

الموضوع السابق تطرق الى مسألة الضياع والغلو وبّين ان مشكلة الضياع هي عقبة في طريق الانسانية فالانسان الضائع
عبارة عن حجارة في وسط الطريق لا يستطيع ان يتحرك ، وهذا لكونه بلا هدف والانسان بلا هدف يعيش التيه ولو قمنا
بعملية استقراء للانسان لوجدنا انه لا يستطيع ان يُبدع او يُنتج الا اذا ارتبط بأهداف كبيرة .
وبعبارة اخرى ان الانسان صنعه الله تبارك وتعالى بشكل يختلف عن بقية الكائنات الاخرى بكونه مخلوق هادف
وان الهدف لا يُملى عليه من فوق وانما اخذه من اختياره ،
وان بقية الكائنات الله تبارك وتعالى صيغ لها الاهداف وسيّرها عليها لذلك لا يوجد اختلاف بين نبات ونبات او حيوان وحيوان
من ناحية الهدف ، بينما نجد الاختلاف واضح بين انسان وانسان اخر فالاختلاف واضح بين النبي (صلوات الله عليه) وبين ابو جهل .
فالانسان لكي يبدع لابد ان يستهدف هدف ويسير نحوه ويذوب فيه واما الذي لا يستهدف هدفا يتحول الى كومة لحم وهذا ما نجده
واضحا في حياتنا الاجتماعية .
فما الذي يميّز الطبيب الناجح عن الفاشل هو ان الطبيب بتميزه للمشكلة يكون ناجح وبالعدم يكون فاشل .
وازاء هذه الحقيقة فالانسان يقف ثلاث مواقف :
1- الانسان المبدع هو الذي يستهدف هدفا ويلتحم معه ويذوب فيه .
2- الانسان يتبنى هدفا ولكنه يحول الهدف من نسبي محدود الى مطلق ( الغلو بالانتماء ) ،
ولنضرب هذا المثال ليتضح المطلب اكثر متسلق الجبال هدفه الوصول الى القمة يربط الحبل في جزء معين ليصل اليه
ولكنه يجب ان يعي انه اذا وصل الى ذلك الجزء ليس انه نهاية المطاف وانما جزء من الطريق وان لا يتوقف وانما يبدأ بالسير
الى مرحلة اخرى .
الانسان في هذا الموقف اذا تبنى هدف وحّوله الى مطلق فأنه في المدى القصير يحرك الانسانية ولكنه يجمد المسيرة على المدى الطويل .
ولنقرب الصورة اكثر المنهج الدراسي الابتدائي ينمي ويطور الطالب في الابتدائية ويرفع من قدرته ولكن لو كان نفس المنهج
في المتوسطة فأنه سيكون مجمدا للقدرة ، وكذلك ملابس الطفل الصغير تكون مناسبة لعمره ومصدر عطاء وزينة وجمال ولكنه في كبره
تتحول الى مصدر قيد له .
فكذلك اهداف الانسان التي يتبناها ويطّور نفسه بها في مرحلة وفي مرحلة اخرى تتحول الى قيد يُقيّد بها وهذه تسمى مرحلة
الغلو في الانتماء ، وهذا واضح في المغالين بالنبي عيسى (عليه السلام) عندما جعلوه ابن الله فالنبي عيسى نسبي وليس مطلق
وهم جعلوه مطلق بإضفائهم صفة الالوهية .
3- الوسيط والحل الصحيح للمشكلة .
الوسط بين الافراط والتفريط ما بين الضياع والجمود وتحطيم الطاقات وما بين الغلو بالانتماء والتعصب بالانتماء وان نشطت الحركة
على المدى القصير ولكنه على المدى الطويل سيصيبها الخمول . فكلما يجّد او يتقدم الانسان في السير سيجد انه يجب ان يقطع المزيد
المزيد من المسافات وهذا واضح في قول امير المؤمنين (عليه السلام) (( آه من قلة الزاد وبٌعد السفر )) .
الانسان المؤمن هو الذي يستهدف الله في حركته ولا توجد لديه نقطة توقف فكلما تقدم وقاس المسافة بينه وبين الله وجدها مسافة لا نهائية .
لذلك نجد القران يعبر عن النبي الاكرم صلوات الله عليه (( ربي زدني علما )) برغم ان علم النبي اعلى من كل علم ومع ذلك نجده كطالب علم .
وبهذا يكون الناس ثلاثة اصناف :
1- الضيّاع التائهون .
2- الغُلاة .
3- الحل النموذجي : من هنا نعرف ان الصراط المستقيم الذي ندعوا الله ان يعطينا اياه هو هذا الصراط الذي يشبع الحاجة
الى الارتباط بالمطلق الى الارتباط بالاهداف الكبيرة دون مواجهة المشاكل في الاولى والثانية .
وهذا الحل لم يوجد متأخرا وانما هو الحل الاول الذي نزل به الانبياء ووجد مع وجود الانسان .
الائمة لم يحققوا الاهداف المرسومة من العدل الالهي لان الناس كانوا ما بين الذي يعيش الضياع والغلو بالانتماء فأبو ذر وعمار
والمقداد وسلمان هؤلاء نماذج عاشوا الانتماء الحقيقي الى الله تبارك وتعالى فكانوا مع الامام علي (عليه السلام) .
وقضية الامام الحسين (عليه السلام) توضح هذا المعنى بشكل كبير وجلي .
ففي اربعينية الامام الحسين (عليه السلام) يعيشون جميعا ولو لفترة قصيرة حالة من الانتماء والاهداف العليا ترى الشحيح البخيل
عندما يدخل في عرصة عاشوراء ( الميدان الحسيني ) يتحول الى انسان كريم والانسان الخامل الى نشط بأن يمشي عشرات
من الكيلومترات والخائف المذعور الى انسان يُثبت الشجاعة .
وهنا نسأل كيف نستلهم الدروس والعبر ؟
واحدة من هذه الدروس اننا نعمل على فحص ذواتنا ومجتمعنا لنرى كم من الناس يعيشون الضياع يهدرون الطاقات والوقت
ويبّذرون في اموالهم وعلاقاتهم وكم من الناس يعيشون الغلو بالانتماء وكم من الناس من يعيش الانتماء الحقيقي لله تبارك وتعالى .
فأننا كلما استطعنا ان نقلص دائرة الغلو في الانتماء والانتماء الى النسبيات المزيفة التي حُولت الى مطلقات مزيفة وكلما قلصنا
دائرة الضياع كلما زدنا دائرة الذين ينتمون الى الله تبارك وتعالى انتماءا حقيقيا كلما استطعنا ان نجعل ظهور الامام
(عجل الله فرجه) اقرب .
وبذلك نقول ان البشرية تصل الى هذه الحقيقة ( الحل الحقيقي ) اي الموقف الثالث والقناعة به بظهور الامام (عجل الله فرجه)
وذلك ان البشرية قد وصلت الى الاستعلام والاستعداد التام لتقبل هذه الحقيقة ولكي يصل الى هذه الحقيقة لابد من الانسان
من ان يمر بسلسلة من هذه التجارب ( من الضياع والغلو بالانتماء) .
تعليق