بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد واله الطيبين الطاهرين
والصلاة والسلام على محمد واله الطيبين الطاهرين
الناس بين منهمك في الدنيا خائض في لذاتها وشهواتها،وبين تائب مبتدئ وعارف منته،
فالاول :لايذكر الموت ،وان ذكره فيذكره ليذمه لصده عما يحبه من الدنيا ،وهذا يزيده الموت بعدا من الله.
والثاني : يكثر ذكر الموت لينبعث من قلبه الخوف والخشية، فيفي بتمام التوبة،
واما الثالث :فأنه يذكر الموت دائما،وهذا في غالب الامر يستبطئ مجئ الموت ويحب مجيئه.
الحمد لله رب العالمين الذي كتب على كل نفس أنها ذائقة الموت، وأنَّا إليه راجعون، وجعل ذلك حقيقة يسلّم بها كلُّ البشر، ويستسلمون للموت الذي لا محالة أنَّه واقع بنا شئنا أم أبينا، وافقنا أم رفضنا.ذلك أنَّ الموت أمر يُقر به كلُّ العقلاء حتى ولو لم يكونوا مؤمنين، لاعتقادهم أنَّ كلَّ حي له نهاية حتمية... وأنَّ الوقت الذي يمر، ودون توقف، يُعجِّل بنا إلى أجلنا ولا يمهلُنا لآنٍ محدود، ولا هنيهة بسيطة، لنلتقط أنفاسنا... فيعمل بنا وإن لم نعمل به... بل إنَّ الوقت يعمل بنا حتى ولو كُنَّا نائمين...
والإنسان عبر التاريخ يقف عاجزاً أمام هذه الحقيقة اليقينية، المسرعة به إلى أجله، الحاملة له إلى مصيره، والتي لا تقيم وزناً لظروفه الخاصة، أو تقصيره العظيم أو استغاثته اللاهفة، فها هي اللحظات تمر بسرعة، وكذلك الساعات... وتتبعها الليالي والأيام والسنون... فيتهاوى صرح العمر وإن كان عظيماً، ويذوب وإن كان كبيراً كما يذوب الملح في الماء.
لذلك اعتُبِر الواحد منَّا في حالة سفر دائمةٍ لا تتوقَّف... وبناءً على هذا كُلَّما زاد العمر ساعة كُلَّما اقترب المرء من أجله بقدرها... وكُلَّما مضت لحظة من لحظات حياته كُلَّما نقص من أجله لحظة... ولهذا اعتبر العمر قصيراً مهما كان طويلاً، ما دامت رحلة الألف ميل قد بدأت، والعد العكسي ينذر بالانتهاء.
ولعلَّ أفضل من عبَّر عن هذه الحالة الشعورية الحسَّاسة التي تنال كلّ إنسان، منفرداً على حدة، في أثمن ما يملك، وما لا يعوَّض أبداً... أفضل من عبَّر عن ذلك أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "نَفَسُ المرء خُطاه إلى أجله".
فكأني به عليه الصلاة والسلام يشبِّه النفس الضروريَّ لحياة كل إنسان، والذي لا بدَّ منه، يشبّهه بخطوة الماشي الذي يقترب إلى مقصده، كُلَّما تقدم خطوة إلى الأمام، وحيوان مفترس وراءه... فهو من جهة لا يستطيع التوقف... ومن جهة أخرى لا يستطيع تضييع الوقت... ومن جهة ثالثة يرى أنَّه دائماً يقترب من أجله أكثر... وبتعبير أدق: يقترب من نهاية عمره أكثر...
وفي مثل هذه الحالات، لا يستطيع الإنسان أن يغض الطَرْف أو ينسى، أو يغفل عن المآل والمصير...
فالناس الذين كانوا معنا، في المجالس والأعمال والأفراح... من الأهل والجيران والأصحاب والأحباب، والأجداد والجدات... كلهم فارقونا اليوم...
فما من واحد منَّا إلاَّ وله عزيزٌ على الأقل خطفه الموت فجأة... فإذا بنا نتذكّر الكلمات والجلسات، والمواقف والأعمال، والقصص والابتسامات... ونعلم لا شعورياً بأننا به لاحقون، وإن لم نتهيّأ لذلك، ولم نستعدَّ كما ينبغي، لأن اللهو والعبث واللعب والطمع تبقى هي الأقوى والأكثر جاذبية في هذه الدُّنيا وعند النَّفس الأمَّارة بالسوء والغفلة.
ولنا أن نتساءل: هل أن طمعنا بالدنيا يغنينا ويُسعدنا ويُبعِّد الأجل؟
وهل أن غفلتنا عن الآخرة وخصوص الموت، تجعله يغفل عنَّا؟
أعتقد أننا جميعاً نعرف الجواب الصحيح الواضح... وللتوضيح أكثر، نستمع إلى وصية علي عليه السلام في نهج البلاغة، قائلاً: "أوصيكم بذكر الموت، وإقلال الغفلة عنه، وكيف غفلتْكُم عمَّا ليس يُغْفِلكم، وطمعكم فيمن ليس يُمْهِلكم، فكفى واعظاً بموتى عاينتموهم". أي شاهدتموهم ورأيتموهم.
والمؤمن الملتفت إلى مصيره وآخرته، وإلى الثواب والعقاب، لا يسهو عن الموت وعن ذكره، والتأدب به، والشعور بالمراقبة، والحيطة والحذر في كل قول وفعل... وهذه الحالة إن وقعت، تؤثر على حياته بتفاصيلها وجزئياتها، وتؤثر على آخرته أيضاً، إن لم تكن هي الصانعة لمصيره.
فها هو الحبيب المصطفى صلَّى الله عليه وآله وسلَّم سيِّد الخلق أجمعين، يعظ أصحابه، بالإكثار من ذكر الموت، ويُطلق عليه اسم هادمِ اللذات، مع ما يحمل هذا الإطلاق من معانٍ ودلالات وإشارات... وعندما يُسأل صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: وما هادم اللذات يا رسول الله؟... يقول: الموت، فإن أكيس المؤمنين أكثرهم ذِكراً للموت، وأشدُّهم له استعداداً.
فمن أراد القناعة، عليه بذكر الموت... ومن أراد الغِنى، عليه بذكر الموت، ومن كثرت عليه الهموم عليه بذكر الموت، ومن ضاقت الدنيا به عليه بذكر الموت، ومن أراد الزّهد بالدُّنيا عليه بذكر الموت، ومن أراد تهذيب نفسه، وسعى في تأديبها، ومن أراد الورع والتقوى والخشية، ومن رغب في الشجاعة والإقدام، ومن اشتاق للقاء ربّه سبحانه، ولم يَعُدْ يصبر على البعد عن الأحبَّة محمَّدٍ وآله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم... فعلى كل هؤلاء أن يُكثروا من ذكر الموت...
ومن طلَّق الدُّنيا، أو أراد ذلك، ومن سعى للإخلاص في نيّته، ورغب في إماتة شهوته، وتقوية قلبه، وأرهقته ذنوبه، وأتعبته نفسه، وشقَّت عليه مصائب الزمان... ومن أراد الراحة بلقاء ربّه فعليه بذكر الموت، فقد روي عن الصادق عليه السلام قوله: "ذكر الموت يميت الشهوات في النَّفس، ويقلع منابت الغفلة، ويقوّي القلب بمواعد الله، ويُرِقُّ الطبع، ويكسِرُ أعلام الهوى..."[1].
وروي عن علي عليه السلام: "من ذكر الموت رضي من الدُّنيا باليسير".
وفي الزبور: "من فزَّع نفسه بالموت هانت عليه الدُّنيا".
وهكذا، فإنَّ المؤمن هذا، تُصبح نظرته للدنيا نظرة أخرى، ويُصبح إنساناً آخر في نظرته للأمور والمواقف، والجهاد والعز، والنصر والهزيمة، والمصائب والمال، والمتاع والزوجة والقضاء والقدر... بل إنَّ نظرته لما يدور حوله تختلف أيضاً، في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية... فيرى الأمور مجدداً من خلال شوقه للقاء ربّه، ومن خلال آخرته... لا بمنظار الدنيا القاصر المحدود... فيشعر بمنتهى الاطمئنان والسكينة والراحة، فلا خوف ولا وجل ولا هلع ولا قلق من المستقبل والناس... فغاية الأمور إلى الموت، وهو مشتاق إليه قد حَسَب حسابه، وتأهّب له.
وختاماً: هل من متّعظ بهذه الموعظة؟ وهل من مستعدٍّ لهذه اللحظة؟ لحظة الفراق التي تنتظرنا جميعاً، عاجلاً أم آجلاً..
والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على محمد اله الطيبين الطاهرين
والصلاة والسلام على محمد اله الطيبين الطاهرين
المصدر:
سبيل الرشاد - السيد سامي خضرة
جامع السعادات-للشيخ محمد مهدي النراقي
تعليق