لماذا نبحث عن الإمامة؟
إن أول خلاف نجم بين المسلمين بعد ارتحال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الاختلاف في مسألة الإمامة والخلافة، وصارت الأمة بذلك فرقتين، فرقة تشايع عليا (عليه السلام) وفرقة تشايع غيره من الخلفاء، والبحث حول كيفية وقوع هذا الاختلاف وعلله خارج عما نحن بصدده هنا، لأنه بحث تاريخي على كاهل علم الملل والنحل، لكن نريد هنا بيان السبب من البحث في الامامة .
قد يقال: إن البحث عن صيغة الخلافة بعد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يرجع لبه إلى أمر تاريخي قد مضى زمنه، وهو أن الخليفة بعد النبي هل هو الإمام أمير المؤمنين أو أبو بكر، وماذا يفيد المؤمنين البحث حول هذا الأمر الذي لا يرجع إليهم بشئ في حياتهم الحاضرة، أوليس من الحري ترك هذا البحث حفظا للوحدة؟
والجواب أنه لا شك أن من واجب المسلم الحر السعي وراء الوحدة، ولكن ليس معنى ذلك ترك البحث رأسا، فإنه إذا كان البحث نزيها موضوعيا يكون مؤثرا في توحيد الصفوف وتقريب الخطى، إذ عندئذ تتعرف كل طائفة على ما لدى الأخرى من العقائد والأصول، وبالتالي تكون الطائفتان متقاربتين، وهذا بخلاف ما إذا تركنا البحث مخافة الفرقة فإنه يثير سوء الظن من كل طائفة بالنسبة إلى أختها في مجال العقائد فربما تتصورها طائفة أجنبية عن الإسلام، هذا أولا.
وثانيا: إن لمسألة الخلافة بعد النبي بعدين: أحدهما تاريخي مضى عصره، والآخر بعد ديني باق أثره إلى يومنا هذا، وسيبقى بعد ذلك، وهو أنه إذا دلت الأدلة على تنصيب علي (عليه السلام) على الولاية والخلافة بالمعنى الذي تتبناه الإمامية يكون الإمام وراء كونه زعيما في ذلك العصر، مرجعا في رفع المشاكل التي خلفتها رحلة النبي، فيجب على المسلمين الرجوع إليه في تفسير القرآن وتبيينه، وفي مجال الموضوعات المستجدة التي لم يرد فيها النص في الكتاب والسنة، فليس البحث متلخصا في البعد السياسي حتى نشطب عليه بدعوى أنه مضى ما مضى، بل له مجال أو مجالات باقية.
ولو كان البحث بعنوان الإمامة والخلافة مثيرا للخلاف ، لكن للبحث صورة أخرى نزيهة عنه، وهو البحث عن المرجع العلمي للمسلمين بعد رحلة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسائلهم ومشاكلهم العلمية، وهل قام النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بنصب شخص أو طائفة على ذلك المقام أو لا ؟ والبحث بهذه الصورة لا يثير شيئا.
ولهذا كان لزاما علينا البحث في الامامة وفي من هو خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
والشيعة ترى أن السنة النبوية أكدت على مرجعية أهل البيت (عليهم السلام) في العقائد والمسائل الدينية، وراء الزعامة السياسية المحددة بوقت خاص ومن أوضحها حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين ولا يشك في صحته إلا الجاهل به أو المعاند، فقد روي بطرق كثيرة عن نيف وعشرين صحابيا. (1) روى أصحاب الصحاح والمسانيد عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ".
وقال في موضع آخر:
" إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ".
وغير ذلك من النصوص المتقاربة.
إن الإمعان في الحديث يعرب عن عصمة العترة الطاهرة، حيث قورنت بالقرآن الكريم وأنهما لا يفترقان، ومن المعلوم أن القرآن الكريم كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكيف يمكن أن يكون قرناء القرآن وأعداله خاطئين فيما يحكمون، أو يقولون ويحدثون.
أضف إلى ذلك أن الحديث، يعد المتمسك بالعترة غير ضال، فلو كانوا غير معصومين من الخلاف والخطأ فكيف لا يضل المتمسك بهم؟
كما أنه يدل على أن الاهتداء بالكتاب والوقوف على معارفه وأسراره يحتاج إلى معلم خبير لا يخطأ في فهم حقائقه وتبيين معارفه، وليس ذلك إلا من جعلهم النبي قرناء الكتاب إلى يوم القيامة وهم العترة الطاهرة، وقد شبههم في حديث آخر بسفينة نوح في أن من لجأ إليهم في الدين وأخذ أصوله وفروعه عنهم نجا من عذاب النار، ومن تخلف عنهم كمن تخلف يوم الطوفان عن سفينة نوح وأدركه الغرق. (2)
1. وكفى في ذلك أن دار التقريب بين المذاهب الإسلامية قامت بنشر رسالة جمعت فيها مصادر الحديث، ونذكر من طرقه الكثيرة ما يلي: صحيح مسلم: 7 / 122، سنن الترمذي: 2 / 307، مسند أحمد: 3 / 17، 26، 59، 4 / 366 و 371، 5 / 182، 189. وقد قام المحدث الكبير السيد حامد حسين الهندي (قدس سره) في كتابه " العبقات " بجمع طرق الحديث ونقل كلمات الأعاظم حوله، ونشره في ستة أجزاء.
2. روى المحدثون عن النبي ص أنه قال: " إنما مثل أهل بيتي في أمتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق " مستدرك الحاكم: 2 / 151، الخصائص الكبرى للسيوطي: 2 / 266 وللحديث طرق ومسانيد كثيرة من أراد الوقوف عليها، فعليه بتعاليق إحقاق الحق: 9 / 270 - 293.
من كتاب محاظرات في الالهيات للمحقق الشيخ جعفر السبحاني
تعليق