الكلام في مسائل
ويقع الكلام في مسائل تتعلّق بالرضاع من حيث نشره الحرمة وعدمه :
عدم الفرق بين الرضاع السابق على النكاح واللاحق
المسألة الاُولى(1): لا فرق في نشر الرضاع الحرمة بين السابق على النكاح واللاحق ، فالرضاع المتحقّق بالشروط المتقدّمة بعد العقد يوجب الحرمة ، وبطلان العقد ، لشمول الأدلّة للمورد ، حيث إنّ العناوين الرضاعية المحرّمة تتحقّق في صورة اللحوق ، كصورة السبق ، فيلحقها الحكم .
مضافاً إلى روايات خاصّة تدلّ على أنّ ذلك مقتضى القاعدة :
منها : صحيحة عبدالله بن سنان ، عن الصادق (عليه السلام) قال : « سئل وأنا حاضر عن امرأة أرضعت غلاماً مملوكاً لها من لبنها حتّى فطمته ، هل لها أن تبيعه ؟ فقال : لا ، هو ابنها من الرضاعة ، حرم عليها بيعه وأكل ثمنه ، ثمّ قال : أليس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب »(2) فإنّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أشار إلى ذلك في كتاب الخلاف 5 : 104 مسألة 15 ، 16 ، 17 . وهكذا الشافعي في كتاب الاُمّ 5 : 32 فلاحظ .
(2) الوسائل 20 : 405 / أبواب ما يحرم بالرضاع ب17 ح1 .
الاستدلال بقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يعطي أنّ الحكم المزبور على طبق القاعدة .
ومنها : الروايات الدالّة على فساد النكاح بارضاع الزوجة الكبيرة الزوجة الصغيرة ، كرواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «لو أنّ رجلا تزوّج جارية رضيعة فأرضعتها امرأته ، فسد النكاح»(1).
ويترتّب على ذلك أنّه لو تزوّج صغيرة فأرضعتها اُمّه أصبحت اُختاً له وكذلك إذا أرضعتها زوجة أبيه أصبحت اُختاً له من أبيه ، فيبطل العقد السابق ويحرم النكاح أبداً ، وكذلك إذا أرضعته(2) جدّته اُمّ أبيه أصبحت عمّته ، وإذا أرضعته(3)جدّته اُمّ اُمّه أصبحت خالته .
وقس على ذلك سائر الصور الموجبة للتحريم المؤبّد وبطلان النكاح السابق كما لو أرضعتها زوجة ابنه ، فإنّها تصبح بنتاً له من ابنه . أو أرضعتها زوجة أخيه فإنّها تصبح بنت أخيه . أو أرضعتها اُخته ، فإنّها تكون بذلك بنت اُخته . والجامع لذلك هو أن ينطبق عليها بالرضاع اللاحق أحد العناوين السبعة التي يحرم نكاحها .
وهكذا إذا كان الرضاع اللاحق موجباً للعنوان الذي يحرم نكاحه جمعاً ، كما إذا كان له زوجتان صغيرتان ، فأرضعتهما أجنبية ، فإنّ الصغيرتين تصيران بذلك اُختين من الرضاع ، فيحرم جمعهما في النكاح . وبما أنّ ترجيح بطلان أحد النكاحين على الآخر بلا مرجّح يبطل النكاحان معاً ، ولا مانع من تجديد نكاح إحداهما بعد ذلك ، والحكم في هذه المسألة لا إشكال فيه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 20 : 399 / أبواب ما يحرم بالرضاع ب10 ح1 .
(2) ، (3) [الصحيح : « أرضعتها » في الموردين] .
ــ[146]ــ
إرضاع الزوجة الكبيرة للصغيرة
المسألة الثانية«1»:هي ما إذا كانت له زوجتان كبيرة وصغيرة ، فأرضعت الكبيرة الصغيرة .
فالمعروف بينهم بطلان نكاحهما ، وذلك لأنّ اللبن إذا كان للزوج صارت الصغيرة بذلك بنتاً له ، والكبيرة اُمّ زوجته ، فيبطل نكاحهما ، وتحرمان مؤبّداً .
وإذا كان اللبن لغير الزوج ، فإن كانت الكبيرة مدخولا بها حرمت الصغيرة عليه مؤبّداً ، لأنّها ربيبته من زوجته التي دخل بها ، فتكون من مصاديق الآية المباركة الواردة في الربائب(1)، وحرمت الكبيرة عليه ، لأنّها اُمّ زوجته .
وإن لم تكن الكبيرة مدخولا بها بطل النكاحان ، لحرمة الجمع بين الاُمّ والبنت في النكاح ، كما يحرم الجمع بين الاُختين فيه ، وبطلان الترجيح بلا مرجّح .
وبعبارة اُخرى : أنّهما قبل الإرضاع كانتا زوجتين للرجل، وبالإرضاع حصلت نسبة الاُمومة والبنوّة بينهما، فلا بدّ من بطلان نكاح إحداهما، لحرمة الجمع بين الاُمّ والبنت في النكاح، وترجيح نكاح إحداهما في البطلان ترجيح بلا مرجّح، فلا بدّ من الالتزام ببطلان كلا النكاحين، ويجوز تجديد العقد على الصغيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
«1» تعرّض الشيخ الطوسي (قدّس سرّه) لهذه المسألة (في كتاب الخلاف 5 : 105 مسألة 18 بشكل أوسع ، لأنّه فرض أنّ له زوجة كبيرة ، وثلاث زوجات صغار دون الحولين
فأرضعت منهنّ واحدة بعد واحدة . فراجعها إذا شئت ، لأنّ المسألة المفروضة أشبه بالفرض المحض ، من دون وقوع لها في الخارج .
وقد جاء في كتاب الاُمّ للشافعي 5 : 32 ـ 33 ذكر فروع متعدّدة لإرضاع الزوجة الكبيرة للصغيرة ، واحدة أو متعدّدة ، لا يهمّنا التعرّض لها ، ومن شاء فليراجع .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النساء 4 : 23 .
ــ[147]ــ
لأنّها بنت زوجته التي لم يدخل بها ، وأمّا الكبيرة فقد صارت بارضاعها الصغيرة اُمّ زوجته ، فتحرم عليه مؤبّداً .
فظهر ممّا ذكرناه : أنّ الزوجة الكبيرة تحرم على الزوج مؤبّداً بارضاعها الزوجة الصغيرة ، سواء كان اللبن للزوج أم لغيره ، كانت مدخولا بها أم لم تكن مدخولا بها . وأمّا الزوجة الصغيرة فتحرم عليه مؤبّداً في الصورة الاُولى لصيرورتها بالإرضاع بنتاً له ، وفي الصورة الثانية أيضاً ، لصيرورتها بذلك ربيبته التي قد دخل باُمّها ، وفي الصورة الثالثة تحرم جمعاً بينها وبين اُمّها .
هذا هو المعروف بين الأصحاب ، إلاّ أنّ للمناقشة ـ في بطلان نكاح الزوجة الكبيرة ، وحرمتها على الرجل مؤبّداً ـ مجالا واسعاً ، وذلك لأنّ آن حصول الاُمومة للزوجة الكبيرة هو آن حصول البنوّة للزوجة الصغيرة ، لأنّهما من الاُمور المتضايفة ، وآن حصول البنوّة للزوجة الصغيرة هو آن زوال الزوجيّة عنها ، لا آن وجود زوجيتها ، فلم تكن الكبيرة في آن اُمَّ زوجة للرجل حتّى يبطل نكاحها
نعم هي اُمّ لزوجته السابقة ، لا اُمّ لزوجته الفعلية ، وظاهر العنوان المحرّم هو أن يكون فعلياً .
ويمكن الاستدلال لبطلان نكاح الزوجة الكبيرة وحرمتها مؤبّداً بوجوه لا بأس بالتعرّض لها وما يرد عليها :
الوجه الأوّل : أنّ المشتق حقيقة في الأعمّ من المتلبّس بالمبدأ ومن انقضى عنه المبدأ ، فالصغيرة حيث كانت زوجة قبل آن يصدق عليها في آنِ زوال زوجيّتها أنّها زوجة ، فيصدق على الزوجة الكبيرة أنّها اُمّ زوجة الرجل ، فيبطل نكاحها
وتحرم عليه مؤبّداً .
وفيه : أنّا لا نسلّم ذلك ، بل المشتقّ كما ذكرنا في الاُصول(1) حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدأ .
الوجه الثاني :أنّ الحكم في المورد لا يبتني على مسألة المشتق ، بل هو مبني على الإضافة ، ويكفي فيها أدنى ملابسة ، لأنّ العنوان المذكور في آية التحريم(2) هو اُمّهات النساء ، باضافة النساء إلى ضمير المخاطب ، ويكفي في إضافة النساء إلى ضمير الخطاب كون المرأة زوجة المخاطب في الآن السابق .
وفيه : أنّ البحث في المشتق ليس من حيث الاشتقاق ، بل من حيث اشتماله على النسبة ، وأنّه هل يكفي في نسبة شيء إلى شيء ثبوته له سابقاً ، أو يعتبر ثبوته له بالفعل ، وهذا المعنى يعمّ الإضافة . لأنّها تشتمل على نسبة المضاف إلى المضاف إليه وظاهرها الفعلية .
الوجه الثالث : وحدة السياق في الآية المباركة المتضمّنة لحرمة المحرّمات بالنسب والمصاهرة(3) تدلّ على كفاية الزوجية السابقة في حرمة الزوجة الكبيرة بتقريب : أنّ القرينة الخارجية ـ وهي الروايات الكثيرة ـ دلّت على أنّ ربيبة الرجل من الزوجة السابقة المدخول بها تحرم على ذلك الرجل(4) فلو طلّق الزوج زوجته التي قد دخل بها ، فتزوّجها شخص آخر ، فأولدها بنتاً ، حرمت هذه البنت على الزوج الأوّل ، لأنّها ربيبته من الزوجة التي قد دخل بها ، فإذا كان المراد من النساء اُمّهات الربائب في الآية المباركة(5) ما يعمّ النساء السابقة ، فوحدة السياق تقتضي أن يراد بالنساء في اُمّهات النساء ما يعمّ الزوجات السابقة .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محاضرات في اُصول الفقه 1 (موسوعة الإمام الخوئي 43) : 287 .
(2) ، (3) النساء 4 : 23 .
(4) الوسائل 20 : 465 / أبواب ما يحرم بالمصاهرة ب21 .
(5) النساء 4 : 23 .
ويرد عليه : أنّ قيام القرينة في مورد خاص لا يوجب تعميمها لمورد آخر بل يمكننا أن نقول : إنّه لا قرينية لتلك الأخبار على إرادة الأعم من الآية الشريفة بل هي باقية على ظهورها في النساء الفعليّة ، وتلك الأخبار تدلّ على ثبوت الحكم في موردها ، لأنّ الأحكام تدريجية في البيان ، فمن الممكن أن يكون الحكم في الآية المباركة مختصّاً بربائب النساء الفعلية ، ثمّ وردت الروايات بثبوت الحكم في ربائب النساء السابقة .
وأمّا اُمّهات النساء فلم ترد أخبار تدلّ على ثبوت الحرمة للأعمّ ، وليس في المورد إلاّ ظاهر الآية الشريفة(1) وهو لا يقتضي أزيد من حرمة اُمّهات النساء الفعلية ، بحيث تكون الاُمومة والزوجية في زمان واحد .
الوجه الرابع : أنّ العرف يتسامح في أمثال هذه الموارد ، لأنّ زمان زوال الزوجية متّصل بزمان نفس الزوجية ، أي يكون في آن بعد آنها ، والمفروض أنّ زمان الاُمومة متّحد مع زمان زوال الزوجيّة ، فيتّصل زمان الاُمومة بزمان الزوجيّة ، وهذا المقدار من التأخّر ممّا يتسامح فيه العرف ، والخطابات الشرعية منزّلة على المفاهيم العرفية .
ويرد عليه : أنّ العرف إنّما يكون متّبعاً في تشخيص المفاهيم ، لا في المسامحة في التطبيق بعد أخذ المفهوم منه ، والمفهوم من اُمّ الزوجة أو اُمّهات النساء الوارد في الآية الكريمة(2) هو اتّحاد زمان الاُمومة والزوجية ، أي من تكون اُمّاً للزوجة الفعلية عرفاً ، فلا تتبع مسامحة العرف في تطبيق هذا المفهوم العرفي على من تكون اُمّاً
للزوجة السابقة ، بلحاظ اتّصال الزمانين وعدم الفصل بينهما .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النساء 4 : 23 .
(2) النساء 4 : 23 .
الوجه الخامس : رواية علي بن مهزيار عن أبي جعفر (عليه السلام) قال « قيل له : إنّ رجلا تزوّج بجارية صغيرة ، فأرضعتها امرأته ، ثمّ أرضعتها امرأة له اُخرى ، فقال ابن شبرمة : حرمت عليه الجارية وامرأتاه ، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : أخطأ ابن شبرمة ، تحرم عليه الجارية وامرأته التي أرضعتها أوّلا ، فأمّا الأخيرة فلم تحرم عليه ، كأنّها أرضعت ابنته »(1).
وهذه الرواية التي يذكرها الفقهاء في المسألة الآتية ـ وهي من تكون له زوجتان كبيرتان وزوجة صغيرة ، فأرضعتا الزوجة الصغيرة ـ يمكن الاستدلال بها في مورد الكلام أيضاً ، لأنّها قد صرّحت بتحريم الزوجة الكبيرة الاُولى والصغيرة وإن خطأ ابن شبرمة في حكمه بحرمة الكبيرة الثانية ، لأنّها أرضعت بنته ، لا زوجته كي تكون اُمّ زوجته .
ويرد على الاستدلال بهذه الرواية أنّها ضعيفة السند بصالح بن أبي حمّاد كما ذكروا .
وقد ناقش في سندها صاحب المسالك (قدّس سرّه) بأنّها مرسلة ، لأنّ علي بن مهزيار لم يدرك الباقر (عليه السلام) وأبو جعفر عند الإطلاق يراد به الباقر (عليه السلام) فلا محالة تكون مرسلة . ويؤيّده أنّ ابن شبرمة كان في زمان الباقر (عليه السلام) لا الإمام الجواد ، وهو أبو جعفر الثاني (عليه السلام)(2)، هذا .
فإن سلّمنا أنّ أبا جعفر عند الإطلاق ظاهر في الإمام الباقر (عليه السلام) فهو كما أفاد (قدّس سرّه) ، وإلاّ فظاهر قوله : « قيل له » هو الإخبار عن حسّ ، فيكون
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 20 : 402 / أبواب ما يحرم بالرضاع ب14 ح1 .
(2) مسالك الافهام 7 : 269 .
قرينة على إرادة الإمام الجواد (عليه السلام) المعاصر له ، فلا تكون مرسلة من هذه الجهة .
إلاّ أنّ صاحب البلغة نبّه على إرسالها من جهة اُخرى ، وهي أنّ الرواية منقولة في الكافي ، وفيه يقول : وروي عن أبي جعفر (عليه السلام)(1) أي ينقلها ابن مهزيار عن الإمام (عليه السلام) بلفظ « روي » وهو صريح في وجود الواسطة بينه وبين الإمام (عليه السلام) ولو كان الإمام هو الإمام الجواد(2).
وكيف كان الأمر ، فلا إشكال في ضعف سند هذه الرواية .
الوجه السادس : أنّ اُمومة الكبيرة بمقتضى التضايف مساوقة لبنوّة الصغيرة ، فتكون علّة لزوال زوجيّتها ، وحيث إنّ العلّة متّحدة مع المعلول زماناً متقدّمة عليه رتبة ، تكون مقارنة مع نفس الزوجية رتبة ، ففي رتبة اُمومة الكبيرة تكون الصغيرة زوجة للرجل ، فالاُمومة والزوجية تكونان في مرتبة واحدة وإن اختلفتا في الزمان ، وهذا المقدار كاف في نشر الحرمة .
وفيه : أنّ الأحكام الشرعية لا تبتني على التدقيقات الفلسفيّة ، بل ظاهر الدليل هو اعتبار اتّحاد زمان الاُمومة والزوجية ، لا اتّحاد رتبتهما ولو اختلفا زماناً فإنّ الظاهر من الآية المباركة الواردة في حرمة اُمّهات النساء(3) هو اُمّهات النساء خارجاً ، لا اُمّهات النساء رتبة ، أي من تكون في الخارج اُمّ زوجة ، لا في الرتبة .
هذه هي الوجوه التي يمكن أن يستدلّ بها على حرمة الزوجة الكبيرة ، وقد عرفت ضعفها ،
فلا دليل على حرمة الزوجة الكبيرة إذا أرضعت الزوجة الصغيرة .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكافي 5 : 446 / 13 ، ولفظه هكذا : عن علي بن مهزيار رواه عن أبي جعفر (عليه السلام) .
(2) بلغة الفقيه 3 : 184 .
(3) النساء 4 : 23 .
ويؤيّد هذا ، بل يدلّ عليه صحيحة الحلبي أو حسنته ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « لو أنّ رجلا تزوّج جارية رضيعة ، فأرضعتها امرأته فسد النكاح »(1).
والآخر بنفس السند عنه (عليه السلام) أيضاً : « في رجل تزوّج جارية صغيرة ، فأرضعتها امرأته واُمّ ولده ؟ قال : تحرم عليه »(2).
فإنّ ظاهر الروايتين هو الحكم بفساد عقد الصغيرة ، فسكوته عن نكاح الكبيرة دالّ على عدم بطلانه .
وأمّا الصغيرة المرتضعة فتحرم مؤبّداً مضافاً إلى بطلان نكاحها ، إذا كان اللبن للرجل ، لأنّها تكون حينئذ بنته الرضاعيّة ، أو كانت الكبيرة مدخولا بها واللبن لغيره ، لأنّها تكون حينئذ ربيبته من زوجته التي دخل بها ، وإن كانت زوجة سابقة ، للفرق بين الربيبة واُمّ الزوجة في عدم اعتبار المقارنة في الاُولى بصريح الروايات الواردة في ذلك(3) واعتبارها في الثانية كما عرفت ، وتحريمها في هاتين الصورتين ـ كما هو المعروف ـ ممّا لا ينبغي التأمّل فيه ، لموافقته للأدلّة .
وفيما إذا لم يكن اللبن للرجل ، ولم تكن الكبيرة مدخولا بها ، فلا تحرم ، بل يبطل نكاحها على المشهور ، مستدلّين على ذلك بحرمة الجمع بين الاُم والبنت في النكاح ، وبالرضاع تتحقّق نسبة الاُمومة والبنوّة بينهما ، وبما أنّ ترجيح بطلان نكاح
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ، (2) الوسائل 20 : 399 / أبواب ما يحرم بالرضاع ب10 ح1 ، 2 عن محمّد بن يعقوب
واللفظ في الاُولى في الكافي 5 : 444 / 4 « فسد نكاحها » [مع اختلاف يسير آخر] والراوي في الثانية الحلبي وعبدالله بن سنان .
(3) الوسائل 20 : 465 / أبواب ما يحرم بالرضاع ب21 .
إحداهما على بطلان النكاح الآخر بلا مرجّح ، فلابدّ من الحكم ببطلانهما معاً ، فإن شاء جدّد العقد على الصغيرة .
وللنظر في هذا الاستدلال مجال واسع ، بل يعدّ هذا من غرائب فتاوى المشهور ، إذ بعد الالتزام بحرمة الكبيرة مؤبّداً لأنّها تصير اُمّ زوجة الرجل ، حتّى في هذه الصورة ـ حيث صرّحوا هنا بجواز تجديد العقد على الصغيرة دون الكبيرة لأنّها اُمّ زوجته ـ لا مجال للالتزام ببطلان عقد الصغيرة ، استناداً إلى حرمة الجمع بين الاُمّ والبنت في النكاح ، وعدم المرجّح .
وبعبارة اُخرى : بعد تسليم أنّ الرضاع في المقام يوجب صدق عنوان اُمّ الزوجة على الزوجة الكبيرة ، فلا محالة يبطل نكاحها ، وتحرم عليه مؤبّداً ، سواء أبطل نكاح الزوجة الصغيرة أم لا ، فتعيّن بطلان نكاح الزوجة الكبيرة هو المرجّح فلا وجه لبطلان نكاح الزوجة الصغيرة في هذه الصورة .
وقياس المقام على ما لو عقد على الاُمّ وبنتها بعقد واحد ، أو بعقدين متقارنين في الزمان ـ كما لو عقد الرجل على الاُمّ وعقد وكيله على بنتها في نفس ذلك الزمان حيث يبطل العقدان لعدم المرجّح ، فيقاس بقاء العقدين على حدوثهما كذلك ـ قياس مع الفارق ، لتعيّن بطلان عقد الزوجة الكبيرة في المقام ، لأنّها اُمّ زوجة كما ذكرنا فبطلان عقد الزوجة الصغيرة بلا موجب .
نعم بناءً على ما قوّيناه من عدم بطلان نكاح الزوجة الكبيرة ، لعدم تقارن اُمومتها وزوجية الزوجة الصغيرة ، يصحّ الالتزام ببطلان كلا النكاحين ، لعدم المرجّح لأحدهما على الآخر ، وله تجديد العقد على أيّهما شاء ، لا على خصوص الصغيرة كما ذهب إليه المشهور .
هذا تمام الكلام في المسألة الثانية ، وقد ظهر من التحقيق فيها أنّه لا وجه لحرمة الزوجة الكبيرة بارضاعها الزوجة الصغيرة في أيّ من الصور الثلاثة
وأنّ الحكم في الصورة الثالثة هو بطلان النكاحين ، لحرمة الجمع ، وعدم المرجّح .
إرضاع الكبيرتين الزوجة الصغيرة
المسألة الثالثة : لو كانت للرجل زوجتان كبيرتان وزوجة صغيرة
فأرضعتها إحدى الكبيرتين الرضاع المحرّم أوّلا ، ثمّ أرضعتها الاُخرى كذلك .
والمشهور حرمة الكبيرتين مؤبّداً ، لأنّ كلاًّ منهما تصير اُمّ زوجته ، وكذلك الصغيرة إن كان لبن إحداهما له ، أو كانت إحداهما مدخولا بها ولم يكن اللبن له لأنّها على الأوّل بنته ، وعلى الثاني ربيبته من زوجته التي دخل بها . وإن لم يكن اللبن له ولم يتحقّق الدخول حرم جمعهما. هذا هو المشهور .
أقول : أمّا الكلام في المرضعة الاُولى فهو بعينه الكلام فيما لو اتّحدت ، من حيث وجوه استدلال المشهور على أنّها اُمّ زوجته وفسادها ، وقد عرفت أنّ التحقيق عدم حرمتها .
ومنه يظهر عدم حرمة الثانية ، لأنّه لو سلّمنا صدق اُمّ الزوجة على الاُولى لاتّصال زمان زوجية الصغيرة بزمان اُمومة الكبيرة ، لما سلّمنا ذلك في هذه المسألة بالنسبة إلى الكبيرة الثانية ، لعدم اتّصال الزمانين ، بل قد يتأخّر إرضاع الثانية بأيّام أو بشهور ، فكيف يصدق عليها أنّها اُمّ لزوجته ؟ نعم هي اُمّ لزوجته السابقة ، لتأخّر زمان الاُمومة عن زمان زوجية الصغيرة بكثير ، فهي أرضعت بنته لا زوجته ، كما صرّح بذلك في رواية ابن مهزيار(1).
ولولا ضعف سندها لكانت أقوى شاهد على فساد ما ذهب إليه المشهور ولعلّه لذلك أعرض عنها الأصحاب ، وأفتوا بحرمة الثانية مؤبّداً أيضاً كالاُولى .
ــــــ
وبالجملة : لو استند المشهور في تحريم الكبيرة الاُولى إلى أحد الوجوه الثلاثة الاُول من الوجوه الستّة المتقدّمة ـ وهي أعمّية المشتق من المتلبّس ومن انقضى عنه المبدأ ، أو كفاية أدنى الملابسة في الإضافة ، أي إضافة الاُم إلى النساء في الآية الشريفة(1)، أو وحدة السياق في الآية المباركة بين اُمّهات النساء والربائب من النساء المدخول بهنّ(2) المقتضية لإرادة الأعمّ من النساء الفعلية والنساء السابقة ـ لكان للقول بحرمة الكبيرة الثانية وجه ، لجريان تلك الوجوه فيها ، إلاّ أنّك قد عرفت ضعفها .
ولو استندوا إلى الوجوه الثلاثة الأخيرة ـ من مسامحة العرف لو اتّصل زمان اُمومة الكبيرة بزمان زوجيّة الصغيرة ، ومن رواية ابن مهزيار(3) المصرّحة بحرمة الاُولى دون الثانية ، ومن كفاية المقارنة في الرتبة ، أي رتبة اُمومة الكبيرة وزوجية الصغيرة ـ لم يسعهم القول بحرمة الكبيرة الثانية ، لعدم جريان تلك الوجوه فيها ، بل الرواية المذكورة قد صرّحت بفساد ما أفتوا به .
وكيف كان ، فالقول بحرمة الكبيرة الثانية أضعف من القول بحرمة الاُولى عندنا ، وإن ذهب إليه المشهور .
وأمّا الصغيرة فالمختار فيها ما تقدّم في المسألة الاُولى من حرمتها مؤبّداً في صورة كون اللبن للزوج ، أو كون المرضعة مدخولا بها ، وبطلان نكاحها ونكاح الكبيرة في صورة عدم تحقّق شيء من الأمرين ، لحرمة الجمع ، وعدم الترجيح ، وله تجديد العقد على أيّهما شاء .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النساء 4 : 23 .
(2) النساء 4 : 23 .
(3) المتقدّمة في ص150 .
مهر الزوجة الصغيرة
الكلام في هذا الأمر يقع في ضمن مسائل :
هل الصغيرة تستحقّ المهر ؟
الاُولى : أنّ الصغيرة الرضيعة هل تستحقّ المهر في الصورة التي يبطل فيها نكاحها بارضاع الزوجة الكبيرة أو غيرها ممّن يوجب إرضاعها بطلان نكاحها مطلقاً ، أو يسقط مهرها كذلك ، أو ينتصف ، كما في الطلاق قبل الدخول والموت قبله على الأظهر في الثاني ـ وقد نسب هذا القول إلى الشيخ (قدّس سرّه)«1» ـ أو يفصّل بين تحقّق السبب المحرّم منها ، كما لو سعت بنفسها إلى ثدي المرضعة ، فامتصّت منه مقدار الرضاع المحرّم ، والمرضعة نائمة أو مغمى عليها بحيث لا تشعر بذلك ، وبين إرضاع الكبيرة إيّاها باختيارها ، فلا تستحقّ المهر في الأوّل ، وتستحقّه في الثاني ؟ وجوه أربعة ، بل أقوال :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
«1» قال الشيخ (قدّس سرّه) في المبسوط 5 : 297 : فأمّا الكلام فيما يجب لها على زوجها ، فإن لم يكن للمرضعة صنع ، مثل أن كانت نائمة فدنت هذه الصغيرة إليها وارتضعت منها سقط كلّ مهرها ، ولا شيء عليها ، ولا على زوجها ، لأنّ الفسخ جاء من قبلها قبل الدخول، كما لو كانت كبيرة فارتدّت قبل الدخول .
وإن كان للمرضعة فيه صنع ، مثل أن أرضعتها هي ، أو مكّنتها فشربت منها فللصغيرة على زوجها نصف المهر ، كما لو طلّقها ... .
فإنّه (قدّس سرّه) التزم بنصف المهر ، لكن في صورة الارضاع الاختياري من قبل المرضعة ، لا مطلقاً .
وذهب الشافعي إلى القول بنصف المهر أيضاً ، وضمان الكبيرة له ، راجع كتاب الاُمّ 5 : 32 .
هل الكبيرة تضمن المهر ؟
الثانية : أنّه على تقدير استحقاق المهر ، فهل تضمنه الكبيرة المرضعة مطلقاً أو لا تضمنه مطلقاً ، أو يفصل بين أن ترضعها باختيارها بحيث لم تكلّف شرعاً بالإرضاع فتضمنه وبين أن تكلّف شرعاً بارضاعها ، كما إذا توقّف حفظ الرضيعة من الهلاك أو الضرر الكثير على أن ترضعها ، وليست هناك مرضعة اُخرى وليست الرضيعة تجد التغذّي بالطعام ، أو أنّ المرضعة اُكرهت على الإرضاع ، فلا تضمنه .
هل تضمن المهر المسمّى أو مهر المثل ؟
الثالثة : أنّه على تقدير الضمان ، هل يضمن المهر المسمّى ، أو مهر المثل ؟ ويترتّب على ذلك أنّه على القول بالتفصيل في المسألة الثانية ـ وأنّ المرضعة ليست ضامنة للمهر في رضاع الصغيرة منها بغير اختيارها ـ يكون مهر المثل ثابتاً للزوج في ذمّة الصغيرة ، لأنّها هي التي سبّبت بطلان نكاحها على الزوج .
إذا عرفت ذلك ، ففي تحقيق البحث في المسائل الثلاث نقول :
جواب المسألة الاُولى
أمّا المسألة الاُولى : فقد عرفت أنّ الوجوه بل الأقوال فيها أربعة :
وقد نسب إلى المشهور سقوط المهر مطلقاً ، وعلى تقدير صحّة النسبة فالوجه لهذا القول هو أنّ مقتضى انفساخ العقد رجوع كلّ من العوضين إلى صاحبه الأوّل ، وفي المقام حيث انفسخ العقد وبطل بسبب الرضاع ، فلازمه رجوع المهر إلى الزوج .
ويرد عليه : أنّ عقد النكاح لا يقاس على العقود المتقوّمة بالمعاوضة ، كالبيع والإجارة ، فإنّه لا معاوضة في النكاح بين المهر والزوجية ، ولا بينه وبين الاستمتاع ، بشهادة العرف والشرع ، فإنّ عنوان الزوجيّة أو الاستمتاع بالزوجة لا
يقابل بالمال ، لا عرفاً ولا شرعاً ، ومن هنا لا يكون قاتل الزوجة ضامناً لمهر الزوجة مضافاً إلى الديّة ، ولا يكون حابسها ضامناً لقيمة الاستمتاع بها حتّى عند العرف ، بل قيل إنّ بعض الطوائف لا يجعلون مهراً لزوجاتهم ، مع وقوع عقد النكاح بينهم .
وأمّا المعاوضة بين الزوجيّة أو البضع وبين المهر فغير محتملة ، لأنّ الحرّة لا تملك ولا بعضها ، بل المعاوضة في باب النكاح بين نفس الزوجين، أي تكون زوجية كل منهما للآخر بدلا وعوضاً عن زوجية الآخر له ، وثبوت المهر حكم شرعي تعبّدي ، وليست له جهة العوضية في عقد النكاح .
وبعد وضوح أنّ حقيقة النكاح ذلك فلا مجال لقياسه على عقود المعاوضة كالبيع ونحوه ، فإنّ عقد البيع إذا ظهر بطلانه يرجع كل من العوضين فيه إلى صاحبه فيرجع الثمن إلى المشتري والمثمن إلى البائع ، قضاء لحقّ المبادلة بين المالين .
وهكذا في الإجارة ، فإذا بطل عقد الإجارة في الأثناء ـ كما لو انهدمت الدار المستأجرة في أثناء السنة ، وانكشف بطلان العقد من حين الانهدام ، لعدم وجود المنفعة بعد ذلك ـ رجع ما يقابل المنفعة الفائتة من الاُجرة إلى المستأجر ، بمقتضى المبادلة بين المنفعة والاُجرة . وهكذا سائر عقود المعاوضة ، وهذا بخلاف عقد النكاح ، حيث إنّه لا معاوضة فيه بين المهر وشيء آخر كالزوجيّة أو الاستمتاع .
نعم في صورة فسخ أحد الزوجين العقد باختياره بالعيوب المعلومة في الزوج أو الزوجة ، يرجع المهر إلى الزوج ، وذلك لفرض العقد كأن لم يكن ، وكأنّه لم يقع عقد من الأصل ، فلا تستحقّ الزوجة مهراً .
وأمّا في صورة انفساخ العقد وبطلانه في الأثناء بغير إرادتهما واختيارهما في إنشاء الفسخ فليس الأمر كذلك ، بل تستحقّ الزوجة تمام المهر، لثبوته بالعقد ، ولا دليل على رجوعه إلى الزوج .
والحاصل : أنّ مجرّد تحقّق عقد النكاح وحدوثه كاف في ثبوت المهر على الزوج واستحقاق الزوجة له ، ورجوعه إلى الزوج ثانياً يحتاج إلى الدليل الشرعي وقد ثبت في الطلاق قبل الدخول رجوع نصفه إلى الزوج تعبّداً(1) بعد ما صار كلّه ملكاً للزوجة بالعقد ، يجوز لها التصرّف فيه بما شاءت . وهكذا ثبت رجوع نصفه إليه بموت أحدهما قبل الدخول على الأظهر(2)، ولم يقم دليل على الرجوع في غير هـذين الموردين .
ومن هنا يظهر أنّ القول بالتنصيف في المقام كما عن الشيخ (قدّس سرّه)(3) لا وجه له ، لأنّ غايته القياس على الطلاق والموت قبل الدخول ، وليس القياس من أدلّتنا ، ولم نعرف له وجهاً آخر ، وإن كان الشيخ (قدّس سرّه) أجلّ من أن يستند في فتواه إليه .
فظهر من جميع ما ذكرنا : أنّه لا وجه لسقوط المهر رأساً ، كما نسب إلى المشهور ، ولا لسقوط نصفه كما عن الشيخ (قدّس سرّه) .
وأمّا التفصيل بين اختصاص السبب المحرّم بالرضيعة ـ كما إذا سعت بنفسها إلى ثدي المرضعة وهي نائمة أو مغمى عليها ـ فيسقط ، وبين تحقّقه من المرضعة فيثبت ، فقد علّلوه بأنّ الانفساخ في الصورة الاُولى يستند إلى نفس الرضيعة فلا تستحقّ المهر ، وفي الصورة الثانية يستند إلى غيرها ، وهي الزوجة الكبيرة أو غيرها ممّن يوجب إرضاعها فساد نكاح الصغيرة ، فلا موجب لسقوطه .
وقد اُورد على هذا الوجه بأنّ الرضيعة الصغيرة لا شعور لها ، فكيف يكون
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 21 : 313 / أبواب المهور ب51 .
(2) الوسائل 21 : 326 / أبواب المهور ب58 .
(3) وقد تقدّم في ص156 .
فعلها موجباً لسقوط مهرها ؟
واُجيب بأنّ الشعور لا يعتبر في الأحكام الوضعيّة ، كسقوط المهر أو ضمان التلف ونحو ذلك ، وإنّما يعتبر في الأحكام التكليفيّة .
أقول : لا وجه لهذا القول أيضاً ، لأنّه لو قلنا بأنّ التسبيب إلى بطلان النكاح يوجب ضمان المهر ـ ولا نقول به كما ستعرف في المسألة الثانية ـ لما كان لسقوط مهر الرضيعة إذا استند السبب إليها وجه ، بل تستحقّ المهر المسمّى بالعقد ، وتضمن للزوج مهر المثل ، لأنّها أتلفت عليه الزوجية أو منافع البضع ، فتضمن بدلها .
وهذا نظير ما إذا باع شخص متاعه من شخص آخر ثمّ أتلفه بعد التسليم إلى المشتري ، فإنّ البائع لا يضمن الثمن المسمّى بعد أن ملكه بالعقد ، وإنّما يضمن للمشتري بدل ما أتلفه عليه من المثل أو القيمة .
فالزوجة الرضيعة تأخذ المهر المسمّى من الزوج ، وتضمن له مهر المثل ، وربما يزيد على المسمّى وربما ينقص .
جواب المسألة الثانية
وأمّا المسألة الثانية : وهي أنّ المرضعة ـ سواء أكانت الزوجة الكبيرة ، أو اُمّ الزوج ، أو بنتها ، أو اُختها ، أو غيرهنّ ممّن يوجب إرضاعها الزوجة الصغيرة بطلان نكاح الصغيرة ـ هل تضمن المهر للزوج على تقدير استحقاق الصغيرة له ، أو يفصّل بين صورتي الاختيار في الإرضاع وعدمه ؟ وقد تقدّم أنّ الوجوه في المسألة ثلاثة . فالتحقيق فيها عدم الضمان مطلقاً ، وربما ينسب إلى المشهور الضمان مطلقاً .
وما استدلّ له به أحد وجوه ثلاثة :
الوجه الأوّل : قاعدة الإتلاف المتسالم عليها عند العقلاء والممضاة شرعاً وقد جرت سيرتهم على تضمين من أتلف مال الغير ببدله من المثل والقيمة وتقريب الاستدلال بها في المقام : أنّ المرضعة بارضاعها الزوجة الصغيرة قد أتلفت
على الزوج الاستمتاع بالزوجة أو نفس الزوجيّة ، فتكون ضامنة لبدل ذلك وهو المهر . ولا يخفى أنّ مقتضى ذلك ضمان مهر المثل ، لا المهر المسمّى .
ويرد على الاستدلال بهذه القاعدة في المقام : أنّ موردها الأموال ، لا كلّ شيء ولو لم يكن مالا ، وعليه فليس لها صغرى في المقام ، لأنّ علقة الزوجية أو الاستمتاع بالزوجة ليس ممّا يتموّل ، أي لا يبذل المهر بازائه ، فإنّ المهر ـ كما قلنا(1)ـ ليس عوضاً عن علقة الزوجية أو الانتفاع بالبضع ، ومن هنا لم يقل أحد بضمان قاتل الزوجة أو حابسها مهر المثل ، وثبوت المهر في النكاح إنّما هو تعبّد شرعي كما تقدّم(2) ولم تتلف المرضعة على الزوج شيئاً آخر ، نعم هي صارت سبباً لبطلان نكاح الرضيعة .
الوجه الثاني : قاعدة نفي الضرر(3) بدعوى أنّ المرضعة صارت سبباً لتضرّر الزوج ، حيث إنّه ببطلان النكاح تضرّر بتسليم مقدار المهر المسمّى الذي لم يحصل له في مقابله شيء ، ومقتضى هذا الوجه ضمان المرضعة المهر المسمّى ، لأنّه الذي تضرّر به الزوج ، حيث لم يسلم له النكاح .
ويرد على الاستدلال بهذه القاعدة .
أوّلا : أنّها إنّما ترفع الأحكام المجعولة في الشريعة إذا كانت ضررية ، لا عدم الحكم الضرري ، مثلا لو كان وجوب شيء أو حرمته ضررياً لارتفع بهذه القاعدة لأنّ الضرر حينئذ ناشئ من الجعل الشرعي ، ورفعه بيد الشارع ، وأمّا عدم الوجوب إذا كان ضررياً فلا يرتفع بهذه القاعدة ليصير الشيء واجباً دفعاً للضرر لأنّ الضرر حينئذ لم ينشأ من قبل الشارع ، وإن كان رفعه مقدوراً للشارع أيضاً
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ، (2) في ص157 ، 158 .
(3) الوسائل 25 : 427 / كتاب إحياء الموات ب12 .
بأن يقلبه إلى وجود الحكم ، إلاّ أنّه ليس مدلول الحديث الشريف ـ كما قلنا ـ إلاّ رفع الضرر الذي ينشأ من الجعل الشرعي ، ولا يعمّ الضرر الناشئ من عدم الجعل الشرعي .
وليس في المقام حكم وجودي ضرري ليرتفع ، وإنّما ينشأ الضرر من عدم تضمين المرضعة ، وهو بمعنى أنّ الشارع لم يجعل عليها الضمان ، فلا يرتفع بهذه القاعدة لتكون ضامنة .
وأمّا جواز الإرضاع فلم يستشكل فيه أحد ، لعدم وجود منع شرعي عن الإرضاع الموجب لبطلان النكاح ، وإن سلّم أنّه مستلزم للضرر ، فقاعدة نفي الضرر ترفع جواز الإرضاع ، ولا تثبت الضمان .
وثانياً : أنّه لو سلّم شمول القاعدة لعدم الجعل الذي ينشأ منه الضرر لم تشمل المقام أيضاً ، لأنّ الامتنان على الزوج برفع عدم الضمان ينافي الامتنان على المرضعة ، ولا ترجيح لضرر أحدهما على الآخر ، ومورد القاعدة ما كان في رفعه امتنان على الاُمّة ، ولا تشمل ما كان فيه امتنان على بعض دون بعض .
وربما يقال : إنّ المرضعة هي التي أقدمت على ضرر نفسها ، فلا يكون نفي الضرر عن الزوج خلاف الامتنان عليها .
ويندفع أوّلا : بأنّ هذا أخصّ من المدّعى ، إذ ربما يكون الإرضاع واجباً عليها ، لتوقّف حفظ نفس الرضيعة على ذلك ، فكيف يقال هي التي أقدمت على ضرر نفسها في حين أنّ الداعي لها أمر الشارع بالإرضاع وإن كان ذلك لا ينافي الضمان ، إلاّ أنّه ليس إقداماً منها على الضرر .
وثانياً : بأنّ الإقدام على الضرر فرع ثبوت الضمان ، وهو أوّل الكلام .
الوجه الثالث : رواية ضعيفة ذكرها الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) في رسالته
الرضاعية(1)، وهي ما رواه الفقيه(2) بسند ضعيف عن داود بن الحصين عن عمر ابن حنظلة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « سألته عن رجل قال لآخر : اخطب لي فلانة ، فما فعلت من شيء ممّا قاولت من صداق أو ضمنت من شيء أو شرطت فذلك لي رضى ، وهو لازم لي . ولم يشهد على ذلك ، فذهب فخطب له ، وبذل عنه الصداق وغير ذلك ممّا طالبوه وسألوه ، فلمّا رجع إليه أنكر ذلك كلّه
قال : يغرم لها نصف الصداق عنه ، وذلك أنّه هو الذي ضيّع حقّها ، إذ(3) لم يشهد عليه بذلك الذي قال »(4) بتقريب : أنّ عموم التعليل يشمل المقام ، لأنّ المرضعة قد ضيّعت حقّ الزوج ، فيجب عليها أن تغرم له ما خسره من المهر .
ويرد عليه : أنّ ضعف سندها يغنينا عن التكلّم في دلالتها ، مع أنّها لا دلالة لها على المطلوب أيضاً ، لأنّ مورد الرواية الحقّ المالي ، والتعليل إنّما يعمّ كلّ حقّ مالي ، ولا يعمّ غيره ، والمرضعة في المقام لم تضيّع حقّاً مالياً على الزوج ، وإنّما ضيّعت زوجيّة الرضيعة عليه بارضاعها ، والمهر قد وجب عليه بنفس العقد ، لا بارضاعها .
فتلخّص من جميع ما ذكرنا : أنّه لا موجب لضمان المرضعة ، وإن كان إرضاعها باختيارها من دون ضرورة تقتضي ذلك ، وبه يظهر فساد التفصيل المتقدّم .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كتاب النكاح (إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم 20) : 361 .
(2) الفقيه 3 : 49 / 169 .
(3) [الموجود في الوسائل : فلمّا لم يشهد لها عليه بذلك الذي قال له حلّ لها ... والموجود في الفقيه : فأمّا إذا لم ...] .
(4) الوسائل 19 : 165 / كتاب الوكالة ب4 ح1 .
جواب المسألة الثالثة
وأمّا المسألة الثالثة ـ وهي أنّه على تقدير ثبوت الضمان على المرضعة هل تضمن المهر المسمّى أو مهر المثل ـ : فالحقّ فيها هو الثاني ، لأنّ مدرك الضمان إن كان قاعدة الإتلاف فهي تقتضي ضمان ما أتلفته على الزوج من منافع البضع أو الزوجية ، لا المهر المسمّى الثابت على الزوج بالعقد .
وإن كان قاعدة نفي الضرر فكذلك أيضاً ، لأنّ الزائد على مهر المثل قد أقدم عليه الزوج بنفسه ، فتضرّره به مستند إلى إقدامه ، لا إلى المرضعة بارضاعها الصغيرة ، والمقدار الذي أضرّته به المرضعة هو مقدار مهر المثل .
والحمد لله أوّلا وآخراً . هذا آخر ما أفاده سيّدنا الاُستاذ (دام ظلّه في بحث الرضاع ، وكان ذلك في الليلة الخامسة والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1375الهجرية(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قد كان تحرير أصل الرسالة في سنة 1374 و1375هـ ، كما أشرنا في المقدّمة ، وكان طبعها في سنة 1412هـ في النجف الأشرف ، وقد اُعيد طبعها .
ويقع الكلام في مسائل تتعلّق بالرضاع من حيث نشره الحرمة وعدمه :
عدم الفرق بين الرضاع السابق على النكاح واللاحق
المسألة الاُولى(1): لا فرق في نشر الرضاع الحرمة بين السابق على النكاح واللاحق ، فالرضاع المتحقّق بالشروط المتقدّمة بعد العقد يوجب الحرمة ، وبطلان العقد ، لشمول الأدلّة للمورد ، حيث إنّ العناوين الرضاعية المحرّمة تتحقّق في صورة اللحوق ، كصورة السبق ، فيلحقها الحكم .
مضافاً إلى روايات خاصّة تدلّ على أنّ ذلك مقتضى القاعدة :
منها : صحيحة عبدالله بن سنان ، عن الصادق (عليه السلام) قال : « سئل وأنا حاضر عن امرأة أرضعت غلاماً مملوكاً لها من لبنها حتّى فطمته ، هل لها أن تبيعه ؟ فقال : لا ، هو ابنها من الرضاعة ، حرم عليها بيعه وأكل ثمنه ، ثمّ قال : أليس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب »(2) فإنّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أشار إلى ذلك في كتاب الخلاف 5 : 104 مسألة 15 ، 16 ، 17 . وهكذا الشافعي في كتاب الاُمّ 5 : 32 فلاحظ .
(2) الوسائل 20 : 405 / أبواب ما يحرم بالرضاع ب17 ح1 .
الاستدلال بقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يعطي أنّ الحكم المزبور على طبق القاعدة .
ومنها : الروايات الدالّة على فساد النكاح بارضاع الزوجة الكبيرة الزوجة الصغيرة ، كرواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «لو أنّ رجلا تزوّج جارية رضيعة فأرضعتها امرأته ، فسد النكاح»(1).
ويترتّب على ذلك أنّه لو تزوّج صغيرة فأرضعتها اُمّه أصبحت اُختاً له وكذلك إذا أرضعتها زوجة أبيه أصبحت اُختاً له من أبيه ، فيبطل العقد السابق ويحرم النكاح أبداً ، وكذلك إذا أرضعته(2) جدّته اُمّ أبيه أصبحت عمّته ، وإذا أرضعته(3)جدّته اُمّ اُمّه أصبحت خالته .
وقس على ذلك سائر الصور الموجبة للتحريم المؤبّد وبطلان النكاح السابق كما لو أرضعتها زوجة ابنه ، فإنّها تصبح بنتاً له من ابنه . أو أرضعتها زوجة أخيه فإنّها تصبح بنت أخيه . أو أرضعتها اُخته ، فإنّها تكون بذلك بنت اُخته . والجامع لذلك هو أن ينطبق عليها بالرضاع اللاحق أحد العناوين السبعة التي يحرم نكاحها .
وهكذا إذا كان الرضاع اللاحق موجباً للعنوان الذي يحرم نكاحه جمعاً ، كما إذا كان له زوجتان صغيرتان ، فأرضعتهما أجنبية ، فإنّ الصغيرتين تصيران بذلك اُختين من الرضاع ، فيحرم جمعهما في النكاح . وبما أنّ ترجيح بطلان أحد النكاحين على الآخر بلا مرجّح يبطل النكاحان معاً ، ولا مانع من تجديد نكاح إحداهما بعد ذلك ، والحكم في هذه المسألة لا إشكال فيه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 20 : 399 / أبواب ما يحرم بالرضاع ب10 ح1 .
(2) ، (3) [الصحيح : « أرضعتها » في الموردين] .
ــ[146]ــ
إرضاع الزوجة الكبيرة للصغيرة
المسألة الثانية«1»:هي ما إذا كانت له زوجتان كبيرة وصغيرة ، فأرضعت الكبيرة الصغيرة .
فالمعروف بينهم بطلان نكاحهما ، وذلك لأنّ اللبن إذا كان للزوج صارت الصغيرة بذلك بنتاً له ، والكبيرة اُمّ زوجته ، فيبطل نكاحهما ، وتحرمان مؤبّداً .
وإذا كان اللبن لغير الزوج ، فإن كانت الكبيرة مدخولا بها حرمت الصغيرة عليه مؤبّداً ، لأنّها ربيبته من زوجته التي دخل بها ، فتكون من مصاديق الآية المباركة الواردة في الربائب(1)، وحرمت الكبيرة عليه ، لأنّها اُمّ زوجته .
وإن لم تكن الكبيرة مدخولا بها بطل النكاحان ، لحرمة الجمع بين الاُمّ والبنت في النكاح ، كما يحرم الجمع بين الاُختين فيه ، وبطلان الترجيح بلا مرجّح .
وبعبارة اُخرى : أنّهما قبل الإرضاع كانتا زوجتين للرجل، وبالإرضاع حصلت نسبة الاُمومة والبنوّة بينهما، فلا بدّ من بطلان نكاح إحداهما، لحرمة الجمع بين الاُمّ والبنت في النكاح، وترجيح نكاح إحداهما في البطلان ترجيح بلا مرجّح، فلا بدّ من الالتزام ببطلان كلا النكاحين، ويجوز تجديد العقد على الصغيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
«1» تعرّض الشيخ الطوسي (قدّس سرّه) لهذه المسألة (في كتاب الخلاف 5 : 105 مسألة 18 بشكل أوسع ، لأنّه فرض أنّ له زوجة كبيرة ، وثلاث زوجات صغار دون الحولين
فأرضعت منهنّ واحدة بعد واحدة . فراجعها إذا شئت ، لأنّ المسألة المفروضة أشبه بالفرض المحض ، من دون وقوع لها في الخارج .
وقد جاء في كتاب الاُمّ للشافعي 5 : 32 ـ 33 ذكر فروع متعدّدة لإرضاع الزوجة الكبيرة للصغيرة ، واحدة أو متعدّدة ، لا يهمّنا التعرّض لها ، ومن شاء فليراجع .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النساء 4 : 23 .
ــ[147]ــ
لأنّها بنت زوجته التي لم يدخل بها ، وأمّا الكبيرة فقد صارت بارضاعها الصغيرة اُمّ زوجته ، فتحرم عليه مؤبّداً .
فظهر ممّا ذكرناه : أنّ الزوجة الكبيرة تحرم على الزوج مؤبّداً بارضاعها الزوجة الصغيرة ، سواء كان اللبن للزوج أم لغيره ، كانت مدخولا بها أم لم تكن مدخولا بها . وأمّا الزوجة الصغيرة فتحرم عليه مؤبّداً في الصورة الاُولى لصيرورتها بالإرضاع بنتاً له ، وفي الصورة الثانية أيضاً ، لصيرورتها بذلك ربيبته التي قد دخل باُمّها ، وفي الصورة الثالثة تحرم جمعاً بينها وبين اُمّها .
هذا هو المعروف بين الأصحاب ، إلاّ أنّ للمناقشة ـ في بطلان نكاح الزوجة الكبيرة ، وحرمتها على الرجل مؤبّداً ـ مجالا واسعاً ، وذلك لأنّ آن حصول الاُمومة للزوجة الكبيرة هو آن حصول البنوّة للزوجة الصغيرة ، لأنّهما من الاُمور المتضايفة ، وآن حصول البنوّة للزوجة الصغيرة هو آن زوال الزوجيّة عنها ، لا آن وجود زوجيتها ، فلم تكن الكبيرة في آن اُمَّ زوجة للرجل حتّى يبطل نكاحها
نعم هي اُمّ لزوجته السابقة ، لا اُمّ لزوجته الفعلية ، وظاهر العنوان المحرّم هو أن يكون فعلياً .
ويمكن الاستدلال لبطلان نكاح الزوجة الكبيرة وحرمتها مؤبّداً بوجوه لا بأس بالتعرّض لها وما يرد عليها :
الوجه الأوّل : أنّ المشتق حقيقة في الأعمّ من المتلبّس بالمبدأ ومن انقضى عنه المبدأ ، فالصغيرة حيث كانت زوجة قبل آن يصدق عليها في آنِ زوال زوجيّتها أنّها زوجة ، فيصدق على الزوجة الكبيرة أنّها اُمّ زوجة الرجل ، فيبطل نكاحها
وتحرم عليه مؤبّداً .
وفيه : أنّا لا نسلّم ذلك ، بل المشتقّ كما ذكرنا في الاُصول(1) حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدأ .
الوجه الثاني :أنّ الحكم في المورد لا يبتني على مسألة المشتق ، بل هو مبني على الإضافة ، ويكفي فيها أدنى ملابسة ، لأنّ العنوان المذكور في آية التحريم(2) هو اُمّهات النساء ، باضافة النساء إلى ضمير المخاطب ، ويكفي في إضافة النساء إلى ضمير الخطاب كون المرأة زوجة المخاطب في الآن السابق .
وفيه : أنّ البحث في المشتق ليس من حيث الاشتقاق ، بل من حيث اشتماله على النسبة ، وأنّه هل يكفي في نسبة شيء إلى شيء ثبوته له سابقاً ، أو يعتبر ثبوته له بالفعل ، وهذا المعنى يعمّ الإضافة . لأنّها تشتمل على نسبة المضاف إلى المضاف إليه وظاهرها الفعلية .
الوجه الثالث : وحدة السياق في الآية المباركة المتضمّنة لحرمة المحرّمات بالنسب والمصاهرة(3) تدلّ على كفاية الزوجية السابقة في حرمة الزوجة الكبيرة بتقريب : أنّ القرينة الخارجية ـ وهي الروايات الكثيرة ـ دلّت على أنّ ربيبة الرجل من الزوجة السابقة المدخول بها تحرم على ذلك الرجل(4) فلو طلّق الزوج زوجته التي قد دخل بها ، فتزوّجها شخص آخر ، فأولدها بنتاً ، حرمت هذه البنت على الزوج الأوّل ، لأنّها ربيبته من الزوجة التي قد دخل بها ، فإذا كان المراد من النساء اُمّهات الربائب في الآية المباركة(5) ما يعمّ النساء السابقة ، فوحدة السياق تقتضي أن يراد بالنساء في اُمّهات النساء ما يعمّ الزوجات السابقة .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محاضرات في اُصول الفقه 1 (موسوعة الإمام الخوئي 43) : 287 .
(2) ، (3) النساء 4 : 23 .
(4) الوسائل 20 : 465 / أبواب ما يحرم بالمصاهرة ب21 .
(5) النساء 4 : 23 .
ويرد عليه : أنّ قيام القرينة في مورد خاص لا يوجب تعميمها لمورد آخر بل يمكننا أن نقول : إنّه لا قرينية لتلك الأخبار على إرادة الأعم من الآية الشريفة بل هي باقية على ظهورها في النساء الفعليّة ، وتلك الأخبار تدلّ على ثبوت الحكم في موردها ، لأنّ الأحكام تدريجية في البيان ، فمن الممكن أن يكون الحكم في الآية المباركة مختصّاً بربائب النساء الفعلية ، ثمّ وردت الروايات بثبوت الحكم في ربائب النساء السابقة .
وأمّا اُمّهات النساء فلم ترد أخبار تدلّ على ثبوت الحرمة للأعمّ ، وليس في المورد إلاّ ظاهر الآية الشريفة(1) وهو لا يقتضي أزيد من حرمة اُمّهات النساء الفعلية ، بحيث تكون الاُمومة والزوجية في زمان واحد .
الوجه الرابع : أنّ العرف يتسامح في أمثال هذه الموارد ، لأنّ زمان زوال الزوجية متّصل بزمان نفس الزوجية ، أي يكون في آن بعد آنها ، والمفروض أنّ زمان الاُمومة متّحد مع زمان زوال الزوجيّة ، فيتّصل زمان الاُمومة بزمان الزوجيّة ، وهذا المقدار من التأخّر ممّا يتسامح فيه العرف ، والخطابات الشرعية منزّلة على المفاهيم العرفية .
ويرد عليه : أنّ العرف إنّما يكون متّبعاً في تشخيص المفاهيم ، لا في المسامحة في التطبيق بعد أخذ المفهوم منه ، والمفهوم من اُمّ الزوجة أو اُمّهات النساء الوارد في الآية الكريمة(2) هو اتّحاد زمان الاُمومة والزوجية ، أي من تكون اُمّاً للزوجة الفعلية عرفاً ، فلا تتبع مسامحة العرف في تطبيق هذا المفهوم العرفي على من تكون اُمّاً
للزوجة السابقة ، بلحاظ اتّصال الزمانين وعدم الفصل بينهما .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النساء 4 : 23 .
(2) النساء 4 : 23 .
الوجه الخامس : رواية علي بن مهزيار عن أبي جعفر (عليه السلام) قال « قيل له : إنّ رجلا تزوّج بجارية صغيرة ، فأرضعتها امرأته ، ثمّ أرضعتها امرأة له اُخرى ، فقال ابن شبرمة : حرمت عليه الجارية وامرأتاه ، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : أخطأ ابن شبرمة ، تحرم عليه الجارية وامرأته التي أرضعتها أوّلا ، فأمّا الأخيرة فلم تحرم عليه ، كأنّها أرضعت ابنته »(1).
وهذه الرواية التي يذكرها الفقهاء في المسألة الآتية ـ وهي من تكون له زوجتان كبيرتان وزوجة صغيرة ، فأرضعتا الزوجة الصغيرة ـ يمكن الاستدلال بها في مورد الكلام أيضاً ، لأنّها قد صرّحت بتحريم الزوجة الكبيرة الاُولى والصغيرة وإن خطأ ابن شبرمة في حكمه بحرمة الكبيرة الثانية ، لأنّها أرضعت بنته ، لا زوجته كي تكون اُمّ زوجته .
ويرد على الاستدلال بهذه الرواية أنّها ضعيفة السند بصالح بن أبي حمّاد كما ذكروا .
وقد ناقش في سندها صاحب المسالك (قدّس سرّه) بأنّها مرسلة ، لأنّ علي بن مهزيار لم يدرك الباقر (عليه السلام) وأبو جعفر عند الإطلاق يراد به الباقر (عليه السلام) فلا محالة تكون مرسلة . ويؤيّده أنّ ابن شبرمة كان في زمان الباقر (عليه السلام) لا الإمام الجواد ، وهو أبو جعفر الثاني (عليه السلام)(2)، هذا .
فإن سلّمنا أنّ أبا جعفر عند الإطلاق ظاهر في الإمام الباقر (عليه السلام) فهو كما أفاد (قدّس سرّه) ، وإلاّ فظاهر قوله : « قيل له » هو الإخبار عن حسّ ، فيكون
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 20 : 402 / أبواب ما يحرم بالرضاع ب14 ح1 .
(2) مسالك الافهام 7 : 269 .
قرينة على إرادة الإمام الجواد (عليه السلام) المعاصر له ، فلا تكون مرسلة من هذه الجهة .
إلاّ أنّ صاحب البلغة نبّه على إرسالها من جهة اُخرى ، وهي أنّ الرواية منقولة في الكافي ، وفيه يقول : وروي عن أبي جعفر (عليه السلام)(1) أي ينقلها ابن مهزيار عن الإمام (عليه السلام) بلفظ « روي » وهو صريح في وجود الواسطة بينه وبين الإمام (عليه السلام) ولو كان الإمام هو الإمام الجواد(2).
وكيف كان الأمر ، فلا إشكال في ضعف سند هذه الرواية .
الوجه السادس : أنّ اُمومة الكبيرة بمقتضى التضايف مساوقة لبنوّة الصغيرة ، فتكون علّة لزوال زوجيّتها ، وحيث إنّ العلّة متّحدة مع المعلول زماناً متقدّمة عليه رتبة ، تكون مقارنة مع نفس الزوجية رتبة ، ففي رتبة اُمومة الكبيرة تكون الصغيرة زوجة للرجل ، فالاُمومة والزوجية تكونان في مرتبة واحدة وإن اختلفتا في الزمان ، وهذا المقدار كاف في نشر الحرمة .
وفيه : أنّ الأحكام الشرعية لا تبتني على التدقيقات الفلسفيّة ، بل ظاهر الدليل هو اعتبار اتّحاد زمان الاُمومة والزوجية ، لا اتّحاد رتبتهما ولو اختلفا زماناً فإنّ الظاهر من الآية المباركة الواردة في حرمة اُمّهات النساء(3) هو اُمّهات النساء خارجاً ، لا اُمّهات النساء رتبة ، أي من تكون في الخارج اُمّ زوجة ، لا في الرتبة .
هذه هي الوجوه التي يمكن أن يستدلّ بها على حرمة الزوجة الكبيرة ، وقد عرفت ضعفها ،
فلا دليل على حرمة الزوجة الكبيرة إذا أرضعت الزوجة الصغيرة .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكافي 5 : 446 / 13 ، ولفظه هكذا : عن علي بن مهزيار رواه عن أبي جعفر (عليه السلام) .
(2) بلغة الفقيه 3 : 184 .
(3) النساء 4 : 23 .
ويؤيّد هذا ، بل يدلّ عليه صحيحة الحلبي أو حسنته ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « لو أنّ رجلا تزوّج جارية رضيعة ، فأرضعتها امرأته فسد النكاح »(1).
والآخر بنفس السند عنه (عليه السلام) أيضاً : « في رجل تزوّج جارية صغيرة ، فأرضعتها امرأته واُمّ ولده ؟ قال : تحرم عليه »(2).
فإنّ ظاهر الروايتين هو الحكم بفساد عقد الصغيرة ، فسكوته عن نكاح الكبيرة دالّ على عدم بطلانه .
وأمّا الصغيرة المرتضعة فتحرم مؤبّداً مضافاً إلى بطلان نكاحها ، إذا كان اللبن للرجل ، لأنّها تكون حينئذ بنته الرضاعيّة ، أو كانت الكبيرة مدخولا بها واللبن لغيره ، لأنّها تكون حينئذ ربيبته من زوجته التي دخل بها ، وإن كانت زوجة سابقة ، للفرق بين الربيبة واُمّ الزوجة في عدم اعتبار المقارنة في الاُولى بصريح الروايات الواردة في ذلك(3) واعتبارها في الثانية كما عرفت ، وتحريمها في هاتين الصورتين ـ كما هو المعروف ـ ممّا لا ينبغي التأمّل فيه ، لموافقته للأدلّة .
وفيما إذا لم يكن اللبن للرجل ، ولم تكن الكبيرة مدخولا بها ، فلا تحرم ، بل يبطل نكاحها على المشهور ، مستدلّين على ذلك بحرمة الجمع بين الاُم والبنت في النكاح ، وبالرضاع تتحقّق نسبة الاُمومة والبنوّة بينهما ، وبما أنّ ترجيح بطلان نكاح
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ، (2) الوسائل 20 : 399 / أبواب ما يحرم بالرضاع ب10 ح1 ، 2 عن محمّد بن يعقوب
واللفظ في الاُولى في الكافي 5 : 444 / 4 « فسد نكاحها » [مع اختلاف يسير آخر] والراوي في الثانية الحلبي وعبدالله بن سنان .
(3) الوسائل 20 : 465 / أبواب ما يحرم بالرضاع ب21 .
إحداهما على بطلان النكاح الآخر بلا مرجّح ، فلابدّ من الحكم ببطلانهما معاً ، فإن شاء جدّد العقد على الصغيرة .
وللنظر في هذا الاستدلال مجال واسع ، بل يعدّ هذا من غرائب فتاوى المشهور ، إذ بعد الالتزام بحرمة الكبيرة مؤبّداً لأنّها تصير اُمّ زوجة الرجل ، حتّى في هذه الصورة ـ حيث صرّحوا هنا بجواز تجديد العقد على الصغيرة دون الكبيرة لأنّها اُمّ زوجته ـ لا مجال للالتزام ببطلان عقد الصغيرة ، استناداً إلى حرمة الجمع بين الاُمّ والبنت في النكاح ، وعدم المرجّح .
وبعبارة اُخرى : بعد تسليم أنّ الرضاع في المقام يوجب صدق عنوان اُمّ الزوجة على الزوجة الكبيرة ، فلا محالة يبطل نكاحها ، وتحرم عليه مؤبّداً ، سواء أبطل نكاح الزوجة الصغيرة أم لا ، فتعيّن بطلان نكاح الزوجة الكبيرة هو المرجّح فلا وجه لبطلان نكاح الزوجة الصغيرة في هذه الصورة .
وقياس المقام على ما لو عقد على الاُمّ وبنتها بعقد واحد ، أو بعقدين متقارنين في الزمان ـ كما لو عقد الرجل على الاُمّ وعقد وكيله على بنتها في نفس ذلك الزمان حيث يبطل العقدان لعدم المرجّح ، فيقاس بقاء العقدين على حدوثهما كذلك ـ قياس مع الفارق ، لتعيّن بطلان عقد الزوجة الكبيرة في المقام ، لأنّها اُمّ زوجة كما ذكرنا فبطلان عقد الزوجة الصغيرة بلا موجب .
نعم بناءً على ما قوّيناه من عدم بطلان نكاح الزوجة الكبيرة ، لعدم تقارن اُمومتها وزوجية الزوجة الصغيرة ، يصحّ الالتزام ببطلان كلا النكاحين ، لعدم المرجّح لأحدهما على الآخر ، وله تجديد العقد على أيّهما شاء ، لا على خصوص الصغيرة كما ذهب إليه المشهور .
هذا تمام الكلام في المسألة الثانية ، وقد ظهر من التحقيق فيها أنّه لا وجه لحرمة الزوجة الكبيرة بارضاعها الزوجة الصغيرة في أيّ من الصور الثلاثة
وأنّ الحكم في الصورة الثالثة هو بطلان النكاحين ، لحرمة الجمع ، وعدم المرجّح .
إرضاع الكبيرتين الزوجة الصغيرة
المسألة الثالثة : لو كانت للرجل زوجتان كبيرتان وزوجة صغيرة
فأرضعتها إحدى الكبيرتين الرضاع المحرّم أوّلا ، ثمّ أرضعتها الاُخرى كذلك .
والمشهور حرمة الكبيرتين مؤبّداً ، لأنّ كلاًّ منهما تصير اُمّ زوجته ، وكذلك الصغيرة إن كان لبن إحداهما له ، أو كانت إحداهما مدخولا بها ولم يكن اللبن له لأنّها على الأوّل بنته ، وعلى الثاني ربيبته من زوجته التي دخل بها . وإن لم يكن اللبن له ولم يتحقّق الدخول حرم جمعهما. هذا هو المشهور .
أقول : أمّا الكلام في المرضعة الاُولى فهو بعينه الكلام فيما لو اتّحدت ، من حيث وجوه استدلال المشهور على أنّها اُمّ زوجته وفسادها ، وقد عرفت أنّ التحقيق عدم حرمتها .
ومنه يظهر عدم حرمة الثانية ، لأنّه لو سلّمنا صدق اُمّ الزوجة على الاُولى لاتّصال زمان زوجية الصغيرة بزمان اُمومة الكبيرة ، لما سلّمنا ذلك في هذه المسألة بالنسبة إلى الكبيرة الثانية ، لعدم اتّصال الزمانين ، بل قد يتأخّر إرضاع الثانية بأيّام أو بشهور ، فكيف يصدق عليها أنّها اُمّ لزوجته ؟ نعم هي اُمّ لزوجته السابقة ، لتأخّر زمان الاُمومة عن زمان زوجية الصغيرة بكثير ، فهي أرضعت بنته لا زوجته ، كما صرّح بذلك في رواية ابن مهزيار(1).
ولولا ضعف سندها لكانت أقوى شاهد على فساد ما ذهب إليه المشهور ولعلّه لذلك أعرض عنها الأصحاب ، وأفتوا بحرمة الثانية مؤبّداً أيضاً كالاُولى .
ــــــ
وبالجملة : لو استند المشهور في تحريم الكبيرة الاُولى إلى أحد الوجوه الثلاثة الاُول من الوجوه الستّة المتقدّمة ـ وهي أعمّية المشتق من المتلبّس ومن انقضى عنه المبدأ ، أو كفاية أدنى الملابسة في الإضافة ، أي إضافة الاُم إلى النساء في الآية الشريفة(1)، أو وحدة السياق في الآية المباركة بين اُمّهات النساء والربائب من النساء المدخول بهنّ(2) المقتضية لإرادة الأعمّ من النساء الفعلية والنساء السابقة ـ لكان للقول بحرمة الكبيرة الثانية وجه ، لجريان تلك الوجوه فيها ، إلاّ أنّك قد عرفت ضعفها .
ولو استندوا إلى الوجوه الثلاثة الأخيرة ـ من مسامحة العرف لو اتّصل زمان اُمومة الكبيرة بزمان زوجيّة الصغيرة ، ومن رواية ابن مهزيار(3) المصرّحة بحرمة الاُولى دون الثانية ، ومن كفاية المقارنة في الرتبة ، أي رتبة اُمومة الكبيرة وزوجية الصغيرة ـ لم يسعهم القول بحرمة الكبيرة الثانية ، لعدم جريان تلك الوجوه فيها ، بل الرواية المذكورة قد صرّحت بفساد ما أفتوا به .
وكيف كان ، فالقول بحرمة الكبيرة الثانية أضعف من القول بحرمة الاُولى عندنا ، وإن ذهب إليه المشهور .
وأمّا الصغيرة فالمختار فيها ما تقدّم في المسألة الاُولى من حرمتها مؤبّداً في صورة كون اللبن للزوج ، أو كون المرضعة مدخولا بها ، وبطلان نكاحها ونكاح الكبيرة في صورة عدم تحقّق شيء من الأمرين ، لحرمة الجمع ، وعدم الترجيح ، وله تجديد العقد على أيّهما شاء .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النساء 4 : 23 .
(2) النساء 4 : 23 .
(3) المتقدّمة في ص150 .
مهر الزوجة الصغيرة
الكلام في هذا الأمر يقع في ضمن مسائل :
هل الصغيرة تستحقّ المهر ؟
الاُولى : أنّ الصغيرة الرضيعة هل تستحقّ المهر في الصورة التي يبطل فيها نكاحها بارضاع الزوجة الكبيرة أو غيرها ممّن يوجب إرضاعها بطلان نكاحها مطلقاً ، أو يسقط مهرها كذلك ، أو ينتصف ، كما في الطلاق قبل الدخول والموت قبله على الأظهر في الثاني ـ وقد نسب هذا القول إلى الشيخ (قدّس سرّه)«1» ـ أو يفصّل بين تحقّق السبب المحرّم منها ، كما لو سعت بنفسها إلى ثدي المرضعة ، فامتصّت منه مقدار الرضاع المحرّم ، والمرضعة نائمة أو مغمى عليها بحيث لا تشعر بذلك ، وبين إرضاع الكبيرة إيّاها باختيارها ، فلا تستحقّ المهر في الأوّل ، وتستحقّه في الثاني ؟ وجوه أربعة ، بل أقوال :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
«1» قال الشيخ (قدّس سرّه) في المبسوط 5 : 297 : فأمّا الكلام فيما يجب لها على زوجها ، فإن لم يكن للمرضعة صنع ، مثل أن كانت نائمة فدنت هذه الصغيرة إليها وارتضعت منها سقط كلّ مهرها ، ولا شيء عليها ، ولا على زوجها ، لأنّ الفسخ جاء من قبلها قبل الدخول، كما لو كانت كبيرة فارتدّت قبل الدخول .
وإن كان للمرضعة فيه صنع ، مثل أن أرضعتها هي ، أو مكّنتها فشربت منها فللصغيرة على زوجها نصف المهر ، كما لو طلّقها ... .
فإنّه (قدّس سرّه) التزم بنصف المهر ، لكن في صورة الارضاع الاختياري من قبل المرضعة ، لا مطلقاً .
وذهب الشافعي إلى القول بنصف المهر أيضاً ، وضمان الكبيرة له ، راجع كتاب الاُمّ 5 : 32 .
هل الكبيرة تضمن المهر ؟
الثانية : أنّه على تقدير استحقاق المهر ، فهل تضمنه الكبيرة المرضعة مطلقاً أو لا تضمنه مطلقاً ، أو يفصل بين أن ترضعها باختيارها بحيث لم تكلّف شرعاً بالإرضاع فتضمنه وبين أن تكلّف شرعاً بارضاعها ، كما إذا توقّف حفظ الرضيعة من الهلاك أو الضرر الكثير على أن ترضعها ، وليست هناك مرضعة اُخرى وليست الرضيعة تجد التغذّي بالطعام ، أو أنّ المرضعة اُكرهت على الإرضاع ، فلا تضمنه .
هل تضمن المهر المسمّى أو مهر المثل ؟
الثالثة : أنّه على تقدير الضمان ، هل يضمن المهر المسمّى ، أو مهر المثل ؟ ويترتّب على ذلك أنّه على القول بالتفصيل في المسألة الثانية ـ وأنّ المرضعة ليست ضامنة للمهر في رضاع الصغيرة منها بغير اختيارها ـ يكون مهر المثل ثابتاً للزوج في ذمّة الصغيرة ، لأنّها هي التي سبّبت بطلان نكاحها على الزوج .
إذا عرفت ذلك ، ففي تحقيق البحث في المسائل الثلاث نقول :
جواب المسألة الاُولى
أمّا المسألة الاُولى : فقد عرفت أنّ الوجوه بل الأقوال فيها أربعة :
وقد نسب إلى المشهور سقوط المهر مطلقاً ، وعلى تقدير صحّة النسبة فالوجه لهذا القول هو أنّ مقتضى انفساخ العقد رجوع كلّ من العوضين إلى صاحبه الأوّل ، وفي المقام حيث انفسخ العقد وبطل بسبب الرضاع ، فلازمه رجوع المهر إلى الزوج .
ويرد عليه : أنّ عقد النكاح لا يقاس على العقود المتقوّمة بالمعاوضة ، كالبيع والإجارة ، فإنّه لا معاوضة في النكاح بين المهر والزوجية ، ولا بينه وبين الاستمتاع ، بشهادة العرف والشرع ، فإنّ عنوان الزوجيّة أو الاستمتاع بالزوجة لا
يقابل بالمال ، لا عرفاً ولا شرعاً ، ومن هنا لا يكون قاتل الزوجة ضامناً لمهر الزوجة مضافاً إلى الديّة ، ولا يكون حابسها ضامناً لقيمة الاستمتاع بها حتّى عند العرف ، بل قيل إنّ بعض الطوائف لا يجعلون مهراً لزوجاتهم ، مع وقوع عقد النكاح بينهم .
وأمّا المعاوضة بين الزوجيّة أو البضع وبين المهر فغير محتملة ، لأنّ الحرّة لا تملك ولا بعضها ، بل المعاوضة في باب النكاح بين نفس الزوجين، أي تكون زوجية كل منهما للآخر بدلا وعوضاً عن زوجية الآخر له ، وثبوت المهر حكم شرعي تعبّدي ، وليست له جهة العوضية في عقد النكاح .
وبعد وضوح أنّ حقيقة النكاح ذلك فلا مجال لقياسه على عقود المعاوضة كالبيع ونحوه ، فإنّ عقد البيع إذا ظهر بطلانه يرجع كل من العوضين فيه إلى صاحبه فيرجع الثمن إلى المشتري والمثمن إلى البائع ، قضاء لحقّ المبادلة بين المالين .
وهكذا في الإجارة ، فإذا بطل عقد الإجارة في الأثناء ـ كما لو انهدمت الدار المستأجرة في أثناء السنة ، وانكشف بطلان العقد من حين الانهدام ، لعدم وجود المنفعة بعد ذلك ـ رجع ما يقابل المنفعة الفائتة من الاُجرة إلى المستأجر ، بمقتضى المبادلة بين المنفعة والاُجرة . وهكذا سائر عقود المعاوضة ، وهذا بخلاف عقد النكاح ، حيث إنّه لا معاوضة فيه بين المهر وشيء آخر كالزوجيّة أو الاستمتاع .
نعم في صورة فسخ أحد الزوجين العقد باختياره بالعيوب المعلومة في الزوج أو الزوجة ، يرجع المهر إلى الزوج ، وذلك لفرض العقد كأن لم يكن ، وكأنّه لم يقع عقد من الأصل ، فلا تستحقّ الزوجة مهراً .
وأمّا في صورة انفساخ العقد وبطلانه في الأثناء بغير إرادتهما واختيارهما في إنشاء الفسخ فليس الأمر كذلك ، بل تستحقّ الزوجة تمام المهر، لثبوته بالعقد ، ولا دليل على رجوعه إلى الزوج .
والحاصل : أنّ مجرّد تحقّق عقد النكاح وحدوثه كاف في ثبوت المهر على الزوج واستحقاق الزوجة له ، ورجوعه إلى الزوج ثانياً يحتاج إلى الدليل الشرعي وقد ثبت في الطلاق قبل الدخول رجوع نصفه إلى الزوج تعبّداً(1) بعد ما صار كلّه ملكاً للزوجة بالعقد ، يجوز لها التصرّف فيه بما شاءت . وهكذا ثبت رجوع نصفه إليه بموت أحدهما قبل الدخول على الأظهر(2)، ولم يقم دليل على الرجوع في غير هـذين الموردين .
ومن هنا يظهر أنّ القول بالتنصيف في المقام كما عن الشيخ (قدّس سرّه)(3) لا وجه له ، لأنّ غايته القياس على الطلاق والموت قبل الدخول ، وليس القياس من أدلّتنا ، ولم نعرف له وجهاً آخر ، وإن كان الشيخ (قدّس سرّه) أجلّ من أن يستند في فتواه إليه .
فظهر من جميع ما ذكرنا : أنّه لا وجه لسقوط المهر رأساً ، كما نسب إلى المشهور ، ولا لسقوط نصفه كما عن الشيخ (قدّس سرّه) .
وأمّا التفصيل بين اختصاص السبب المحرّم بالرضيعة ـ كما إذا سعت بنفسها إلى ثدي المرضعة وهي نائمة أو مغمى عليها ـ فيسقط ، وبين تحقّقه من المرضعة فيثبت ، فقد علّلوه بأنّ الانفساخ في الصورة الاُولى يستند إلى نفس الرضيعة فلا تستحقّ المهر ، وفي الصورة الثانية يستند إلى غيرها ، وهي الزوجة الكبيرة أو غيرها ممّن يوجب إرضاعها فساد نكاح الصغيرة ، فلا موجب لسقوطه .
وقد اُورد على هذا الوجه بأنّ الرضيعة الصغيرة لا شعور لها ، فكيف يكون
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 21 : 313 / أبواب المهور ب51 .
(2) الوسائل 21 : 326 / أبواب المهور ب58 .
(3) وقد تقدّم في ص156 .
فعلها موجباً لسقوط مهرها ؟
واُجيب بأنّ الشعور لا يعتبر في الأحكام الوضعيّة ، كسقوط المهر أو ضمان التلف ونحو ذلك ، وإنّما يعتبر في الأحكام التكليفيّة .
أقول : لا وجه لهذا القول أيضاً ، لأنّه لو قلنا بأنّ التسبيب إلى بطلان النكاح يوجب ضمان المهر ـ ولا نقول به كما ستعرف في المسألة الثانية ـ لما كان لسقوط مهر الرضيعة إذا استند السبب إليها وجه ، بل تستحقّ المهر المسمّى بالعقد ، وتضمن للزوج مهر المثل ، لأنّها أتلفت عليه الزوجية أو منافع البضع ، فتضمن بدلها .
وهذا نظير ما إذا باع شخص متاعه من شخص آخر ثمّ أتلفه بعد التسليم إلى المشتري ، فإنّ البائع لا يضمن الثمن المسمّى بعد أن ملكه بالعقد ، وإنّما يضمن للمشتري بدل ما أتلفه عليه من المثل أو القيمة .
فالزوجة الرضيعة تأخذ المهر المسمّى من الزوج ، وتضمن له مهر المثل ، وربما يزيد على المسمّى وربما ينقص .
جواب المسألة الثانية
وأمّا المسألة الثانية : وهي أنّ المرضعة ـ سواء أكانت الزوجة الكبيرة ، أو اُمّ الزوج ، أو بنتها ، أو اُختها ، أو غيرهنّ ممّن يوجب إرضاعها الزوجة الصغيرة بطلان نكاح الصغيرة ـ هل تضمن المهر للزوج على تقدير استحقاق الصغيرة له ، أو يفصّل بين صورتي الاختيار في الإرضاع وعدمه ؟ وقد تقدّم أنّ الوجوه في المسألة ثلاثة . فالتحقيق فيها عدم الضمان مطلقاً ، وربما ينسب إلى المشهور الضمان مطلقاً .
وما استدلّ له به أحد وجوه ثلاثة :
الوجه الأوّل : قاعدة الإتلاف المتسالم عليها عند العقلاء والممضاة شرعاً وقد جرت سيرتهم على تضمين من أتلف مال الغير ببدله من المثل والقيمة وتقريب الاستدلال بها في المقام : أنّ المرضعة بارضاعها الزوجة الصغيرة قد أتلفت
على الزوج الاستمتاع بالزوجة أو نفس الزوجيّة ، فتكون ضامنة لبدل ذلك وهو المهر . ولا يخفى أنّ مقتضى ذلك ضمان مهر المثل ، لا المهر المسمّى .
ويرد على الاستدلال بهذه القاعدة في المقام : أنّ موردها الأموال ، لا كلّ شيء ولو لم يكن مالا ، وعليه فليس لها صغرى في المقام ، لأنّ علقة الزوجية أو الاستمتاع بالزوجة ليس ممّا يتموّل ، أي لا يبذل المهر بازائه ، فإنّ المهر ـ كما قلنا(1)ـ ليس عوضاً عن علقة الزوجية أو الانتفاع بالبضع ، ومن هنا لم يقل أحد بضمان قاتل الزوجة أو حابسها مهر المثل ، وثبوت المهر في النكاح إنّما هو تعبّد شرعي كما تقدّم(2) ولم تتلف المرضعة على الزوج شيئاً آخر ، نعم هي صارت سبباً لبطلان نكاح الرضيعة .
الوجه الثاني : قاعدة نفي الضرر(3) بدعوى أنّ المرضعة صارت سبباً لتضرّر الزوج ، حيث إنّه ببطلان النكاح تضرّر بتسليم مقدار المهر المسمّى الذي لم يحصل له في مقابله شيء ، ومقتضى هذا الوجه ضمان المرضعة المهر المسمّى ، لأنّه الذي تضرّر به الزوج ، حيث لم يسلم له النكاح .
ويرد على الاستدلال بهذه القاعدة .
أوّلا : أنّها إنّما ترفع الأحكام المجعولة في الشريعة إذا كانت ضررية ، لا عدم الحكم الضرري ، مثلا لو كان وجوب شيء أو حرمته ضررياً لارتفع بهذه القاعدة لأنّ الضرر حينئذ ناشئ من الجعل الشرعي ، ورفعه بيد الشارع ، وأمّا عدم الوجوب إذا كان ضررياً فلا يرتفع بهذه القاعدة ليصير الشيء واجباً دفعاً للضرر لأنّ الضرر حينئذ لم ينشأ من قبل الشارع ، وإن كان رفعه مقدوراً للشارع أيضاً
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ، (2) في ص157 ، 158 .
(3) الوسائل 25 : 427 / كتاب إحياء الموات ب12 .
بأن يقلبه إلى وجود الحكم ، إلاّ أنّه ليس مدلول الحديث الشريف ـ كما قلنا ـ إلاّ رفع الضرر الذي ينشأ من الجعل الشرعي ، ولا يعمّ الضرر الناشئ من عدم الجعل الشرعي .
وليس في المقام حكم وجودي ضرري ليرتفع ، وإنّما ينشأ الضرر من عدم تضمين المرضعة ، وهو بمعنى أنّ الشارع لم يجعل عليها الضمان ، فلا يرتفع بهذه القاعدة لتكون ضامنة .
وأمّا جواز الإرضاع فلم يستشكل فيه أحد ، لعدم وجود منع شرعي عن الإرضاع الموجب لبطلان النكاح ، وإن سلّم أنّه مستلزم للضرر ، فقاعدة نفي الضرر ترفع جواز الإرضاع ، ولا تثبت الضمان .
وثانياً : أنّه لو سلّم شمول القاعدة لعدم الجعل الذي ينشأ منه الضرر لم تشمل المقام أيضاً ، لأنّ الامتنان على الزوج برفع عدم الضمان ينافي الامتنان على المرضعة ، ولا ترجيح لضرر أحدهما على الآخر ، ومورد القاعدة ما كان في رفعه امتنان على الاُمّة ، ولا تشمل ما كان فيه امتنان على بعض دون بعض .
وربما يقال : إنّ المرضعة هي التي أقدمت على ضرر نفسها ، فلا يكون نفي الضرر عن الزوج خلاف الامتنان عليها .
ويندفع أوّلا : بأنّ هذا أخصّ من المدّعى ، إذ ربما يكون الإرضاع واجباً عليها ، لتوقّف حفظ نفس الرضيعة على ذلك ، فكيف يقال هي التي أقدمت على ضرر نفسها في حين أنّ الداعي لها أمر الشارع بالإرضاع وإن كان ذلك لا ينافي الضمان ، إلاّ أنّه ليس إقداماً منها على الضرر .
وثانياً : بأنّ الإقدام على الضرر فرع ثبوت الضمان ، وهو أوّل الكلام .
الوجه الثالث : رواية ضعيفة ذكرها الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) في رسالته
الرضاعية(1)، وهي ما رواه الفقيه(2) بسند ضعيف عن داود بن الحصين عن عمر ابن حنظلة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « سألته عن رجل قال لآخر : اخطب لي فلانة ، فما فعلت من شيء ممّا قاولت من صداق أو ضمنت من شيء أو شرطت فذلك لي رضى ، وهو لازم لي . ولم يشهد على ذلك ، فذهب فخطب له ، وبذل عنه الصداق وغير ذلك ممّا طالبوه وسألوه ، فلمّا رجع إليه أنكر ذلك كلّه
قال : يغرم لها نصف الصداق عنه ، وذلك أنّه هو الذي ضيّع حقّها ، إذ(3) لم يشهد عليه بذلك الذي قال »(4) بتقريب : أنّ عموم التعليل يشمل المقام ، لأنّ المرضعة قد ضيّعت حقّ الزوج ، فيجب عليها أن تغرم له ما خسره من المهر .
ويرد عليه : أنّ ضعف سندها يغنينا عن التكلّم في دلالتها ، مع أنّها لا دلالة لها على المطلوب أيضاً ، لأنّ مورد الرواية الحقّ المالي ، والتعليل إنّما يعمّ كلّ حقّ مالي ، ولا يعمّ غيره ، والمرضعة في المقام لم تضيّع حقّاً مالياً على الزوج ، وإنّما ضيّعت زوجيّة الرضيعة عليه بارضاعها ، والمهر قد وجب عليه بنفس العقد ، لا بارضاعها .
فتلخّص من جميع ما ذكرنا : أنّه لا موجب لضمان المرضعة ، وإن كان إرضاعها باختيارها من دون ضرورة تقتضي ذلك ، وبه يظهر فساد التفصيل المتقدّم .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كتاب النكاح (إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم 20) : 361 .
(2) الفقيه 3 : 49 / 169 .
(3) [الموجود في الوسائل : فلمّا لم يشهد لها عليه بذلك الذي قال له حلّ لها ... والموجود في الفقيه : فأمّا إذا لم ...] .
(4) الوسائل 19 : 165 / كتاب الوكالة ب4 ح1 .
جواب المسألة الثالثة
وأمّا المسألة الثالثة ـ وهي أنّه على تقدير ثبوت الضمان على المرضعة هل تضمن المهر المسمّى أو مهر المثل ـ : فالحقّ فيها هو الثاني ، لأنّ مدرك الضمان إن كان قاعدة الإتلاف فهي تقتضي ضمان ما أتلفته على الزوج من منافع البضع أو الزوجية ، لا المهر المسمّى الثابت على الزوج بالعقد .
وإن كان قاعدة نفي الضرر فكذلك أيضاً ، لأنّ الزائد على مهر المثل قد أقدم عليه الزوج بنفسه ، فتضرّره به مستند إلى إقدامه ، لا إلى المرضعة بارضاعها الصغيرة ، والمقدار الذي أضرّته به المرضعة هو مقدار مهر المثل .
والحمد لله أوّلا وآخراً . هذا آخر ما أفاده سيّدنا الاُستاذ (دام ظلّه في بحث الرضاع ، وكان ذلك في الليلة الخامسة والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1375الهجرية(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قد كان تحرير أصل الرسالة في سنة 1374 و1375هـ ، كما أشرنا في المقدّمة ، وكان طبعها في سنة 1412هـ في النجف الأشرف ، وقد اُعيد طبعها .
تعليق