لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يُكَفِّرُونَهُ بِمُخَالَفَتِهِ لِلظَّوَاهِرِ) 3.
وقال أيضاً في سياق تضعيف حجة تلك الفتاوى التكفيرية فقال:
الرُّؤْيَةُ لَيْسَتْ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ الْقَطْعِيَّةِ.
قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ نَصٌّ أُصُولِيٌّ وَلَا لُغَوِيٌّ مُتَوَاتِرٌ قَطْعِيُّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ يَجْعَلُهَا مِنَ الْعَقَائِدِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ ، وَلَيْسَتْ مِمَّا كَانَ يُدْعَى إِلَيْهِ فِي تَبْلِيغِ الدِّينِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ مَنْ يَجْهَلُهَا أَوْ يُنْكِرُهَا كَافِرًا ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ غَرِيبِ الْعِلْمِ إِلَّا عَلَى الَّذِي يَسْتَنْبِطُهُ مِنَ الْقُرْآنِ كِبَارُ الْعَارِفِينَ ، وَرُبَّمَا كَانَ فِتْنَةً لِمَنْ دُونَهُمْ - وَكَذَلِكَ كَانَ - حَتَّى إِنَّ كِبَارَ النُّظَّارِ وَعُلَمَاءَ الْبَيَانِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي كُلٍّ مِنَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْوَارِدَةِ فِيهَا : فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ 4 ، وَالْأَعْرَافِ 5 ، وَالْقِيَامَةِ 6. فَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ مُثْبِتَةً وَبَعْضُهُمْ نَافِيَةً ، وَالْقَاعِدَةُ فِي دِينِ الرَّحْمَةِ وَالشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ أَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَّا فِيمَا كَانَ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ لُغَةً ، وَأَنَّهُمْ يُعْذَرُونَ بِاخْتِلَافِ الْأَفْهَامِ فِي غَيْرِهِ 7.
وقال أيضاً:
لَوْ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ عَقِيدَةً عَامَّةً وَرُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ لَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي آيَةٍ صَرِيحَةٍ لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ ، نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُ يُرَى بِالْأَبْصَارِ عِيَانًا بِلَا كَيْفٍ وَلَا إِحَاطَةٍ وَلَا تَمْثِيلٍ ، وَلَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه [وآله] حِينَ عَرَّفَ الْإِيمَانَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ بَعْدَ قَوْلِهِ : " أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ " : وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِأَبْصَارِهِمْ عِيَانًا بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ ، وَلَأَمَرَ بِتَلْقِينِ هَذَا لِكُلِّ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ ، وَلَتَوَاتَرَ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ الْجَرْيُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ ، وَإِذًا لَمَا وَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ ، وَلَمَا اسْتَنْكَرَتْ عَائِشَةُ سُؤَالَ مَسْرُوقٍ إِيَّاهَا عَنْ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه [وآله] لِرَبِّهِ حَتَّى قَفَّ شَعْرُهَا مِنِ اسْتِعْظَامِ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لَمَا اسْتَنْكَرَتْ وَاسْتَكْبَرَتْ حُصُولَهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه [وآله] فِي الدُّنْيَا امْتِيَازًا لَهُ ؛ لِأَنَّ رُوحَهُ فِيهَا أَقْوَى مِنْ أَرْوَاحِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ فَيَطِيقُ مَا لَا يُطِيقُهُ غَيْرُهُ حَتَّى مُوسَى - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَ لَقَاسَتْ هَذَا الِامْتِيَازَ عَلَى النَّاسِ بِامْتِيَازِهِ - عَلَيْهِ صَلَوَاتُ الله - عَلَيْهِمْ بِالْوَحْيِ وَرُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ ؛ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه [وآله] كَانَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ لَا فِي عَالَمِ الْأَرْضِ 8 .
فمسألة رؤية الله تعالى من المسائل الكلامية التي اختلفت فيها آراء علماء المسلمين ،ولكلِّ فريق منهم أدلته وحججه الخاصة التي تستند إلى الكتاب والسنة ، فلا يجوز تكفير منكري الرؤية إذا كان سبب إنكارهم يستند إلى الآيات القرآنية ، والأحاديث الشريفة إضافة إلى استلزام الرؤية إثبات الجسمية لله تعالى ، وتشبيه الخالق بالمخلوق ، وعدم القول بالرؤية يؤدِّي إلى تنزه الخالق من صفات المخلوقين.
وسنذكر الأدلة النقليَّة والعقلية الَّتي تنفي رؤية الله تعالى بالأبصار.
نقلا عن كتاب إستاذنا السيد إحسان علي الغريفي دام عزه
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته,
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
1- تفسير المنار لمحمد رشيد:9/118[سورة الأعراف/آية: 144]، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، سنة النشر : 1990 م.
2- معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول للحافظ بن أحمد حكمي:1 / 341، تحقيق : عمر بن محمود أبو عمر ، دار ابن القيم ،الدمام- السعودية،ط.الأولى؛1410 هـ- 1990 م.
3- تفسير المنار لمحمد رشيد:9/118[سورة الأعراف/آية: 144]، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، سنة النشر : 1990 م.
4- يعني قوله تعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام:103].
5- يعني : قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) [الأعراف/143].
6-يعني قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) [القيامة/22، 23].
7-تفسير المنار لمحمد رشيد:9/137[سورة الأعراف/آية: 144]، الهيئة المصرية العامة للكتاب،سنة النشر : 1990 م.
8-تفسير المنار لمحمد رشيد:9/137[سورة الأعراف/آية: 144]، الهيئة المصرية العامة للكتاب،سنة النشر : 1990 م.
تعليق