(الدنيا المذمومة هي الهوى)
قد ظهر مما ذكر: أن الدنيا المذمومة حظ نفسك الذي لا حاجة إليه لأمر الآخرة، ويعبر عنه بالهوى، واليه أشار قوله تعالى:
" ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى "[3].
ومجامع الهوى هي المذكورة في قوله تعالى:
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد "[4].
والأعيان التي تحصل منها هذه الأمور هي المذكورة في قوله سبحانه:
" زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب "[5].
فهذه أعيان الدنيا، وللعبد معها علاقتان:
(علاقة مع القلب): وهي حبه لها وحظه منها وانصراف همه إليها حتى يصير قلبه كالعبد أو المحب المستهتر بها، ويدخل في هذه العلاقة جميع صفات القلب المتعلقة بالدنيا: كالرياء، والسمعة، وسوء الظن، والمداهنة والحسد، والحقد، والغل، والكبر، وحب المدح، والتفاخر والتكاثر. فهذه هي الدنيا الباطنة، والظاهرة هي الأعيان المذكورة.
و(علاقة مع البدن): وهو اشتغاله بإصلاح هذه الأعيان لتصلح لحظوظه وحظوظ غيره، وهذا الاشتغال عبارة عن الصناعات والحرف التي اشتغل الناس بها، بحيث أنستهم أنفسهم وخالقهم وأغفلتهم عما خلقوا لأجله، ولو عرفوا سبب الحاجة إليها واقتصروا على قدر الضرورة، لم يستغرقهم اشتغال الدنيا والانهماك فيها، ولما جهلوا بالدنيا وحكمتها وحظهم منها لم يقتصروا إلا على قدر الاحتياج، فأوقعوا انفهم في اشغالها، وتتابعت هذه الأشغال واتصلت بعضها ببعض، وتداعت إلى غير نهاية محدودة، فغفلوا عن مقصودها، وتاهوا في كثرة الأشغال. فان أمور الدنيا لا يفتح منها باب إلا وتنفتح لأجله عشرة أبواب أخر، وهكذا يتداعى إلى غير حد محصور، وكأنها هاوية لانهاية لعمقها، ومن وقع في مهواة منها سقط منها إلى اخرى.... وهكذا على التوالي. ألا ترى أن ما يضطر إليه الإنسان بالذات منحصر بالمأكل والملبس والمسكن؟ ولذلك حدثت الحاجة إلى خمس صناعات هي أصول الصناعات: الفلاحة، والرعاية للمواشي، والحياكة والبناء والاقتناص ـ أي تحصيل ما خلق الله من الصيد والمعادن والحشائش والأحطاب ـ وتترتب على كل من هذه الصناعات صناعات أخر، وهكذا إلى أن حدثت جميع الصناعات التي نراها في العالم، وما من أحد إلا وهو مشتغل بواحدة منها أو أكثر، إلا أهل البطالة والكسالة، حيث غفلوا عن الاشتغال في أول الصبا، أو منعهم مانع واستمروا على غفلتهم وبطالتهم، حتى نشأوا بلا شغل واكتساب، فاضطروا إلى الاخذ مما يسعى فيه غيرهم، ولذلك حدثت حرفتان خبيثتان هي (اللصوصية) و(الكدية)[6] ولكل واحد منهما أنواع غير محصورة لا تخفى على المتأمل.
[3] النازعات، الآية: 40.
[4] الحديد، الآية: 20.
[5] آل عمران، الآية: 14.
[6] قال في المنجد: الكدية: الاستعطاء وحرفة السائل الملح.
(شبكة اهل البيت للاخلاق الاسلامية)
تعليق