بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآل محمد
وهو محاكاة أقوال الناس أو أفعالهم أو صفاتهم وخلقهم، قولا وفعلا، أو ايماء واشارة، على وجه يضحك منه. وهو لا ينفك عن الإيذاء والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص. وإن لم يكن ذلك بحضرة المستهزأ به، فيتضمن الغيبة أيضاً. وباعثه إما العداوة أو التكبر واستصغار المستهزأ به، فيكون من رذائل القوة الغضبية، أو قصد ضحك الأغنياء وتنشيط قلوبهم، طمعاً في بعض أوساخهم الملوثة، وأخذ النبذ من حطامهم المحرمة، ولا ريب في انه صفة من لاحظ له في الدين، وشيمة اراذل احزاب الشياطين، لأنهم يظهرون أكاذيب الأقوال ويرتكبون أعاجيب الأفعال، يخلعون قلائد الحرية عن الرقاب، ويهتكون استار الحياء بمرأى من أولى الألباب، يبتغون عيوب المؤمنين وعوراتهم، ويظهرون نقائص المسلمين وعثراتهم، يقلدون أفعال الاخيار على وجه يضحك الأشرار، ويحاكون صفات الأبرار على أفضح الوجوه في الانظار. ولا ريب في أن المرتكب لهذه الافعال بعيد عن الإنسانية بمراحل، ومستوجب لعقوبة العاجل وعذاب الآجل، ولا يخلو ساعة عن الصغار والهوان، ولا وقع له في قلوب أهل الإيمان، وكفاه ذماً انه جعل تلك المعاصي الخبيثة وسيلة لتحصيل المال أو الواقع في قلوب أبناء الدنيا، ويلزمه عدم اعتقاده بأن الله سبحانه هو المتكفل لأرزاق العباد.الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآل محمد
والطريق في دفعه ـ بعد التأمل في سوء عاقتبه، ووخامة خاتمته، وفيما يلزمه من الذلة والهوان في الدنيا ـ أن يبادر إلى إزالة العداوة والتكبر إن كان باعثه ذلك، وإن كان باعثه تنشيط قلوب أهل الدنيا طمعاً في مالهم، فليعلم أن لكل نفس ما قدر لها من الأموال والارزاق، يصل إليها من الله سبحانه ألبتة، فان من يتق الله ويتوكل عليه يجهل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، ويكون في الآخرة سعيداً، وان أغواه الشيطان وحثه على تحصيلها من المداخل الخبيثة، لم يصل إليه اكثر مما قدر له، وكان في الآخرة شقياً.
وليعلم أيضاً أن المتوكل على الله والمتصف بالحرية، لا يبدل التوكل والحرية بهذه الافعال لأجل الوصول إلى بعض خبائث الأموال، فليعاتب نفسه ويزجرها بالمواعظ والنصائح، ويتذكر ما ورد في الشريعة من ذم المستهزئين وتعذيبهم يوم القيامة بصورة الاستهزاء، قال الله جل شأنه:
" لا يسخر قوم من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم ".
وقال (ص): " إن المستهزئين بالناس يفتح لأحدهم باب من الجنة، فيقال: هلم هلم! فيجىء بكربه وغمه، فإذا أتى اغلق دونه ثم يفتح له باب آخر، فيقال: هلم هلم! فيجىء بكربه وغمه، فإذا أتى أغلق دونه. فما يزال كذلك حتى يفتح له الباب، فيقال له: هلم هلم فما يأتيه ". وقال ابن عباس في قوله تعالى:
" يا وليتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها".
الصغيرة: التبسم بالاستهزاء بالمؤمن، والكبيرة: القهقهة بذلك " وفيه اشارة إلى أن الضحك على الناس من الجرائم العظيمة.
ثم جميع ما ذكر إنما هو في حق من يؤذي الناس ويهينهم باستهزائه وسخريته، وأما من جعل نفسه مسخرة ويسر بأن يهزل ويسخر به، وإن كان هو ظالماً لنفسه خارجاً عن شعار المؤمنين، حيث أهان نفسه وأذلها، إلا أن سخرية الغير به من جملة المزاح، ويأتي ما يذم منه وما يحمد، وإنما المحرم منه ما يؤدي إلى ايذائه وتحقيره: بأن يضحك على كلامه إذا يخبط ولم ينتظم، أو على أفعاله إذا كانت مشوشة، أو على صورته وخلقته إذا كان قصيراً أو طويلاً أو ناقصاً بعيب من العيوب. فالضحك على جملة ذلك داخل في السخرية المنهى عنها.
وطريق علاجه ـ بعد تذكر ما تقدم ـ أن استهزاءه يوجب خزي نفسه يوم القيامة عند الله وعند الملائكة والنبيين وعند الناس أجمعين، فلو تفكر في حسرته وحيائه وخجله وخزيه يوم يحمل سيئات من استهزأ به ويساق إلى النار، لأدهشه ذلك عن إخزاء غيره، ولو عرف حقيقة حاله يوم القيامة، لكان الأولى له أن يضحك على نفسه تارة ويبكي عليها أخرى، لأنه باستهزائه به عند بعض أراذل الناس عرض نفسه لأن يأخذ بيده ذلك الغير يوم القيامة على ملأ من الناس ويسوقه تحت السياط، كما يساق الحمار، إلى النار مستهزئاً به، مسروراً يخزيه وتمكين الله تعالى اياه على الانتقام منه. فمن تأمل في ذلك، ولم يكن عدواً لنفسه، اجتنب عن السخرية والاستهزاء كل الاجتناب.
تعليق