بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد

منذ صغري وانا اتبع امي .. ممسكة بطرف عباءتها السوداء وهي تدور مع جاراتها على مجالس العزاء الحسينية وهناك تجلس النساء متلفعات بعباءتهن وقد علاهن الحداد ظاهرا وباطنا .
كنت اجلس محاذية لها ، بل أكاد أكون خلفها كي لاتخرجني إحدى مُضَيفاتها مع الأطفال .
وماأن تبدأ (الملة) بقراءة تراتيل الأحزان وتبدأ معها النسوة بضرب صدورهن ووجوههن
اتجرا وأخرج قليلا من خلف فأميل لاجلس محاذية لهن وانا انظر لوجه امي تكسوه هالة سرمدية عجيبة من الحزن والألم لا أكاد أراها على وجهها إلا في تلك الأيام .
وحين تبدأ (الملة) بتلاوة أبيات الشعر الشعبي وهي تتحدث عن قصص وحوادث بين شخوص وأبطال تلك القصة المؤلمة بصوت شجي .. تبدأ دموع امي بالانهمار وتأخذها نوبات تشنجية تنتفض خلالها منشدة حزنها والمها فتضرب جبهتها المغطاة في العباءة .. وتضرب صدرها مرة تلو أخرى فاشعر بالاسى عليها وأكره هذه الناعية التي سببت هذا الحزن لأمي واغضب على أبطال تلك القصة الذين احزنوها وجعلوها تبكي هكذا ، فازيح غطاء وجهها واكاد ابكي وأقول لها .. اماه .. مالك تبكين ..؟!
فتجيبني وهي تمسح باحدى يديها دموعها .. لآ تخافي ياابنتي انا ابكي على أبي عبدلله المظلوم .
وماأن تذكر اسمه حتى تختنق يعبرتها وتبكي فأبكي لبكاءها .
مرت الأعوام وتلك المجالس تعاد في كل عام على مدى أربعين يوماً ، وكنت ارافق امي واجلس بقربها أحيانا وبعيدا عنها أحيانا أخرى فأشاهدها وهي تبكي حتى قبل أن تبدأ الناعية بتلاوة تراتيلها .
لم أعد أشفق على امي بل كنت اهنئها على سجيتها وعلى حبها الفطري للحسين (عليه السلام) وكنت أبكي لا لبكاءها هذه المرة بل أتأثر بما أصاب أهل هذا البيت (عليهم السلام) ثم أخذت أحلل الأبيات الشعرية التي اسمعها وأستعذب مافيها من صور شعرية وتفانين بلاغية وأخذت أتساءل : لم تبكي ؟
(الرجل حر ، أبيّ ، رفض الخضوع ، أبى الهوان ، وهو أبن الأسياد الذي لم يذعن لعبيد الدنيا ،
وهذا أمر لآ يستدعي البكاء ، بل الفخر له ولاهل بيته)
، ولم تقنعني إجابتي فما أن أستمع لصوت شجي يذكر اسم الحسين (عليه السلام) حتى تنهمر دموعي دون توقف..!
وأعود لأتساءل أكان سبارتكوس عارفا بأمر الحسين (عليه السلام) ؟
اباءه ؟ عظمته ؟
عندما رفض الذل والخضوع لطغاة روما ؟
أوكان روبن هود (الأسطورة) على علم بوجود رجل حر في النصف الآخر من الأرض إسمه الحسين ؟
واجيب : لم يكونا يعلمان .
ولربما الكثير من الأحرار في الدنيا لايعرفون الحسين (عليه السلام) لكنهم حتماً يدركونه بضمائرهم .. ولا أشك أن أيّ منهم لو عرف الحسين (عليه السلام) أو سمعَ به لتمنّى أن يكون من أتباعه .
..حقيق بنا أن نفرح ونبتهج لما قدمه الحسين (عليه السلام) من أجلنا ..
ولكن.. لا سبيل لذلك لأن المأساة أكبر من فرحنا بثورته السرمدية.. فالإيثار يُبْكينا.. ووفاءه يُبْكينا.. تضحيته.. و .. طفل يُذْبَحُ من الوريد إلى الوريد ...
اليوم عندما أذهب إلى مجالس العزاء يلتسق بي ولدي .. وماان يرى دموعي ، ويستمع لنشيجي حتى يسألني بصوت خنقته العبرة : أماه .. مالك تبكين ؟
فاجيبه : لا تخف ياولدي انا ابكي على أبي عبدلله المظلوم
وماأن أنطق بالإسم حتى تنهمر دموعي
... كما كانت امي ...
دمتـــــــم بخيـــــــر
تعليق