بسم الله الرحمن الرحيم
وكانت فاطمة بنت أسد تُعنى بالنبيّ صلّى الله عليه وآله عناية خاصّة وتُؤثِره على أولادها. وعُرف عنها أنّ أبا طالب لمّا أتاها بالنبيّ صلّى الله عليه وآله بعد وفاة عبدالمطّلب وقال لها:
اعلمي أنّ هذا ابنُ أخي، وهو أعزّ عِندي من نَفسي ومالي، وإيّاكِ أن يتعرّض عَلَيه أحدٌ فيما يريد.
فتبسّمت فاطمة ( بنت أسد ) من قوله، وكانت تؤثره على سائر أولادها ـ وكان لها عقيل وجعفر ـ فقالت له:
توصيني في وَلدي محمّد، وإنّه أحبُّ إليّ من نفسي وأولادي ؟!
ففرح أبو طالب بذلك .
وعلى الرغم من تصريح هذه الرواية بأنّ فاطمة بنت أسد كانت ذات أولاد عند كفالتها للنبيّ صلّى الله عليه وآله، فإنّ بعض الروايات تدلّ على أنّها لم تكن ذات ولد حينذاك، وأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله رأى رغبتها في الولد، فقال لها:
يا أُمّه، قرِّبي قُرباناً لوجه الله تعالى خالصاً، ولا تُشركي معه أحداً، فإنّه يرضاه منكِ ويتقبّله ويُعطيك طلبتَكِ ويُعجّله، فامتثلتْ فاطمة أمره وقَرَّبتْ قرباناً لله تعالى خالصاً، وسألَتْهُ أن يرزقها لداً ذَكَراً، فأجاب الله تعالى دعاءها
ويمكن الجمع بين هاتين الروايتين بأنّ كلام النبيّ صلّى الله عليه وآله قد تقدّم على زمن كفالة أبي طالب له صلّى الله عليه وآله، وينبغي الالتفات إلى أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله كان يَكبُر أميرَ المؤمنين عليه السّلام بثلاثين عاماً، ممّا يستوجب أن يكون عمره مماثلاً لعمر طالب ولد أبي طالب، ولابدّ إذاً أن يكون عقيل وطالب ـ على أقلّ تقدير ـ قد وُلدا في زمن كفالة فاطمة بنت أسد رسولَ الله صلّى الله عليه وآله.
وعلى أيّ حال ـ فقد اعتَنَت فاطمةُ بنت أسد بالنبيّ صلّى الله عليه وآله عناية فائقة، وأولَتْه رعايتها وحبّها، وكانت تُؤثِره على أولادها في المطعم والملبس. وقد أشار الإمام الصادق عليه السّلام إلى ذلك بقوله: « كانت ( فاطمة بنت أسد ) مِن أبَرِّ الناسِ برسول الله صلّى الله عليه وآله »
وكانت تغسّله وتدهن شَعره وتُرجّله، وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله يحبّها ولا يناديها إلاّ بـ « أمّي »
فلمّا جاءه أميرُ المؤمنين عليه السّلام مضطرباً بعد ذلك بسنين، سأله النبيّ صلّى الله عليه وآله عمّا به، فقال: أمّي ماتت. قال: فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: وأمّي واللهِ، ثمّ بكى وقال: وا أمّاه!
وينبغي أن لا ننسى أنّ لعلائم النبوّة التي كانت فاطمة بنت أسد تشاهدها في محمّد صلّى الله عليه وآله وهو صبيّ صغير، الأثرَ الكبير في المحبّة الخاصّة التي انطبعت في قلب فاطمة، ممّا جعلها تكثر إكرامه ورعايته. ومن تلك العلامات والكرامات: ما شاهدته في بستان دارها.
قالت: كان في بستان دارنا نَخلات، وكان أوّل إدراك الرُّطَب، وكان أربعون صبيّاً من أتراب محمّد صلّى الله عليه وآله يدخلون علينا كلّ يوم في البستان ويلتقطون ما يسقط، فما رأيت قطّ محمّداً أخذ رُطبةً من يدِ صبيّ سَبَقَ إليها، والآخرون يختلس بعضُهم من بعض. وكنتُ كلّ يوم ألتقط لمحمّد صلّى الله عليه وآله حَفنةً فما فوقَها، وكذلك جاريتي. فاتّفق يوماً أن نَسيتُ أن ألتقط له شيئاً ونَسِيَتْ جاريتي، وكان محمّد صلّى الله عليه وآله نائماً، فدخل الصِّبيان وأخذوا كلّ ما سقط من الرطب وانصرفوا، فنمتُ ووضعتُ الكُمّ على وجهي حياءً من محمّد إذا انتبه.
قالت: فانتبه محمّد ودخل البستان، فلم يَرَ رطبةً على الأرض فانصرف، فقالت له الجارية: إنّا نَسِينا أن نلتقط شيئاً، والصِّبيان دخلوا وأكلوا جميع ما سقط.
قالت: فانصرف محمّد صلّى الله عليه وآله إلى البُستان، وأشار إلى نخلة وقال: أيّتها الشجرة أنا جائع. قالت: فرأيتُ الشجرة قد وَضَعتْ أغصانَها التي عليها الرُّطب حتّى أكل منها محمّد صلّى الله عليه وآله ما أراد، ثمّ ارتفعتْ إلى موضعها
رؤيا صادقة
بعد كفالتها لرسول الله صلّى الله عليه وآله رأت فاطمة بنت أسد ذات ليلة رؤيا عجيبة صادقة قالت: «... رأيتُ في منامي كأنّ جبال الشام قد أقبلَتْ تَدِبّ وعليها جَلابيبُ الحديد. وهي تصيح من صدورها بصوتٍ مهيب، فأسرَعَتْ نحوها جبالُ مكّة وأجابَتْها بمِثل صياحها وأهْوَل، وهي تتهيّج كالشَّرر المحمرّ، وأبو قُبيَس ينتفض كالفَرَس، وفصاله ( أي قِطَعه ) تسقط عن يمينه وشماله، ( والناس ) يلتقطون ذلك، فلقطتُ معهم أربعة أسياف وبيضةَ حديدٍ مُذَهّبة، فأوّل ما دخلتُ مكّة سقط منها سيفٌ في ماء فغيّر وطار، و( طار ) الثاني في الجوّ فاستمرّ، وسقط الثالث إلى الأرض فانكسر، وبقي الرابع في يدي مسلولاً. فبينا أنا به أصول، إذ صار السيف شِبلاً ( الشبل: ابن الأسد )، فتبيّنته فصار ليثاً مَهُولاً، فخرج عن يدي ومرّ نحو الجبال يَجوب بلاطمها، ويخرق صلاطحها والناس منه مُشفِقون ومِن خوفه حَذِرون، إذ أتى محمّدٌ فقبض على رقبته، فانقادَ له كالظَّبية الألُوف. فانتبهتُ وقد راعَني الزمع والفزع، فالتمستُ المفسّرين وطلبتُ القائفين والمُخبِرين، فوجدتُ كاهناً زَجَر لي بحالي وأخبرني بمنامي، وقال لي: أنتِ تلدين أربعة أولاد ذكور وبنتاً بعدهم، وإنّ أحد البَنين يَغرَق ، والآخر يُقتَل في الحرب ، والآخر يموت ( بعد أن يُعمّر ) ويبقى له عَقِب والرابع يكون إماماً للخلق صاحب سيفٍ وحق ذا فضلٍ وبراعة، يُطيع النبيَّ المبعوثَ خير طاعة
وقد تحققت هذه الرؤيا الصادقة، وأثمرت هذه الشجرة الطيّبة ـ التي قوامها رجلٌ مؤمن موحّد وامرأة مؤمنة موحّدة ـ ثمارها، فقد رزقهما الله تعالى أربعة أولاد، هم: طالب، ثمّ عقيل، ثمّ جعفر، ثمّ عليّ عليه السّلام؛ وابنتَين هما فاختة وتلقّب بـ « أمّ هانئ » وجُمانة.
وأم هانئ هي زوجة أبي وهب هبيرة بن عمرو بن عامر المخزومي، وكانت لها منزلة كبيرة عند النبيّ صلّى الله عليه وآله، وقد شَفَعت عام الفتح لجماعة، فشفّعها النبيّ صلّى الله عليه وآله فيهم أمّا جُمانة ـ أو أسماء، أو رَيطة ـ فهي زوجة سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب .
.
تعليق