بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وسلم
جواز القسم بغير الله -ج4 (من خلال القرآن الكريم)
(3)-القسم بلفظ الجلالةوصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وسلم
جواز القسم بغير الله -ج4 (من خلال القرآن الكريم)
حلف سبحانه تبارك و تعالى بلفظ الجلالة مرّتين ضمن آيتين من سورة النحل، وهو أعظم قسم ورد في القرآن الكريم.
قال سبحانه:
أ: ﴿وَيَجْعَلُونَ لما لا يَعْلَمُونَ نَصيباً مِمّا رَزَقْناهُمْ تَاللّهِ لَتُسْئَلُنَّعَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُون﴾.(1)
ب: ﴿تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزيَّنَ لَهُمُ الشَّيطانُ أَعْمالُهُمْ فَهُوَ وَليُّهُمُ الْيَومَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ﴾.(2)
تفسير الآية الاَُولى
دلّت الآية الاَُولى على جهل المشركين، حيث كانوا يجعلون نصيباً مما رزقوا للاَصنام التي لا تضر ولا تنفع ويتقربون بذلك إليهم، وقال سبحانه: ﴿وَيَجْعَلُونَ لما لا يَعْلَمونَ نَصيباً مِمّا رَزَقْناهُمْ تَاللّهِ لتسئلنَّ عَمّا كُنْتُمْ تفتَرون﴾.
وقد حكى سبحانه عملهم هذا في سورة الاَنعام، وقال: ﴿وَجَعَلُوا للّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاََنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا للّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلى اللّهِ وَما كانَ للّهِ فَهُو يَصِلُ إِلى شُركائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُون﴾.(3)
فالكفار لاَجل جهلهم بمبدأ الفيض كانوا يتقرّبون إلى الآلهة الكاذبة -أعني: الاَصنام والاَوثان- بتخصيص شيء مما رزقوا لها، مع أنّه سبحانه هو الاَولى بالتقرّب لا غير، لاَنّه مبدأ الفيض و ما سواه ممكن محتاج في وجوده وفعله، فكيف يتقربون إليه؟!
والعجب أنّهم يجعلون نصيباً للّه ونصيباً لشركائه، فما كان للّه فهو يصل إلى شركائهم، وما كان لشركائهم لا يصل إلى اللّه سبحانه، وقد حكاه سبحانه في سورة الاَنعام، وقال: ﴿وَجَعَلُوا للّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاََنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا للّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلى اللّهِ وَما كانَ للّه فَهُو يَصِلُ إِلى شُركائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُون﴾.(4)
وحاصل الآية: أنّهم كانوا يجعلون من الزرع والمواشي حظاً للّه وحظاً للاَوثان، وقد أسماها سبحانه ﴿شركائهم﴾، لاَنّهم جعلوا الاَوثان شركاءهم، حيث جعلوا لها نصيباً من أموالهم ينفقونه عليها فشاركوها في نعمهم.
وقد ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى ﴿فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلى اللّهِ وَما كانَ للّه فَهُو يَصِلُ إِلى شُركائِهِم﴾ وجوهاً

أوّلها: انّهم كانوا يزرعون للّه زرعاً وللاَصنام زرعاً، فكان إذا زكا الزرع الذي زرعوه للّه ولم يزك الزرع الذي زرعوه للاَصنام جعلوا بعضه للاَصنام وصرفوه إليها، ويقولون إنّ اللّه غنيّ والاَصنام أحوج؛ وإن زكا الزرع الذي جعلوه للاَصنام ولم يزك الزرع الذي زرعوه للّه لم يجعلوا منه شيئاً للّه، وقالوا: هو غني؛ وكانوا يقسمون النعم فيجعلون بعضه للّه وبعضه للاَصنام فما كان للّه أطعموه الضيفان، وما كان للصنم أنفقوه على الصنم، وهذا هو المرويّ عن الزجاج وغيره.
ثانيها: انّه كان إذا اختلط ما جُعل للاَصنام بما جُعل للّه تعالى ردّوه، وإذا اختلط ما جعل للّه بما جُعل للاَصنام تركوه، وقالوا:اللّه أغنى، وإذا تخرق الماء من الذي للّه في الذي للاَصنام لم يسدُّوه، وإذا تخرق من الذي للاَصنام في الذي للّه سدّوه، وقالوا: اللّه أغنى. عن ابن عباس وقتادة، وهو المروي عن أئمتنا "عليهم السلام".
وثالثها: انّه كان إذا هلك ما جعل للاَصنام بدَّلوه مما جعل للّه، وإذا هلك ما جعل للّه لم يبدّلوه مما جعل للاَصنام. عن الحسن والسدي.(6)
وفي الحقيقة انّهذا النوع من العمل، أي توزيع القربان بين اللّه والآلهة، كان تزييناً من شركائهم وهم الشياطين أو سدنة الاَصنام حيث زينوا لهم هذا العمل وغيره من الاَعمال القبيحة، قال تعالى: ﴿وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِكَثيرٍ مِنَ الْمُشْرِكينَ قَتْلَ أَولادِهِمْ شُركاوَُهم لِيُرْدُوهُمْ (أي ليهلكوهم بالاِغواء)وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَو شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ﴾.(7)
تفسير الآية الثانية
يقول سبحانه: ﴿تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزيّنَ لَهُمُ الشَّيطان أَعمالَهُمْ﴾ فهوَلاء كفروا وضلّوا وكذّبوا الرسل وقد زيّن الشيطان أعمالهم ﴿فهو وليّهم اليوم﴾ أي الشيطان الذي زين لهم أعمالهم فهو أيضاً يقوم بنفس هذا العمل فالولي واحد وإن كان المتولى عليه مختلفاً، وبالتالي انّ الشيطان وليهم اليوم في الدنيا يتولونه ويتبعون إغواءه ﴿ ولهم عذاب أليم﴾.
إلى هنا انتهينا من تفسير الآيتين، فلنذكر المقسم به، وجواب القسم، وما هي الصلة بينهما.
المقسم به
المقسم به في الآيتين هو لفظ الجلالة الذي جاء ذكره في القرآن الكريم حوالي 980 مرة.
وقد ذهب غير واحد من أصحاب المعاجم إلى أنّ أصله، إله، فحذفت همزته وأدخل عليه الاَلف واللام فخص بالباري تعالى، قال تعالى: ﴿فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادتِهِ هَلْتَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾.(8)
ثمّإنّ "إله" إما من أله يأله فهو الاِله بمعنى المعبود، أو من أله -بالكسر- أي تحير، لتحير العقول في كنهه.
أقول: سيوافيك بأنّالاِله ليس بمعنى المعبود، وأنّمن فسره به فقد فسره بلازم المعنى، وعلى فرض ثبوته فلفظ الجلالة علم بالغلبة وليس فيه إشارة إلى هذه المعاني من العبادة والتحيّر، وقد كان مستعملاً دائراً على الاَلسن قبل نزول القرآن تعرفه العرب في العصر الجاهلي، يقول سبحانه: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه﴾.(9) فقد أشار بلفظ الجلالة إلى خالق السماوات والاَرض دون تبادر مفهوم العبادة أو التحير منه.
وممّا يدل على كونه علماً انّه يوصف بالاَسماء الحسنى وسائر أفعاله المأخوذة من تلك الاَسماء من دون عكس، فيقال اللّه الرحمن الرحيم، أو يقال علم اللّه ورزق اللّه، ولا يقع لفظ الجلالة صفة لشيء منها، ولا يوَخذ منه ما يوصف به شيء منها، وهذا يدل على أنّه علم وليس بوصف، فيكون اسماً للذات الواجبة الوجود المستجمعة لجميع صفات الكمال، ولهذا اللفظ في جميع الاَلسنة معادل كلفظة "خدا" في لغة الفرس و"حراً" في لغة الافرنج و "تاري" في لغة الترك.(10)
جواب القسم
أمّا جواب القسم في الآية الاَُولى، فهو عبارة عن قوله: ﴿لتسئلن عمّا كنتم تفترون﴾.
كما أنّجوابه في الآية الثانية، هو قوله: ﴿لَقَدْأرْسلنا إِلى أُمم من قَبْلك﴾.
فقد أقسم سبحانه في هاتين الآيتين بلفظ الجلالة لغاية التأكيد على أمرين:
أ: انّهم مسوَولون يوم القيامة عن افترائهم الكذب.
ب: انّه سبحانه لم يترك الخلق سدى بل أرسل إليهم رسلاً، لكن الشيطان حال بينهم و بين أُممهم، وتشهد على ذلك سيرة عاد و ثمود بل اليهود والنصارى والمجوس.
ما هي الصلة بين المقسم به والمقسم عليه؟
هذا هو المهم في أقسام القرآن، وقد أُهمل في كثير من التفاسير، ويمكن أن يقال:
أمّا الآية الاَُولى، فالقسم بلفظ الجلالة لاَجل أنّ المشركين كانوا يجعلون للّه نصيباً مما زرعوا من الحرث والاَنعام، وكانوا يقولون: هذا للّه، فناسب أن يقسم به لاَجل أنّه افتراء عظيم.
وأمّا الآية الثانية، فلاَنّه جاء في ذيل جواب القسم ولاية الشيطان، كما قال: ﴿فهو وليّهم اليوم﴾ وبما انّ الولاية للّه سبحانه كما قال تعالى: ﴿هنالِكَ الولايةُ للّهِ الحق﴾(11) يس ناسب الحلف باللّه الذي هو الوليّ دونَ الشيطان، كما عليه المشركون.
الهامش
1- النحل:56.
2- النحل:63.
3- الاَنعام:136.
4- الاَنعام:136.
5- لاحظ مجمع البيان: 2|370.
6- مجمع البيان: 2|370.
7- الاَنعام:137.
8- مريم:65.
9- الزخرف:87.
10- انظر الميزان: 1|18.
11- الكهف: 44.
************************************************** *************************************************
(4)- القسم بالسماء ذات الحبك
حلف سبحانه في سورة الذاريات بأُمور خمسة، وجعل للاَربعة الاَُوَل جواباً خاصّاً، كما جعل للخامس من الاَقسام جواباً آخر، وبما انّالمقسم عليه متعدّد فصّلنا القسم الخامس عن الاَقسام الاَربعة، وعقدنا له فصلاً في ضمن فصول القسم المفرد، قال سبحانه: ﴿وَالذّارياتِ ذَرْواً / فَالحامِلاتِ وِقْراً / فَالجارِياتِ يُسْراً / فالمُقَسِّماتِ أَمراً / إِنّما تُوعَدُونَ لَصادِق / وإنّ الدِّينَ لَواقِع﴾. (1)
ترى أنّه ذكر للاَقسام الاَربعة جواباً خاصاً، أعني قوله: ﴿إِنّما تُوعدون لَصادق / وانّ الدين لواقع﴾.
ثمّ شرع بحلف آخر، وقال: ﴿وَالسَّماءِ ذات الحُبُكِ *إِنَّكُم لَفِي قَولٍ مُختَلِ﴾. (2)
فهناك قسم خامس وهو ﴿والسماء ذات الحُبك﴾ وله جواب خاص لا يمت بجواب الاَقسام الاَربعة وهو قوله:﴿إِنَّكُمْ لَفي قول مختلف﴾.
تفسير الآيات
الحبك جمع الحباك، كالكتب جمع كتاب، تستعمل تارة في الطرائق، كالطرائق التي ترى في السماء، وأُخرى في الشعر المجعد، وثالثة في حسن أثر الصنعة في الشيء واستوائه.
قال الراغب: ﴿والسَّماء ذات الحبك﴾ أي ذات الطرائق، فمن الناس من تصور منها الطرائق المحسوسة بالنجوم والمجرة.
ولعلّ المراد منه هو المعنى الاَوّل أي السماء ذات الطرائق المختلفة، ويوَيده جواب القسم، وهو اختلاف الناس وتشتت طرائقهم، كما في قوله: ﴿إنّكم لفي قول مختلف﴾، و ربما يحتمل أنّ المراد هو المعنى الثالث أي أقسم بالسماء ذات الحسن والزينة، نظير قوله تعالى: ﴿إِنّا زَيَّنا السَّماءَ الدُّنيا بزِينةٍ الكَواكِب﴾. (3)
ولكنه لا يناسبه الجواب، إذ لا يصحّ أن يحلف حالف بالاَمواج الجميلة التي ترتسم بالسحب أو بالمجرّات العظيمة التي تبدو كأنّها تجاعيد الشعر على صفحة السماء، ثمّ يقول: ﴿إِنّكم لفي قول مختلف﴾، أي إنّكم متناقضون في الكلام.
وعلى كلّ حال فالمقسم عليه هو التركيز على أنّهم متناقضون في الكلام، فتارة ينسبون عقائدهم إلى آبائهم وأسلافهم فينكرون المعاد، وأُخرى يستبعدون إحياء الموتى بعد صيرورتها عظاماً رميمة، وثالثة يرفضون القرآن والدعوة النبوية ويصفونه بأنّه قول شاعر، أو ساحر، أو مجنون، أو مما علّمه بشر، أو هي من أساطير الاَوّلين.
وهذا الاختلاف دليل على بطلان ادّعائكم إذ لا تعتمدون على دليل خاص، فانّ تناقض المدعي في كلامه أقوى دليل على بطلانه ونفاقه.
ثمّ إنّه سبحانه يقول: إنّ الاِعراض عن الاِيمان بالمعاد ليس أمراً مختصاً بشخص أو بطائفة، بل هو شيمة كل مخالف للحق، يقول: ﴿يُوَْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِك﴾. (4)
والافك: الصرف، والضمير في "عنه" يرجع إلى الكتاب من حيث اشتماله على وعد البأس والجزاء أي يصرف عن القرآن من صرف وخالف الحق.
وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه: فقد ظهر مما ذكرنا، لما عرفت من أنّمعنى الحبك هو الطرائق المختلفة المتنوعة، فناسب أن يحلف به سبحانه على اختلافهم وتشتت آرائهم في إنكارهم نبوّة النبي ورسالته والكتاب الذي أنزل معه والمعاد الذي يدعو إليه.
الهامش
1- الذاريات:1ـ 6.
2- الذاريات:7ـ 8.
3- الصافات:6.
4- الذاريات:9.
************************************************** ************************************************** *
(5)- القسم بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)
حلف القرآن الكريم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرَّتين، فتارة بعمره وحياته، وأُخرى بوصفه وكونه شاهداً، ويقع البحث في مقامين:
المقام الاَوّل: الحلف بعمر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)
حلف سبحانه بحياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّة واحدة، وقال حينما عرض قصة لوط: ﴿قالَ هوَلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلين*لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون* فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِين﴾. (1)
تفسير الآيات
أخبر سبحانه في هذه السورة أنّ الملائكة لمّا خرجوا من عند إبراهيم أتوا لوطاً يبشرونه بهلاك قومه، ولمّا حلّوا ضيوفاً عند لوط فرح الفجّار بورودهم، فقال لهم لوط مشيراً إلى بناته ﴿انّ هوَلاء بناتي﴾ "فتزوجوهنّ إن كنتم فاعلين وكانت لكم رغبة في التزويج، ولكن قوم لوط أعرضوا عمّا اقترح عليهم نبيّهم لوط وكانوا مصرّين على الفجور بهم، غافلين عن أنّ العذاب سيصيبهم واللّه سبحانه يحلف بحياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويقول: ﴿لعمركَ انَّهُمْ لَفي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون﴾ فلا يبصرون طريق الرشد ﴿فَأَخذتهُم الصَّيحة﴾ أي الصوت الهائل ﴿مشرقين﴾ أي في حال شروق الشمس.
المقسم به
المقسم به هو عبارة عن العمر، أعني في قوله: "لعمرك" يقول الراغب: العَمر والعُمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة، فإذا قيل طال عمره فمعناه عمارة بدنه بروحه، إلى أن قال: والعَمر والعُمر واحد لكن خصَّ القسم بالعَمر دون العُمر، كقوله سبحانه: ﴿لَعَمْرُكَ انَّهُمْ لَفي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون﴾.
وأما العُمُر فكما في قوله سبحانه:﴿فطالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُر﴾، وفي آية أُخرى:﴿لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُركَ سِنين﴾.
فاللفظان بمعنى واحد لكن يختص القسم بواحد منهما. (2)
المقسم عليه
هو قوله: ﴿انَّهُمْ لَفي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون﴾، والمراد أقسم بحياتك وبقائك يا محمد، انّهم لفي سكرتهم وانغمارهم في الفحشاء والمنكر متحيرين لا يبصرون طريق الرشد.
وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه.
قال ابن عباس: ما خلق اللّه عزّوجلّ وماذرأ ولا برأ نفساً أكرم عليه من محمد، وما سمعت اللّه أقسم بحياة أحد إلاّ بحياته فقال لعمرك(3) وجه الصلة أنّه سبحانه بعث الاَنبياء عامة، والنبي الخاتم خاصة لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة وإيقاظهم من السكرة التي تعمُّ الناس، وبما أنّ القوم كانوا في سكرتهم يعمهون وفي ضلالتهم مستمرون، حلف سبحانه تبارك وتعالى بعمر النبي الذي هو مصباح الهداية والدليل إلى الصراط المستقيم.
المقام الثاني: الحلف بوصف النبي وأنّه شاهد
حلف القرآن الكريم في سورة البروج بالشاهد والمشهود، وقال: ﴿وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُروج* وَالْيَومِ المَوعُودِ* وشاهدٍ وَمَشْهُودٍ* قُتِلَ أَصحابُ الاَُخدُود﴾. (4)
أمّا المشهود فسيوافيك في فصل القسم في سورة القيامة انّ المراد منه يوم القيامة بشهادة، قوله سبحانه: ﴿ذلِكَ يَومٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاس وَذلِكَ يَومٌ مَشْهُود﴾ (5)
إنّما الكلام في الشاهد، فالمراد منه هو النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) بشهادة أنّه سبحانه وصفه بهذا الوصف ثلاث مرّات، وقال:
﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾. (6)
﴿انّاأَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ﴾. (7)
﴿إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾. (8)
والآيات صريحة في حقّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي بعض الآيات عرّفه بأنّه ﴿شهيداً﴾، ويقول: ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾. (9)
﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هوَلاء﴾. (10)
هذه الآيات تعرب عن أنّ المقسم به هو النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بما انّه شاهد على أعمال أُمّته وشهيداً عليها.
سئل الحسن بن علي (عليهما السلام) عن معنى الشاهد والمشهود في قوله سبحانه: ﴿وشاهدٍ وَمَشْهُود﴾؟ فقال: أمّا الشاهد فمحمد "صلى الله عليه وآله وسلم"، وأمّا المشهود فيوم القيامة، أما سمعته يقول: ﴿إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذيراً﴾، وقال تعالى: ﴿ذلِكَ يَومٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاس وَذلِكَ يَومٌ مَشْهُود﴾. (11)
معنى الشهادة وكيفية شهادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أمّا الشهادة فقد فسرها الراغب وقال: الشهود والشهادة، الحضور مع المشاهدة امّا بالبصر أو بالبصيرة، وقد يقال للحضور مفرداً عالم"الغيب والشهادة" وقد نقل القرآن شهادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على قومه يوم القيامة، فقال: ﴿يا رَبّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرآنَ مَهْجُوراً﴾. (12)
هذه حقيقة قرآنية في حقّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيره ولا يمكن إنكارها للتصريح بها في غير واحد من الآيات، قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمّةٍ بِشَهيدٍ وَجِئْنا بِكَ على هوَُلاءِ شَهيداً﴾. (13) وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُوَذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُون﴾ (14)
وقال عزّ اسمه: ﴿وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداء﴾. (15)
والشهادة فيها مطلقة، وظاهر الجميع -على إطلاقها- هو الشهادة على اعمال الاَُمم، وعلى تبليغ الرسل كما يومىَ إليه، قوله تعالى: ﴿فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرسَلين﴾. (16)
وظرف الشهادة وإن كان هو الآخرة لكن الشهداء يتحملوها في الدنيا. قال سبحانه: ﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد﴾. (17)
وعلى ضوء ذلك يثار هذا السوَال في الذهن،وهو:
إنّ الشهادة من الحضور ولم يكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ظاهراً مع جميع الاَُمة بل كان بمعزل عنهم إلاّ شيئاً لا يذكر، فكيف يشهد وهولم يحضر الواقعة أي أفعال أُمّته قاطبة؟
وهناك إشكال آخر أكثر غموضاً وهو: انّ الشهادة على ظاهر الاَعمال ليست مفيدة يوم القيامة،بل الشهادة على باطن الاَعمال من كون الصلاة للّه أو للرياء وللسمعة، وانّ إيمانه هل كان إيماناً نابعاً من صميم ذاته، أو نفاقاً لاَجل حطام الدنيا، فهذا النوع من الاَعمال لا يمكن الشهادة عليها حتى بنفس الحضور عند المشهود عليه؟
وهذا يدفعنا إلى القول بأنّ لشهداء الاَعمال عامة والنبي الخاتم خاصة قدرة غيبية خارقة يطّلع من خلالها على أعمال العباد ظاهرها وباطنها وذلك بقدرة من اللّه سبحانه، وعلى ذلك فهذه الشهادة عبارة عن الاطلاع على أعمال الناس في الدنيا من سعادة أو شقاء،وانقياد وتمرّد، وإيمان وكفر، وأداء ذلك في الآخرة يوم يستشهد اللّه من كلّ شيء حتى من أعضاء الاِنسان، وعند ذلك يقوم النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" ويقول: ﴿يا رَبِّ إِنَّ قَوْمي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرآن مَهْجُوراً﴾.
فإذا كانت الشهادة بهذا المعنى فلا ينالها إلاّ الاَمثل فالاَمثل من الاَُمّة، لا الاَُمة بأسرها،وعلى ضوء ذلك فيكون المراد من قوله سبحانه:﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَعَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً﴾ (18) هم الكاملين من الاَُمّة لا المتوسطين وما دونهم.
وأمّا نسبة الشهادة إلى قاطبة أُمّة النبي، في قوله تعالى:﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسطاً﴾ فليس بشيء بديع، إذ ربّما يكون الوصف لبعض الاَُمّة وينسب الحكم إلى جميعهم، كما في قوله سبحانه في حقّ بني إسرائيل:﴿وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً﴾ على الرغم من أنّ الملوك فيهم لم يكن يتجاوز عددهم عدد الاَصابع.
وثمة حديث منقول عن الاِمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً﴾ يوَيد هذا المعنى"الشهادة للاَمثل":"فإن ظننت أنّاللّه عني بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين، أفترى انّمن لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب اللّه شهادته يوم القيامة، ويقبلها منه بحضرة جميع الاَُمم الماضية؟ كلا: لم يعن اللّه مثل هذا من خلقه، يعني الاَُمّة التي وجبت لها دعوة إبراهيم ﴿كنتم خير أُمّة أُخرجت للناس﴾ وهم الاَُمّة الوسطى، وهم خير أُمّة أُخرجت للنّاس". (19)
الحلف بالنبي كناية
ربّما يحلف القرآن الكريم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كناية، قال سبحانه: ﴿لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَد *وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَد * وَوالدٍ وَما وَلَد * لَقَد ْخَلَقْنَا الاِنْسانَ في كَبَد﴾. (20)
والحِلُّ بمعنى المقيم وكأنّه سبحانه يقول: وأنت يا محمد مقيم به، وهو محلك وهذا تنبيه على شرف البلد بشرف من حلّبه وهو الرسول الداعي إلى توحيده، وإخلاص عبادته، وبيان أنّ تعظيمه له وقسمه به لاَجله ولكونه حالاً فيه، كما سميت المدينة طيبة لاَنّها طابت به حيّاً وميتاً. (21)
وكأنّ الآية تشير إلى المثل المعروف شرف المكان بالمكين، وانّقداسة مكة والداعي إلى الحلف بها هو احتضانها للنبييقول العلاّمة الطباطبائي: والحل مصدر كالحلول بمعنى الاِفاضة والاستقرار في مكان، والمصدر بمعنى الفاعل، والمعنى: أقسم بهذا البلد، والحال انّك حال به مقيم فيه، وفي ذلك تنبيه على تشرّف مكة بحلوله فيها وكونها مولده ومقامه. (22)
الهامش
1- الحجر:71ـ 73.
2- المفردات: 347، مادة عمَر.
3- مجمع البيان: 3|342.
4- البروج:1ـ4.
5- هود:103.
6- الاَحزاب:45.
7- المزمل:15.
8- الفتح:8.
9- البقرة:143.
10- النحل:89.
11- البحار:1|13.
12- الفرقان:30.
13- النساء:41.
14- النحل:84.
15- الزمر:69.
16- الاَعراف:6.
17- المائدة:117.
18- البقرة:143.
19- الميزان:1|332.
20- البلد:1ـ4.
21- مجمع البيان:10|492.
22- الميزان: 20|289.
المصدر:
كتاب الأقسام في القرآن الكريم
لسماحة العلامة الشيخ جعفر السبحاني
من موقع هدى القرآن