بسم اللهالرحمن الرحيم
رسالة في الأمر بينالأمرين
وبعد ، فهذه وجيزة في حلّ غامضة الجبر والتفويض ، المعروفة عند الفلاسفة والمتكلّمين ، المبحوث فيها عن كيفيّة صدور الأفعال من الناس، وقد تعرّض لهذا البحث العظيم سيّد أساتيذنا العظام ، نابغة الزمان ، علاّمة الآفاق ، فريد عصره حامي الشريعة المصطفوية ، وركن الشيعة المرتضوية ، حجّة الحقّ ، آية الله العظمى الحاج السيّد أبو القاسم الخوئي النجفي متّع الله المسلمين بطول بقائه عند البحث في الطلب والإرادة في بحث الاُصول استطراداً ، وفاقاً للمحقّق صاحب الكفاية (قدّس سرّه) .
وما أفاده سيّدنا الأستاذ (مدّ ظلّه) وإن كان إفادة تامّة مستوفاة ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يخلو البحث الاستطرادي من الحاجة إلى التكميل ، ولهذا حاولت الاستقصاء عمّا وقع في المقام من الاستدلال والنقض والإبرام ، وبحثت عمّا كان تكميل المسألة غير مستغن عنه ، بأمر من سيّدي الاُستاذ أدام الله إفاضاته علينا وعلى جميع روّاد العلم والإهداء إلى حضرته الشريفة .
فلابدّ لنا قبل الورود في المسألة من التنبيه على اُمور لا يستغنى عنها في الأبحاث الآتية :
الأوّل : من الغالب على الظنّ أنّ المسألة بعنوانها ليست من المسائل القديمة الملتفت إليها الإنسان من أقدم العصور ، كحديث العلّة والمعلول (العامل والمعمول)
وقضية أنّ المعلول لابدّ له من علّة ، الساريةُ في جميع النشآت الطبيعية وما وراءها .
ولكن لابدّ من أن يعلم أنّ عدم التعرّض لها قديماً لا يدلّنا على صعوبتها بتوهّم أنّها لو كانت واضحة لالتفت الناس إليها من قديم الأعصار، وذلك لأنّ عدم تعرّضهم لعلّه لكون المسألة بديهية عندهم ، ولم يشكّوا في استناد الفعل إلى فاعله .
غير أنّ التصدّي للبحث عنه ـ على ما يحكى في محلّه ـ ابتدأ من نشوء الفلاسفة الإغريقيين ، فإنّهم قاموا بالبحث عن الحقائق الكونية ، ورتّبوا الأبحاث على منوال اصطلاحات ألزموا أنفسهم على التبعية عنها ، فعندئذ وقعت المسألة في غموض الألفاظ ، وجعل الأكثر يميلون على حسب الصناعة ـ كما سوف تقف عليه ـ إلى انتهاء جميع الذوات والصفات والملكات والأفعال إلى الله تعالى بحسب النظام الجملي ، لكنّهم معترفون بمسؤولية الفاعل عن فعله .
وهكذا مرّت الأزمنة على المسألة إلى أن حدث قوم مشكّكون ـ المصطلح على تسميتهم بالسوفسطيقيين فأوقعوا الشكّ في الأفعال كما هو ديدنهم في جميع نظرياتهم في الموجودات ، ومع ذلك فقد كان أتباع الفلاسفة معرضين عن مثل تلك الشكوك .
وأمّا الملل المقتدية بأنبيائهم في عقائدهم وأعمالهم فهم على ما يظهر من الأدلّة المتقنة ذهبوا إلى إثبات الاختيار ، ومسؤولية الإنسان عن أفعالـه ، ولم يظهر بعد بعثة نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) من يخالفهم إلاّ الأشعري ، فإنّه ذهب إلى ما كان يقول السوفسطيقيين على ما سنشرحه(1).
وأمّا الفلاسفة بعد الإسلام ـ أمثال محمّد بن طرخان الفارابي والشيخ الرئيسحسين بن عبدالله بن سينا ـ فقد أخذوا عن الفلاسفة السابقين على اختلاف مسالكهم وبياناتهم ، وذهب قليل منهم إلى استقلال العبد فيما يصدر عنه من الأفعال ، وقد اشتهر التعبير عنهم بالمفوّضة .
وأمّا الفلاسفة المتأخّرون من غير المسلمين ، الناظرون في الكون والفساد بغير النظريات القديمة ، فكلماتهم في المقام أيضاً متشتّتة ، ونحن نتعرّض لها ولما يرد على بعضها مع بيان ما هو الحقّ الموافق للعقل والشرع بعونه تعالى وإرشاده .
الثاني : أنّ المقصود من هذه الأبحاث إنّما هو إثبات أنّ الفعل إنّما يصدر من الإنسان لا على نحو الاستقلال التامّ ، بحيث يكون مستغنياً عن الله تعالى في إصداره كما عليه المفوّضة ، ولا على نحو الاضطرار التامّ لينتهي أمر الفعل إلى الواجب ، فلا يكون لاختيار العبد دخل فيه كما عليه المجبّرة ، ليتبيّن أنّ الحـقّ هو الأمر بين الأمرين ، كما هو المصرّح به فيما هو المأثور من أهل البيت فيما تواتر عنهم (سلام الله عليهم)(2) وأمّا ترتيب الأبحاث فقد ذكرناه في الفهرست ، فلا حاجة إلى إعادته .
الثالث : أنّ ما يقوم بالإنسان من المعاني على قسمين :
الأوّل : ما يكون ناشئاً منه ، ويكون قيامه به قيام صدور ، كالأكل والشرب والضرب والمشي .
الثاني : ما يقوم به قيام حلول ، من باب قيام الوصف بموصوفه .
وكلّ منهما إمّا أن يكون قائماً بالأعضاء والبدن الجسماني ، أو بالنفس . فالأقسام أربعة :
1 ـ فعل الأعضاء ، كالحركات الخارجية القائمة بها .
2 ـ صفة الأعضاء ، كالطول والقصر ، والسواد والبياض ، القائمة بها .
3 ـ فعل النفس ، كالاعتبارات النفسانية ، فإنّ قيامها بالنفس قيام صدور من باب قيام الفعل بفاعله ، وتسمّى هذه في الاصطلاح بأفاعيل النفس .
4 ـ صفة النفس ، كالانقباض والانبساط الحاصل منهما الحزن والفرح .
وسيظهر لك إن شاء الله تعالى أنّ الإرادة والاختيار من القسم الثالث ، ومن أفعال النفس لا من صفاتها .
والضابط في الفرق بين الصفة والفعل وإن كان بحسب العرف في أنّ قيام الصفة بموصوفها قيام حلول ، وقيام الفعل بفاعله قيام صدور ، وكلّ منهما قد يكون اختيارياً وقد يكون غير اختياري ، إلاّ أنّا اصطلحنا على أن نعبّر عن كلّ أمر اختياري بالفعل ، وعن كل أمر قائم بشيء غير اختياري بالصفة ، فإذا قلنا بأنّ الشيء الفلاني من الصفات دون الأفعال أردنا به أنّه لا دخل لاختيار الموصوف وإرادته في وجوده، سواء كان قيامه به قيام صدور أو حلول .
تعليق