مسلم بن عوسجة ( رضي الله عنه )
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
إن لكل ثورة ناجحة مقومات وعوامل متعددة تدعمها وتساهم في إنجاحها وتحقيق أهدافها .. وكذلك هي الثورة الحسينية التي هي أجل وأسمى من أية ثورة كانت , والتي لم يكن القصد منها تحقيق مصلحة شخصية أو منفعة ذاتية , وإنما كانت تبتغي تحقيق الصالح العام وإنقاذ العقيدة الإسلامية من كل ما يهدد بقاءها وثباتها , فكانت تلك الثورة العظيمة بحد ذاتها انتفاضة شاملة على كل انحراف وضلال ونفاق وظلم وطغيان . اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
ومن العوامل التي ساهمت بشكل فعال في دعم ثورة الإمام الحسين ( عليه السلام ) رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه , فكانوا جسرا متينا تصل من خلاله تلك الثورة المجيدة إلى تحقيق أهدافها السامية وترسيخ أسسها ودعائمها , فكانوا شموعا وضاءة على مر الزمن , والجنود الأوفياء والعون المستمر للإمام الحسين ( عليه السلام ) , الذين لم يبخلوا بدمائهم ولا بأموالهم ولا بأنفسهم ولا بما أتوا من إمكانيات ومقدرات في سبيل حفظ الدين الإسلامي وحمايته من أعدائه , وفي مساندة مولانا أبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) الذي قاد ثورته الباسلة من أجل إحقاق الحق ودحض الباطل والقضاء على الفساد بكل أشكاله وإصلاح ما يمكن إصلاحه في أمة جده رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رسول الحق والخير والإنسانية عندما قال سلام الله عليه كلمته الخالدة : ( .. إني لم أخرج أشرا ولا بطرا , وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ...
إن رجال الإمام الحسين ( عليه السلام ) أثبتوا جدارتهم في أن يكونوا أصحابا خلصا له ( عليه السلام ) وأنصارا حقيقيين لثورته العظيمة , ولا سيما عندما وضعوا في لحظة اختيار حاسمة ودقيقة بين طريقين : إما طريق الآخرة أو الدنيا , الحق أو الباطل , العزة والكرامة أو الذل والمهانة , الإباء والصمود أو الخنوع والتخاذل , الإيمان أو الكفر .
وكانت تلك اللحظة الفاصلة في ليلة العاشر من محرم الحرام عندما خاطبهم الإمام الحسين ( عليه السلام ) قائلا – بعد الثناء على الله سبحانه وحمده - : ( ... أما بعد : فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي , ولا أهل بيت أبر وأوصل من أهل بيتي .. فجزاكم الله عني جميعا خيرا , ألا وإني أظن يوما من هؤلاء الأعداء غدا .. ألا وإني قد أذنت لكم , فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام .. هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ..
وأضاف ( عليه السلام ) قوله : ( ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي , ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله . فإن القوم إنما يطلبوني , ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري ) .
حيث وضح الإمام الحسين ( عليه السلام ) في خطابه لأهل بيته ( عليه السلام ) وأصحابه ( رضي الله عنهم ) أن أعداء الإسلام والفضيلة يستهدفون شخصه ( عليه السلام ) ويبتغون قتله هو بالذات – سلام الله عليه - , وبالتالي , فإنهم في منجاة من الخطر والقتل .
فأذن سلام الله وصلواته عليه لهم بالانسحاب والانصراف عنه , خاصة وأن الليل قد عم المكان , فيمكنهم التحرك تحت ستار الظلام لمن كان يستحي الانصراف علنا .
وما أن أكمل مولانا أبو عبد الله الحسين ( عليه السلام ) خطابه التاريخي حتى قام إليه أصحابه ( رضي الله عنهم ) فرادى وبشكل جماعي يعلنون موقفهم البطولي وتصميمهم الجاد على إكمال المسيرة معه ( عليه السلام ) حتى النهاية وحتى آخر قطرة من دمهم , مؤكدين وقوفهم إلى جانبه ( عليه السلام ) ومساندتهم له وعدم التخلي عنه , دون أن يكترثوا لما سيحل بهم ولا لما سيتعرضون له من أهوال ونوائب وعذابات , وكأنهم أجابوا بصوت واحد وروح واحدة وشعور واحد : ( والله لا نفارقك , ولكن أنفسنا لك الفداء .. نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا , فإذا نحن قتلنا كنا قد وفينا وقضينا ما علينا .. ) .
وهذه هي قمة التضحية والإيثار والتقوى وقوة التصميم والإرادة الحقة بحيث يتخذ أصحاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) جميعهم نفس الموقف ويأخذون القرار نفسه , وذلك ليس بدافع مبتغى شخصي ولا تحت الضغط والإكراه أو الإجبار , وإنما بدافع ولائي وعقائدي خالص يبتغون به وجه الله تعالى , وكما قال الشاعر مخاطبا إياهم ( رضي الله عنه )
يا خيرة لصحابة لولاهم
شرف العقيدة صرحه يتهدم
الراضعون من الشجاعة والإبا
والحاضنون الحق شمسا تبسم
عشقوه دينا خالدا متجددا
تتخاذل الدنيا ولا هو يهزم
قد سن فيكم للنضال مصاحفا
تتلى ولوحات لمجد يرسم
إذا هؤلاء هم ثوار القضية الحسينية الذين ما شهد التاريخ نظيرا لهم على مر عصوره فقد سطروا بدمائهم سيرا بطولية عطرة تعبق بأشذاء الإيمان والحب الرسالي . وإذا أردت تعداد أسمائهم ( رضي الله عنهم ) فهم كثر ولا يتسع المجال لذكرهم كلهم ولذا سأكتفي بذكر بعضهم أمثال الكرام : هلال بن نافع البجلي وحبيب بن مظاهر وقيس بن مسهر الصيداوي وبرير بن خضير وزهير بن القين وعمر الأزدي ومالك بن ذودان ومحمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ومسلم بن عوسجة , رضوان الله سبحانه وبركاته عليهم أجمعين . شرف العقيدة صرحه يتهدم
الراضعون من الشجاعة والإبا
والحاضنون الحق شمسا تبسم
عشقوه دينا خالدا متجددا
تتخاذل الدنيا ولا هو يهزم
قد سن فيكم للنضال مصاحفا
تتلى ولوحات لمجد يرسم
وهنا , أيضا , لايتسع المجال للحديث عنهم جميعا , ولذلك سأتناول الحديث فقط عن سيرة الشيخ المجاهد مسلم بن عوسجة ( رضي الله عنه ) الذي ذكرته جميع المصادر التاريخية بأنه أول قتيل من أنصار الإمام الحسين ( عليه السلام ) بعد الحملة الأولى .
من هو مسلم بن عوسجة ؟ وما هي قصة مسيرته ونضاله مع الإمام الحسين سلام الله عليه ؟ :
هو مسلم بن عوسجة بن سعد بن ثعلبة .. الأسدي السعدي . من أبرز وأجل الشخصيات الأسدية في الكوفة , كان شيخا قديرا معروفا في قومه بالوقار والنزاهة والالتزام والشرف , وله منزلته الرفيعة بينهم . وهو صحلبي جليل , كان ممن رأى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وروى عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيضا . وممن قام بمكاتبة الإمام الحسين ( عليه السلام ) من أهل الكوفة لمبايعته ومساندته ونصرته , فوفى له بذلك بعزم لا يلين وعقيدة لا تضعف وتصميم لا يفتر , وكان يأخذ البيعة له ( عليه السلام ) على يد سيدنا مسلم بن عقيل ( رضي الله عنه ) الذي هيأ له بدوره ربع مذحج وأسد لمحاربة ابن زياد . ولكن بعد قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ( رضي الله عنهما ) اختفى شيخنا الجهادي مده بين قومه , وما إن تحرك الإمام الحسين سلام الله عليه إلى كربلاء حتى خرج إليه ( عليه السلام ) متخفيا , فأدرك الإمام الحسين ( عليه السلام ) وهو في كربلاء , فقاتل مع الإمام سلام الله عليه وأصحابه حتى استشهد بين يديه ( عليه السلام )
ومن شدة ولاء هذا الصحابي لم يكتف بنفسه في مسيرته إلى كربلاء بل اصطحب معه أهله وخادمته ؛ رغم صعوبة ومشقة ذلك ورغم ما ينتظرهم من مخاطر وعناء وآلام . وعند ما وصل مناضلنا الهمام إلى كربلاء , التقى بالإمام الحسين ( عليه السلام ) وانضم إلى مجموعة أنصاره ( رضي الله عنهم) , وعندما ألقى مولانا أبو عبد الله الحسين ( عليه السلام ) خطابه المفعم بالرحمة والرأفة والإنسانية والمتضمن عبارات التسريح والإذن لأهل بيته ( عليه السلام ) وأصحابه ( رضي الله عنهم ) بالانصراف عنه والإعفاء من أي التزام نحوه , فنهض إليه سيدنا مسلم بن عوسجة - والجميع متخذ الموقف نفسه – معلنا تصميمه على البقاء مع الإمام الحسين (عليه السلام) ومتابعة المقاومة والنضال وعزمه على الجهاد والقتال , قائلا : ( أنحن نخلي عنك وبم نعتذر إلى الله في أداء حقك ؟ أما والله حتى أطعن في صدورهم برمحي واضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي , ولو لم يكن حفظنا غيبة رسوله فيك , أما والله لو قد علمت أني أقتل , ثم أحيى . ثم أحرق ثم أحيى , ثم أذرى , يفعل بي ذلك سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك , وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا ) .
وفعلا , أقرن هذا النصير الحسيني الفذ – وكل أنصار الإمام الحسين ( عليه السلام ) العمل بالقول , وظل يقاتل حتى وقع شهيدا في ساحة القتال وكان ذلك في الحملة الثانية عند ما عاود أحد أعداء الإسلام وأسمه عمرو بن الحجاج الهجوم مرة أخرى ومن جانب نهر الفرات على أصحاب مولانا أبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) , ففي هذه المرة قاتل شيخنا المناضل الأبي مسلم بن عوسجة ( رضي الله عنه ) الذي برز إلى العدو قائلا :
إن تسألوا عني فإني ذو لبد
من فرع قوم في ذرى بني أسد
فمن بغاني حائد عن الرشد
وكافر بدين جبار صمد
وبينما هو ( رضي الله عنه ) في ذروة القتال وإذ باثنين من الأعداء هما : مسلم بن عبد الله الضبابي وعبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي هجما عليه وقاما بقتله , وقد ثارت لشدة العراك والمواجهة غبرة عظيمة لم تنجل إلا وسيدنا مسلم بن عوسجة ( رضي الله عنه ) ملقى صريعا على الأرض , فاتجه إليه الإمام الحسين ( عليه السلام ) ومعه الصحابي الجليل حبيب بن مظاهر , فخاطبه الإمام الحسين ( عليه السلام ) قائلا : ( رحمك الله يامسلم , وتلا قوله تعالى : ( فمنهم من قضى نحبه , ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) . من فرع قوم في ذرى بني أسد
فمن بغاني حائد عن الرشد
وكافر بدين جبار صمد
وكان سيدنا مسلم بن عوسجة رضوان الله عليه ما زال به رمق الحياة حيث يلفظ أنفاسه الأخيرة , فاقترب منه سيدنا حبيب بن مظاهر وقال له : ( عز علي مصرعك يا مسلم أبشر بالجنة ) .
فأجاب سيدنا مسلم بصوت ضعيف : ( بشرك الله بخير ) , ثم أشار إلى الإمام الحسين ( عليه السلام ) وقال لحبيب : ( أوصيك بهذا أن تموت دونه ) , فأجابه حبيب بن مظاهر ( رضي الله عنه ) : ( أفعل ورب الكعبة ولأنعمنك عينا ) .
وسرعان ما فاضت روحه الشريفة بين الإمام الحسين ( عليه السلام ) وسيدنا حبيب بن مظاهر ( رضي الله عنه ) , فصاحت جارية له نادبة إياه : وامسلماه , ياابن عوسجتاه , ياسيداه !! .
وصار أعوان عمرو بن الحجاج يتنادون : قتلنا مسلم بن عوسجة .
وكان حاضرا رجل يدعى شبث بن ربعي , لما سمع تناديهم , قال لمن حوله : ( ثكلتكم أمهاتكم , أيقتل مثل مسلم وتفرحون ؟ لرب موقف له كريم في المسلمين يوم ( آذربايجان ) وقد قتل ستة من المشركين قبل أن تلتئم خيول المسلمين ) .
هذه هي قصة استشهاد واحد من أهم أنصار القضية الحسينية وشهداء العقيدة الإسلامية وثوار الحق والحقيقة والهدى , الذين نذروا أنفسهم وأموالهم لله سبحانه وتعالى , الذين بشرهم الله عز وجل بالثواب الجزيل والفوز العظيم وبجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا , حيث قال سبحانه في كتابه الحكيم : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة , يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن , ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) سورة التوبة : آية 111 .
إن أصحاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) قدموا بمواقفهم الأبية وتضحياتهم الجليلة دروسا وعبرا لنا ولأجيالنا القادمة , فمن خلالها نتعلم معنى الالتزام الديني والخلقي , والتفاني في سبيل الله سبحانه , والتشبث بالقضية العقائدية وإعطاءها حقها , والمحافظة على المبادئ الإسلامية وعدم الحيد عنها مهما كانت الإغراءات والضغوط التي نتعرض لها , خاصة في الواقع الحالي الذي نعيشه , فكلما تمسكنا بديننا الإسلامي والشريعة الإلهية وبمنهج نبينا المصطفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأهل بيته الأبرار ( عليهم السلام ) كلما استطعنا أن نبني حصنا منيعا من داخلنا ومن الخارج , يصوننا من كل زيغ وانحراف وضلال حيث أن ديننا وعقيدتنا على اختلاف جنسياتنا , هو هويتنا الحقيقية التي يتعرف من خلالها العالم بأجمعه علينا , ولذلك فهو جدير بالاهتمام والوفاء والالتزام . فأسألك اللهم أن تجعلنا من عبادك الصالحين , وأن تهدينا بنورك وهدايتك إلى صراطك المستقيم , وان تجعلنا من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك , إنك جواد كريم
تعليق