أمثال القرآن * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ...
قال تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالّذين آمنوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ). (1)
نزلت الآية عندما حوصر المسلمون واشتد الخوف والفزع بهم في غزوة الاَحزاب فجاءت الآية لتثبّت قلوبهم وتعدهم بالنصر.
وقيل: إنّ عبد الله بن أُبي قال للمسلمين عند فشلهم في غزوة أحد: إلى متى تتعرضون للقتل، ولو كان محمّد نبياً لما واجهتم الاَسر والتقتيل؟، فنزلت الآية.
تفسير الآية
وردت لفظة "أم" للاِضراب عما سبق و تتضمن معنى الاستفهام، و المعنى "بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة".
و (البَأساء ): هي الشدة المتوجهة إلى الاِنسان من خارج نفسه كالمال والجاه والاَهل.
و"الضرّاء": هي الشدة التي تصيب نفس الاِنسان كالجرح و القتل، وقيل:
انّ "البأساء"نقيض "النعماء"، "الضراء" نقيض "السراء" ، و"الزلزلة" شدة الحركة، و الزلزال البلية المزعجة لشدة الحركة والجمع زلازل، وأصله من قولك زلّ الشيء عن مكانه، ضوعف لفظه بمضاعف معناه، نحو صرى وصرصر، وصلى وصلصل، فإذا قلت زلزلته، فمعناه كرّرت تحريكه عن مكانه.
وقد جاء ما يقرب من مضمون الآية في آيات أُخرى، منها قال سبحانه: (وَالصّابِرينَ فِي البَأْساءِ وَالضَّرّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولئِكَ الّذينَ صَدَقُوا وَأُوْلئِكَ هُمُ المُتَّقُون ). (2)
وقال سبحانه: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون ). (3)
وقال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍ إِلاّ أَخَذْنا أَهْلَهَا بِالبَأْساءِ والضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرّعُون ). (4)
تدلُّ مجموع هذه الآيات على دوام الابتلاء والامتحان في جميع الاَُمم خصوصاً في الاَُمة الاِسلامية.
ثمّ إنّ الهدف من امتحان أبناء البشر هو تحصيل العلم بكفاءة الممتحن، لكنّه فيه سبحانه يستهدف إلى إخراج ما بالقوة من الكمال إلى الفعلية مثلاً: فانّ إبراهيم (عليه السلام) كان يتمتع بموهبة التفاني في الله و بذل ما يملك في سبيله غير انّه لم تكن لها ظهور و بروز، فلما وقع في بوتقة الامتحان ظهرت تلك الموهبة إلى الوجود بعد ما كانت بالقوة.
وما ذكرنا هو المستفاد من الآيات وقد صرح به الاِمام أمير الموَمنين (عليه السلام) في بعض خطبه: قال:
"لا يقولنّ أحدكم: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة، لاَنّه ليس أحد إلاّ و هو مشتمل على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلاّت الفتن، فانّ الله سبحانه يقول: (وَاعْلَمُوا أنّما أَموالكُمْ وَأَولادكُمْ فِتْنَة) ومعنى ذلك انّه يختبرهم بالاَموال والاَولاد ليتبيّن الساخط لرزقه والراضي بقسمه، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الاَفعال التي بها يُستحق الثواب والعقاب". (5)
إلى هنا تبين معنى مفردات الآية وسبب نزولها والآيات التي وردت في هذا الصدد في حقّ سائر الاَُمم.
إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تفسير الآية.
يقول سبحانه: إنّ الابتلاء بالبأساء والضراء سنة إلهية جارية في الاَُمم كافة ولا تختص بالاَُمة الاِسلامية، فالتمحيص وتمييز الموَمن الصابر عن غير الصابر رهن الابتلاء. فلا يتمحض إيمان المسلم إلاّ إذا غربل بغربلة الامتحان ليخرج نقياً.ولا يترسخ الاِيمان في قلبه إلاّ من خلال الصمود والثبات أمام أعاصير الفتن الهوجاء.
وكأنّ الآية تسلية لنبيه وأصحابه مما نالهم من المشركين وأمثالهم، لاَنّ سماع أخبار الاَُمم الماضية يسهّل الخطب عليهم، وانّ البلية لا تختص بهم بل تعم غيرهم أيضاً، ولذلك يقول: (أَمْ حَسِبْتُمْ )أي أظننتم وخلتم أيها الموَمنون أن تدخلوا الجنة (ولمّا يَأْتِكُمْ مَثلُ الّذين خَلوا مِنْ قَبْلِكُم )، أي أن تدخلوا الجنة ولما تبتلوا وتمتحنوا بمثل ما ابتليت به الاَُمم السالفة وامتحنوا به. فعليكم بالصبر والثبات كما صبر هوَلاء وثبتوا.وعلى ضوء هذا فالمثل بمعنى الوصف ـ وقد تقدم منّا القول ـ بأنّ من معانى المثل هو الوصف. فقوله: (وَلَما يَأْتِكُم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضراء )، أي" لمّا يأتكم وصف الذين خلوا من قبلكم" فلا يدخلون حظيرة الاِيمان الكامل إلاّ أن يكون لهم وصف مثل وصف الذين واجهوا المصائب والفتن بصبر وثبات وعانوا الكثير من القلق والاضطراب، كما قال تعالى في حقّ الموَمنين: (وَزلزلوا زِلزالاً شَديداً) ففي خضّم هذه الفتنة التي تنفد فيها طاقات البشر ، فإذا بالرحمة تنزل عليهم من خلال دعاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصالح الموَمنين.
كما قال سبحانه: (وَزلزلوا حتى يقول الرسول والّذين آمنوا معه متى نصر الله)والجملة ليست إلاّ طلب دعاء للنصر الذي وعد الله به رسله والموَمنين بهم واستدعاءً له، كما قال تعالى: (وَلَقدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُون ) (6)، وقال تعالى: (كَتَبَ اللهُ لاََََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلي ). (7)
يقول الزمخشري: ومعناه طلب الصبر وتمنّيه واستطالة زمان الشدة، وفي هذه الغاية دليل على تناهي الاَمر في الشدة، وتماديه في العظم... فإذا لم يبق للرسل صبر حتى ضجّوا، كان ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمح ورائها.
وعند ذلك يخاطبون بقوله سبحانه: (ألا إنّ نصر الله قريب) أي يقال لهم ذلك إجابة لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر. (8)
ثمّ إنّ القراءة المعروفة هي الرفع في قوله: (حَتى يَقول الرسول )، وعند ذلك تكون الجملة لحكاية حال الاَُمم الماضية . وقرىَ بنصب "يقول" و على هذا تكون الجملة في محل الغاية لما سبقها وهو قوله (مسّتهم البأساء والضراء) و (زلزلوا) ولعل القراءة الا َُولى أفضل لبعد كون الجملة غاية لمس البأساء والضراء والزلزال.
____________
1 ـ البقرة:214.
2 ـ البقرة:177.
3 ـ الاَنعام:42.
4 ـ الاَعراف:94.
5 ـ نهج البلاغة: قسم الحكم: الحكمة 93.
6 ـ الصافات:171ـ172.
7 ـ المجادلة:21.
8 ـ الكشاف:1|270في تفسير الآية.
المصدر
كتاب الاَمثال في القرآن الكريم
تأليف العلاّمة المحقّق جعفر السبحاني