بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى كان القرآن الكريم ينزل آية آية وسورة سورة، ولما كان يتمتع بالفصاحة الخارقة والبلاغة الفائقة كان ينتشر بسرعة هائلة وكان العرب عشاق الفصاحة والبلاغة ينجذبون اليه فيأتون من بلاد بعيدة
لاستماع بعض آياته من شفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). وعظماء مكة وأهل النفوذ من قريش كانوا عباد الأوثان
وألد أعداء الدعوة الاسلامية، وكانت محاولاتهم شديدة في ابعاد الناس عن النبي وعدم اعطاء الفرصة لاستماع القرآن بحجة أنه سحر يلقى عليهم.
ومع هذا كله كانوا يأتون في الليالي الظلماء خفية إلى قرب بيت النبي ويستمعون إلى الآيات التي كان يقرأها (صلى الله عليه وآله وسلم).
وجدّ المسلمون أيضا في حفظ القرآن وضبطه، لأن النبي أمر تبعليم القرآن اياهم(1)، ولأنهم كانوا يعتقدون أنه كلام الله تعالى، وهو السند الأول لعقائدهم الدينية، ويفرض عليهم في الصلاة قراءة سورة الفاتحة ومقدار آخر من القرآن.
ولما هاجر النبي إلى المدينة وانتظمت أمور المسلمين أمر الرسول جماعة من أصحابه بالاهتمام في شأن القرآن وتعليمه وتعلمه ونشر الأحكام الدينية وماينزل عليه من الوحي، فكانت تسجل هذه يوما فيوما حتى لاتضيع ، وأعفي هؤلاء عن الحضور في جبهات الجهاد كما هو صريح القرآن الكريم(2). ونظرا إلى ان الصحابة المهاجرين من مكة إلى المدينة كان اكثرهم استفاد الرسول من الأسراء اليهود وأمر كل أسير أن يعلم عددا من أصحابه، وبهذه الطريقة وجد في الصحابة جماعة متعلمين يعرفون الكتابة والقراءة. (1) سورة النحل: 44، وآيات كثيرة أخرى.
(2) سورة التوبة: 122. ومن هؤلاء الجماعة اشتغل أناس بقراءة القرآن وحفظه وضبط سوره وآياته، وهم الذين عرفوا فيما بعد بـ«القراء» ومنهم استشهد في واقعة بئر معونة أربعون أو سبعون شخصا(1). وكان كلما نزل من القرآن أو ينزل تدريجا، يكت
ب في الألواح او اكتاف الشاة أو جريد النخل ويحفظ. والذي لايقبل الشك ولايمكن انكاره هو أن اكثر السور القرآنية كانت منتشرة دائرة على السنة الصحابة قبل رحلة الرسول، وقد وردت اسماء كثير من السور في أحاديث جمة منقولة من طرق الشيعة والسنة تصف كيفية تبليغ النبي الدعوة الاسلامية و الصلوات التي كان يصليها وسيرته في قراءة القرآن.
وهكذا نجد في الأحاديث أسماء خاصة قبل رحلة الرسول لطائفة طائفة من السور كالطول والمئين والمثاني والمفصلات. بعد رحلة الرسول: بعدما ارتحل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الرفيق الأعلى جلس علي (عليه السلام) الذي كان بنص من النبي أعلم الناس بالقرآن في بيته(2) حتى جمع القرآن في مصحف على ترتيب
النزول، ولم يمض ستة أشهر من وفاة الرسول الا كان علي قد فرغ من عمل الجمع وحمله للناس على بعير(1). وبعد الرحلة بسنة واحدة(2) حدثت حرب اليمامة التي قتل فيها سبعون من القراء، ففكرت
الخلافة في جمع السور والآيات في مصحف خوفا من حدوث حرب أخرى وفناء القراء وذهاب القرآن على أثر موتهم.
أمرت الخلافة جماعة من قراء الصحابة تحت قيادة زيد بن ثابت الصحابي بالجمع، فجمعوا القرآن من الالواح وجريد النخل والاكتاف التي كانت في بيت النبي بخطوط كتاب الوحي والتي كانت عند بقية الصحابة. وعندما كملت عملية الجمع استنسخوا عدة من النسخ وأرسلت إلى الأقطار الاسلامية. وبعد مدة علم الخليفة الثالث(3) أن القرآن مهدد بالتحريف والتبديل على اثر المساهلة في أمر الاستنساخ والضبط، فأمر بأخذ مصحف حفصة وهي اول نسخة من نسخ الخليفة الأول وأمر خمسة من الصحابة منهم زيد بن ثابت أن يستنسخوا من ذلك المصحف، كما أمر أن تجمع كل النسخ الموجودة في الامصار وترسل إلى المدينة، وكانت تحرق عندما تصل نسخة من تلك النسخ. (1) المصحف للسجستاني. (2) الاتقان1/59 60.
(3) المصدر السابق1/61.
كتبوا خمس نسخ من القرآن، فجعلوا نسخة منها في المدينة وأرسلوا نسخة إلى مكة ونسخة إلى الشام ونسخة إلى الكوفة ونسخة إلى البصرة. ويقال ان غير هذه النسخ الخمس أرسلت نسخة أيضا إلى اليمين ونسخة إلى البحرين. وهذه النسخة هي التي تعرف بـ«مصحف الامام»، وجميع نسخ القرآن مكتوبة على احدى هذه النسخ.
الاختلاف الموجود(1) بين هذه النسخ والمصحف الأول أن في المصحف الأول كانت سورة البراءة بين المئين وسورة الأنفال في المثاني، وفي مصحف الامام وضعت سورة الأنفال والبراءة في مكان واحد بين سورة الأعراف وسورة يونس. اهتمام المسلمين بالقرآن: لقد قلنا ان الآيات والسور كانت موزعة عند المسلمين قبل الجمع الأول والثاني، وكانوا يهتمون بشأنها بالغ الاهتمام. وبالاضافة إلى هذا كان جماعة من الصحابة والتابعين من القراء وجمع القرآن تم بحضور هؤلاء وهم كلهم قد قبلوا المصحف إلى وضع تحت تصرفهم واستنسخوا بلا رد ولا ايراد. وحتى في الجمع الثاني (جمع عثمان) ارادوا حذف الواو من آية (والذين يكنزون الذهب والفضة)(2) فمنعوهم من هذا (1) الاتقان1/62. (2) سورة التوبة: 34.
وهددهم أبي بن كعب الصحابي باعمال السيف لو لم يثبتوا الواو فاثبتوها(1).
قرأ الخليفة الثاني(2) في أيام خلافته جملة (والذين اتبعوهم باحسان) من آية (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان)(3) بدون واو العطف فخاصموه حتى ألزموه بقراءتها مع الواو. والامام امير المؤمنين (عليه السلام) بالرغم من أنه كان اول من جمع القرآن على ترتيب النزو
وردوا جمعه ولم يشركوه في الجمع الاول والثاني، مع هذا لم يبد أية مخالفة أو معارضة وقبل المصحف ولم يقل شيئا عن هذا الموضوع حتى في أيام خلافته.
وهكذا أئمة اهل البيت (عليهم السلام) أولاد علي وخلفاؤه لم يخالفوا في الموضوع ولم يقولوا شيئا حتى لأخص أصحابهم، بل كانوا دائما يستشهدون بما في هذا المصحف ويأمرون الشيعة بالقراءة كما يقرأ الناس(4).
ويمكننا القول بجرأة أن سكوت علي (عليه السلام) الذي كان مصحفه يخالف في الترتيب المصحف المنتشر، كان لأن (1) الدر المنثور3/232. (2) الدر المنثور3/369.
(3) سورة التوبة:100. (4) الوافي5/273.
ترتيب النزول لم يكن ذا أهمية في تفسير القرآن بالقرآن الذي يهتم به أهل البيت (عليهم السلام)، بل المهم فيه هو ملاحظة مجموع الآيات ومقارنة بعضها ببعض، لأن القرآن الذي هو الكتاب الدائم لكل الأزمان والعصور والأقوام والشعوب لايمكن حصر مقاصده في خصوصية زمنية أو مكانية أو حوادث النزول وأشباهها.
نعم، بمعرفة هذه الخصوصيات يمكن استفادة بعض الفوائد كالعلم بتاريخ ظهور بعض المعارف والأحكام والقصص التي كانت مقارنة لنزول الآيات، وهكذا معرفة كيفية تقدم الدعوة الاسلامية في ثلاث وعشرين سنة وأمثالها.. ولكن المحافظة على الوحدة الاسلامية التي كانت الهدف الدائم لأهل البيت هي أهم من هذه الفوائد الجزئية.
القرآن مصون من التحريف: تاريخ القرآن واضح بين من حين نزوله حتى هذا اليوم كانت الآيات والسور دائرة على ألسنة المسلمين يتداولونها بينهم. وكلنا نعلم أن هذا القرآن الذي بأيدينا اليوم هو القرآن الذي نزل تدريجا على الرسول قبل أربعة عشر قرنا.
فاذا لايحتاج القرآن في ثبوته واعتباره إلى التاريخ مع وضوح تاريخه، لأن الكتاب الذي يدعي أنه كلام الله تعالى ويستدل على دعواه بآياته ويتحدى الجن والانس على أن يأتوا بمثله، لايمكن لاثباته ونفي التغيير والتحريف عنه التثبت بالادلة والشواهد أو تأييد شخص أو فئة لاثبات مدعاه.
نعم، أوضح دليل على أن القرآن الذي هو بأيدينا اليوم هو القرآن الذي نزل على النبي الكريم ولم يطرأ عليه أي تحريف أو تغيير، أن الأوصاف التي ذكرها القرآن نفسه موجودة اليوم كما كانت في السابق. يقول القرآن: انني نور وهداية وأرشد الناس إلى الحق والحقيقة.
ويقول: انني أبين ما يحتاج اليه الانسان ويتفق مع فطرته السليم
ويقول: انني كلام الله تعالى، ولو لم تصدقوا فليجتمع الانس والجن للاتيان بمثله، أو ليأتوا بمثل محمد الامي الذي لم يدرس طيلة حايته وليقل لهم مثل مانطق به محمد، أو انظروا في هل
تجدون اختلافا في اسلوبي أو معارفي أو أحكامي. ان هذه الاوصاف والمميزات باقية في القرآن الكريم. أما الارشاد إلى الحق والحقيقة ففي القرآن الذي بأيدينا بيان تام للاسرار الكوينة بأدق البراهين العقلية، وهو الملجأ الوحيد لدستور الحياة السعيدة الهانئة، ويدعو الانسان بمنتهى الدقة إلى الايمان طالبا خيره وحسن مآله. وأما بيان ما يحتاج اليه الانسان في حياته فان القرآن
بنظراته الصائبة جعل التوحيد الأساس الأصلي له، واستنتج بقية المعارف الاعتقادية منه ولم يغفل في هذا عن أصغر نكتة ثم استنتج منه الأخلاق الفاضلة وبينها بطرق واضحة جلية ثم بين أعمال الأنسان وأفعاله الفردية والاجتماعية وذكر وظائفه حسب ماتدل عليه الفطرة الانسانية، محيلا التفاصيل إلى السنة النبوية. ومن مجموع الكتاب والسنة نستحصل على الدين الاسلامي بأبعاده البعيدة، الدين الذي حسب لكل الجهات الفردية والاجتماعية في كل الأزمان والعصور حسابها الدقيق المتقن وأعطى حكمها خاليا عن التضاد والتدافع في أجزائه ومواده.
الاسلام الدين الذي يعجز عن تصور فهرس مسائله اكبر حقوقي في العالم طيلة حياته.
وأما اعجاز القرآن في أسلوبه البياني، فان اسلوب القرآن البياني كان من نسخ اللغة العربية في عصرها الذهبي الذي كانت الأمة العربية تتمتع فيه بالفصاحة والبلاغة، وأسلوب القرآن كان شعلة وهاجة تسطع في ذلك العصر. والعرب فقدت الفصاحة والبلاغة في القرن الأول الهجري على أثر الفتوحات الاسلامية وخلط العرب بغيرهم من الأعاجم والبعيدين عن اللغة واصبحت لغة التخاطب العربية كبقية اللغات فاقدة ذلك الاشراق البلاغي وتلك اللمعة المضيئة. ولكن اعجاز القرآن ليس في أسلوبه الخطابي اللفظي فقط، فانه يتحدى الناس في أسلوبه اللفظي والمعنوي.
ومع ذلك فان الذين لهم المام باللغة العربية شعرها ونثرها لايمكن الشك في أن لغة القرآن لغة في منتهى العذوبة والفصاحة تتحير فيها الافهام ولايمكن وصفها بالالسن. ليس القرآن بشعر ولا
نثر، بل أسلوب خاص يجذب جذب الشعر الرفيع وهو سلس سلاسة النثر العالي، لوضعت آية من آياته أو جملة من جمله في خطبة من خطب البلغاء أو صفحة من كتابة الفصحاء لأشرق كاشراق المصباح في الارض المظلمة. ومن الجهات المعنوية غير اللفظية احتفظ القرآن على اعجاز فان البرامج الاسلامية الواسعة الشاملة للمعارف الاعتقادية والأخلاقية والقوانين العملية الفردية والاجتماعية، والتي نجد أسسها وأصولها في القرآن الكريم خارجة عن نطاق قدرة الانسان، وخاصة في انسان عاش كحياة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبيئته وأمته.
لاستماع بعض آياته من شفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). وعظماء مكة وأهل النفوذ من قريش كانوا عباد الأوثان
وألد أعداء الدعوة الاسلامية، وكانت محاولاتهم شديدة في ابعاد الناس عن النبي وعدم اعطاء الفرصة لاستماع القرآن بحجة أنه سحر يلقى عليهم.
ومع هذا كله كانوا يأتون في الليالي الظلماء خفية إلى قرب بيت النبي ويستمعون إلى الآيات التي كان يقرأها (صلى الله عليه وآله وسلم).
وجدّ المسلمون أيضا في حفظ القرآن وضبطه، لأن النبي أمر تبعليم القرآن اياهم(1)، ولأنهم كانوا يعتقدون أنه كلام الله تعالى، وهو السند الأول لعقائدهم الدينية، ويفرض عليهم في الصلاة قراءة سورة الفاتحة ومقدار آخر من القرآن.
ولما هاجر النبي إلى المدينة وانتظمت أمور المسلمين أمر الرسول جماعة من أصحابه بالاهتمام في شأن القرآن وتعليمه وتعلمه ونشر الأحكام الدينية وماينزل عليه من الوحي، فكانت تسجل هذه يوما فيوما حتى لاتضيع ، وأعفي هؤلاء عن الحضور في جبهات الجهاد كما هو صريح القرآن الكريم(2). ونظرا إلى ان الصحابة المهاجرين من مكة إلى المدينة كان اكثرهم استفاد الرسول من الأسراء اليهود وأمر كل أسير أن يعلم عددا من أصحابه، وبهذه الطريقة وجد في الصحابة جماعة متعلمين يعرفون الكتابة والقراءة. (1) سورة النحل: 44، وآيات كثيرة أخرى.
(2) سورة التوبة: 122. ومن هؤلاء الجماعة اشتغل أناس بقراءة القرآن وحفظه وضبط سوره وآياته، وهم الذين عرفوا فيما بعد بـ«القراء» ومنهم استشهد في واقعة بئر معونة أربعون أو سبعون شخصا(1). وكان كلما نزل من القرآن أو ينزل تدريجا، يكت
ب في الألواح او اكتاف الشاة أو جريد النخل ويحفظ. والذي لايقبل الشك ولايمكن انكاره هو أن اكثر السور القرآنية كانت منتشرة دائرة على السنة الصحابة قبل رحلة الرسول، وقد وردت اسماء كثير من السور في أحاديث جمة منقولة من طرق الشيعة والسنة تصف كيفية تبليغ النبي الدعوة الاسلامية و الصلوات التي كان يصليها وسيرته في قراءة القرآن.
وهكذا نجد في الأحاديث أسماء خاصة قبل رحلة الرسول لطائفة طائفة من السور كالطول والمئين والمثاني والمفصلات. بعد رحلة الرسول: بعدما ارتحل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الرفيق الأعلى جلس علي (عليه السلام) الذي كان بنص من النبي أعلم الناس بالقرآن في بيته(2) حتى جمع القرآن في مصحف على ترتيب
النزول، ولم يمض ستة أشهر من وفاة الرسول الا كان علي قد فرغ من عمل الجمع وحمله للناس على بعير(1). وبعد الرحلة بسنة واحدة(2) حدثت حرب اليمامة التي قتل فيها سبعون من القراء، ففكرت
الخلافة في جمع السور والآيات في مصحف خوفا من حدوث حرب أخرى وفناء القراء وذهاب القرآن على أثر موتهم.
أمرت الخلافة جماعة من قراء الصحابة تحت قيادة زيد بن ثابت الصحابي بالجمع، فجمعوا القرآن من الالواح وجريد النخل والاكتاف التي كانت في بيت النبي بخطوط كتاب الوحي والتي كانت عند بقية الصحابة. وعندما كملت عملية الجمع استنسخوا عدة من النسخ وأرسلت إلى الأقطار الاسلامية. وبعد مدة علم الخليفة الثالث(3) أن القرآن مهدد بالتحريف والتبديل على اثر المساهلة في أمر الاستنساخ والضبط، فأمر بأخذ مصحف حفصة وهي اول نسخة من نسخ الخليفة الأول وأمر خمسة من الصحابة منهم زيد بن ثابت أن يستنسخوا من ذلك المصحف، كما أمر أن تجمع كل النسخ الموجودة في الامصار وترسل إلى المدينة، وكانت تحرق عندما تصل نسخة من تلك النسخ. (1) المصحف للسجستاني. (2) الاتقان1/59 60.
(3) المصدر السابق1/61.
كتبوا خمس نسخ من القرآن، فجعلوا نسخة منها في المدينة وأرسلوا نسخة إلى مكة ونسخة إلى الشام ونسخة إلى الكوفة ونسخة إلى البصرة. ويقال ان غير هذه النسخ الخمس أرسلت نسخة أيضا إلى اليمين ونسخة إلى البحرين. وهذه النسخة هي التي تعرف بـ«مصحف الامام»، وجميع نسخ القرآن مكتوبة على احدى هذه النسخ.
الاختلاف الموجود(1) بين هذه النسخ والمصحف الأول أن في المصحف الأول كانت سورة البراءة بين المئين وسورة الأنفال في المثاني، وفي مصحف الامام وضعت سورة الأنفال والبراءة في مكان واحد بين سورة الأعراف وسورة يونس. اهتمام المسلمين بالقرآن: لقد قلنا ان الآيات والسور كانت موزعة عند المسلمين قبل الجمع الأول والثاني، وكانوا يهتمون بشأنها بالغ الاهتمام. وبالاضافة إلى هذا كان جماعة من الصحابة والتابعين من القراء وجمع القرآن تم بحضور هؤلاء وهم كلهم قد قبلوا المصحف إلى وضع تحت تصرفهم واستنسخوا بلا رد ولا ايراد. وحتى في الجمع الثاني (جمع عثمان) ارادوا حذف الواو من آية (والذين يكنزون الذهب والفضة)(2) فمنعوهم من هذا (1) الاتقان1/62. (2) سورة التوبة: 34.
وهددهم أبي بن كعب الصحابي باعمال السيف لو لم يثبتوا الواو فاثبتوها(1).
قرأ الخليفة الثاني(2) في أيام خلافته جملة (والذين اتبعوهم باحسان) من آية (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان)(3) بدون واو العطف فخاصموه حتى ألزموه بقراءتها مع الواو. والامام امير المؤمنين (عليه السلام) بالرغم من أنه كان اول من جمع القرآن على ترتيب النزو
وردوا جمعه ولم يشركوه في الجمع الاول والثاني، مع هذا لم يبد أية مخالفة أو معارضة وقبل المصحف ولم يقل شيئا عن هذا الموضوع حتى في أيام خلافته.
وهكذا أئمة اهل البيت (عليهم السلام) أولاد علي وخلفاؤه لم يخالفوا في الموضوع ولم يقولوا شيئا حتى لأخص أصحابهم، بل كانوا دائما يستشهدون بما في هذا المصحف ويأمرون الشيعة بالقراءة كما يقرأ الناس(4).
ويمكننا القول بجرأة أن سكوت علي (عليه السلام) الذي كان مصحفه يخالف في الترتيب المصحف المنتشر، كان لأن (1) الدر المنثور3/232. (2) الدر المنثور3/369.
(3) سورة التوبة:100. (4) الوافي5/273.
ترتيب النزول لم يكن ذا أهمية في تفسير القرآن بالقرآن الذي يهتم به أهل البيت (عليهم السلام)، بل المهم فيه هو ملاحظة مجموع الآيات ومقارنة بعضها ببعض، لأن القرآن الذي هو الكتاب الدائم لكل الأزمان والعصور والأقوام والشعوب لايمكن حصر مقاصده في خصوصية زمنية أو مكانية أو حوادث النزول وأشباهها.
نعم، بمعرفة هذه الخصوصيات يمكن استفادة بعض الفوائد كالعلم بتاريخ ظهور بعض المعارف والأحكام والقصص التي كانت مقارنة لنزول الآيات، وهكذا معرفة كيفية تقدم الدعوة الاسلامية في ثلاث وعشرين سنة وأمثالها.. ولكن المحافظة على الوحدة الاسلامية التي كانت الهدف الدائم لأهل البيت هي أهم من هذه الفوائد الجزئية.
القرآن مصون من التحريف: تاريخ القرآن واضح بين من حين نزوله حتى هذا اليوم كانت الآيات والسور دائرة على ألسنة المسلمين يتداولونها بينهم. وكلنا نعلم أن هذا القرآن الذي بأيدينا اليوم هو القرآن الذي نزل تدريجا على الرسول قبل أربعة عشر قرنا.
فاذا لايحتاج القرآن في ثبوته واعتباره إلى التاريخ مع وضوح تاريخه، لأن الكتاب الذي يدعي أنه كلام الله تعالى ويستدل على دعواه بآياته ويتحدى الجن والانس على أن يأتوا بمثله، لايمكن لاثباته ونفي التغيير والتحريف عنه التثبت بالادلة والشواهد أو تأييد شخص أو فئة لاثبات مدعاه.
نعم، أوضح دليل على أن القرآن الذي هو بأيدينا اليوم هو القرآن الذي نزل على النبي الكريم ولم يطرأ عليه أي تحريف أو تغيير، أن الأوصاف التي ذكرها القرآن نفسه موجودة اليوم كما كانت في السابق. يقول القرآن: انني نور وهداية وأرشد الناس إلى الحق والحقيقة.
ويقول: انني أبين ما يحتاج اليه الانسان ويتفق مع فطرته السليم
ويقول: انني كلام الله تعالى، ولو لم تصدقوا فليجتمع الانس والجن للاتيان بمثله، أو ليأتوا بمثل محمد الامي الذي لم يدرس طيلة حايته وليقل لهم مثل مانطق به محمد، أو انظروا في هل
تجدون اختلافا في اسلوبي أو معارفي أو أحكامي. ان هذه الاوصاف والمميزات باقية في القرآن الكريم. أما الارشاد إلى الحق والحقيقة ففي القرآن الذي بأيدينا بيان تام للاسرار الكوينة بأدق البراهين العقلية، وهو الملجأ الوحيد لدستور الحياة السعيدة الهانئة، ويدعو الانسان بمنتهى الدقة إلى الايمان طالبا خيره وحسن مآله. وأما بيان ما يحتاج اليه الانسان في حياته فان القرآن
بنظراته الصائبة جعل التوحيد الأساس الأصلي له، واستنتج بقية المعارف الاعتقادية منه ولم يغفل في هذا عن أصغر نكتة ثم استنتج منه الأخلاق الفاضلة وبينها بطرق واضحة جلية ثم بين أعمال الأنسان وأفعاله الفردية والاجتماعية وذكر وظائفه حسب ماتدل عليه الفطرة الانسانية، محيلا التفاصيل إلى السنة النبوية. ومن مجموع الكتاب والسنة نستحصل على الدين الاسلامي بأبعاده البعيدة، الدين الذي حسب لكل الجهات الفردية والاجتماعية في كل الأزمان والعصور حسابها الدقيق المتقن وأعطى حكمها خاليا عن التضاد والتدافع في أجزائه ومواده.
الاسلام الدين الذي يعجز عن تصور فهرس مسائله اكبر حقوقي في العالم طيلة حياته.
وأما اعجاز القرآن في أسلوبه البياني، فان اسلوب القرآن البياني كان من نسخ اللغة العربية في عصرها الذهبي الذي كانت الأمة العربية تتمتع فيه بالفصاحة والبلاغة، وأسلوب القرآن كان شعلة وهاجة تسطع في ذلك العصر. والعرب فقدت الفصاحة والبلاغة في القرن الأول الهجري على أثر الفتوحات الاسلامية وخلط العرب بغيرهم من الأعاجم والبعيدين عن اللغة واصبحت لغة التخاطب العربية كبقية اللغات فاقدة ذلك الاشراق البلاغي وتلك اللمعة المضيئة. ولكن اعجاز القرآن ليس في أسلوبه الخطابي اللفظي فقط، فانه يتحدى الناس في أسلوبه اللفظي والمعنوي.
ومع ذلك فان الذين لهم المام باللغة العربية شعرها ونثرها لايمكن الشك في أن لغة القرآن لغة في منتهى العذوبة والفصاحة تتحير فيها الافهام ولايمكن وصفها بالالسن. ليس القرآن بشعر ولا
نثر، بل أسلوب خاص يجذب جذب الشعر الرفيع وهو سلس سلاسة النثر العالي، لوضعت آية من آياته أو جملة من جمله في خطبة من خطب البلغاء أو صفحة من كتابة الفصحاء لأشرق كاشراق المصباح في الارض المظلمة. ومن الجهات المعنوية غير اللفظية احتفظ القرآن على اعجاز فان البرامج الاسلامية الواسعة الشاملة للمعارف الاعتقادية والأخلاقية والقوانين العملية الفردية والاجتماعية، والتي نجد أسسها وأصولها في القرآن الكريم خارجة عن نطاق قدرة الانسان، وخاصة في انسان عاش كحياة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبيئته وأمته.
تعليق