ولادة النور الثاني عشر
بعد قتل الإمام العاشر كما قتل آباؤه (في صمت ودون ضجَّة) والسلاح هو السُمّ ، استلم مهامه ولده الزكي الحسن وهو الإمام الحادي عشر ضمن منظومة الأئمّة الاثني عشر المبشَّر بهم.
وهذه المنظومة في طريقها إلى الاكتمال، ولم يبقَ لشغل منصب الثاني عشر إلاَّ شخص واحد ما زال في المغيب ولا بدَّ من حضوره الا وهو الامام الحجة المنتظر عليه السلام.
لم تكن منظومة الخلفاء الاثني عشر جديدة على الدين الخاتم، فإنَّ الأديان التي سبقته ترتكز على الأعمدة الاثني عشر أيضاً، وهذا الرقم سرّ إلهي، وطلسم مغلق، وهو مفتاح الكون، وما أكثر أسرار الله التي لم تستطع العقول والأفهام _ ولو عظمت _ من استكناه مضامينها أو الوصول إلى قراراتها السحيقة.
وأقرب ما توصَّلت إليه عقولنا القاصرة أنَّ الكون يرتكز على نظام الاثني عشر، فأبراج السماء اثنا عشر، وعدد شهور السنة اثنا عشر، وأبناء إسماعيل الذبيح ابن إبراهيم اثنا عشر ، وأسباط يعقوب نبيّ الله اثنا عشر ، ونقباء بني إسرائيل الذين انتخبهم موسى بأمر ربّه أيضاً اثنا عشر ، وحواري المسيح وتلامذته أيضاً اثنا عشر .
وعليه فإنَّ هذا العدد ناموس إلهي لتطبيق الشرائع حسب التخطيط الإلهي، والإسلام غير منفرد ولا مفترق عنها، بل هو بأشدّ الحاجة إلى هذه المنظومة، لكونه خاتم الشرائع والناسخ لها، وهو الدين الخالد إلى يوم القيامة، وبرسوله ختمت رسالات السماء وانقطع الوحي الإلهي. وروي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً كلّهم من قريش) . وقد ظهر الأئمّة المذكورون الواحد تلو الآخر، طرحوا أنفسهم أمام الآخرين، وكانوا واضحين وضوح الشمس من خلال سلوكهم وعلومهم، بالرغم من وجود أعدائهم القرشيين، فلم يستطع أيّ امرئ سواء من الموالين أو المناولين إثبات أيّ شيء قد يطيح بمصداقيتهم، بل أرغموا حتَّى أعداءهم على الاعتراف الصريح بخلافتهم لرسول الله ،وهم يعلمون بالمنظومة الإلهية، وأنَّها من اثني عشر عموداً، وها هو ذا العمود الحادي عشر ماثل أمامهم حيّاً تحت الإقامة الجبرية، وقد تخلَّصوا من أبيه، فلكي لا يأتي الثاني عشر الموعود الذي يلقي الرعب في قلوبهم ولكي لا تقع الكارثة الموعودة، لا بدَّ من عزله أوّلاً عن نسائه، بالسجن بين فترة وأخرى أو زرع جواسيس وجاسوسات داخل بيته.
لقد سلَّطوا الأضواء الكاشفة على الإمام، وأحصوا عليه أنفاسه، وحجزوه عدّة مرَّات، وأرسلوا قوابلهم لتفتيش نسائه بين الحين والآخر،كل ذلك لكي يحولوا دون مجيء الامام الثاني عشر ، إنَّهم يمكرون، وإنَّ مكرهم لتزول منه الجبال، إلاَّ أنَّ مكر الله أقوى وأشدّ.(... وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (الأنفال: 30).
فحمل بالإمام الثاني عشر، وهو في قرار السيّدة الزكية النقية التقية نرجس..
لكن بأيّ كيفية؟
هنا يدخل المكر الإلهي، والتدبير الإلهي، بل المعجز الإلهي، فهو تدبير مشابه لتدبير اُمّ موسى الكليم.
كلتاهما لم يبن حملها أمام البشر، وهذا معجز إلهي، إذ أنَّ المرأة الحبلى يتبيَّن حملها أمام الأنظار بعد أشهر قلائل، إلاَّ هاتان المرأتان.. موسى الكليم في بطن يوكابد. ومحمّد المهدي في بطن نرجس.
وكلّ منهما صفع طاغوت عصره بذلك المكر الإلهي.
أسدل الحجاب على عيون جواسيس الطواغيت، لم يعرفوا أيّ شيء، وحتَّى جواسيس البلاط العبّاسي من النساء ضرب عليهنَّ فلم يعرفن أيّ شيء عن حالة السيّدة نرجس، بل إنَّ السيّدة نرجس نفسها لم تعرف بحالها كما سنرى فيما بعد.
جاء اليوم الموعود، والفجر المشهود، فجر الخامس عشر من شعبان المقدَّس.
دعوة سرّية وجّهت من أبي المولود المرتقب إلى عمَّته السيّدة الطاهرة حكيمة، وهذه السيّدة لم تقطع زياراتها المتكرّرة لابن أخيها بعد رحيل أبيه الإمام الشهيد، فهي تأتي إليه كلَّما شعرت بنضوبٍ روحي لتتزوَّد من فيضه.
كانت السيّدة نرجس في استقبال سيّدتها، أستاذتها، مربّيتها واُمّها الروحية وأرادت أن تخلع نعليها فقالت بأدب جمّ: يا مولاتي ناوليني خفّك!
قالت السيّدة حكيمة بكلّ حبّ واحترام لاُمّ الإمام المرتقب: بل أنت سيّدتي ومولاتي، والله لا أدفع إليك خفّي لتخلعيه ولا لتخدميني، بل أنا أخدمك على بصري.
أجابتها السيّدة باستحياء: ما هذا يا عمّة؟
سمع الإمام أبو محمّد قول عمَّته فقال: جزاك الله يا عمَّة خيراً.
جلست عنده تقتبس من نوره وتتزوَّد من فيضه، إلى وقت غروب الشمس، حتَّى موعد إفطارها، حينئذٍ صاحت بإحدى الجواري الموجودات في المنزل: ناوليني ثيابي لأنصرف..
قال الإمام: لا يا عمَّة بيتي الليلة عندنا، فإنَّه سيولد الليلة المولود الكريم على الله عز وجل الذي يحيي به الله الأرض بعد موتها.
فقالت (بدهشة): ممَّن يا سيّدي ولست أرى بنرجس شيئاً من أثر الحبل؟
فقال: من نرجس لا من غيرها..
فقامت إلى السيّدة نرجس وأخذت تقلّبها وتفحصها فحصاً دقيقاً، ظهراً لبطن فلم ترَ بها أثر حبل.
فعادت إليه فأخبرته بما فعلته.
فتبسَّم الإمام ثمّ قال لها: إذا كان وقت الفجر يظهر لك بها الحبل لأنَّ مثلها مثل اُمّ موسى لم يظهر بها حبل ولم يعلم بها أحد إلى وقت ولادتها، لأنَّ فرعون كان يشقّ بطون الحبالى في طلب موسى، وهذا نظير موسى.
فعادت السيّدة حكيمة إلى السيّدة نرجس فأخبرتها بقول الإمام وسألتها عن حالها ووضعها فقالت لها: يا مولاتي ما أرى شيئاً من ذلك.
مكثت السيّدة حكيمة في منزل ابن أخيها، وقد أفطرت من صيامها عند إقبال الليل، وهي متشوّقة لمعرفة ما يحصل، وأخذت تراقب زوجة ابن أخيها إلى طلوع الفجر، وهي نائمة بين يديها لا تتحرَّك، حتَّى إذا كان آخر الليل قامت السيّدتان لأداء نافلة صلاة الليل والأوراد المصاحبة لها، ثمّ رقدت السيّدة نرجس وبقيت السيّدة حكيمة تقرأ القرآن، وبعض الأدعية، وقد تردَّد في نفسها عدم حصول ذلك بالرغم من اقتراب وقت الفجر، فناداها ابن أخيها من داخل غرفته: لا تعجلي يا عمَّة.
شعرت السيّدة حكيمة بالخجل فأقبلت على الاستغفار وقراءة القرآن وتلاوة الأدعية، حتَّى إذا كان آخر وقت طلوع الفجر، وثبت السيّدة نرجس فزعة وقد شعرت بحركة الجنين في أحشائها، فأخذت السيّدة حكيمة السيّدة نرجس إلى صدرها وسمَّت عليها، فصاح بها أبو محمّد من محراب صلاته: اقرئي عليها (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).
فأقبلت تقرأ عليها كما أمرها الإمام ثمّ سألتها قائلة: ما حالك؟
قالت السيّدة نرجس: ظهر الأمر الذي أخبرك به مولاي.
ثمّ عادت وقرأت عليها سورة القدر، فإذا بالجنين يرد عليها من بطن اُمّه، ويقرأ مثلما تقرأ ثمّ سلَّم عليها، فزعت السيّدة حكيمة لما سمعت (وهالها الأمر) فصاح بها أبو محمّد: لا تعجبي من أمر الله عز وجل، إنَّ الله تبارك وتعالى ينطقنا بالحكمة صغاراً ويجعلنا حججاً في أرضه كباراً.
بعد لحظات سمعت السيّدة حكيمة أصوات التسبيح والتهليل ثمّ ظهر نور عظيم يغشي الأبصار، وغابت السيّدة نرجس عن ناظريها. وضرب بينهما بحجاب، خافت وعدت إلى الإمام أبي محمّد صارخة خائفة قال: ارجعي يا عمَّة فإنَّك تجدينها في مكانها.
رجعت إليها، فبدأ الحجاب يرتفع شيئاً فشيئاً، فإذا بالسيّدة نرجس محاطة بهالة من النور ما يغشي الأبصار، ويعمي الأنظار، وإذا بها ترى طفلاً ساجداً لوجهه جاثياً على ركبتيه، رافعاً سبابته إلى السماء وهو يقول:
أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له وأنَّ جدّي محمّداً رسول الله وأنَّ أبي (علياً) أمير المؤمنين، ثمّ أخذ يعدّ الأئمّة واحداً واحداً إلى أن وصل إلى نفسه.
ثمّ قال: اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني وأتمم عليَّ أمري وثبّت وطأتي واملأ بي الأرض عدلاً وقسطاً، ثمّ عطس فحمد الله وقال: زعمت الظلمة أنَّ حجّة الله داحضة ولو أذن لنا بالكلام لزال الشكّ.
أخذته السيّدة حكيمة وضمَّته إلى صدرها وقبَّلته، فشمَّت منه رائحة زكية عطرة، ووجدته نظيفاً متنظّفاً، فصاح الإمام أبو محمّد: هلمّي إليَّ ابني يا عمَّة.
فجاءت به إليه تحمله فوضع يديه تحت إليتيه وظهره ووضع قدميه على صدره ثمّ أدلى لسانه في فيه، ومسح بيده على عينيه وسمعه ومفاصله ثمّ قال مخاطباً ذلك الطفل الوليد: تكلَّم يا بني!
فقال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّداً رسول الله.
ثمّ أخذ يصلّي على رسول الله والأئمّة من بعده من أمير المؤمنين إلى أن وصل إلى أبيه ثمّ سكت.
ثمّ قال الإمام أبو محمّد مخاطباً السيّدة حكيمة: يا عمَّة اذهبي إلى اُمّه ليسلّم عليها (ولترضعه من صدرها) ثمّ ائتيني به.
فذهبت به إلى اُمّه فسلَّم عليها وأرضعته من صدرها، ومن ثَمَّ وضعته أمام أبيه فقال أبو محمّد:
يا عمَّة إذا كان السابع فائتينا.
ذهبت السيّدة حكية إلى دارها، إلاَّ أنَّ تلك الصورة العظيمة لم تفارق عقلها وروحها، وكانت شديدة الشوق لرؤية ذلك المولود المبارك، خاتم الأوصياء، وتاج الأولياء، وسلالة الأنبياء.
وفي اليوم السابع من الولادة المباركة ذهبت السيّدة حكيمة إلى منزل ابن أخيها الإمام وسلَّمت عليه وجلست عنده فقال لعمَّته: هلمّي إليَّ بابني.
فجاءت به السيّدة حكيمة إليه ملفوفاً في خرقة بيضاء، ففعل به كما فعل به في المرَّة الأولى وقال له: تكلَّم يا بني.
فقال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أنَّ محمّداً رسول الله.
وبعد ذلك أخذ يصلّي على محمّد وعلي وعلى الأئمّة الطاهرين من آبائه حتَّى وصل إلى أبيه فصلّى وسلَّم عليه ثمّ تلا هذه الآيات:
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَْرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص: 5 و6) .
وقال أبو محمّد: (زعم الظلمة أنَّهم يقتلونني ليقطعوا هذا النسل، فكيف رأوا قدرة الله).
المصدر: بتصرف
كتاب : شاهد العصور (الولادة والانبثاق)
تأليف: جابر الناصري
كتاب : شاهد العصور (الولادة والانبثاق)
تأليف: جابر الناصري