بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين . النخلة في القرآن الكريم :ذكر النخل في القرآن الكريم إحدى وعشرين مرة في إحدى وعشرين آية؛ موزعة تلك الآيات على ست عشرة سورة . ولم يذكر لفظ النخل عبر هذه السور بصيغ موحدة بل اختلفت صيغه بعض الاختلاف ؛ من حيث الإفراد أو الجمع , اسم الجنس الجمعي.
ففي عدد غير قليل من السور القرآنية ( كالأنعام , والكهف , وطه , والشعراء , والقمر ,وق , والرحمن , والحاقة , وعبس ) في هذه السور جميعاً ورد ذكر النخل بصيغة اسم الجنس الجمعي .
أما في سورة البقرة , والرعد , والنحل , والإسراء , والمؤمنين , ويس , فقد ورد ذكره بصيغةجمع الجمع ولم يرد ذكره بصيغة المفرد إلا مرتين ؛ وفي سورة واحدة فقط تلك هي سورة مريم ( عليها السلام ) وفي سورة الحشر ( آية 5) سماها القرآن الكريم (لينة ) , ولم يصرح باسمها المعتاد . واللينة حسب ما جاء في المعاجم اللغوية هي النخلة . فاللينة ضرب من النخل . وقيل : هي من اللين , للين ثمرها .
شاع ذكر العنب إلى جانب النخل في عشر آيات مباركات تلك هي : ( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر له ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ) سورة البقرة: آية 266 , ( ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه انظروا إلى ثمره وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ) سورة الأنعام : الآية 99 , ( وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن ذلك لآيات لقوم يعقلون ) سورة الرعد :آية , ( ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ) , سورة النحل : آية 11 , ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ) سورة النحل : آية 67 , ( أوتكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً ) سورة الإسراء :آية 91 ,( واضرب لهم مثلاً جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً ) سورة الكهف : آية 32, ( فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ) سورة يس : آية 34, ( فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً) سورة عبس : الآيات 27-29 .
علل الشيخ الطبرسي في تفسيره مجمع البيان ؛ انتشار النخيل والأعناب في القرآن الكريم ,وتخصيصهما بالذكر دون الكثير من الأشجار ؛ تارة بقوله : ( لأنهما ثمار الحجاز من المدينة والطائف فذكرهم سبحانه بالنعم التي عرفوها ) .
وتارةأخرى بقوله : ( وإنما خص النوعين لكثرة أنواعهما ومنافعهما ) .
ولاتباين في الجمع بين التعليلين حيث أن الفاكهتين إنما انتشرتا هذا الانتشار في القرآن لانتشارهما في الحجاز من ناحية ؛ ولكثرة منافعهما من ناحية أخرى .
أماالزيتون فقد ذكر في أربع آيات فقط : ( وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفاً أكله والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه كلوا من ثمرهإذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لايحب المسرفين ) سورة الأنعام : آية141 ؛ وفي ثلاث آيات أخرى مرت ضمن الآيات العشر السابقة .
وذكرالرمان في ثلاث فقط ) فيهما فاكهة ونخل ورمان ) سورة الرحمن : آية 68 . أما الآيتان الأخريان فقد مرتا ضمن الآيات السابقة .
أما النخل فقد انفرد عبر الرحلة القرآنية المقدسة بتسع آيات انفراداً تاماً عن كل فاكهة أوزرع ؛ وبذلك يكون منتشراً ذكره في القرآن الكريم أكثر من أية شجرة أخرى .
والآيات التي عرضت لذكر النخل منفرداً : ( فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني متقبل هذا وكنت نسياً منسياً * فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً *وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً ) سورة مريم : الآيات 23 -25 , (ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى ) سورة طه : آية 71 , (وزروع ونخل طلعها هضيم ) سورة الشعراء : آية 148 , ( والنخل باسقات لها طلع نضيد )سورة ق : آية 10 , ( ننزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر ) سورة القمر : آية 20 , (فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ) سورة الحاقة : آية 7 . ولم يصرح القرآن باسمها المعتاد في آية واحد فقط . وسماها ( لينة ) وكانت النخلة سبباً في إنزال هذه الآية المباركة : ( ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين ) سورة الحشر : آية 5 .
لقصة مفصلة حدثت بين الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واليهود من بني النضير وكان نزولها بمثابة تأييد للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عما اتخذه من إجراءات مع هؤلاء اليهود ؛ وإن كل ما فعله معهم كان بإذن من الله تعالى الغاية من ذكر النخل في القرآن الكريم : إن المتتبعين من ذوي الاختصاص يدركون كل الإدراك – وبقدر مايمتلك كل منهم من سعة في العلم وقوة في الملاحظة – أن الآيات التي ورد ذكر النخل من خلالها لم تكن ذات غاية واحدة ؛ بل هي متعددة الغايات وكل غاية منها ترمي إلى هدف معين .
ويمكن أن نضع – في سطور متواضعة – بعضاً من تلك المرامي الإلهية . القدرة المعجزة :
يذكرالقرآن النخل ويريد منه ( رمزاً ) لقدرة الله وآية يعجزالإنسان عن الإتيان بمثلها مهما أوتي من قوة في العقل , أو حكمة في التدبير .
حقاً إن الإنسان ليعجز كل العجز من أن يجعل طعم هذه الشجرة المباركة مختلفاً مع أنها وأخوات لها تنبت في تربة واحدة , وتسقى من ماء واحد !
كيف يختلف الثمر من نخلة إلى أخرى مع أن النخلتين لا تبعدان بعضهما عن بعض إلا بضعة أشبار ؟! كيف حصل هذا الاختلاف في الطعم واللون بين نخلة ( الزهدي ) مثلاً , ونخلة( البربن ) ؟ مع أنهما اثنتين تعيشان متجاورتين ! أليس ذلك مما يلفت النظر ويدعوإلى التأمل في قدرة الله ليزداد المؤمنون إيماناً بالله وتبصراً بخلقه وإبداعه لهذه الباسقات .
( وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) سورة الرعد : آية 4.
وسيلة تشويق إلى الله :
(وزروع ونخل طلعها هضيم ) إن كلمة هضيم تفسر تارة بالناضج وأخرى بالخالي من النوى , أو بأنه إذا مس تفتت. ألا يستحق من أنبت هذا الشجر الكريم الذي يحمل هذا الثمر اللذيذ الهضيم ؟ ألايستحق من أنشا كل ذلك للأنسان إنشاءً أن يعبد ويطاع ! ألا يعد جافياً من خلقت له هذه النعم ثم يدير ظهره في كل مناسبة عمن خلقها وأودع في جذعها هذه الفاكهة النادرة التي إذا ما مست تفتت بين يدي الإنسان ؟ حقاً إنه لصلف وجفاء ...
تعداد النعم :
عدة آيات تحدثت عن النخل في معرض تعداد النعم وإن إنشاءه للأنسان لنعمة كبيرة بها أنعم الله على خلقه حيث إن كل جزء من أجزائه يؤدي خدمة كبيرة له في الحياة . فيستثمره الإنسان في الطعام وفي بناء البيوت , ووقوداً , ومن سعفه , ومادته المختلفة يصنع الشيء الكثير . ويستخدم الإنسان النخل في المناسبات الوطنية والأعياد والأفراح – استخداماً رائعاً – حيث تزين بأطرافه أقواس النصر . مظهر من مظاهر الجمال :
(والنخل باسقات لها طلع نضيد ) . ( والنخل ذات الأكمام )
حقاً إن لتركيب هاتين الآيتين وقعاً خاصاً في أذن السامع لما تمتاز به كل منهما من جرس موسيقي جميل . إن البساتين لتبدو ناقصة الجمال إذا ما خلت من النخيل , والتفافه بها . ولكنها تظهر مزدانة بأبهى حلة إذا ما حفت به , وانتشر بين جوانبها . إن هذهالشجرة المباركة , ذات القوام الرشيق , والرأس الأخضر الجميل ؛ الذي ينتهي بأطراف حريرية خضراء , تتدلى من رأسها بانتظام كأنها غدائر عذراء .. إنها من أبدع ما خلق الله ؛ تحمل طلعاً نضيداً يتراكب فيه الحب بعضه فوق بعض موضوعاً في غلاف من أجمل أغلفة الثمار شكلا ومنظراً حتى إذا ما نضج تدلى فوق صدرها غدوقا عنقودية صفراء كحبات كهرب نضدت بعناية فائقة .
فالبساتين جنان إذا حفت بها النخيل تحيط بها من أطرافها لتضفي عليها جمالاً رائعاً ليس بثمرها فحسب , بل وبقوامها الباسق التناسق . كل ذلك من أجل الإنسان , ليستدل بهذه الروائع على ما للمبدع من عظمة ونعمة في هذا الكون العظيم .
تهويل الحدث , وصدق الإيمان :
(ولأصلبنكم في جذوع النخل ...)
إنما اختارالطغاة النخل لربط ضحاياهم عليها , وتعليق جثثهم فوق جذوعها لتضخيم الحدث ,وتهويل المأساة ؛ حيث تظهر بشاعة الصلب بأجلى مظاهرها , حيث يتدلى الإنسان من على جذع نخلة لأنها تمتلك ساقاً طويلاً يتعرى عليه المصلوب دون أن يخفى جزء منه , فهوعليه أكثر ظهوراً منه على غيره ؛ ومن ثم كان منظره يوحي بالرعب لضخامة النخلة وبعدها على الأرض .
والقرآن الكريم حين ينقل إلينا الأحداث ؛ ينقلها كما وقعت ويهتم بالنتائج اهتماماً خاصاً .وكانت نتائج هذه الأحداث المرعبة ؛ أن المؤمنين ثبتوا على ما آمنوا به مع التهديد والتخويف . لم يتضعضع أي منهم لمنظر النخيل وهي تميس بجثث إخوانهم مصلوبة عارية !وقالوا : ( إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ) .
وسيلةلإظهار بشاعة العذاب :
ذكرالقرآن الكريم النخل في سورة القمر آية 20 , وفي سورة الحاقة آية 7 وقصد به التشبيه ؛ ومن ثم أراد أن يقارب بين هذا النخل الذي حل به الفناء ؛ فأصبح أعجازاً نخرة .. قد سقطت منه الرؤوس ونخرت منه الأجسام ؛ وبين ما حل بالكافرين الذين أعلنوا العصيان على الله , والتحدي لأنبيائه . وظنوا أنهم يمنعون أنفسهم من عذاب الله . فأرسل الله عليهم ريحه العاتية لتلعب برؤوسهم , وتطيح بها عن الأبدان لتجعل من أولئك المتساقطين بلا رؤوس منظراً مخيفاً يرتعد كل من شاهد أولئك العصاة صرعى على الأرض أبدانا فقدت رؤوسها فأضحت خاوية بالية .
رمزاًللنجدة :
وأصبحت النخلة في قصة مريم ( عليها السلام ) رمزاً للنجدة والرحمة حيث أضحت العذراء في نفاسها تطلب الركن الذي إليه تسند ظهرها لتقوى على ما حل بها من هول الصدمة .. وماينتظرها من متاعب الطلق .. فكانت النخلة ذلك الركن الركين , والملجأ الأمين الذي إليه التجأت فكانت العذراء البتول مطمئنة في كل ما احتاجت إليه من مأكل ومأمن ..وهزت بجذعها بكل ما تملك من قوة الإرادة .. فتساقطت عليها رطباً جنياً يوم كان الرطب قد انتهى بانتهاء زمانه .
إن العناية الإلهية كانت قد واكبت العذراء في رحلة الميلاد حتى النهاية .
هذا مااستطعت أن أستخلصه من مجموع آي النخيل التي ذكرت في القرآن المجيد – على ضوء من التفسير الشريف – من دون مبالغة في فكرة أو تقحيم لمعنى تاركاً المجال واسعاً أمام القارئ الكريم عله يجد في تتبعه ما لم أكن قد وجدت.
تعليق