بسم الله الرحمن الرحيـــم
وصلى الله على نبيه محمد واله الميامين
لقد بين القرآن الكريم أن الناس على قسمين فمنهم الشاكرون ومنهم الكفوريون (( إما شاكرا وإما كفورا)) ، وكما أن هناك حق وباطل فهناك شكر لأنعم الله تعالى وهناك كفر لها .
ومن الملعوم ان الكثير من الأنبياء عليهم السلام تعرضوا للأذى ، ولاسيما النبي الخاتم نبي الرحمة صلى الله عليه وآله ، فهو الذي أُذي من قبل أمته في حياته وبعدها ، سيما وأنه دعا الى دين الإسلام الذي ساوى بين الناس واعتبرهم سواسية كأسنان المشط ، فلافضل لعربيّ على أعجميّ-كل من ليس بعربيّ- إلا بالتقوى ، ولافضل لأبيض على أسود إلا بالتقوى ، وهذا مالايعجب كبار قريش إذ ساوى بينهم وبين العبيد ، ولتعارض مصالحهم مع الإسلام بدءوا بالحروب القتالية ، والحروب الفكرية من خلال بث الإشاعات ضد النبي صلى الله عليه واله .
واستمر هذا الحال بعد النبي صلى الله عليه واله في من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حيثُ تقّمصت قريش الزعامة وأبعدت وصي خاتم الإنبياء الإمام علي عليه السلام من حقه في خلافة اخيه وابن عمه رسول الله صلى الله عليه واله ، وقامت تلك الحكومة الجديدة العهد بمنع تدوين حديث الرسول صلى الله عليه وآله! ، لكي يخفوا الحقائق عن الناس ولاسيما الأجيال الناشئة توا ، وكل ذلك ليتسنى للزعماء في تلك الحكومة الإفتاء بماينسجم ومصالحهم ، فظهرت أفكار متطرفة ، ومهدت لظهور تيارات فكرية مخالفة لمحتوى الإسلام الحقيقي .
وهكذا استمرت الأفكار المخالفة مع محتوى الإسلام ، والتي تعارض أساسياته النابعة من القرآن الكريم والنبي وأهل بيته الكرام عليه وعليهم السلام ، فكان لمعاوية والأمويين والعباسيين الدور الكبير في نشر البدع ، وإخفاء الحقائق عن الناس.
ولعلّ قائل يقول : ماذا نتج عن هذا الحال أو عن هذه الأفكار والبدع المتراكمة التي بثتها الحكومات المخالفة لأهل البيت عليهم السلام ، ولاسيما في زمن العباسيين ؟؟
فالإجابة على ذلك : إن من البديهي أن تقوم تلك الحكومات المخالفة للإسلام ولأهل البيت عليهم السلام بدعم أشخاص من أصحاب الفكر المساند للسلاطين لتجعل منهم تيارات فكرية مهمتها إبعاد الناس عن روح الإسلام ومنهج أهل البيت عليهم السلام ، والغرض من ذلك هو نسف القاعدة الجماهيرية لأئمة أهل البيت عليهم السلام ،، كي لايتمكنوا من تحريك الناس بثورات عارمة لدحض الباطل المتجسد في الحكام العباسيين ، وإذن الناتج هو : نشوء تيارات تخالف رواح الإسلام.
فنشأت الكثير من التيارات الفكرية المنحرفة عن جادة الإسلام الحنيف ، ويمكن تقسيمها الى قسمين :
أ- تيارات فكرية إلحادية : تقع على عاتقها مهمة إضلال الناس وضرب الإسلام من الخارج.
ب- تيارت فكرية فقهية ذات أسس باطلة : تقع على عاتقها إبعاد الناس عن أئمىة أهل البيت عليهم السلام وضرب الإسلام من الداخل.
وفيما يرتبط بالتيارات الإلحادية فانتشرت الكثير من العقائد التي تضرب عقائد الإسلام ، ولاسيما عقيدة التوحيد، وكذلك عقائد أخرى منحرفة كعقائد كالمجبّرة والمفوضّة.
وأما فيما يرتبط بالتيارات الفكرية الفهية الباطلة ، فخير مثال عليها هو "القياس" ، حيث كان البعض يتبناه ، وحيث تصدى لهم الإمام الصـــــــــــــــادق عليه السلام فـ(ظهرت والصادق تصدى لها) ، وكان قد أثبت وأكد بطلان تلك التيارات ، وأن مصير أتباعاها يضلهم عن درب الرشاد.
وهذه بعض الأمثلة على ذلك :
أ- أكد الإمام الصادق عليه السلام لأبان أن القياس باطل ، وأنه يؤدي الى محق دين الإسلام ، فقد روي عنه أنه قال :
«يا أبان! إنّ السُنة إذا قيست محق الدين» (1) .
ب_ من المعروف أن أبا حنيفة كان يعتبر القياس مصدرا من مصادر الإستنباط ، وقد حدثت بينه وبين الإما الصادق عليه السلام عدة مواقف بين خلالها الإمام الصادق عليه السلام لأبي حنيفة بطلان القياس وحذّره منه أيّما تحذير ، وأكدّ أن أول من قاس هو أبلــــــــيس ، ونذكر هذه المحاورة :
ذكروا أنه وفد ابن شبرمة مع أبي حنيفة على الإمام الصادق (عليه السلام) فقال لابن شبرمة: «مَن هذا الذي معك؟»
فأجابه قائلاً : رجل له بصر، ونفاذ في أمر الدين.
فقال له (عليه السلام) : « لعله الذي يقيس أمر الدين برأيه؟» فأجابه: نعم.
والتفت الإمام (عليه السلام) الى أبي حنيفة قائلاً له: «ما اسمك ؟» فقال: النعمان.
فسأله (عليه السلام) : «يا نعمان ! هل قست رأسك ؟»
فأجابه : كيف أقيس رأسي؟.
فقال له (عليه السلام) : « ما أراك تحسن شيئاً. هل علمت ما الملوحة في العينين ؟ والمرارة في الاُذنين ، والبرودة في المنخرين والعذوبة في الشفتين؟>>
فبهر أبو حنيفة وأنكر معرفة ذلك ووجّه الإمام إليه السؤال التالي: « هل علمت كلمة أوّلها كفر، وآخرها إيمان ؟» فقال:لا .
والتمس أبو حنيفة من الإمام أن يوضّح له هذه الاُمور فقال له (عليه السلام) :
«أخبرني أبي عن جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إن الله تعالى بفضله ومنّه جعل لابن آدم الملوحة في العينين ليلتقطا ما يقع فيهما من القذى ، وجعل المرارة في الاذنين حجاباً من الدوابّ فإذا دخلت الرأس دابّة ، والتمست الى الدماغ ، فإن ذاقت المرارة التمست الخروج، وجعل الله البرودة في المنخرين يستنشق بهما الريح ولولا ذلك لانتن الدماغ ، وجعل العذوبة في الشفتين ليجد لذة استطعام كل شيء».
والتفت أبو حنيفة الى الإمام (عليه السلام) قائلاً : أخبرني عن الكلمة التي أوّلها كفر وآخرها إيمان ؟
فقال له (عليه السلام) : «إن العبد إذا قال: لا إله فقد كفر فإذا قال إلاّ الله فهو الإيمان » .
وأقبل الإمام على أبي حنيفة ينهاه عن العمل بالقياس حيث قال له: « يا نعمان حدثني أبي عن جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنه قال : أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال له الله تعالى : اسجد لآدم فقال: ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) » (2).
جــ- موقف الإمام الصادق عليه السلام مع القاضي الرسمي للحكومة العباسية "أبي ليلى" إذ أنه كان يفتي الناس بإعتماده على القياس :
فقد قابل أبي ليلى الإمام الصادق (عليه السلام) وكان معه سعيد بن أبي الخضيب فقال (عليه السلام) : « من هذا الذي معك ؟» قال سعيد : ابن أبي ليلى قاضي المسلمين .
فسأله الإمام (عليه السلام) قائلاً : «تأخذ مال هذا فتعطيه هذا وتفرّق بين المرء وزوجه ولا تخاف في هذا أحداً ؟!» قال:نعم .
قال : «بأيّ شيء تقضي ؟»قال: بما بلغني عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعن أبي بكر وعمر» .
قال: فبلغك أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: « أقضاكم عليّ بعدي؟» قال : نعم قال: « كيف تقضي بغير قضاء علي ، وقد بلغك هذا ؟»
وهكذا عرف ابن أبي ليلى أنه قد جانب الحق فيما حكم وأفتى به.
ثم قال له الإمام (عليه السلام) : « التمس مثلاً لنفسك ، فوالله لا اكلّمك من رأسي كلمة أبداً» (3).
.
فإذن بهذا فإن الإما الصادق عليه السلام استطاع أن بين بطلان هذه التيارات جميعها ، لأنها تخالف روح الإسلام الحق ، وتخالف أهل البيت عليهم السلام .
ولنكتف بهذا القدر
والحمد لله رب العالمين .
*****************************************
المصادر والهوامش :
(1) أعلام الهاداية عن بحار الأنوار : 104/405 عن المحاسن للبرقي .
(2) أعلام الهاداية عن اُصول الكافي: 1/58 ح 20 وعنه في بحار الأنوار : 47/226 ح 16 .
(3)أعلام الهاداية عن الاحتجاج : 2 / 102 .
تعليق