تأثيرالاسرة والوراثة في الأخلاق
بسم الله الرحمن الرحيم
من المعلوم أنّ أوّل مدرسة لتعليم القيم الأخلاقيّة، يدخلها الإنسان هي الاُسرة، فكثيرٌ من اُسس الأخلاق، تنمو في واقع الإنسان هناك، فالمحيط السّليم أو الملّوث للاُسرة، له الأثر العميق في صياغة السّلوك الأخلاقي، لأفراد الاُسرة، إنّ على مستوى الأخلاق الحسنة أو السيئة، فالحجر الأساس للأخلاق في واقع الإنسان يوضع هناك. وتتبيّن أهميّة الموضوع، عندما يتّضح أنّ الطفل في حركته التكامليّة، ومسيرته في خط التّربية:
أولاً:يتقبّل ويتأثر بالمحيط بسرعة كبيرة.
ثانياً: إنّ ما يتعلمه الطّفل في صغره، سوف ينفذ إلى أعماق نفسه وروحه، وقد سمعنا الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، يقول فيه:
«العِلمُ فِي الصِّغَرِ كالنَّقشِ فِي الحَجَرِ»
فالطفل يستلهم كثيراً من سجايا أبيه واُمّه وإخوته وأخواته، فالشّجاعة والسّخاء والصّدق والوفاء، وغيرها من الصّفات والسّجايا الأخلاقيّة الحميدة، يأخذها ويكسبها الطّفل من الكبار بسهولة، وكذلك الحال في الرّذائل، حيث يكسبها الطّفل من الكبار بسهولة أيضاً.
وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ الطّفل يكسب الصّفات من أبويه عن طريق آخر، وهو الوراثة، فالكروموسومات لا تنقل الصفات الجسمانية فحسب، بل تنقل الصفات الأخلاقيّة أيض، ولكن من دون تدخل عنصر الإجبار، حيث تكون هذه الصّفات قابلةٌ للتغيير، ولا تسلب المسؤوليّة من الأولاد أيضاً.
وبعبارة أُخرى، أنّ الأبوين يؤثران على الطّفل أخلاقياً من طريقين، طريق التّكوين، وطريق التّشريع، والمراد من التّكوين هو الصفات والسّجايا المزاجيّة والأخلاقيّة المتوفرة في الكروموزونات والجينات، والّتي تنتقل لا إرادياً للطفل في عمليّة الوراثة. والطريق التشريعي يتمثل في إرشاد الأبناء، من خلال أساليب التّعليم والتّربية للصفات الأخلاقيّة، التي يكتسبها الطفل من الأبوين بوعي وشعور.
ومن المعلوم أنّ أيّاً من هذين الطّريقين، لا يكون على مستوى الإجبار، بل كلّ منهما يُهيّىء الأرضيّة لنمو ورشد الأخلاق في واقع الإنسان، ورأينا في كثير من الحالات أفراداً صالحين وطاهرين، لأنّ بيئتهم كانت طاهرةً وسليمةً، والعكس صحيح أيضاً. ولا شك من وجود إستثناءات في الحالتين تبيّن أنّ تأثير هذين العاملين، وهي: «التربية والوراثة»، لا يكون تأثيراً على مستوى الجَبر، بل يخضع لأدوات التّغيير وعنصر الإختيار.
ونعود بعد هذه الإشارة إلى أجواء القرآن الكريم، لنستوحي من آياته الكريمة ما يرشدنا إلى الحقيقة:
1 ـ ﴿إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُواْ إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً﴾
2 ـ ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاً﴾
3– ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾
4 ـ ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً﴾
تفسير واستنتاج:
«الآية الاُولى»: تتحدث عن نوح ودعائه على قومه بالهلاك، حيث إستدلّ على ذلك بقوله: ﴿إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُواْ إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً﴾. فهذا الكلام يدلّ على أنّ الفجار و المنحرفين، لا يلدون إلاّ الفجّار والمنحرفين، ولا يستحقون الحياة الكريمة من موقع الرّحمة، بل يجب أن ينزل عليهم العذاب أينما وجدوا وحلّو، والحقيقة أنّ البيئة، وتربية الاُسرة وكذلك الوراثة، كلّها عوامل تؤثر في الأخلاق والعقيدة، في حركة الحياة والإنسان، والمهم في الأمر أنّ نوح (عليه السلام)، قطع بكفر وفساد أولادهم اللاّحقين، لأنّ الفساد إنتشر في المجتمع بصورة كبيرة جدّ، فلا يمكن لأحد أن يفلت منه بسهولة، وطبعاً وجود مثل هذه العوامل، لا يعني سلب الإرادة من الإنسان، وقد ذهب البعض إلى أنّ نوح (عليه السلام)، توجّه لهذه الملاحظة عن طريق الوحي الإلهي، عندما قال له الباري تعالى:
﴿أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ﴾
«الآية الثانية»: يحدثنا القرآن الكريم عن السيّدة مريم (عليها السلام) ، والتي تعتبر من أهم وأبرز الشخصيات النسائية في العالم، و قد ورد في النّصوص الدينيّة، ما يبيّن أنّ مسألة التربية والوراثة والبيئة، لها أهميّة كبيرةٌ في رسم وصياغة شخصيّة الإنسان، في خطّ الحقّ أو الباطل، و لأجل تربية أفراد صالحين، يجب علينا التّوجه لتلك الأُمور.
ومن جملته، حالة الأُم في زمان الحَمل، فترى أنّ أُمّ مريم كانت تستعيذ بالله تعالى من الشّيطان الرجيم، وكانت تتمنى دائماً أن يكون من خُدّام بيت الله، بل نذرت أن يكون وليدها كذلك. فتقول الآية الكريمة:
﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾.
تشبيه الإنسان الطّاهر بالنبات الحَسن، هو في الحقيقة إشارةٌ إلى أنّ الإنسان كالنبات، يجب ملاحظته ملاحظةً دقيقةً، فالنبات ولأجل أن ينبت نباتاً حسناً مثمر، يجب في بادىء الأمر الإستفادة من البذور الصّالحة، و الإعتناء به من قبل الفلاّح في كل مراحل رشده، إلى أن يصبح شجرةً مثمرةً، فكذلك الطفل في عَمليّة التربية، حيث ينبغي التّعامل معه من منطلق الرّعاية و العناية، و تربيته تربيةً صحيحةً، لأنّ عامل الوراثة يؤثر في نفسه وروحه، و الاُسرة التي يعيش فيه، و كذلك البيئة والمحيط الذي يَتعايش معه، كلّها تمثل عناصر ضاغطة في واقعه النّفساني والمزاجي.
والجدير بالذّكر، أنّ الله سبحانه جاء بجملة: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ في ذيل الآية، وهي الكفالة لمريم (عليها السلام)، و معلوم حال من يتربى على يد نبيٍّ من أنبياء الله تعالى، بل الله تعالى هوالذي إختاره لكفالتها ورعايتها. فلا غرابة والحال هذه، أن تصل مريم (عليها السلام) لدرجات سامية، من الإيمان و التّقوى، و الأخلاق و التربية، ففي ذيل هذه الآية، يقول القرآن الكريم:
﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
نعم فإنّ التربية الإلهيّة: تُثمر الأخلاق الإلهيّة، و الرزق من الله في طريق التّكامل المعنوي للإنسان.
«الآية ا لثالثة»: خاطب الباري تعالى المؤمنين وقال لهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾. وقد تَلت هذه الآية، الآيات الّتي جاءت في بداية سورة التّحريم، والتي حذّرت فيها نساء النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أعمالهنّ، وبعدها ذكر المطلب بصورة حكم عامٍّ شمل كلّ المؤمنين.
ومن المعلوم أنّ المقصود من هذه النار، هي نار الآخرة، ولا يمكن الإتقاء من تلك النار، إلاّ بالإهتمام بعمليّة التعليم و التربية السّليمة في واقع الاُسرة، والتي بدورها توجب ترك المعاصي، والإقبال على الطّاعة وتقوى الله تعالى. وبناءً على ذلك فإنّ هذه الآية تعيّن وتبيّن وظيفة ربّ الاُسرة، ودوره في التّربية والتعليم، وكذلك تبيّن أهميّة وتأثير عنصر التربية والتعليم، في ترشيد الفضائل والأخلاق الحميدة، والسيّرة الحسنة.
ويجب الإهتمام في ترجمة هذا البرنامج، إلى عالم الممارسة والتطبيق، من أوّل لبنة توضع في بناء الاُسرة، أي منذ إجراء عقد الزّواج والرّباط المُقدس، ويجب الإهتمام بإسلوب التربية، من أوّل لحظة يولد فيها الطّفل، ويستمر البرنامج التّربوي في كلّ المراحل التي تعقبها. فنقرأ في حديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه عندما نزلت هذه الآية الشّريفة، سأله أحد أصحابه، عن كيفيّة الوقاية من النار، له ولعياله، فقال له الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):
«تَأمُرُهُم بِما أَمَرَ الله وَتَنهاهُم عَمّا نَهاهُم الله إنْ أَطاعُوكَ كنْتَ قَدْ وَقَيتَهُم وَإِنْ عَصَوكَ كُنْتَ قَدْ قَضَيتَ ما عَلَيكَ»
ويجب أن يكون معلوم، أنّ الأمر بالمعروف يعدّ من الوسائل الناجعة لوقاية الاُسرة من الإنحراف و السّقوط في هاوية الجحيم، ولأجل الوصول إلى هذا الهدف، علينا الإستعانة بكلّ الوسائل المتاحة لدين، و كذلك الإستعانة بالجوانب العملية والنفسية و الكلامية، ولا يُستبعد شمول الآية لمسألة الوارثة، فمثلاً أكل لقمة الحلال عند إنعقاد النّطفة وذكر الله، يُؤثر إيجابياً في تكوين النّطفة، وتنشئة الطّفل وحركته في المستقبل في خطّ الإيمان.
«الآية ا لرابعة والأخيرة»: تشير إلى قصّة مريم (عليها السلام) وولادتها للمسيح (عليه السلام)، الذي وُلد من دون أب، و تعجّب قومها من ذلك الأمر الفظيع بنظرهم!، فقال الباري تعالى على لسان قومها:
﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّا﴾.
فهذا التعبير، (وخصوصاً نقل القرآن الكريم من موقع الإمضاء و التأييد)، إن دل على شيء فهو يدلّ على معطيات عوامل الوراثة من الأب والاُم، وكذلك تربية الاُسرة وتأثيرها في أخلاق الطفل، وكلّ الناس لمسوا هذه الأمر بالتجربة، فإذا شاهدوا أمراً مُخالفاً للمعهود، إستغربوا وتعجّبوا.
ومن مجموع ما تقدم، يمكننا أن نستوحي هذه الحقيقة، وهي أنّ الوراثة والتربية، من العوامل المهمّة، في رسم وغرس القيم الأخلاقيّة في حركة الواقع النفسي للإنسان، إن على مستوى الأخلاق الحسنة أو السيئة.
الأخلاق والتربية في الأحاديث الإسلاميّة:
لا شكّ أنّ المدرسة الأولى للإنسان، هي واقع الاُسرة، فمنها يتعلم الإنسان الدّروس الاُولى للفضيلة أو الرذيلة. وإذا ما تناولنا مفهوم التربية بشكله العام: «التكوين والتشريع»، فإنّ أوّل مدرسة يدخلها الإنسان، هي رحم الاُم وصلب الأب، والّتي تؤتي معطيّاتها بصورة غير مباشرة على الطفل، وتهيىء الأرضيّة للفضيلة، أو الرّذيلة في حركته المستقبليّة.
وقد ورد في الأحاديث الإسلاميّة، تعبيراتٌ لطيفةٌ ودقيقةٌ جدّاً في هذا المجال، نشير إلى قسم منها:
1 ـ قال عليٌّ (عليه السلام): «حُسْنُ الأَخلاق بُرهانُ كَرَمِ الأَعراقِ»
2 ـ وقد ورد في الحديث النبوي المشهور، بالنّسبة إلى تأثير تربية الأب والاُم على الأولاد، أنّه قال:
«كُلُّ مَولُود يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ حتى يَكُونَ أَبواهُ هُمَا اللَّذانِ يُهِوِّدانِهِ وَيُنَصِّرانِهِ» .
فالتربية التي تعمل على تغيير إيمان وعقيدة الطّفل، كيف لا تعمل على تغيير سلوكه الأخلاقي في الدّائرة الاجتماعية؟ وبناءً على ذلك وعلى غيرها من الروايات، ولأجل بناء مجتمع صالح وأفراد سالمين، علينا الإهتمام بتربية الطّفل تربيةً سليمةً، والإنتباه لعوامل الوراثة وأخذها بنظر الإعتبار، في واقع الحياة الفرديّة والاجتماعيّة .
المصدر شبكة نور الاسلام الثقافية
بسم الله الرحمن الرحيم
من المعلوم أنّ أوّل مدرسة لتعليم القيم الأخلاقيّة، يدخلها الإنسان هي الاُسرة، فكثيرٌ من اُسس الأخلاق، تنمو في واقع الإنسان هناك، فالمحيط السّليم أو الملّوث للاُسرة، له الأثر العميق في صياغة السّلوك الأخلاقي، لأفراد الاُسرة، إنّ على مستوى الأخلاق الحسنة أو السيئة، فالحجر الأساس للأخلاق في واقع الإنسان يوضع هناك. وتتبيّن أهميّة الموضوع، عندما يتّضح أنّ الطفل في حركته التكامليّة، ومسيرته في خط التّربية:
أولاً:يتقبّل ويتأثر بالمحيط بسرعة كبيرة.
ثانياً: إنّ ما يتعلمه الطّفل في صغره، سوف ينفذ إلى أعماق نفسه وروحه، وقد سمعنا الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، يقول فيه:
«العِلمُ فِي الصِّغَرِ كالنَّقشِ فِي الحَجَرِ»
فالطفل يستلهم كثيراً من سجايا أبيه واُمّه وإخوته وأخواته، فالشّجاعة والسّخاء والصّدق والوفاء، وغيرها من الصّفات والسّجايا الأخلاقيّة الحميدة، يأخذها ويكسبها الطّفل من الكبار بسهولة، وكذلك الحال في الرّذائل، حيث يكسبها الطّفل من الكبار بسهولة أيضاً.
وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ الطّفل يكسب الصّفات من أبويه عن طريق آخر، وهو الوراثة، فالكروموسومات لا تنقل الصفات الجسمانية فحسب، بل تنقل الصفات الأخلاقيّة أيض، ولكن من دون تدخل عنصر الإجبار، حيث تكون هذه الصّفات قابلةٌ للتغيير، ولا تسلب المسؤوليّة من الأولاد أيضاً.
وبعبارة أُخرى، أنّ الأبوين يؤثران على الطّفل أخلاقياً من طريقين، طريق التّكوين، وطريق التّشريع، والمراد من التّكوين هو الصفات والسّجايا المزاجيّة والأخلاقيّة المتوفرة في الكروموزونات والجينات، والّتي تنتقل لا إرادياً للطفل في عمليّة الوراثة. والطريق التشريعي يتمثل في إرشاد الأبناء، من خلال أساليب التّعليم والتّربية للصفات الأخلاقيّة، التي يكتسبها الطفل من الأبوين بوعي وشعور.
ومن المعلوم أنّ أيّاً من هذين الطّريقين، لا يكون على مستوى الإجبار، بل كلّ منهما يُهيّىء الأرضيّة لنمو ورشد الأخلاق في واقع الإنسان، ورأينا في كثير من الحالات أفراداً صالحين وطاهرين، لأنّ بيئتهم كانت طاهرةً وسليمةً، والعكس صحيح أيضاً. ولا شك من وجود إستثناءات في الحالتين تبيّن أنّ تأثير هذين العاملين، وهي: «التربية والوراثة»، لا يكون تأثيراً على مستوى الجَبر، بل يخضع لأدوات التّغيير وعنصر الإختيار.
ونعود بعد هذه الإشارة إلى أجواء القرآن الكريم، لنستوحي من آياته الكريمة ما يرشدنا إلى الحقيقة:
1 ـ ﴿إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُواْ إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً﴾
2 ـ ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاً﴾
3– ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾
4 ـ ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً﴾
تفسير واستنتاج:
«الآية الاُولى»: تتحدث عن نوح ودعائه على قومه بالهلاك، حيث إستدلّ على ذلك بقوله: ﴿إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُواْ إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً﴾. فهذا الكلام يدلّ على أنّ الفجار و المنحرفين، لا يلدون إلاّ الفجّار والمنحرفين، ولا يستحقون الحياة الكريمة من موقع الرّحمة، بل يجب أن ينزل عليهم العذاب أينما وجدوا وحلّو، والحقيقة أنّ البيئة، وتربية الاُسرة وكذلك الوراثة، كلّها عوامل تؤثر في الأخلاق والعقيدة، في حركة الحياة والإنسان، والمهم في الأمر أنّ نوح (عليه السلام)، قطع بكفر وفساد أولادهم اللاّحقين، لأنّ الفساد إنتشر في المجتمع بصورة كبيرة جدّ، فلا يمكن لأحد أن يفلت منه بسهولة، وطبعاً وجود مثل هذه العوامل، لا يعني سلب الإرادة من الإنسان، وقد ذهب البعض إلى أنّ نوح (عليه السلام)، توجّه لهذه الملاحظة عن طريق الوحي الإلهي، عندما قال له الباري تعالى:
﴿أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ﴾
«الآية الثانية»: يحدثنا القرآن الكريم عن السيّدة مريم (عليها السلام) ، والتي تعتبر من أهم وأبرز الشخصيات النسائية في العالم، و قد ورد في النّصوص الدينيّة، ما يبيّن أنّ مسألة التربية والوراثة والبيئة، لها أهميّة كبيرةٌ في رسم وصياغة شخصيّة الإنسان، في خطّ الحقّ أو الباطل، و لأجل تربية أفراد صالحين، يجب علينا التّوجه لتلك الأُمور.
ومن جملته، حالة الأُم في زمان الحَمل، فترى أنّ أُمّ مريم كانت تستعيذ بالله تعالى من الشّيطان الرجيم، وكانت تتمنى دائماً أن يكون من خُدّام بيت الله، بل نذرت أن يكون وليدها كذلك. فتقول الآية الكريمة:
﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾.
تشبيه الإنسان الطّاهر بالنبات الحَسن، هو في الحقيقة إشارةٌ إلى أنّ الإنسان كالنبات، يجب ملاحظته ملاحظةً دقيقةً، فالنبات ولأجل أن ينبت نباتاً حسناً مثمر، يجب في بادىء الأمر الإستفادة من البذور الصّالحة، و الإعتناء به من قبل الفلاّح في كل مراحل رشده، إلى أن يصبح شجرةً مثمرةً، فكذلك الطفل في عَمليّة التربية، حيث ينبغي التّعامل معه من منطلق الرّعاية و العناية، و تربيته تربيةً صحيحةً، لأنّ عامل الوراثة يؤثر في نفسه وروحه، و الاُسرة التي يعيش فيه، و كذلك البيئة والمحيط الذي يَتعايش معه، كلّها تمثل عناصر ضاغطة في واقعه النّفساني والمزاجي.
والجدير بالذّكر، أنّ الله سبحانه جاء بجملة: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ في ذيل الآية، وهي الكفالة لمريم (عليها السلام)، و معلوم حال من يتربى على يد نبيٍّ من أنبياء الله تعالى، بل الله تعالى هوالذي إختاره لكفالتها ورعايتها. فلا غرابة والحال هذه، أن تصل مريم (عليها السلام) لدرجات سامية، من الإيمان و التّقوى، و الأخلاق و التربية، ففي ذيل هذه الآية، يقول القرآن الكريم:
﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
نعم فإنّ التربية الإلهيّة: تُثمر الأخلاق الإلهيّة، و الرزق من الله في طريق التّكامل المعنوي للإنسان.
«الآية ا لثالثة»: خاطب الباري تعالى المؤمنين وقال لهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾. وقد تَلت هذه الآية، الآيات الّتي جاءت في بداية سورة التّحريم، والتي حذّرت فيها نساء النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أعمالهنّ، وبعدها ذكر المطلب بصورة حكم عامٍّ شمل كلّ المؤمنين.
ومن المعلوم أنّ المقصود من هذه النار، هي نار الآخرة، ولا يمكن الإتقاء من تلك النار، إلاّ بالإهتمام بعمليّة التعليم و التربية السّليمة في واقع الاُسرة، والتي بدورها توجب ترك المعاصي، والإقبال على الطّاعة وتقوى الله تعالى. وبناءً على ذلك فإنّ هذه الآية تعيّن وتبيّن وظيفة ربّ الاُسرة، ودوره في التّربية والتعليم، وكذلك تبيّن أهميّة وتأثير عنصر التربية والتعليم، في ترشيد الفضائل والأخلاق الحميدة، والسيّرة الحسنة.
ويجب الإهتمام في ترجمة هذا البرنامج، إلى عالم الممارسة والتطبيق، من أوّل لبنة توضع في بناء الاُسرة، أي منذ إجراء عقد الزّواج والرّباط المُقدس، ويجب الإهتمام بإسلوب التربية، من أوّل لحظة يولد فيها الطّفل، ويستمر البرنامج التّربوي في كلّ المراحل التي تعقبها. فنقرأ في حديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه عندما نزلت هذه الآية الشّريفة، سأله أحد أصحابه، عن كيفيّة الوقاية من النار، له ولعياله، فقال له الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):
«تَأمُرُهُم بِما أَمَرَ الله وَتَنهاهُم عَمّا نَهاهُم الله إنْ أَطاعُوكَ كنْتَ قَدْ وَقَيتَهُم وَإِنْ عَصَوكَ كُنْتَ قَدْ قَضَيتَ ما عَلَيكَ»
ويجب أن يكون معلوم، أنّ الأمر بالمعروف يعدّ من الوسائل الناجعة لوقاية الاُسرة من الإنحراف و السّقوط في هاوية الجحيم، ولأجل الوصول إلى هذا الهدف، علينا الإستعانة بكلّ الوسائل المتاحة لدين، و كذلك الإستعانة بالجوانب العملية والنفسية و الكلامية، ولا يُستبعد شمول الآية لمسألة الوارثة، فمثلاً أكل لقمة الحلال عند إنعقاد النّطفة وذكر الله، يُؤثر إيجابياً في تكوين النّطفة، وتنشئة الطّفل وحركته في المستقبل في خطّ الإيمان.
«الآية ا لرابعة والأخيرة»: تشير إلى قصّة مريم (عليها السلام) وولادتها للمسيح (عليه السلام)، الذي وُلد من دون أب، و تعجّب قومها من ذلك الأمر الفظيع بنظرهم!، فقال الباري تعالى على لسان قومها:
﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّا﴾.
فهذا التعبير، (وخصوصاً نقل القرآن الكريم من موقع الإمضاء و التأييد)، إن دل على شيء فهو يدلّ على معطيات عوامل الوراثة من الأب والاُم، وكذلك تربية الاُسرة وتأثيرها في أخلاق الطفل، وكلّ الناس لمسوا هذه الأمر بالتجربة، فإذا شاهدوا أمراً مُخالفاً للمعهود، إستغربوا وتعجّبوا.
ومن مجموع ما تقدم، يمكننا أن نستوحي هذه الحقيقة، وهي أنّ الوراثة والتربية، من العوامل المهمّة، في رسم وغرس القيم الأخلاقيّة في حركة الواقع النفسي للإنسان، إن على مستوى الأخلاق الحسنة أو السيئة.
الأخلاق والتربية في الأحاديث الإسلاميّة:
لا شكّ أنّ المدرسة الأولى للإنسان، هي واقع الاُسرة، فمنها يتعلم الإنسان الدّروس الاُولى للفضيلة أو الرذيلة. وإذا ما تناولنا مفهوم التربية بشكله العام: «التكوين والتشريع»، فإنّ أوّل مدرسة يدخلها الإنسان، هي رحم الاُم وصلب الأب، والّتي تؤتي معطيّاتها بصورة غير مباشرة على الطفل، وتهيىء الأرضيّة للفضيلة، أو الرّذيلة في حركته المستقبليّة.
وقد ورد في الأحاديث الإسلاميّة، تعبيراتٌ لطيفةٌ ودقيقةٌ جدّاً في هذا المجال، نشير إلى قسم منها:
1 ـ قال عليٌّ (عليه السلام): «حُسْنُ الأَخلاق بُرهانُ كَرَمِ الأَعراقِ»
2 ـ وقد ورد في الحديث النبوي المشهور، بالنّسبة إلى تأثير تربية الأب والاُم على الأولاد، أنّه قال:
«كُلُّ مَولُود يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ حتى يَكُونَ أَبواهُ هُمَا اللَّذانِ يُهِوِّدانِهِ وَيُنَصِّرانِهِ» .
فالتربية التي تعمل على تغيير إيمان وعقيدة الطّفل، كيف لا تعمل على تغيير سلوكه الأخلاقي في الدّائرة الاجتماعية؟ وبناءً على ذلك وعلى غيرها من الروايات، ولأجل بناء مجتمع صالح وأفراد سالمين، علينا الإهتمام بتربية الطّفل تربيةً سليمةً، والإنتباه لعوامل الوراثة وأخذها بنظر الإعتبار، في واقع الحياة الفرديّة والاجتماعيّة .
المصدر شبكة نور الاسلام الثقافية
تعليق