كلام في ... كلام الإمام عليّ عليه السّلام
أنّ الإمام علي عليه السّلام كان بحرا لا ينزف ، و غمرا لا يسبر ، يؤاتيه الكلام و يتابعه، و كلامه عليه السّلام بيّن المنهج و سهل المخرج ، مطّرد السياق و القياس ، « على أمثلته حذا كلّ قائل خطيب ،و بكلامه استعان كلّ واعظ بليغ ، و مع ذلك فقد سبق و قصّروا ، و قد تقدّم و تأخّروا ، لأنّ كلامه عليه السّلام الكلام الّذي عليه مسحة 1 من العلم الإلهيّ ، و فيه عبقة 2 من الكلام النبويّ » . 3 قال ابن واضح اليعقوبيّ ( 292 ق ) في كتابه « مشاكلة الناس لزمانهم » : و حفظ الناس عنه الخطب ، فإنّه خطب بأربعمائة خطبة ، حفظت عنه ، وهي التي تدور بين الناس و يستعملونها في خطبهم . 4 و قال المسعوديّ ( 346 ق ) في « مروج الذهب » : و الذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة و نيف و ثمانون خطبة يوردها على البديهة ، و تداول الناس ذلك عنه قولا و عملا . 5 و قال الكلينيّ ( 328 329 ق ) بعد نقل خطبة له عليه السّلام في التوحيد ما لفظه : و هذه الخطبة من مشهورات خطبه عليه السّلام ، حتّى لقد ابتذلها العامّة 6 و هي كافية لمن طلب علم التوحيد إذا تدبّرها و فهم ما فيها ، فلو اجتمع ألسنة الجنّ و الإنس ليس فيها لسان نبيّ على أن يبيّنوا التوحيد بمثل ما أتى به بأبي و أمّي ما قدروا عليه ، و لو لا إبانته عليه السّلام ما علم الناس كيف يسلكون سبيل التوحيد . 7و قال ابن دأب الليثيّ 8 ( 171 ق ) في عليّ عليه السّلام : ثمّ البلاغة ، مال الناس إليه حيث نزل من المنبر ، فقالوا : ما سمعنا يا أمير المؤمنين أحدا قطّ أبلغ منك و لا أفصح ، فتبسّم و قال : و ما يمنعني ؟ و أنا مولد مكيّ ، و لم يزدهم على هاتين الكلمتين .
وهل سمع السامعون من الأوّلين و الآخرين بمثل خطبه و كلامه ؟ و زعم أهل الدواوين لولا كلام عليّ بن أبي طالب و خطبه و بلاغته في منطقه ما أحسن أحد أن يكتب إلى أمير جند و لا إلى رعيّة . 9 و قال ابن ميثم في مقدّمة شرحه على نهج البلاغة : و أمّا الفصحاء فمعلوم أنّ جميع من ينسب الى الفصاحة بعده ( عليّ عليه السّلام ) يملؤون أوعية أذهانهم من ألفاظه ، و يضمّنونها كلامهم و خطبهم فتكون منها بمنزلة ورد العقود كابن نباتة و غيره ، و الأمر في ذلك ظاهر . 10 و قال ابن أبي الحديد : و أمّا الفصاحة فهو عليه السّلام إمام الفصحاء ، و سيّد البلغاء . . . و منه تعلّم الناس الخطابة و الكتابة .
قال عبد الحميد بن يحيى : حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ، ففاضت ثمّ فاضت .
و قال ابن نباتة : حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الإنفاق إلاّ سعة و كثرة ، حفظت مائة فصل من مواعظ عليّ بن أبي طالب . 11 و جاء أبو هلال العسكري ( 395 ق ) ببعض الأخذ من كلام الإمام عليّ عليه السّلام و قال :سمع أبو تمّام قول عليّ بن أبي طالب للأشعث بن قيس : إنّك إن صبرت جرى عليك قضاء . . . إلى آخره 12، و إن صبرت صبر الأكارم ،و إلاّ سلوت سلوّ البهائم 13 ، فحكاه حكاية حسنة في قوله : و قال عليّ في التعازي لأشعث و خاف عليه بعض تلك المآثم أ تصبر للبلوى عزاء و حسبة فتؤجر أم تسلو سلوّ البهائم14 و قال أبو هلال أيضا : و من حسن الاتّباع أيضا قول إبراهيم بن العبّاس حيث كتب : إذا كان للمحسن من الثواب ما يقنعه ، و للمسيء من العقاب ما يقمعه ، ازداد المحسن في الإحسان رغبة ، و انقاد المسيء للحقّ رهبة . . . أخذه من قول عليّ بن أبي طالب ، أخبرنا به أبو أحمد قال : أخبرنا أبو بكر الجوهريّ عن المنقري عن ابن جرير قال : قال عليّ بن أبي طالب : يجب على الوالي أن يتعهّد أموره و يتفقّد أعوانه ، حتّى لا يخفى عليه احسان محسن و لا إساءة مسيء . ثمّ لا يترك واحدا منهما بغير جزاء ، فإن ترك ذلك تهاون المحسن ، و اجترأ المسيء ، و فسد الأمر ، و ضاع العمل . 15 و قال أبو هلال أيضا بعد نقل بيت ابن طباطبا : « فقيمة كلّ الناس ما يحسنونه » : أخذ ابن طباطبا قول عليّ عليه السّلام بلفظه و أخرجه بغيضا متكلّفا ، و الجيّد قول الآخر : « فقيمة كلّ امرئ علمه » ، فهذا و إن كان أخذه ببعض لفظه ، فإنّ « كلا » في بيته أحسن موقعا منه في بيت ابن طباطبا . 16
و قال صلاح الدين الصفديّ في ترجمة أحوال محمّد بن عبد الملك بن عبد الحميد الشهير بالزاهد الفارقي ( 564 ق ) ما لفظه : و كان دعا الخلق إلى اللّه تعالى و كان يتكلّم على الناس كلّ جمعة بعد الصلاة بجامع القصر . . . و كان يحفظ كتاب نهج البلاغة و يغيّر عبارته ، و كان الكبار يحضرون مجلسه و الأعيان و الفضلاء ، و كان يتكلّم على لسان أهل الحقيقة بلسان عذب و كلام لطيف و عبارة رشقة و منطق بليغ فانتفع الناس به . 17 و نختم الكلام بذكر ما قاله الدكتور زكيّ مبارك في كتابه « عبقريّة الشريف الرضيّ » : إنّي لأعتقد أنّ النظر في كتاب نهج البلاغة يورث الرجولة و الشهامة و عظمة النفس ، لأنّه فيض من روح قهّار واجه المصاعب بعزائم الأسود .
و هناك خدمة ثانية أدّاها كتاب نهج البلاغة للّغة العربيّة ، فقد كان فرصة ثمنية لحركة الأفهام و العقول .
ألا تعرفون شرح ابن أبي الحديد ؟
إنّ ذلك الشرح هو من ذخائر اللّغة العربيّة : ففيه فوائد أدبيّة و لغويّة و تاريخيّة و فقهيّة لا يستهين بها إلاّ الغافلون عمّا في ماضيّنا الأدبيّ و العلميّ من أطايب و فرائد و آيات .
واعلم أنّ نهج البلاغة (كلام الامام علي ) شرح نحو أربعين مرّة ، و اعلم أنّ فيه فصولا ترجمت إلى بعض اللغات الشرقيّة و الغربيّة ، و اعلم إن أنّه فتح أمام النقد أبوابا و مذاهب ، و اعلم إن أنّ له فضلا على أكثر الفصحاء من الخطباء ، و اعلم إن أنّه أشهر مجموعة و أكبر مجموعة حفظت منسوبة إلى عصر الخلفاء ، و اعلم إن له شرق و غرب و لم تخل منه مكتبة عربيّة أو أعجميّة من المكتبات التي تستوفي أصول المراجع ، و اعلم إن مفنّديه لم ينكروا قيمته الأدبيّة . . .
واخيرا اعلم إن كلّ هذه الخصائص هي عن كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام في كتابه المشهور نهج البلاغة والذي قام الشريف بجمع أصول هذا الكتاب الفريد . 18 هذا و قال السيّد المرتضى علم الهدى و أجاد فيما قال : 19
نهج البلاغة نهجة لذوي البلاغة واضح و كلامه لكلام أرباب الفصاحة فاضح العلم فيه زاخر و الفضل فيه راجح و غوامض التوحيد فيه جميعها لك لائح و وعيده مع وعده للناس طرا ناصح تحظى به هذي البريّة صالح أو طالح .
و قال آخر :
كتاب كأنّ اللّه رصّع لفظه بجوهر آيات الكتاب المنزّل حوى حكما كالدرّ ينطق صادقا فلا فرق إلاّ أنّه غير منزل .
-----------
( 1 ) مسحة : أثر أو علامة .
( 2 ) عبقة : رائحة . قال منتجب الدين ( من أعلام القرن السادس ) في فهرسته ،
ص 176 : الشيخ القاضي جمال الدين محمّد بن الحسين قاضي قاشان فاضل فقيه ، كان يكتب نهج البلاغة من حفظه ، و له رسالة « العبقة » في شرح قول السيّد الرضيّ في خطبة النهج .
( 3 ) نهج البلاغة 34 .
( 4 ) مصادر نهج البلاغة 1 50 .
( 5 ) مروج الذهب 2 431 .
( 6 ) أي اشتهرت بينهم فكأنّها صارت مبتذلة .
( 7 ) الكافي 1 136 .
( 8 ) هو أبو الوليد عيسى بن يزيد ، من أهل المدينة ، و كان أكثر أهل عصره أدبا و علما و معرفة بأخبار الناس و أيّامهم و كان خطيبا شاعرا توفّي سنة 171 ق .
( الأعلام 5 111 ، الكنى و الألقاب 1 281 ) .
( 9 ) الاختصاص ، للشيخ المفيد 148 .
( 10) شرح ابن ميثم 1 78 .
( 11 ) شرح ابن أبي الحديد 1 24 .
( 12) الحكمة 291 من حكم نهج البلاغة .
( 13) الحكمة 414 من حكم نهج البلاغة .
( 14) كتاب الصناعتين 232 ، ديوان أبي تمّام 300 .
( 15) كتاب الصناعتين 235 .
( 16) كتاب الصناعتين 252 253 .
( 17 ) الوافي بالوفيات 4 44 .
( 18 ) عبقرية الشريف الرضي 1 223 224 .
( 19 ) منهاج البراعة 1 243 .
المصدر: بتصرف
كتاب شرح حكم نهج البلاغة
المحدّث الخبير و العالم البصير
الشيخ عبّاس بن محمّد رضا القمّيّ
تعليق