واما قولهُ تخليةُ السرب) . فهو الذي ليس عليه رقيب يحظُرُ عليه ويمْنَعُهُ العمل بما امره الله به ، وذلك قولُهُ فيمن استُضْعِفَ وحُظِرَ العملُ فلم يجد حيلة ولا يهتدي سبيلاً ، كما قال الله تعالى : (الاّالمستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً ) فاخبر انَّ المُسْتَضْعَفَ لم يُخَلَََّ سَرْبُهُ وليس عليه من القول شيءٌ اذا كان مُطمئنَّ القلب بالايمان .
وامّا (المُهلة في الوقت) فهو العُمْرُ الّذي يُمَتَّعُ الانسانُ من حد ما تجب عليه المعرفة الى اجلِ الوقت ،وذلك من وقت تمييزه وبلوغِ الحُلُمِ الى ان ياتيه اجله ، فمن مات على طلب الحقِّ ولم يُدرك كماله فهو على خيرٍ
وذلك قوله ومن يخرج من بيته مهاجراً الى الله ورسوله ) . وان كان لم يعمل بكمال شرايعِهِ لعلَّةِ ما لم يمهله في الوقت الى استتمام امره ، وقد حَظَرَ على البالغ ما لم يَحْظُر على الطِّفْلِ اذا لم يبلغ الحُلُمَ ، في قوله : (وقل للمؤمنات يغضضْنَ من ) ، فلم يجعل عليهنَّ حرجاً في ابداء الزِّينةِ للطفل ، وكذلك لا تجري عليه الاحكام .
واما قولُهُ : (الزّادُ) فمعناه الجِدَةُ والبُلْغَةُ التي يستعينُ به العبدُ على ما امره الله به وذلك قوله : (ما على المحسنين من سبيل) الا ترى انَّهُ قبِلَ عُذْرَ مَنْ لم يجد ما ينفقُ ، والزم الحُجَّةَ كلَّ من امكنته البُلغَةُ والرّاحلة للحجِّ والجهاد واشباه ذلك ، وَ كذلك قَبِلَ عُذْرَ الفقراء واوجب لهم حقَّاً في مال الاغنياء بقوله : ( للفقراء الَّذين اُحْصِروا في سبيل الله) فامر باعفائهم ولم يُكلِّفْهُمُ الاعدادَ لما لا يستطيعون ولا يملكون .
وامّا قولُهُ في (السببِ المُهَيِّجِ) ؛ فهو النيِّةُ الَّتي هي داعيةُ الانسان الى جميع الافعال ، وحاسَّتُها القلب ، فمن فعل فعلاً وكان بدينٍ لم يعقد قلبُهُ على ذلك لم يقبل اللهُ منه عملاً الاّ بصدق النِّيَّةِ ، ولذلك اخبر عن المنافقين بقوله يقولون بافواههم ما ليس في قلوبهم والله اعلمُ بما يكتمون ) . ثُمَّ انزل على نبيه (ص) توبيخاً للمؤمنين ( يا ايها الّذين آمنوا لِمَ تقولون مالا تفعلون ) فاذا قال الرجل قولاً واعتقد في قوله دعتهُ النّية الى تصديق القول باظهار الفعل ؛ واذا لم يعتقدِ القول لم تتبين حقيقتهُ ، وقد اجاز الله صِدْقَ النية واِنْ كان الفعل غيرَ موافقٍ لها لعلةِ مانع يمنع اظهار الفعل في قوله الاّ مَنْ اُكْرِهَ وقلبهُ مُطمئنٌ بالايمان) وقولِهِ لا يؤ اخِذُكُمُ الله باللّغْوِ في اَيْمانكُم). فَدَلَّ القرآنُ واخبار الرَّسول (ص) انَّ القلب مالكٌ لجميع الحواسِّ يُصَحِّحُ افعالَها ، ولا يُبطلُ ما يُصحِّحُ القلبُ شيءٌ .
فهذا شرحُ جميعِ الخمسةِ الامثالِ الَّتي ذكرها الصّادقُ (ع) اَنها تجمع المنزلةَ بين المنزلتين وهما الجبر والتفويض ُ . فاذا اجتمع في الانسان كَمالُ هذه الخمسةِ الامثال وجب عليه العمل كُمُلاً لما امر الله به ورسوله ، واذا نقص العبدُ منها خَلَّةً كان العمل عنها مطروحاًبحسب ذلك .
فامَّا شواهد القرآن على الاختبار والبلوى بالاستطاعة الّتي تجمع القول بين القولين فكثيرة ، ومن ذلك قولُهُ ولنبلونكم حتّى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوَ اخباركم ) ، وقال سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) ، وقال الم ، اَحَسِبَ الناس ان يُتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) ، وقال في الفتن الّتي معناها الاختبار : (ولقد فَتَنَّا سُليمان ) ، وقال في قصة موسى (ع) : (فإنّا قد فتنا قومك من بعدك و اضلهمُ السامريُّ ) ، وقولُ موسى إنْ هيَ إلاّ فتنتك ) ، اَيْ اختبارك ، فهذه الآيات يُقاسُ بعضها ببعض ويشهدُ بعضها لبعض .
وامّا آيات البلوى بمعنى الاختبار فقوله ليبلوكم فيما آتاكم) ، وقولُهُ : (صرفكم عنهم ليبتليكم) ، وقولُهُ إنّا بلوناهم كمابلونا اصحاب الجنة) ، وقولُهُ : ( خَلَقَ الموت والحياة لِيَبْلُكُمْ ايُّكُمْ احسن عملاً) ، وقولُهُ وإذ ابتلى ابراهيمَ ربُّهُ بكلماتٍ) ، وقولُهُ ولو يشاء اللهُ لانتصرَ منهم ولكن ليبلوَ بعضَكُمْ ببعض) ، وكُلُّ ما في القرآن مِنْ بلوى هذه الآيات الَّتي شرح اوَّلَها فهيَ اختبارٌ ، وامثالُها في القرآن كثيرة ، فهيَ إثباتُ الاختبار والبلوى ، إنَّ اللهَ جلَّ وعزَّ لَمْ يخلُقِ الخلْقَ عبَثاً ولااهملهم سُدىً ولا اظهر حكمته لَعِباً ،وبذلك اخبرَ في قولهِ اَفَحَسِبْتُمْ اَنَّما خلقناكم عَبَثاً) .
فإنْ قالَ قائلٌ : فَلَمْ يعلمِ اللهُ ما يكونُ من العباد حَتَّى اختبرهم ؟ قُلْنا : بلى ، قد عَلِمَ ما يكونُ منهم قَبْلَ كونهِ ، وذلك قولُهُ ولوْ رُدّوا الى الفتنة لعادوا لِما نُهُوا عنه ) ، وإنَّما اختبرهم ليُعْلِمَهُم عدلهُ ولا يعذبهم الاّ بحُجَّةٍ بعد الفعل ، وقد اخبر بقوله ولو اَنّا اهلكناهم بعذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لقالوا رَبَّنا لو لا اَرسلْتَ الينا رَسولاً ) ، وقوله وما كُنّا مُعذِّبينَ حتى نبعث رسولاً) ، وقوله : (رُسُلاً مُبشِّرينَ ومُنذرين ) . فالاختبار من الله بالاستطاعة الَّتي مَلَّكها عبدَهُ ، وَهوَ القوْلُ بين الجبر والتفويض ، وبهذا نَطَقَ القرآن وجرت الاخبار عَنِ الائمة مِن آل الرسول (ص) .
فإنْ قالوا: ما الحُجَةُ في قولِ الله : (يهدي مَنْ يشاء ويضلُّ مَنْ يشاء) وما اشبهها ؟ قيلَ : مجازُ هذه الآيات كُلِّها على معنيين : امَّا احدهما :
فإخبارٌ عن قدرته ، ايْ انَّهُ قادرٌ على هدايةِ مَنْ يشاء ، وإذا اجبرهم بقدرته على احدهما لم يجب لهم ثواب ولا عليهم عِقاب على نَحْوِ ما شرحنا في الكتاب ، والمعنى الآخر انَّ الهدايةَ منهُ تعريفُهُ كقولِهِ وَامّآ ثمودُ فهديناهم ) ايْ عَرَّفناهم ( فاستحبوا العمى على الهدى) ، فلو اجبرهم على الهدى لم يقدروا انْ يضلُّوا ، وليس كُلَّما وردت آيةٌ مُشْتَبَهةٌ كانت الآيةُ حُجَةٌ على مُحْكَمِ الآيات اللّواتي اُمِرْنا بالاخذِ بها ، مِنْ ذلك قولُهُ مِنْهُ آياتٌ مُحكماتٌ هُنَّ امُّ الكتابِ واُخَرُ متشابهاتٌ فامّا الَّذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابهَ منهُ ابتغاء الفتنةِ وَاِبتغاءَ تاويلهِ وما يعلمُ تاويلهُ ) ، وقالَ فَبَشِّر عبادِ الذينَ ، الَّذينَ يستمعونَ القولَ فيتبعونَ احسنهُ) ايْ اَحكمهُ واَشرَحَهُ ، ( اُولئك الَّذين هداهم اللهُ واولئك هُمْ اُلوا الالباب). وَفَقَنا اللهُ وَإياكُمْ الى القوْلِ والعملِ لِما يُحِبُّ وَيرضى ، وَجَنَّبنا وَإيَّاكم مَعاصيَهُ بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ ، والحمد لله كثيراً كما هوَ اهلُهُ ، وَصَلَّى اللهُ على مُحَمدٍ وَآله الطَّيبينَ ، وَحَسبنا الله وَنِعْمَ الوَكيل .
تعليق