بسم الله الرحمن الرحيم
الملائكة تلبي للحسين :
إن أول من لبى وأجاب أولا لدعوة سيد الشهداء(روحي له الفداء) كان هو الله رب العزة , ثم أرواح الأنبياء والمرسلين والأوصياءوالصديقين والملائكة , إلى أن انتهى الأمر إلى تلبية أجساد الشهداء (روحي لهم الفداء ) في كربلاء وحركتها في مصارعها , ثم المطلعون على تلك الدعوة والاستغاثةمن مؤمني الجن .
فإن قلت : كيف صار الأمر بعد تلبية الله تعالى وبعد تلبية هؤلاء المذكورين ؟ وكيف كان كلام سيد الشهداء (روحي له الفداء ) مع الملبين لدعوته والمجيبين بعد استغاثته واستنصاره ؟ أما مناجاته (عليه السلام ) مع رب العزه فقد عرفت الحال فيها في قضيةالصحيفة النازلة من السماء , وأما كلامه مع سائر الملبين والمحبين لدعوته واستغاثته فهو أنه قد جزاهم خيراً.
أقول :إن الملائكة وأرواح الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام ) قد أوفوا لأجل تلبيتهم وإجابتهم هذه بما قد أخذ الله تعالى منهم من العهد الشديد والميثاق الأكيد في كل نشأة من العوالم , أي من النشأة الذرية والأرواحية والنشأة الدنيوية والنشأة البرزخيةالأخروية .
فهذاالعهد الشديد والميثاق الأكيد إنما هو على لزوم قبول ولاية محمد وآله المعصومين والإيمان بها , وعلى وجوب إطاعتهم ونصرتهم في كل نشأة ودار أراد فيها أهل بيت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) منهم النصر ,بل وإن لم يطلبوها منهم , فتدل على ماذكرنا العهد الشديد والميثاق الأكيد أية من القرآن , وهي ( وإذا اخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أقررتم وأخذتم على ذلكم أصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وإنا معكم من الشاهدين) .
ولايخفى عليكم أن هذه الآية وإن كانت في أخذ الله تعالى الميثاق والعهد من النبيين والمرسلين لأجل نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم ) , إلا أنه لافرق في حكم هذه الآية بين نبينا وبين آله المعصومين لأن آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم )يساوونه في كل ما أعطاه الله تعالى إلا ما خرج بالدليل , فيدل على ذلك بعدالأخبارالمتضافرة والأحاديث المتواترة المتكاثرة قوله تعالى : ( قل تعالوا ندع أبناءنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم )
فالمراد من أنفسنا هو أمير المؤمنين ( عليه السلام ) , وفي كونه مساويا للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفي كل ما أعطاه الله تعالى إلا ما خرج بالدليل , وسائر الأئمة مثل أمير المؤمنين (عليه السلام ) في هذا الحكم , أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) افضل من أمير المؤمنين (عليه السلام ) , وأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) افضل من سائر الأئمة ( عليهم السلام ) والكلام المفضل المشبع في ذلك الباب هو مذكور في جملة من الكتب والمصنفات , مثل الفن الأعلى من الخزائن أي فن العقائد , وغير ذلك من الكتب , فمن أراد الاطلاع على تلك المباحث الشريفة فليراجع إلى تلك الكتب .
وبالجملة, فإن حكم آية : ( وإذا اخذ الله ميثاق النبيين ...) إلى آخر الآية جاء في آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم )المعصومين ( عليهم السلام ) كما أنه جاء فيه (عليه السلام ) , ثم نذكر هاهنا جملةمن الأخبار الخاصة الواردة في حضور جماعات من الملائكة , وورود طوائف من مؤمني الجن عند سيد الشهداء ( عليه السلام ) لنصرته . حتى تكون الأخبار الخاصة مؤيدةومسددة لما ذكرنا من الأمر الكلي في الإجابة والتلبية .
قال في المنتخب : نقل أن الحسين ( عليه السلام )لما كان في موقف كربلاء اتت أفواج من الجن الطيارة , وقالوا له : يا حسين ( سلام الله عليه) نحن أنصارك فمرنا بما تشاء فلو أمرت بقتل عدو لكم لفعلنا , فجزاهم خيراًوقال لهم : إني لا أخالف قول جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث أمرني بالقدوم عليه عاجلاً , وأني الآن قد رقدت ساعة فرأيت جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد ضمني إلى صدره وقبل ما بين عيني وقال لي : يا حسين إن الله عزوجل (قد) شاء أن يراك مقتولاً ملطخاً بدمائك , مخضباً شيبك بدمائك , مذبوحاً من قفاك وقد شاء الله أن يرى حرمك سبايا على أقتاب المطايا وإني والله سأصبر حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين .
وفي الملهوف : عن المفيد عن الصادق ( عليهالسلام ) لما سار أبو عبدالله الحسين بن علي (عليه السلام ) من مكة ليدخل المدينة(لقيه ) أفواج من الملائكة المسومين والمردفة في أيديهم الحراب نجب من نجب الجنة ,فسلموا عليه وقالوا : يا حجة الله على خلقه بعد جده وأبوه وأخيه , إن الله عز وجل أمد جدك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنا في مواطن كثيرة , وإن الله أمدك بنا .
فقال لهم : الموعد حفرتي وبقعتي التي أستشهد فيها وهي كربلاء , فإذا وردت فاتوني ,فقالوا ياحجة الله إن الله امرنا أن نسمع لك ونطيع , فهل تخشى عدو يلقاك فنكون معك؟ فقال : لا سبيل لهم علي , ولا يبلغوني بكراهية أو اصل إلى بقعتي .
وأتته أفواج من مؤمني الجن فقالوا له : يا مولانا , نحن شيعتك وأنصارك فمر بما تشاء , فلو أمرتنا بقتل كل عدو لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك , فجزاهم خيراً وقدر لهم : أما قرأتم كتاب الله المنزل على جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في قوله : ( قل لو كنتم في بيوتكم لبرزالذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) ؟ فإذا أقمت في مكاني فبم يمتحن هذا الخلق (المتعوس ) ؟ وبماذا يختبرون ؟ ومن ذا يكون ساكناً في بيوتكم في حفرتي بكربلاء ؟وقد اختارها الله (عز وجل ) لي يوم دحى الأرض وجعلها معقلا لشيعتنا ومحبينا , تقبل بها أعمالهم وصلاتهم , ويجاب دعاؤهم ويسكن إليها شيعتنا فتكون لهم أماناً في الدنيا والآخرة .
ولكن تحروني يوم السبت وهو يوم عاشوراء الذي في آخره أقتل , ولا يبقى بعدي مطلوب من أهلي وبني وإخواني وأهل بيتي , ويسار برأسي إلى يزيد بن معاوية .
فقالت الجن : نحن والله يا حبيب الله وابن حبيبه , لولا أن أمرك طاعة وأنه لايجوزمخالفتك , لخالفناك وقتلنا جميع أعدائك قبل أن يصلوا إليك , فقال لهم : نحن والله أقدر عليهم منكم , ولكن ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينه ؟ وفي الملهوف أيضاً عن الصادق ( عليه السلام ) انه قال : سمعت أبي يقول : لما التقى الحسين (عليه السلام ) وعمر بن سعد وقامت الحروب , أنزل الله تعالى النصر حتى رفرف على رأس الحسين ( عليه السلام ) ثم خير بين النصر على أعدائه وبين لقاء الله , فاختار لقاء الله تعالى .
أقول :أن الأخبار في هذا المعنى في غاية الاستفاضة , فإذا تأملت فيها بعد أخذ مجامع ماذكرنا , تجد أن المراد من إنزال الله تعالى النصرة المرفرفة على رأس سيد الشهداء (عليه السلام ) هو ماأشرنا إليه, من صدور الإجابة والتلبية من الله تعالى ومن الملائكة وأ رواح الأنبياء إلى غير ذلك كما عرفت .
ثم لايخفى أن في قضية الجن قصة عجيبة يناسب ذكرها المقام لكونه مؤيداً لما قدمناه من صدور الإجابة والتلبية على النحو الكلي ,وهي : أن جمعاً من الصلحاء الأخيار نقلوا عن لسان عالم من العلماء انه قال : حدث رجل يثبت ثقة من طلاب العلوم أنه قال : كنت في برهة من الأزمنة أوبخ وألوم عند نفسي بل عند جمع من الناس ( الزعفرالجني ) , وكنت أتأسف على رجوعه من كربلاء يوم عاشوراء بلا صدور نصرة منه للإمام ( عليه السلام ) , وما اسكت نفسي في هذا الباب بأنه معذور في الرجوع من كربلاء , من حيث انه لم يرخصه في المجاهدة والنصرة ثم كنت في ليلة من الليالي العشر الأول من المحرم جالساً وحدي في منزلي في مدرسة من مدارس أصفهان , وكنت أطالع بعض كتب المقاتل مجيء الزعفر الجني مع عسكره إلى كربلاءورجوعهم منها بلا صدور نصرة منهم .
فإذا برجل قد فتح الباب ودخل فسلم علي فرددت (عليه السلام ) , وجلس ورحبته , ولكن تعجبت من فتحه الباب لأنه كان مسدوداً بحلقة معلقة عليه من حديد , فقال : لي تخف مني فأنا أخوك الزغفر الجني جئتك لأزورك واشتكي منك إليك في كثرة ملامتك وذمك إياي ثم قال : ياأخي انك ما فهمت حقيقة الأمرإلى الآن , وما عرفت ذلك كنه المعرفة إلى هذا الزمان , فاعلم أني وصلت إلى ارض كربلاء مع عسكري في وقت كانت أرض كربلاء في ذلك الوقت مملوءة من جميع الجوانب والأطراف بجنود وعساكر من طوائف الجن , ولهم ملوك عظماء وسلاطين فخماء , وكنت أصغرهم شاناً وأدونهم رتبة واقلهم جندا , وكانت الهواء أيضاً متصلة بعنان السماء مملوءة من الملائكة والجن , متصلة بعضها من البعض, في مقدم كل صف رئيسهم من الملائكة والجن .
وكان أهل كل صف من الصفوف من قرب كانوا أو بعد يسلمون على الإمام ( عليه السلام ) من مكان وقوفهم , مع مراعاتهم تبجيله وتعظيمه كمراعاة الرعايا بتبجيل سلطان السلاطين وملك الملوك , وكانوا يتضرعون إليه ويطلبون منه الرخصة في النصر وقتال الكفار ,وكان موقفي وموقف عسكري في بعد من الإمام (عليه السلام ) بمقدار أربعة فراسخ ,وذلك لعدم المكان الخالي عن الشاغل في اقرب من ذلك المكان , لا في الأرض ولاالهواء فسلمنا بالتبجيل والتعظيم على الإمام (عليه السلام ) فرد علينا السلام .
ثم شرع في التكلم مع أهل كل صف صف من الصفوف الملائكة وطوائف الجن , فجزا الكل خيراً ودعا لهم في آخر كلامه , فلم يرخص أحداًمن الملائكة وطوائف الجن في النصرة والجهاد , فرجع الكل إلى أمكنتهم , وأنا مع ذلك مازلت في ارض كربلاء , ولكن كنت مع عسكري في ناحية من ارض كربلاء وكنا نبكي ونجزع ونلطم .
فلما صار ما صار من أمر شهادة سيد الشهداء ( عليه السلام ) , فارتحل الكفارمن ارض كربلاء مع السبايا وحرم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) والرؤوس المطهرةالمنورة , كنت أنا وأصحابي نمشي ونسير في عقبهم , وذلك منا بقصد خدمة أهل البيت(عليهم السلام ) والحرم , والتعرض والتوجه إلى جملة من الأمور كحفظ الأطفال من السقوط عن ظهور الإبل ونحو ذلك ,فلما وصل عسكر ابن زياد إلى الكوفة غابت الشمس , فلم يتمكنوا من أن يدخلوا الكوفة بأ جمعهم , فنزل طوائف منهم من الحرسة والمتوكلين على السبايا والرؤوس المطهرة في خارج الكوفة , وضربوا في الناحية الفساطيط والخيام لأنفسهم , وانزلوا السبايا وأهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )في ناحية أخرى .
فلمامضت ساعة من الليل , خرجت جماعة من الكوفة ومعهم الظروف والأواني والموائد المملوءة باللحوم المطبوخة وسائر الأطعمة من المطبوخات وغيرها , فجاءوا بها الحرسةوالمتوكلين , وأطفال أهل البيت (عليهم السلام ) في ذلك الوقت في شدة البكاء والجزع من ضر الجوع , وزاد جزعهم لما شموا رائحة المطبوخات .
فجاءت فضة إلى زينب الصديقة الطاهرة (عليها السلام ) وقالت : ياسيدتي , أما ترين الأطفال وما فيهم من ضر الجوع ؟ فقالت الصديقة زينب (عليها السلام ) : ما الحيلة يافضة ؟قالت : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : إن لك ثلاثة دعوات مستجابة, فمضت دعوتان منها وبقيت الثالثة , فاذني لي أن أدعو الله تعالى حتى يفرج لنا في شأن الأطفال , فرخصتها فجاءت إلى ناحية فيها تل صغير فصلت فيه ركعتين لاستجابةالدعاء فدعت الله تعالى ...
فبينماهي في أثناء دعوتها فإذا قد نزلت من السماء قصعة مملوءة باللحم والمرق وفوقها قرصان من الخبز , وكانت نفحات المسك والعنبر والزعفران تفوح من تلك القصعة , فكان غذاء أهل البيت (عليهم السلام ) من سيد الساجدين (عليه السلام ) والنساء والأطفال من تلك القصعة وهذين القرصين , فكانوا كلما يحتاجون إلى الغذاء يأكلون منها ويشبعون ,ثم كانت القصعة بحالها , أي مملوءة باللحم والمرق كأ نها لم ينقص منها شيء أصلاً ,وكذا القرصان , فكانت هذه الآية الساطعة والنعمة الإلهية والمائدة السماوية موجودةعند أهل البيت (عليهم السلام ) اليوم الذي وردوا المدينة , فبعد ذلك اليوم فقدت وارتفعت .
ثم قال الزغفر : هذه قصتي , والله ما فارقت ولا أصحابي أهل البيت (عليهم السلام ) من يوم العاشور إلى أن وردوا أهل البيت مدينة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ,فلا تلمني ولا تذمني بعد ذلك , ثم غاب الزغفر عن عين الرجل الصالح , فتاب وتندم عن ذمه إياه وترحم له , فهذا آخر ما أردنا ذكره في هذا المقام , والله أعلم بحقائق الأمور .
[i]
[i] نقل بتصرف من عدة مصادر