بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وحبيب اله العالمين محمد واله الطاهرين.
وبعد :
كان رسول الله ( صلى الله عليه واله ) يفضل خديجة على كافة أزواجه من جهات عديدة توجب عليه ذلك التفضيل وهي كونها أم أولاده ، ومنها انحصر بقاء ذريته بالإضافة إلى كونها أول امرأة آمنت به وصدَّقته وصلّت معه كما مر تحقيقه .
ثم ما كانت تقوم به من تفريج همومه وتسليته حتى قال ابن إسحاق : كان رسول الله ( صلى الله عليه واله ) لا يسمع شيئاً يكرهه من ردٍ عليه ، وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بخديجة ( رضي الله عنها ) إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتصدقه ، وتهون عليه أمر الناس ، وما زالت على ذلك حتى لحقت بربها . ([1])
ثراؤها وبذلها الأموال لنشر الدعوة الإسلامية
ثم ما بذلته من أموالها الطائلة في سبيل نشر دعوته الحقة ، الأمر الذي أشار إليه القرآن المجيد وجعله نعمة عظمى أنعم الله بها عليه بقوله مخاطباً له " وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى " [ الضحى / 8 ] . فقد ذكر الكثير من المفسرين أن المراد من هذه الآية الكريمة : أي وجدك فقيراً فأغناك بأموال خديجة أولاً ، وبالغنائم الكثيرة وغيرها ، ثانياً وحتى ورد أنه : إنما قام الإسلام بأموال خديجة وسيف علي بن أبي طالب .([2])
مكانتها عند النبي ( صلى الله عليه واله )
ولذلك وغير ذلك كان رسول الله ( صلى الله عليه واله ) يرى لخديجة المكانة العظمى والمنزلة السامية ويظهر لها ذلك في حياتها ، وأظهر ذلك بعد وفاتها مما لم يظهر تلك المنزلة لواحدة من أزواجه .
حتى روت الصحاح والسنن والمسانيد والمؤرخون والمحدثون عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت : كان رسول الله ( صلى الله عليه واله ) لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً من الأيام فأدركتني الغيرة فقلت : هل كانت إلا عجوزاً ، فقد أبدلك الله خيراً منها ، فغضب حتى أهتز مقدم شعره من الغضب ، ثم قال : لا والله ما أبدلني خيراً منها ، آمنت
بي إذ كفر الناس ، وواستني في مالها إذ حرمني الناس ، ورزقني منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء .
ووردت بهذا المعنى عن عائشة ، وعن غيرها أحاديث كثيرة تؤيد بعضها بعضاً . ( [3])
مكانتها عند الله تعالى
وما كانت هذه المنزلة السامية لخديجة عند رسول الله ( صلى الله عليه واله ) لمجرد عاطفة ، وميلان نفسي ، بل إنما كانت باستحقاق لتفردها عن جميع نساء زمانها في اتصافها بكل فضل وفضيلة .
إذ من المعلوم أن النبي ( صلى الله عليه اله) لا يحابي أحداً ، ولا يعطي المنزلة السامية إلا لمن يستحقها ، ومنزلتها هذه عند النبي ( صلى الله عليه واله ) الصادق الأمين مستمدة من منزلتها الرفيعة عند الله تعالى وعظيم مقامها لديه ، حتى أن الله تعالى بعث إليها سلاماً خاصاً على لسان النبي ( صلى الله عليه واله ) . فقد روى العياشي في تفسيره من طرق عديدة عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) أنه قال : حدث أبو سعيد الخدري أن رسول الله ( صلى الله عليه واله ) قال : إن جبرئيل قال لي ليلة الإسراء حين رجعت وقلت يا جبرئيل هل لك من حاجة ؟ قال : حاجتي أن تقرأ على خديجة من الله ومني السلام ، وأنها قالت حين أبلغها رسول الله ( صلى الله عليه واله ) السلام من الله وجبرئيل : إن الله هو السلام ومنه السلام وإليه يعود السلام وعلى جبرئيل السلام . ( [4])
رب العزة يبعث السلام مراراً إلى خديجة
ويظهر من الأخبار أن الله بعث إليها السلام مراراً عديدة لا مرة واحدة ، فقد روى ابن حجر العسقلاني في ( الإصابة ) نقلاً عن ( صحيح مسلم ) من حديث أبي زرعة عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه واله ) أتاني جبرئيل فقال يا رسول الله هذه خديجة أتتك ومعها إناء فيه طعام وشراب فإذا هي أتتك فأقرأ عليها من ربها السلام ومني .
وروى العسقلاني أيضاً بمعناه عن أبي السني عن خديجة نفسها وقال : أخرجه النسائي ، والحاكم من حديث أنس . ([5])
وقال ابن عبد البر في ( الاستيعاب ) وروي من وجوه أن النبي ( صلى الله عليه واله ) قال يا خديجة أن جبرئيل يقرؤك السلام ، ثم قال : وبعضهم يروي هذا الخبر أن جبرئيل قال : يا محمد أقرأ على خديجة من ربها السلام . فقال النبي ( صلى الله عليه واله ) يا خديجة هذا جبرئيل يقرؤك السلام من ربك . فقالت خديجة : الله هو السلام ، ومنه السلام ، وعلى جبرئيل السلام .
بيتها في الجنة وصفته
ومن عظيم منزلتها عند الله تعالى أنه بشرها على لسان رسوله ( صلى الله عليه واله ) فيما أوحاه إليه ببشارة خاصة ببيت لها في الجنة .
وقد اشتهر ذلك واستفاض ، وجاء مروياً في الصحاح ، والسنن والمسانيد ، واللغة من طرق الفريقين عن عدة من الصحابة والقرابة عن
عائشة وعن خديجة نفسها رضوان الله عليها، وعن أبي هريرة ، وعن عبد الله بن جعفر الطيار ، وعن عبد الله بن أبي أوفى ، وأكثرهم أرسلوه إرسال المسلمات . قال ابن حجر في ( الإصابة ) : وفي الصحيحين عن عائشة أن رسول الله ( صلى الله عليه واله ) بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب .
ورواه من طريق آخر عن خديجة نفسها . وقال : أخرجه ابن السني بسند له ، كما رواه أحمد بن حنبل في ( مسنده ) بسنده من طرق منها عن عبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن أبي أوفى ، أنهما قالا : قال رسول الله ( صلى الله عليه واله ) : أمرت أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب . ( [6] )
وجاء في تفسير الحديث : القصب ما كان مجوفاً كالأنابيب ، ومستطيلاً مكوناً من ذهب ومرصعاً بالجوهر والدر الرطب والزبرجد الرطب ، أو يكون من الجوهر ومرصع بأنواع الدر والزبرجد والياقوت .
والصخب : هو شدة الصوت من الضجة واضطراب الأصوات والتصايح ، والنصب هو العناء والتعب . ولقد نظم الحديث الحر العاملي صاحب ( الوسائل ) في منظومته حيث قال :
أبان عنه بذلها وفعلها لا صخب فيه لها ولا نصب عن النبي المصطفى المطهر .
زوجاته خديجة وفضلها لها من الجنة بيت من قصب وهذه صورة لفظِ الخبر .
وبالإجماع خديجة كما عبر عنها النبي ( صلى الله عليه واله ) بقوله : خير نسائها خديجة بنت خويلد ، وخير نسائها مريم بنت عمران . ( [7] )
وهذا الحديث روته الصحاح والسنن ، ويقول بعض الشراح : إن الضمير في قوله ( خير نسائها ) يعود إلى الأرض ( أي خير نساء الأرض ) وفسروه بأن كلاً من مريم وخديجة هي خير نساء الأرض في زمانها وعصرها .
وفاتها ووصاياها
وما زالت خديجة قائمة في شؤون رسول الله ( صلى الله عليه واله ) باذلة له كل ما تقدر عليه من الخدمة ، ومشاركة له في جهاده وجهوده في الدعوة إلى الله تعالى وإلى دينه القويم ، ومواسية له في كافة المحن والنوائب حتى لحقت بربها صابرة مجاهدة ومؤازرة مواسية . وكانت وفاتها في السنة العاشرة من البعثة في اليوم العاشر من شهر رمضان .
على ما نص عليه السيد محسن العاملي في كتابه ( مفتاح الجنات ) ج 3 ص 256 .
روى أخطب خوارزم الحنفي في كتابه ( مقتل الحسين ) ج 1 ص 28 بسنده حديثاً طويلاً يتضمن دخول رسول الله ( صلى الله عليه واله ) على خديجة حينما حضرتها الوفاة وما بشرها به ( صلى الله عليه واله ) من البشائر العديدة التي ستقدم عليها ونحن نذكره مختصراً ، قال : دخل رسول الله ( صلى الله عليه واله ) على خديجة بنت خويلد امرأته وهي في حال الموت : فشكت إليه شدة كرب الموت فبكى رسول الله ( صلى الله عليه واله) ودعا لها ، ثم
قال لها : أقدمي خير مقدم يا خديجة أنت خير أمهات المؤمنين وأفضلهن وسيدة نساء العالمين إلا مريم ، وآسية امرأة فرعون ، أسلمتك يا خديجة على كره مني وقد جعل الله للمؤمنين بالكره خيراً كثيراً ، إلحقي يا خديجة بأُمك حواء في الجنة ، وبأُختك سارة أُم إسحاق التي آمنت بالله جل جلاله . . . أقدمي يا خديجة على أختك أم موسى وهارون التي ربط الله على قلبها بالصبر لتكون من المؤمنين ، وأوحى الله إليها كما أوحى إلى الأنبياء والمرسلين . . . وأقدمي على أختك كلثم بنت عمران أخت موسى وهارون . . . وأقدمي على أختيك يا خديجة على آسية ومريم لا مثيل لهما من نساء العالمين ، وقد جعلهما الله مثلاً للذين آمنوا من الرجال والنساء يقتدي بهما كل مؤمن ومؤمنة . وإن ربي زوجنيهما ليلة أسري بي عند سدرة المنتهى فهما ضراتك يا خديجة . . . فضحكت خديجة وهي ثقيلة بالموت وقالت له : هنيئاً لك يا رسول الله بارك الله لهما فيك وبارك الله لك فيهما ، الحمد لله الذي أقر عينيك بهما ، وما هما ضرتاي يا رسول الله لأنه لا غيرة بيننا ولكنهما أختاي فقال النبي ( صلى الله عليه واله ) : هذا والله الحق المبين وتمام اليقين والفضل في الدين . . . الخ .
وروى المازندراني الحائري في كتابه ( شجرة طوبى ) ص 22 ج 2 مرسلاً قال : ولما أشتد مرض خديجة قالت : يا رسول الله إسمع وصاياي : أولاً فإني قاصرة في حقك فأعفني يا رسول الله ، قال ( صلى الله عليه واله ) حاشا وكلا ما رأيت منك تقصيراً فقد بلغت جهدك وتعبت في داري غاية التعب ولقد بذلت أموالك وصرفت في سبيل الله جميع مالك . ثم قالت يا رسول الله الوصية
الثانية أوصيك بهذه وأشارت إلى فاطمة فإنها غريبة من بعدي فلا يؤذيها أحد من نساء قريش .
وأما الوصية الثالثة فإني أقولها لابنتي فاطمة وهي تقول لك فإني مستحية منك يا رسول الله ، فقام النبي ( صلى الله عليه واله) وخرج من الحجرة ، فدعت فاطمة وقالت لها : يا حبيبتي وقرة عيني قولي لأبيك : إن أمي تقول أنا خائفة من القبر . أريد منك رداءك الذي تلبسه حين نزول الوحي عليك تكفنني فيه فقالت ذلك لأبيها فسلم النبي ( صلى الله عليه واله ) الرداء إلى فاطمة وجاءت به إلى أمها فاسترت به سروراً عظيماً .
فلما توفيت خديجة أخذ رسول الله ( صلى الله عليه واله ) في تجهيزها وغسلها وحنطها فلما أراد أن يكفنها هبط عليه الأمين جبرئيل وقال : يا رسول الله إن الله يقرؤك السلام ويخصك بالتحية والإكرام ويقول لك : إن كفن خديجة من عندنا فإنها بذلت مالها في سبيلنا ، ودفع إليه كفناً جاء به من الجنة ، فكفنها رسول الله ( صلى الله عليه واله ) بردائه الشريف أولاً وبما جاء به جبرئيل ثانياً . فكان لها كفنان كفن من الله وكفن من رسول الله ( صلى الله عليه واله ) .
فسلام عليها يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيا .....
[1] - راجع ( الإصابة ) ج 4 ص 273 وكتاب ( أهل البيت ) لتوفيق أبو علم ص 102 و ( الاستيعاب ) ج 4 ص 275 و ( البحار ) ج 16 ص 10 و ( كشف الغمة ) لعلي بن عيسى الأربلي ج 2 ص 137
[2] -
( 1 ) راجع ( أعيان الشيعة ) للسيد محسن الأمين ج 2 ص 14 و ( شجرة طوبى ) للمازندراني ج 2 ص 20 وقد نسبه إلى النبي ( ص ) أنه قال : ما قام ولا استقام ديني إلا بشيئين مال خديجة وسيف علي ابن أبي طالب .
( 1 ) راجع ( أعيان الشيعة ) للسيد محسن الأمين ج 2 ص 14 و ( شجرة طوبى ) للمازندراني ج 2 ص 20 وقد نسبه إلى النبي ( ص ) أنه قال : ما قام ولا استقام ديني إلا بشيئين مال خديجة وسيف علي ابن أبي طالب .
[3] - اجع ( الاستيعاب ) لابن عبد البر في أحوال خديجة ج 4 ص 278 ، و ( الإصابة ) لابن حجر العسقلاني ج 4 ص 275 ، وفي معناه أحاديث كثيرة أخرجها البخاري في ( صحيحه ) ج 5 ص 48 ط مصر مصطفى البابي الحلبي ، ومسلم في ( صحيحه ) باب فضائل خديجة .
[4] - راجع ( البحار ) ج 23 باب أن من اصطفاه الله من عباده وأورثه كتابه هم الأئمة ( ع ) ص 212 - 228
[5] - راجع ( الإصابة ) ج 4 ص 274 وص 275 نقلاً عن ( صحيح مسلم ) ج 2 باب فضائل خديجة ونقلاً عن أبي السني والنسائي والحاكم .
[6] - راجع ( الإصابة ) ج 4 ص 274 و ( كشف الغمة ) للأربلي ج 2 ص 133 وص 134 و ( البحار ) ج 16 ص 7 - 8 نقلاً عن الصحيحين البخاري ومسلم في صحيحه ج 2 ص 370 باب فضائل خديجة ، ومسند أحمد بن حنبل ج 3 ص 197 وابن السني والجواهري ، والطريحي في ( مجمع البحرين ) ص 128 و ( القاموس ) ج 1 ص 117 ، و ( شجرة طوبى ) للمازندراني ج 2 ص 20 ورواه البخاري في صحيحه ج 5 ص 48 ط الحلبي بمصر من طرق عديدة عن عائشة ، وعن أبي هريرة ، وعن عبد الله بن أبي أوفى . ورواه أخطب خوارزم الحنفي ج 1 ص 26 في ( مقتل الحسين ).
[7] - الإصابة ) ج 4 ص 274 - 275 نقلاً عن ( صحيح البخاري ) ج 5 ص 47 ، و ( صحيح مسلم ) ج 2 ص 370 باب فضائل خديجة . وراجع ( كشف الغمة ) للأربلي ج 2 ص 133 نقلاً عن ( مسند أحمد بن حنبل ) وتجده في ( مسنده ) ط دار المعارف بمصر سنة = 1366 ه 1947 م ج 2 ص 56 رقم 640 وص 938 ، وص 251 رقم 1109 وص 289 رقم 1211 بشرح أحمد محمد شاكر . و ( البحار ) للمجلسي ج 16 ص 7 .
تعليق