هل اقتدينا بانوار سيد الاباء ( عليه السلام )-2-
مشكلة العصر
1- انعدام الشجاعة :
لم يشاهد الناس في جميع مراحل التاريخ أشجع ،ولا أربط جأشاً ، ولا أقوى جناباً من الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، فقد وقف يوم الطف موقفاً حير فيه الألباب ، وأذهل فيه العقول ، وأخذت الأجيال تتحدث بإعجاب وإكبار عن بسالته ، وصلابة عزمه .
وقد بُهر أعداؤه الجبناء بقوة بأسه ، فإنه لم ينهر أمام تلك النكبات المذهلة التي أخذت تتواكب عليه ، وكان يزداد انطلاقاً وبشراً كلما ازداد الموقف بلاءً ومحنةً ، وقال السيد حيدر الحلي :
عفيراً متى عاينته الكماة
يختطف الرعب ألوانها
فما أجلت الحرب عن مثله
صريعاً يُجبِّن شجعانها
فقد ورث الإمام الحسين ( عليه السلام ) الشجاعة عن جده وأبيه ، وروي في البحار أنّ مروان بن الحكم قال يوماً للإمام الحسين ( عليه السلام ) : لولا فخركم بفاطمة بم كنتم تفتخرون علينا ؟ فوثب ( عليه السلام ) غضبان وكان ( عليه السلام ) شديد القبضة ، فقبض على حلقه فعصره ولوى عمامته على عنقه حتى غشي عليه ثم تركه ، فكان دائماً ( عليه السلام ) مع الحق ولا يهاب من الباطل .
ولكن يومنا هذا على عكس ما كان عليه الإمام ( عليه السلام ) ، فإنّ من أهم الصفات التي نفتقدها في يومنا الشجاعة ، فقد سادت في الناس اليوم صفة الجبن والتخاذل ، ولكن على نحو جديد وشكل حديث ، فليست لديهم الشجاعة لرد كلمة الباطل ودفعها والدفاع عن الحق وانتصاره ، لا بل يساومون على الباطل بشكل يجعلون فيه الباطل حقاً ، وعندما يريدون إظهار شجاعتهم يظهرونها على من هم أضعف أو أصغر منهم ، ويتباهون بين أبناء مجتمعهم أو أناسهم بأنهم كانوا شجعان لأنهم فعلوا كذا وكذا ، فهل هذه الشجاعة التي يرتضيها الرب لنا ؟ وهل هذه الشجاعة التي أخذناها درساً عن سيد الشجعان وسيد الإباء ( عليه السلام ) ؟ نرى اليوم العواصف والكوارث تحوط بنا ، ونرى أمواج البدع والافتراء والبلاء تموج بالناس وتأخذ الكثير منهم ، ونحن واقفون مكتفي الأيدي مشغولين بمصالحنا ومواردنا وأموالنا ، أين نضعها ؟ وكيف نحفظها ؟ مشغولين بأمورنا الدنيوية عن الأخروية ، حذرين في كل خطوة نخطوها نرى هل فيها مصلحتنا أو لا ؟ ولا نفكر هل فيها رضا الله عز وجل أو رضا أهل بيته الأطهار ( عليهم السلام ) ، ولكن أولاً نرى إن كانت فيها منفعتنا نجد لها طريقاً وان كانت فوق مصلحة المسلمين إلى رضا الله تعالى ، ونساوم على الأمور وندور حتى نسوّغ لأنفسنا ولغيرنا أعمالنا .
فلنلاحظ هل كان أئمتنا الأطهار يعيشون هكذا ويفعلون هكذا ؟ هل هذه هي الدروس التي استفدناها من أئمتنا ( عليهم السلام ) ؟ هل ضحى الإمام الحسين ( عليه السلام ) بدمه حتى نكون في هذا اليوم على هذه الحال ؟ فيا للعجب من هذا الزمان ؟؟؟
2- التمييز العنصري والتفرقة :
إنّ كثيراً من الناس تختلف أقوالهم عن أعمالهم ، فإذا كان الواحد منهم معدماً لا يملك شيئاً ، يتمنى أن لو كانت له الدنيا وما فيها ليخدم الناس ، فيقول : إذا ما وصلت إلى منصب حكومي أو مادي ، فسأرعى من تحت يدي و أساعد المحتاجين والفقراء ، ولكن عندما يجد القدرة في أي صعيد فإنه يطغى في حدود إمكاناته ، هذه طبيعة بعض الناس ، بل أغلب من هم في عصرنا .
أما أولياء الله والأئمة الطاهرون ( عليهم السلام ) ، فالمهم لديهم هو رضا الله عز وجل ، إذ يستحضرونه عزَّ وعلا دائماً في قلوبهم ويجعلون من رضائه ملاكاً لأعمالهم ، ومهما بلغت ممتلكاتهم لا يتغيرون ولا يتبدلون ، بل يسعون للاستفادة منها في خدمة المحرومين والمنقطعين .
والإمام الحسين ( عليه السلام ) من هؤلاء الأطهار ، لم ينسَ على عظمته وزعامته الدينية ، كل طبقات المجتمع حتى الموالي والعبيد ، بل كان يتعامل معهم تعامل الأب العطوف ، إذ جُبل على التواضع ومجافاة الأنانية والكبرياء ، فقد ورث هذه الظاهرة من جده الرسول ( صلى الله عليه واله ) . وروي عنه أنه تغذى مع مساكين يأكلون في الصفة ومر على فقراء يأكلون كسراً من الخبز فنزل وسلم عليهم .
أجل ، كان ( عليه السلام ) شديد الرأفة بالناس ، يمد يده لكل ذي حاجة ، ويسعف كل ذي لهفة ويجير كل من استجارَ به ، كان ملاذاً للفقراء والمحرومين ، وملجأ لمن جارت عليه الأيام ، وكان يثلج قلوب الوافدين إليه بهباته وعطاياه ، وكثيراً ما نُقل أنه كان يكرم الضيف ، ويمنح الطالب ، ويصل الرحم ، ويسعف السائل ، ويكسو العاري ،ويشبع الجائع ، ويعطي الغارم ، ويشفق على اليتيم ، ويغني ذا الحاجة .
روي أنه ( عليه السلام ) بادر إلى أسامة بن زيد قبل موته فعاده وقضى دَينه وغض الطرف عن تخلفه عن بيعة أبيه ، فلم يجازه بالمثل وإنما أغدق عليه الإحسان . وأيضاً أعتق جارية له قابلتهُ بباقة ريحان وعفا عن الرجل الذي كان يريد والي مكة قطع يده . أقول : ياليت هذا الرجل قطعت كفه لأنه الجمَّال الذي قطع كفي الأمام الحسين ( عليه السلام ) يوم عاشوراء ، فالإمام كان يعلم ما سيصنع هذا الرجل ولكن لم يقابل السيئة بالسيئة وإنما قابلها بالإحسان ، لعله يتذكر هذا الإحسان يوم الطف ، ولكن اللعنة عليه ، لقد نسي ذلك المعروف و يا للحسرة ! أغلب مجتمعنا اليوم كهذا الرجل الجمَّال ، لأنهم لم يقابلوا إحسان الإمام ( عليه السلام ) بالإحسان ، بل قابلوه بالسيئة كما فعل الجمال ، فقدَّم الإمام الحسين ( عليه السلام ) أغلى ما يملك في دنيا الوجود ، قدم أهل بيته وأخوته وبني عمومته ، قدم أولاده وطفله الرضيع ، قدم نفسه ودمه ، كل ذلك من أجلنا نحن في هذا الزمان وكل زمان ، فهل قابلنا الإمام بالإحسان ؟ هل سرنا كما سار الإمام ؟ هل عملنا كما طلب منا الإمام ؟ لا ، بل عصرنا اليوم على عكس ما أراده لنا أبو الأحرار ( عليه السلام ) ، عصرنا اليوم عصر التفرقة والتمييز العنصري ، عصر التكتلات والجماعات كل شخص في هذا اليوم يقول : فلان جماعتي أو أنا مع جماعة فلان ، فإما ينسبون علاقاتهم وتكتلهم مع أحد علماء الدين أو أحد الأحزاب أو إحدى المنظمات أو التكتلات أو ... وهكذا ، فيا للأسف ! لم نقتدِ بقدوة الإسلام الرسول الكريم ( صلى الله عليه واله ) عندما قال : ( لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى ) ، فقد جعل الرسول ( صلى الله عليه واله ) مقياس تعامله مع الناس التقوى ، ليتنا اليوم نتعظ بكلمات فاطمة الزهراء ( عليه السلام ) التي أوصت بتجنب هذه الخصلة السيئة التي لها آثار كبيرة ومساوئ وويلات ستنزل بالأمة إذا ما اتصفت بها ؛ فقالت ( عليها السلام ) كلمات ضمن خطبتها التي ألقتها في مسجد الرسول ( صلى الله عليه واله ) : ( وإطاعتنا نظاماً للملة وإمامتنا أماناً من الفرقة ) ؛ فالولاء لهم والتمسك بهم هو الأمان من تلك التفرقات ، لأننا اليوم ليس المهم عندنا رضا الله عز وجل أو رضا أوليائه ، المهم مصالحنا فقط وأن ننفع من يربطنا به رابط هذا التكتل أو هذه الجماعة ، بل نحاول بكل ما أوتينا من قوة أن نضرَّ كل مَن ليس ضمن جماعتنا أو ليس من جنسيتنا ، مع إنّ الإمام الحسين ( عليه السلام ) قد حارب هذه الفكرة وقدم لنا أروع الأمثلة الحية ، فلو نظرنا ولو نظرة غير دقيقة على حياة أصحاب الإمام الذين استشهدوا معه في كربلاء لرأينا فيهم العربي والتركي والنصراني والهاشمي والغني والفقير والحر والعبد ، فلا فرق بينهم وبين أهل بيته ، وهناك نعتزم بها قالها الشيخ عبد الزهراء الكعبي ( رحمه الله ) في المقتل : ( انظر إلى الحسين بن علي رجل الدين والإنسانية يضع خده مرة على خد ولده علي الأكبر وكذلك أيضاً مرة أخرى يضع خده على خد غلام تركي ، إذ لا يفرق إمامنا سلام الله عليه بين أفراد النوع الإنساني ، فالدين الإنساني هو الدين الإسلامي ) .
لقد حارب كل الأئمة ( عليهم السلام ) التفرقة العنصرية والتكتلات والجماعات ، وجعلوا مرجع جميع الأمة إلى نور واحد هو نور أهل البيت ( عليه السلام ) ، فيروى في كتب السيرة عن حياة الأئمة ( عليهم السلام ) أو عن حياة الإمام الحجة ( عليه السلام ) أن أنصاره وأصحابه من جميع أجناس العالم ، فيهم الأسود والأبيض والعبد والحر والعربي والأعجمي ، حتى ليُروى أنّ من أصحابه من هم من بلاد الأفرنج والسوفيت وإفريقيا ... الخ .
فكل هذه التفرقة بين الناس أدت إلى تفتت المجتمعات وابتعادها عن الخط الإسلامي الخالص وعن الله عز وجل وعن أهل البيت ( عليه السلام ) ، وكل هذا الابتعاد أدى إلى تمزق المجتمع وانهيار أسس الوحدة الإسلامية التي أسسها الرسول الكريم ( صلى الله عليه واله ) وبناها الإمام الحسين ( عليه السلام ) بدمه الطاهر و أهل بيته و أنصاره .
تعليق