بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وسلم
جُوَيْرِيّة بْنُ مِسْهِر
وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وسلم
جُوَيْرِيّة بْنُ مِسْهِر
سبقت الكوفة أخبار فيها الكثير من التشويش، وفيها الكثير من الرعب، لقد وَلِيَهَا زياد ابن أبيه من قبل معاوية. وهو يحثّ السير نحوها.
واستقبل القوم هذا النبأ بشيء من الوجوم، ماذا سيكون غَدُهُم مع هذا الوالي الجديد؟.
ولم يُطل التفكير بهم، فقد وصل زياد مدينة الكوفة وهو يحمل بين جنبَيه نفسيّة سيّده، حِقدٌ على كل شخص لا يحمل الولاء للأمويين، والطاعة لحكمهم، ومحاربة كل مَن يُظهر المحبة لعلي وآله.
وتجمّع المرتزقة حول زياد يوشون بهذا، ويتملّقون له بذاك وهو يفرش لهم مِن عوده طريقاً ملؤه الرياحين والآمال.
وعلى مقربة مِن القصر، مجلس يأوي إليه كلّ مُخْتَال نِفَاع.
قال واحد من تلك الحلقة: يا أبا طرفة هل لديك جديد للأمير؟.
حتّى الآن يا أبا كثير لم يمر على خاطري اسم جديد.
وقفز رجل مِن بينهم معتدل القامة، وقال:
لقد تذكّرت شخصاً وهو ثقيل الظل علينا ما رأيكم، يا قوم في (جويريّة بن مسهر العبدي) فصفّق أصحابه له ارتياحاً.
وفي قصر الإمارة يتربّع زياد على دكة الحكم، وحوله جمع من أعوانه ومساعديه، ويدخل الحاجب على أميره يستأذن لرجل من أهل الكوفة يطلب مقابلته على عجل.
ويدخل الرجل، وهو في هيئة مُفْتَعلة من الاهتمام، وقد لصق على شفتيه ضحكة متهرِّئة، كادتْ ـ مِن جرائها ـ أنيابه الطويلة تنطّ من وراء شعرات شارِبَيْه، ويقف بين يدي زياد.
أصلح الله الأمير: إني لك محب ولمعاوية مشفِق، ولا استطيع أنْ أكتم عنك خبراً يأكل في نفسي، كلّما رأيتُ عدوكم ينعم بالوجود.
ومسح زياد على لحيته قل يا رجل ولا تكتم.
يا أمير: إنّ في القوم رجلاً لو تتبّعتَ الجميع، وبقي هذا لما فعلت شيئاً، لقد كان يحبّه عليٌّ، ويهواه حتّى قال الناس عنه: أتراه جعله وصياً له، كما يدّعي هو الوصيّة؟.
ولم يتمالك زياد مِن أنْ يتم الرجل الحديث، بل صرخ مُحتدِمَاً، قل: يا رجل ما اسم هذا الشخص.
اسم هذا الرجل (جُوَيْرِيَّة بْن مِسْهِر العَبْدِي) وقبل أنْ تنطبق شفتاه نادى زياد مدير شرطته، والشرر يتطاير من عينيه. وأمر بإحضار الرجل على الفور.
وعرف أهالي الكوفة بطلب الأمير لجويريّة، وتحدّثوا عن مصيره ما شاء لهم الحديث، ورسموا عن مقتله صوراً شتّى، وكلُّ لِغَدِهِ مُرتقب.
وتمّ القبض على الرجل المطارَد، وانعقد المجلس في قصر الإمارة، ومِسْحة من حزنٍ تطفو عليه.
ووقف الرجل بقلب مِلْؤه الإيمان أمام زياد، وهو مشغول عنه يتحدّث مع بعض المقربين له، يعرّفه عَن مكانة جويريّة
لدى الإمام علي (عليه السلام)، وعن موقفه من الأمويين.
لقد سمع الإمام يكرر على مسمع ومرأى من الناس: يا جويريّة ((الْحَقْ بي سريعاً، ألا تعلم أني أهواك، وأُحبّك..)).
وقطب زياد جبينه، وزمّ شفتيه، وطفتْ على سِحنته سحابةٌ دَكْنَاء من غيظ، ورمقَ جويريّة بنظراتٍ طويلة، يتطاير منها الشرر والهَلَع.
ثم صرخ بوجه جويريّة، وهو يَزبد ويَرعد: نعفو عنك يا رجل، لو أعلنتَ براءتك من علي بن أبي طالب، وإنْ امتنعتَ فالسيف ينتظر رقبتك، والعذاب يبلغ أهلك..
وانتفض الأسير من هول ما سمع، ثم التفتَ إلى زياد بكل بطولة قائلاً: أبِالموت تخوّفني يا بن مرجانة، ما أثقل ما طلبتَ لا كان ذلك أبداً.
فالتفتَ إليه زياد قائلاً: إذاً فأنت مستعدّ لأنْ تنال جزائك من القتل، وعن قريب ستنال ذلك. وقبل أنْ يُنهي زيادٌ كلامه، قفز دَعِيٌّ من الجالسين، وخاطب أميره قائلاً: لو أمر الأمير أسيره جويريّة أنْ يذكر كيف اخبره صاحبه علي عن مقتله.
قال جويريّة: قال أبو الحسن: ((والله ليقتلنّك العُتُلّ الزنيم وليقطعنّ يديك، ورجلَيك، وليصلبنّك تحت جذعٍ كافر)).
فضحك زياد وقال: سنحقق قول صاحبك فيك، وإنْ عزّ علينا تصديقه، ولكنّها أبشع قتلة. خذوه يا غلمان ونفّذوا فيه ما أُريد، اقطعوا يديه، ورجليه، زيادة في تعذيبه، ثم اصلبوه على جذع، واتركوه عاريا؛ لتحرقه الشمس، إلاّ أنْ يتراجع عن قوله، فَيَدِيْن لمعاوية بالطاعة.
وسحبتْه الجلاوزة، وخيّم على المجلس ظلُّ كآبة، ودار همسٌ ثقيل بين بعض الجالسين.
شيء غريب طباع الناس. وإلى هذا الحد يبلغ الحقد في النفوس، لقد أوغل معاوية وولاته في تتبّع أصحاب علي، وقتلهم وتهديدهم..
والتفت رجل ذرف على الشيخوخة، وأضعفتْ صوتَه السنون، وقد سمع بهذه الظاهرة، فحاول أنْ يتقصّى أخبارها ودوافعها. وتحامَلَ على نفسه؛ لينهض فيصل إلى زياد، ويطيل النظر إليه، وعلائم الدهشة تبدو عليه، ويدير عينيه في المحتشدين حول الأمير، يتملّقون إليه، ويسبّحون بكلماته..
هؤلاء القوم كانوا بالأمس مع علي بن أبي طالبٍ، في صفّين وفي حرب النهروان، وفي الجمل. ما الذي أدارهم اليوم، وهم بالأمس يرون القتال في صفّ عليٍّ عبادة.
ثم تمالك على نفسه، وخاطب زياد بكل صرامة:
يا أمير: أمَا اكتفيت بالدماء التي أرقتها ظلماً من أصحاب علي، وهم بين صحابة الرسول، وتابعيه، وإذا كان لبيتِ أبي سفيان حساب مع الهاشميين فماذا ذنب هذه النفوس المؤمنة بالله ورسوله.
والله يا زياد إنّ الحساب لعسير إذا جدّ الجد، والظلم لن يدوم، وإنْ دام دمّر.. اتقِ الله أنت وسيدك في الشام من
الولوغ وراء هذه الروح الحاقدة، وسفك الدماء البريئة..
وضاق زياد بالمتحدّث، والتفتَ إلى أحد زمرته، مستفسراً مِمَّنْ الرجل؟.
ومدَّ الرجلُ عنقَه ليهمس في أُذُنِ الأمير، مِنْ مِذْجَح!! وكاد يفتك به لو لا تَدَخُّل بعض الأشخاص، الذين أشاروا عليه أنْ لا يثيرها مشاكل قبليّة فسكتَ على مضضٍ، وقطب وجهه..
وعاد الجلاد إلى مجلس زياد، وسيفه يقطر من دم الشهيد وهو يضع رأس جويريّة بين يديه، ولم يكنْ عند الوالي إلاّ خاصّته.
ورفتْ وحشةٌ على الجالسين، وأطرق زيادٌ قليلاً، ثم التفتَ إلى جلاّسه، وقال: يعجبني إخلاص أصحاب أبي ترابٍ لصاحبهم.. ليت لنا مثلهم، نُعطي ونُكرم، ونَأمر، ونُغَنِّي، ولم نملك واحداً مثل هؤلاء!!.
وتحدّث الناس في أندية الكوفة عن صمود جويريّة في سبيل عقيدته بكل تقدير وإعجاب، وعن وفاء هذا المؤمن، وما ضربه من أروع الأمثلة على ذلك..
(أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون)؟!..
المصدر:بتصرف
المكتبة الالكترنية المختصة بامير المؤمنين
(أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون)؟!..
المصدر:بتصرف
المكتبة الالكترنية المختصة بامير المؤمنين