الوجه الثالث : ما ورد من الآيات الدالّة على علمه تعالى بما يكون في النفس وحسابه عليه ، كقوله عزّ من قائل : (إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)(20) فما يكون مخفياً في النفس وغير ظاهر هو المراد من الكلام النفسي .
ويرد عليه : أنّ المقصود من كلمة (مَا) الموصولة في هذه الآية الشريفة هو نيّة السوء والحسن ، وأنّ معناها على الظاهر : إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه من النيّات الحسنة والقبيحة يحاسبكم به الله ، وهكذا جميع ما ورد بهذا المضمون من الآيات والروايات .
وقد أيّدوا هذا الوجه بقول القائل : إنّ في نفسي كلاماً لا اُريد إبرازه .
وفيه : أنّ المراد منه في أمثال هذه المقامات أنّ المعاني التي رتّبها في النفس لا يريد إبرازها كما كان يبرزها بالكلام فيما لو كان في مقام الإبراز ، هذا مضافاً إلى أنّا لا ننكر وجود الكلام في النفس وجوداً تصوّرياً قبل وجوده الخارجي ، كغيره من الأفعال الاختيارية على ما سيجي بيانه(21)، وإنّما الكلام في وجود أمر آخر غير العلم ونحوه من الاُمور النفسانية مسمّى بالكلام النفسي ، وليس في شيء من الآيات المزبورة والتأييد إشعار بذلك ، فضلا عن الدلالة .
الوجه الرابع : هو أنّ كل متكلّم ولا سيّما لو كان مخاطبه من ذوي المراتب العالية لا يصدر الكلام بالبديهة والصدفة ، بل لابدّ له من التروّي وترتيب الكلمات والجمل وتنظيمها في النفس ثمّ إلقائها إلى المخاطب ، وكثيراً يشاهد هذا في الموارد التي تكون فيها عناية خاصّة بالألفاظ ، كالخطابة والشعر وغيرهما ، فهذا المرتّب والمنظّم في النفس أوّلا هو المقصود من الكلام النفسي .
والجواب عنه : أنّ هذا التروّي والترتيب في النفس لا يختصّ بالكلام ، بل كلّ فعل صادر من الفاعل المختار الملتفت يتوقّف صدوره منه على تصوّره والعلم به وترتيبه ، وحينئذ لابدّ للأشعري من الالتزام بأنّ كلّ فعل صادر من الفاعل له فردان : فرد خارجي وهو ما يصدر عنه في الخارج ، وفرد نفسي وهو تصوّر ذلك الفعل الخارجي ، فتنقسم الكتابة والمشي والقيام إلى خارجي ونفسي ، ولا نظن أن يلتزم به الأشعري .
ثمّ إنّ الدليل الحاصر المتحصّل من السبر والتقسيم على نفي الكلام النفسي من رأسه هو أن يقال : إنّ ما نجده للكلام اللفظي من الاُمور منحصر في سبعة : الأوّل : ألفاظه المفردة من دون ملاحظة معانيها وهيئتها ، الثاني : معاني تلك الألفاظ ، الثالث : الألفاظ مقيّدة بهيئتها التركيبية ، الرابع : المعنى المتحصّل من الكلام بهيئته ، الخامس : تصوّر تلك الاُمور جميعاً ، السادس : التصديق بثبوت النسبة ، ثبوتية كانت أو سلبية ، السابع : مطابقة النسبة للواقع وعدمها .
والأخيران منها يختصّان بالجملة الخبرية .
وأمّا في الجمل الإنشائية فالاُمور الخمسة المتقدّمة مع أمر سادس ، وهو الصفة القائمة بالنفس من الاعتبارات الإنشائية ، كالطلب ونحوه .
وليس للكلام أمر وراء هذه الاُمور المذكورة كي نسمّيه بالكلام النفسي المنكشف بالكلام اللفظي .
أمّا الثلاثة الاُول فليست هي بالكلام النفسي ، إذ ليس اللفظ ولا معناه ولا هيئته التركيبية كلاماً نفسياً حتّى عند الأشعري .
وأمّا الرابع ـ وهو معنى الهيئة التركيبية ـ فلما عرفته من أنّ الكلام النفسي ليس من مدلول الكلام اللفظي ، بل هو منكشف به .
وأمّا الخامس فلأنّ الكلام النفسي عندهم ليس من قبيل التصوّر والعلم ، ولا غيرهما من الصفات المعروفة .
وأمّا السادس ـ وهو التصديق بثبوت النسبة ـ فلوضوح أنّ المتكلّم ربما يعلم بكذب كلامه وأنّ النسبة ليست بثابتة في الخارج ، مضافاً إلى تصريحهم بأنّه ليس من قبيل التصديق أيضاً .
وأمّا السابع ـ وهو مطابقة النسبة في الخارج وعدمها ـ فليس من الكلام النفسي بالبداهة .
فتلخّص من جميع ما ذكرناه : أنّه وإن لم يقم البرهان العقلي على استحالة الكلام النفسي ، إلاّ أنّ الوجدان أقوى شاهد على عدمه ، وما ذكروه من الوجوه لإثباته قد عرفت أنّه لا يصلح شيء منها لذلك .
في أنّ الوجدان من أقوى الأدلّة الضرورية
الثامن : لابدّ في كلّ مطلوب من أن ينتهي إلى إحدى الضروريات الست فإنّها التي يكتسب بها جميع المطالب النظرية ، وهي كما ذكرها الفلاسفة في محلّها(22) منحصرة في الست :
الاُولى : الأوّليات ، وهي التي لا تحتاج في تصديقها إلى أزيد من التفات النفس إليها بعد تصوّر طرفيها ، كالتصديق بأنّ النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان وبأنّ الكلّ أعظم من الجزء .
الثانية : الحسّيات ، كالشمس مضيئة ، والنار حارّة ، وأمثالهما ممّا لا يحتاج في التصديق به إلاّ إلى التفات الحاسّة إليه .
الثالثة : الوجدانيّات ، وهي التي تحضر في النفس بإحدى قواها الباطنية كإدراك أنّ لنا شهوة وغضباً ، وكعلمنا بذواتنا .
والفرق بين الثانية والثالثة أنّ الإدراك في الثانية لا يكون إلاّ بالحواس الظاهرية ، وفي الثالثة بالحواس الباطنية ، وأنّ المدرك في الثانية لا يكون إلاّ من الاُمور الجزئية ، وأمّا في الثالثة فهو قد يكون اُموراً كلّية ، وذلك فيما كانت آلة الحضور عند النفس هي القوّة العقلانية .
الرابعة : الفطريات ، وهي التي يكون الحكم بها مستغنياً عن التفات الحاسّةإليها ، وقد يعبّر عنها بالتي قياساتها معها ، كانقسام الزوج إلى عددين متساويين .
الخامسة : التجربيّات ، وهي التي تتحصّل من تكرّر المشاهدة ، أو مقارنتها لقياس استثنائي خفي في بدو النظر ، مثل قولنا : لو كانت هذه القضية اتّفاقية لما تكرّرت دائماً ، إلاّ أنّها متكرّرة دائماً فليست باتّفاقية .
والفرق بين التجربيّات والاستقراء الناقص أنّ التجربيّات ممّا تفيد العلم والاستقراء الناقص لا يفيد إلاّ ظنّاً ، وأمّا الاستقراء التامّ فالظاهر أنّه يلحق بالتجربيّات .
السادسة : المتواترات ، وهي ظاهرة لا تحتاج إلى بيان .
وهذا البحث له تفصيلات أعرضنا عن ذكرها لعدم ارتباطها بالمقام ، وإنّما المقصود من ذكر هذه الاُمور الست التنبيه على أنّها هي التي ينقطع السؤال عند انتهاء المطلوب إليها ، وقد أوجبت الغفلة عن تعيين محالّها وتميّزها أن يكون الاستنتاج بها عقيماً ، فربما يدّعي أحد المتخاصمين الوجدان على إثبات مطلوبه وفي الموضوع نفسه يدّعي الآخر الوجدان على نفيه ، وليس هذا إلاّ ناشئاً عن عدم الوصول إلى معنى الوجدان .
فإن قلت : على هذا تخرج القضية الوجدانية عن الضرورية ، وإلاّ فكيف يستدلّ بها الخصمان في موضوع واحد وتكون مدركاً لمطلوبين متناقضين ، وقد وقعت في الحكمة الطبيعية والإلهية مسائل قد ادّعى كلّ واحد من الطرفين البداهة والوجدان على خلاف صاحبه ، وهذا ممّا يوجب الوهن في التمسّك بالوجدان .
قلت : نعم ، ولكن أمثال هذه الموارد التي تعارضوا في ادّعاء الوجدان فيها إنّما كان للمغالبة في المسألة ، أو من جهة خلط مقدّمة ضرورية إلى مقدّمة نظرية كحديث إثبات الهيولى ، حيث كان استدلال كلّ من الطرفين مركّباً من مقدّمتين : نظرية وبديهية ، وهناك موارد اُخرى أوجبت دعوى الوجدان فيها القصور في الالتفات إليها ولو من ناحية ما ، فلربما لا تلتفت النفس تمام الالتفات إلى أمر وهي تتخيّل حضوره فيها بجميع ما له من الشؤون ، فيدّعى الوجدان مع أنّ الالتفات لو كان تامّاً لكان الوجدان على خلافه ، وما ذلك إلاّ لاختلاف ما هو شرط في دعوى الوجدان .
ونظير هذا في المطالب المفتقرة إلى الاستدلال ما عن بعض المعاصرين من الفلاسفة ، حيث يقول : إنّ كثيراً ما تكون جميع المقدّمات المرتّبة لتحصيل مطلوب صحيحة تامّة ، ولكن الغفلة عن اشتراط شرط في المقدّمة أو اشتراط عدمه يوجب كون الاستنتاج عقيماً ، وهذا منبّه جيّد .
فما يدور في ألسنة البعض من أنّ الوجدان ليس حاكماً لأنّ الخصم أيضاً يدّعيه ، فهو من القصور وعدم التنبّه لما ذكرناه من أنّ قصوراً ما في شؤون الحكم الوجداني من اكتساب طرفي القضية وغيره يوجب منافرة الحكم عن النفس .
التاسع : لا يعقل وقوع التعارض بين دليلين موجبين للقطع ، ضرورة رجوعه إلى اجتماع النقيضين ، من دون فرق بين كون الدليلين عقليين أو نقليين أو مختلفين ، فإنّ القطع بشيء يستلزم إلغاء احتمال خلافه ، فضلا عن القطع به .
ومن ذلك يتبيّن أنّه لا يجتمع القطع الحاصل من دليل مع الظنّ الحاصل من دليل آخر على خلافه ، كما أفاده شيخنا العلاّمة أعلى الله مقامه في الرسائل بقوله : فليت شعري إذا فرض حكم العقل على وجه القطع بشيء كيف يجوز حصول القطع أو الظنّ من الدليل النقلي على خلافه(23).
ثمّ إنّ مباحث التعارض وإن كانت في نفسها كثيرةً مذكورة في الاُصول ، إلاّ أنّ الذي يرتبط بمسألتنا منها هو أمران ، الأوّل : معنى التعارض ، الثاني : تعيين
المرجع بعد تحقّق التعارض بين الدليلين .
أمّا الأمر الأوّل فنقول : التعارض على ما عرّفه جمع من المحقّقين ومنهم شيخنا العلاّمة الأنصاري (قدّس سرّه) هو تنافي الدليلين وتمانعهما مع اتّحاد الموضوع(24) فما لم يتحقّقا في دليلين لا يكونان من المتعارضين ، فعليه ليس بين الدليل المجمل والدليل المبيّن والعام والخاص والحاكم والمحكوم تعارض أصلا ، فإنّ الدليل المبيّن يكشف عن مراد المتكلّم من الإجمال ، وكذلك الخاص والحاكم يعيّنان المراد الواقعي من العام والمحكوم .
وأمّا أنّ تقدّم الخاص والحاكم على العام والمحكوم من جهة كون الأوّلين نصّين في مدلولهما أو من جهة كونهما من باب القرينة وذي القرينة فهو بحث خارج عمّا نحن بصدده .
فالمدار في تحقّق التعارض عدم إمكان الجمع بينهما ودفع التمانع عنهما بالطرق التي يبني عليها العقلاء في محاوراتهم ، فما دام يمكن الجمع بينهما ورفع التمانع عنهما لا يكون التعارض محقّقاً .
ولا يخفى أيضاً أنّ التعارض إنّما يكون دائماً في الأدلّة النقلية ، وأمّا الأدلّة العقلية فلا نفهم للتعارض فيها معنى محصّلا ، فإنّ فرض الدليل عقلياً آب عن كونه مشكوكاً ، بل لا يبقى احتمال الخلاف حتّى يعارضه دليل آخر ، إلاّ أن يكون مغالطة في صورة البرهان ، وهو ليس بدليل حتّى يكون تخصيصاً فيما ادّعيناه ، كما ذكرناه في مسألة دليلية الوجدان ، وقد ذكرنا وجه التهافت في بعض الأدلّة العقلية في بعض المسائل الحكمية ، وأنّه ناشئ عن قصور في شرط من شرائط المقدّمات أو ترتيبها .
وأمّا الأمر الثاني : فبعد فرض التعارض وعدم إمكان الجمع بينهما بأحد الوجوه المذكورة لابدّ من ملاحظة الترجيح بينهما ، والأخذ بما يقتضيه ، وهو كما ذكروه في محلّه(25) يكون بأمور ، منها الترجيح بجهة الصدور ، وهو الذي يكون الترجيح بها في مسألتنا على الأكثر ، وستعرف إن شاء الله(26) شهرة القول عند العامّة في زمان الأئمّة (عليهم السلام) بعدم اختيار العباد في أفعالهم ، بل لا يخفى أنّ أكثر الروايات الواردة في باب المعارف من أهل بيت العصمة (عليهم السلام) المخالفة للدليل العقلي إنّما صدرت تقيّة وخوفاً من الظالمين .فهذه هي الأمور التي رأينا من اللازم تقديمها على المقصود ، لترتّب فوائد عظيمة عليها .
ويرد عليه : أنّ المقصود من كلمة (مَا) الموصولة في هذه الآية الشريفة هو نيّة السوء والحسن ، وأنّ معناها على الظاهر : إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه من النيّات الحسنة والقبيحة يحاسبكم به الله ، وهكذا جميع ما ورد بهذا المضمون من الآيات والروايات .
وقد أيّدوا هذا الوجه بقول القائل : إنّ في نفسي كلاماً لا اُريد إبرازه .
وفيه : أنّ المراد منه في أمثال هذه المقامات أنّ المعاني التي رتّبها في النفس لا يريد إبرازها كما كان يبرزها بالكلام فيما لو كان في مقام الإبراز ، هذا مضافاً إلى أنّا لا ننكر وجود الكلام في النفس وجوداً تصوّرياً قبل وجوده الخارجي ، كغيره من الأفعال الاختيارية على ما سيجي بيانه(21)، وإنّما الكلام في وجود أمر آخر غير العلم ونحوه من الاُمور النفسانية مسمّى بالكلام النفسي ، وليس في شيء من الآيات المزبورة والتأييد إشعار بذلك ، فضلا عن الدلالة .
الوجه الرابع : هو أنّ كل متكلّم ولا سيّما لو كان مخاطبه من ذوي المراتب العالية لا يصدر الكلام بالبديهة والصدفة ، بل لابدّ له من التروّي وترتيب الكلمات والجمل وتنظيمها في النفس ثمّ إلقائها إلى المخاطب ، وكثيراً يشاهد هذا في الموارد التي تكون فيها عناية خاصّة بالألفاظ ، كالخطابة والشعر وغيرهما ، فهذا المرتّب والمنظّم في النفس أوّلا هو المقصود من الكلام النفسي .
والجواب عنه : أنّ هذا التروّي والترتيب في النفس لا يختصّ بالكلام ، بل كلّ فعل صادر من الفاعل المختار الملتفت يتوقّف صدوره منه على تصوّره والعلم به وترتيبه ، وحينئذ لابدّ للأشعري من الالتزام بأنّ كلّ فعل صادر من الفاعل له فردان : فرد خارجي وهو ما يصدر عنه في الخارج ، وفرد نفسي وهو تصوّر ذلك الفعل الخارجي ، فتنقسم الكتابة والمشي والقيام إلى خارجي ونفسي ، ولا نظن أن يلتزم به الأشعري .
ثمّ إنّ الدليل الحاصر المتحصّل من السبر والتقسيم على نفي الكلام النفسي من رأسه هو أن يقال : إنّ ما نجده للكلام اللفظي من الاُمور منحصر في سبعة : الأوّل : ألفاظه المفردة من دون ملاحظة معانيها وهيئتها ، الثاني : معاني تلك الألفاظ ، الثالث : الألفاظ مقيّدة بهيئتها التركيبية ، الرابع : المعنى المتحصّل من الكلام بهيئته ، الخامس : تصوّر تلك الاُمور جميعاً ، السادس : التصديق بثبوت النسبة ، ثبوتية كانت أو سلبية ، السابع : مطابقة النسبة للواقع وعدمها .
والأخيران منها يختصّان بالجملة الخبرية .
وأمّا في الجمل الإنشائية فالاُمور الخمسة المتقدّمة مع أمر سادس ، وهو الصفة القائمة بالنفس من الاعتبارات الإنشائية ، كالطلب ونحوه .
وليس للكلام أمر وراء هذه الاُمور المذكورة كي نسمّيه بالكلام النفسي المنكشف بالكلام اللفظي .
أمّا الثلاثة الاُول فليست هي بالكلام النفسي ، إذ ليس اللفظ ولا معناه ولا هيئته التركيبية كلاماً نفسياً حتّى عند الأشعري .
وأمّا الرابع ـ وهو معنى الهيئة التركيبية ـ فلما عرفته من أنّ الكلام النفسي ليس من مدلول الكلام اللفظي ، بل هو منكشف به .
وأمّا الخامس فلأنّ الكلام النفسي عندهم ليس من قبيل التصوّر والعلم ، ولا غيرهما من الصفات المعروفة .
وأمّا السادس ـ وهو التصديق بثبوت النسبة ـ فلوضوح أنّ المتكلّم ربما يعلم بكذب كلامه وأنّ النسبة ليست بثابتة في الخارج ، مضافاً إلى تصريحهم بأنّه ليس من قبيل التصديق أيضاً .
وأمّا السابع ـ وهو مطابقة النسبة في الخارج وعدمها ـ فليس من الكلام النفسي بالبداهة .
فتلخّص من جميع ما ذكرناه : أنّه وإن لم يقم البرهان العقلي على استحالة الكلام النفسي ، إلاّ أنّ الوجدان أقوى شاهد على عدمه ، وما ذكروه من الوجوه لإثباته قد عرفت أنّه لا يصلح شيء منها لذلك .
في أنّ الوجدان من أقوى الأدلّة الضرورية
الثامن : لابدّ في كلّ مطلوب من أن ينتهي إلى إحدى الضروريات الست فإنّها التي يكتسب بها جميع المطالب النظرية ، وهي كما ذكرها الفلاسفة في محلّها(22) منحصرة في الست :
الاُولى : الأوّليات ، وهي التي لا تحتاج في تصديقها إلى أزيد من التفات النفس إليها بعد تصوّر طرفيها ، كالتصديق بأنّ النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان وبأنّ الكلّ أعظم من الجزء .
الثانية : الحسّيات ، كالشمس مضيئة ، والنار حارّة ، وأمثالهما ممّا لا يحتاج في التصديق به إلاّ إلى التفات الحاسّة إليه .
الثالثة : الوجدانيّات ، وهي التي تحضر في النفس بإحدى قواها الباطنية كإدراك أنّ لنا شهوة وغضباً ، وكعلمنا بذواتنا .
والفرق بين الثانية والثالثة أنّ الإدراك في الثانية لا يكون إلاّ بالحواس الظاهرية ، وفي الثالثة بالحواس الباطنية ، وأنّ المدرك في الثانية لا يكون إلاّ من الاُمور الجزئية ، وأمّا في الثالثة فهو قد يكون اُموراً كلّية ، وذلك فيما كانت آلة الحضور عند النفس هي القوّة العقلانية .
الرابعة : الفطريات ، وهي التي يكون الحكم بها مستغنياً عن التفات الحاسّةإليها ، وقد يعبّر عنها بالتي قياساتها معها ، كانقسام الزوج إلى عددين متساويين .
الخامسة : التجربيّات ، وهي التي تتحصّل من تكرّر المشاهدة ، أو مقارنتها لقياس استثنائي خفي في بدو النظر ، مثل قولنا : لو كانت هذه القضية اتّفاقية لما تكرّرت دائماً ، إلاّ أنّها متكرّرة دائماً فليست باتّفاقية .
والفرق بين التجربيّات والاستقراء الناقص أنّ التجربيّات ممّا تفيد العلم والاستقراء الناقص لا يفيد إلاّ ظنّاً ، وأمّا الاستقراء التامّ فالظاهر أنّه يلحق بالتجربيّات .
السادسة : المتواترات ، وهي ظاهرة لا تحتاج إلى بيان .
وهذا البحث له تفصيلات أعرضنا عن ذكرها لعدم ارتباطها بالمقام ، وإنّما المقصود من ذكر هذه الاُمور الست التنبيه على أنّها هي التي ينقطع السؤال عند انتهاء المطلوب إليها ، وقد أوجبت الغفلة عن تعيين محالّها وتميّزها أن يكون الاستنتاج بها عقيماً ، فربما يدّعي أحد المتخاصمين الوجدان على إثبات مطلوبه وفي الموضوع نفسه يدّعي الآخر الوجدان على نفيه ، وليس هذا إلاّ ناشئاً عن عدم الوصول إلى معنى الوجدان .
فإن قلت : على هذا تخرج القضية الوجدانية عن الضرورية ، وإلاّ فكيف يستدلّ بها الخصمان في موضوع واحد وتكون مدركاً لمطلوبين متناقضين ، وقد وقعت في الحكمة الطبيعية والإلهية مسائل قد ادّعى كلّ واحد من الطرفين البداهة والوجدان على خلاف صاحبه ، وهذا ممّا يوجب الوهن في التمسّك بالوجدان .
قلت : نعم ، ولكن أمثال هذه الموارد التي تعارضوا في ادّعاء الوجدان فيها إنّما كان للمغالبة في المسألة ، أو من جهة خلط مقدّمة ضرورية إلى مقدّمة نظرية كحديث إثبات الهيولى ، حيث كان استدلال كلّ من الطرفين مركّباً من مقدّمتين : نظرية وبديهية ، وهناك موارد اُخرى أوجبت دعوى الوجدان فيها القصور في الالتفات إليها ولو من ناحية ما ، فلربما لا تلتفت النفس تمام الالتفات إلى أمر وهي تتخيّل حضوره فيها بجميع ما له من الشؤون ، فيدّعى الوجدان مع أنّ الالتفات لو كان تامّاً لكان الوجدان على خلافه ، وما ذلك إلاّ لاختلاف ما هو شرط في دعوى الوجدان .
ونظير هذا في المطالب المفتقرة إلى الاستدلال ما عن بعض المعاصرين من الفلاسفة ، حيث يقول : إنّ كثيراً ما تكون جميع المقدّمات المرتّبة لتحصيل مطلوب صحيحة تامّة ، ولكن الغفلة عن اشتراط شرط في المقدّمة أو اشتراط عدمه يوجب كون الاستنتاج عقيماً ، وهذا منبّه جيّد .
فما يدور في ألسنة البعض من أنّ الوجدان ليس حاكماً لأنّ الخصم أيضاً يدّعيه ، فهو من القصور وعدم التنبّه لما ذكرناه من أنّ قصوراً ما في شؤون الحكم الوجداني من اكتساب طرفي القضية وغيره يوجب منافرة الحكم عن النفس .
التاسع : لا يعقل وقوع التعارض بين دليلين موجبين للقطع ، ضرورة رجوعه إلى اجتماع النقيضين ، من دون فرق بين كون الدليلين عقليين أو نقليين أو مختلفين ، فإنّ القطع بشيء يستلزم إلغاء احتمال خلافه ، فضلا عن القطع به .
ومن ذلك يتبيّن أنّه لا يجتمع القطع الحاصل من دليل مع الظنّ الحاصل من دليل آخر على خلافه ، كما أفاده شيخنا العلاّمة أعلى الله مقامه في الرسائل بقوله : فليت شعري إذا فرض حكم العقل على وجه القطع بشيء كيف يجوز حصول القطع أو الظنّ من الدليل النقلي على خلافه(23).
ثمّ إنّ مباحث التعارض وإن كانت في نفسها كثيرةً مذكورة في الاُصول ، إلاّ أنّ الذي يرتبط بمسألتنا منها هو أمران ، الأوّل : معنى التعارض ، الثاني : تعيين
المرجع بعد تحقّق التعارض بين الدليلين .
أمّا الأمر الأوّل فنقول : التعارض على ما عرّفه جمع من المحقّقين ومنهم شيخنا العلاّمة الأنصاري (قدّس سرّه) هو تنافي الدليلين وتمانعهما مع اتّحاد الموضوع(24) فما لم يتحقّقا في دليلين لا يكونان من المتعارضين ، فعليه ليس بين الدليل المجمل والدليل المبيّن والعام والخاص والحاكم والمحكوم تعارض أصلا ، فإنّ الدليل المبيّن يكشف عن مراد المتكلّم من الإجمال ، وكذلك الخاص والحاكم يعيّنان المراد الواقعي من العام والمحكوم .
وأمّا أنّ تقدّم الخاص والحاكم على العام والمحكوم من جهة كون الأوّلين نصّين في مدلولهما أو من جهة كونهما من باب القرينة وذي القرينة فهو بحث خارج عمّا نحن بصدده .
فالمدار في تحقّق التعارض عدم إمكان الجمع بينهما ودفع التمانع عنهما بالطرق التي يبني عليها العقلاء في محاوراتهم ، فما دام يمكن الجمع بينهما ورفع التمانع عنهما لا يكون التعارض محقّقاً .
ولا يخفى أيضاً أنّ التعارض إنّما يكون دائماً في الأدلّة النقلية ، وأمّا الأدلّة العقلية فلا نفهم للتعارض فيها معنى محصّلا ، فإنّ فرض الدليل عقلياً آب عن كونه مشكوكاً ، بل لا يبقى احتمال الخلاف حتّى يعارضه دليل آخر ، إلاّ أن يكون مغالطة في صورة البرهان ، وهو ليس بدليل حتّى يكون تخصيصاً فيما ادّعيناه ، كما ذكرناه في مسألة دليلية الوجدان ، وقد ذكرنا وجه التهافت في بعض الأدلّة العقلية في بعض المسائل الحكمية ، وأنّه ناشئ عن قصور في شرط من شرائط المقدّمات أو ترتيبها .
وأمّا الأمر الثاني : فبعد فرض التعارض وعدم إمكان الجمع بينهما بأحد الوجوه المذكورة لابدّ من ملاحظة الترجيح بينهما ، والأخذ بما يقتضيه ، وهو كما ذكروه في محلّه(25) يكون بأمور ، منها الترجيح بجهة الصدور ، وهو الذي يكون الترجيح بها في مسألتنا على الأكثر ، وستعرف إن شاء الله(26) شهرة القول عند العامّة في زمان الأئمّة (عليهم السلام) بعدم اختيار العباد في أفعالهم ، بل لا يخفى أنّ أكثر الروايات الواردة في باب المعارف من أهل بيت العصمة (عليهم السلام) المخالفة للدليل العقلي إنّما صدرت تقيّة وخوفاً من الظالمين .فهذه هي الأمور التي رأينا من اللازم تقديمها على المقصود ، لترتّب فوائد عظيمة عليها .
تعليق