بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد واله الطيبين الطاهرين
يتفق المفسرون الكبار على أن الآيات الأولى من هذه السورة نزلت في أعقاب الحرب التي دارت بين الروم والفرس، وانتصر الفرس على الروم، وكان النبي حينئذ في مكة، والمؤمنون يمثلون الأقلية. فاعتبر المشركون هذا الانتصار للفرس فألا حسنا، وعدوه دليلا على حقانية المشركين و " الشرك "، وقالوا: إن الفرس مجوس مشركون، وأما الروم فهم مسيحيون " نصارى " ومن أهل الكتاب.. فكما أن الفرس غلبوا " الروم " فإن الغلبة النهائية للشرك أيضا، وستنطوي صفحة الإسلام بسرعة ويكون النصر حليفنا. وبالرغم من أن مثل هذا الاستنتاج عار من أي أساس، إلا أنه لم يكن خاليا من التأثير في ذلك الجو والمحيط للتبليغ بين الناس الجهلة، لذلك كان هذا الأمر عسيرا على المسلمين. فنزلت الآيات الآنفة وقالت بشكل قاطع: لئن غلب الفرس الروم ليأتين النصر والغلبة للروم خلال فترة قصيرة. وقد حددت الفترة لانتصار الروم على
الفرس في بضع سنين. وهذا الكلام السابق لأوانه، هو من جهة دليل على إعجاز القرآن، هذا الكتاب السماوي الذي يستند علمه إلى الخالق غير المحدود، ومن جهة أخرى كان فألا حسنا للمسلمين في مقابل فأل المشركين، حتى أن بعض المسلمين عقدوا مع المشركين رهانا على هذه المسألة المهمة، ولم يكن في ذلك الحين قد نزل الحكم بتحريم مثل هذا الشرط
ومع التدقيق يتضح أن هذا البحث يتحدث عن عظمة القرآن الكريم لأن هذا الخبر الغيبي المرتبط بالمستقبل هو من دلائل إعجاز القرآن، وعظمة هذا الكتاب السماوي!. يقول القرآن غلبت الروم في أدنى الأرض وهم قريب منكم يا أهل مكة، إذ أنهم في شمال جزيرة العرب، في أراضي الشام في منطقة بين " بصرى " و " أذرعات ". ومن هنا يعلم بأن المراد من الروم هنا هم الروم الشرقيون، لا الروم الغربيون. ويرى بعض المفسرين كالشيخ الطوسي في تفسير " التبيان " - أن من
المحتمل أن يكون المراد بأدنى الأرض المكان القريب من بلاد فارس، أي إن المعركة وقعت في أقرب نقطة بين الفرس والروم. وبالطبع فإن التنبؤ عن انتصار البلد المغلوب خلال بضع سنين في المستقبل، له أهمية أكبر، إذ لا يمكن التوقع له إلا عن طريق الإعجاز. ثم يضيف القرآن: وهم من بعد غلبهم سيغلبون وهم أي الروم. ومع أن جملة " سيغلبون " كافية لبيان المقصود، ولكن جاء التعبير من بعد غلبهم بشكل خاص لتتضح أهمية هذا الانتصار أكثر، لأنه لا ينتظر أن تغلب جماعة
مغلوبة وفي أقرب حدودها وأقواها في ظرف قصير، لكن القرآن يخبر بصراحة عن هذه الحادثة غير المتوقعة. ثم يبين الفترة القصيرة من هذه السنين بهذا التعبير في بضع سنين والمعلوم أن " بضع " ما يكون أقله الثلاث وأكثره التسع.
وإذا أخبر الله عن المستقبل، فلأنه لله الأمر من قبل ومن بعد. وبديهي أن كون الأشياء جميعها بيد الله - وبأمره وإرادته - لا يمنع من اختيارنا في الإرادة وحريتنا وسعينا وجهادنا في مسير الأهداف المنظورة. وبتعبير آخر: إن هذه العبارة لا تريد سلب الاختيار من الآخرين، بل تريد أن توضح هذه اللطيفة، وهي أن القادر بالذات والمالك على الإطلاق هو الله، وكل من
لديه شئ فهو منه!. ثم يضيف القرآن، أنه إذا فرح المشركون اليوم بانتصار الفرس على الروم فإنه ستغلب الروم ويومئذ يفرح المؤمنون. أجل، يفرحون بنصر الله... ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. ولكن ما المراد من فرح المؤمنون؟!
قال جماعة: المراد منه فرحهم بانتصار الروم، وإن كانوا في صفوف الكفار أيضا، إلا أنهم لكونهم لديهم كتاب سماوي فانتصارهم على المجوس يعد مرحلة من انتصار " التوحيد " على " الشرك ". وأضاف آخرون: إن المؤمنين إنما فرحوا لأنهم تفائلوا من هذه الحادثة فألا حسنا، وجعلوها دليلا على انتصارهم على المشركين. أو أن فرحهم كان لأن عظمة القرآن وصدق كلامه المسبق القاطع - بنفسه - انتصار معنوي للمسلمين وظهر في ذلك اليوم. ولا يبعد هذا الاحتمال وهو أن انتصار الروم كان مقارنا مع بعض انتصارات المسلمين على المشركين، وخاصة أن بعض المفسرين أشار إلى أن هذا الانتصار
كان مقارنا لانتصار بدر أو مقارنا لصلح الحديبية. وهو بنفسه يعد انتصارا كبيرا، وخاصة إن التعبير بنصر الله أيضا يناسب هذا المعنى. والخلاصة: إن المسلمين " المؤمنين " فرحوا في ذلك اليوم لجهات متعددة:
١ - من انتصار أهل الكتاب على المجوس، لأنه ساحة لانتصار الموحدين
على المشركين.
٢ - من الانتصار المعنوي لظهور إعجاز القرآن.
٣ - ومن الانتصار المقارن لذلك الانتصار، ويحتمل أن يكون صلح الحديبية، أو بعض فتوحات المسلمين الأخر!.
ولزيادة التأكيد يضيف أيضا وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون والسبب في عدم علم الناس، هو عدم معرفتهم بالله وقدرته،فهم لم يعرفوا الله حق معرفته، فهم لا يعلمون هذه الحقيقة، وهي أن الله محال عليه أن يتخلف عن وعده، لأن التخلف عن الوعد إما للجهل، أو لأن الأمر كان مكتوما ثم اتضح وصار سببا لتغيير العقيدة، أو للضعف وعدم القدرة، إذ لم يرجع الذي وعد عن عقيدته لكنه غير قادر، لكن الله لا يتخلف عن الوعد، لأنه يعرف عواقب
الأمور، وقدرته فوق كل شئ.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد واله الطيبين الطاهرين
المصدر //
تقسير الامثل/اللهم صل على محمد واله الطيبين الطاهرين
يتفق المفسرون الكبار على أن الآيات الأولى من هذه السورة نزلت في أعقاب الحرب التي دارت بين الروم والفرس، وانتصر الفرس على الروم، وكان النبي حينئذ في مكة، والمؤمنون يمثلون الأقلية. فاعتبر المشركون هذا الانتصار للفرس فألا حسنا، وعدوه دليلا على حقانية المشركين و " الشرك "، وقالوا: إن الفرس مجوس مشركون، وأما الروم فهم مسيحيون " نصارى " ومن أهل الكتاب.. فكما أن الفرس غلبوا " الروم " فإن الغلبة النهائية للشرك أيضا، وستنطوي صفحة الإسلام بسرعة ويكون النصر حليفنا. وبالرغم من أن مثل هذا الاستنتاج عار من أي أساس، إلا أنه لم يكن خاليا من التأثير في ذلك الجو والمحيط للتبليغ بين الناس الجهلة، لذلك كان هذا الأمر عسيرا على المسلمين. فنزلت الآيات الآنفة وقالت بشكل قاطع: لئن غلب الفرس الروم ليأتين النصر والغلبة للروم خلال فترة قصيرة. وقد حددت الفترة لانتصار الروم على
الفرس في بضع سنين. وهذا الكلام السابق لأوانه، هو من جهة دليل على إعجاز القرآن، هذا الكتاب السماوي الذي يستند علمه إلى الخالق غير المحدود، ومن جهة أخرى كان فألا حسنا للمسلمين في مقابل فأل المشركين، حتى أن بعض المسلمين عقدوا مع المشركين رهانا على هذه المسألة المهمة، ولم يكن في ذلك الحين قد نزل الحكم بتحريم مثل هذا الشرط
ومع التدقيق يتضح أن هذا البحث يتحدث عن عظمة القرآن الكريم لأن هذا الخبر الغيبي المرتبط بالمستقبل هو من دلائل إعجاز القرآن، وعظمة هذا الكتاب السماوي!. يقول القرآن غلبت الروم في أدنى الأرض وهم قريب منكم يا أهل مكة، إذ أنهم في شمال جزيرة العرب، في أراضي الشام في منطقة بين " بصرى " و " أذرعات ". ومن هنا يعلم بأن المراد من الروم هنا هم الروم الشرقيون، لا الروم الغربيون. ويرى بعض المفسرين كالشيخ الطوسي في تفسير " التبيان " - أن من
المحتمل أن يكون المراد بأدنى الأرض المكان القريب من بلاد فارس، أي إن المعركة وقعت في أقرب نقطة بين الفرس والروم. وبالطبع فإن التنبؤ عن انتصار البلد المغلوب خلال بضع سنين في المستقبل، له أهمية أكبر، إذ لا يمكن التوقع له إلا عن طريق الإعجاز. ثم يضيف القرآن: وهم من بعد غلبهم سيغلبون وهم أي الروم. ومع أن جملة " سيغلبون " كافية لبيان المقصود، ولكن جاء التعبير من بعد غلبهم بشكل خاص لتتضح أهمية هذا الانتصار أكثر، لأنه لا ينتظر أن تغلب جماعة
مغلوبة وفي أقرب حدودها وأقواها في ظرف قصير، لكن القرآن يخبر بصراحة عن هذه الحادثة غير المتوقعة. ثم يبين الفترة القصيرة من هذه السنين بهذا التعبير في بضع سنين والمعلوم أن " بضع " ما يكون أقله الثلاث وأكثره التسع.
وإذا أخبر الله عن المستقبل، فلأنه لله الأمر من قبل ومن بعد. وبديهي أن كون الأشياء جميعها بيد الله - وبأمره وإرادته - لا يمنع من اختيارنا في الإرادة وحريتنا وسعينا وجهادنا في مسير الأهداف المنظورة. وبتعبير آخر: إن هذه العبارة لا تريد سلب الاختيار من الآخرين، بل تريد أن توضح هذه اللطيفة، وهي أن القادر بالذات والمالك على الإطلاق هو الله، وكل من
لديه شئ فهو منه!. ثم يضيف القرآن، أنه إذا فرح المشركون اليوم بانتصار الفرس على الروم فإنه ستغلب الروم ويومئذ يفرح المؤمنون. أجل، يفرحون بنصر الله... ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. ولكن ما المراد من فرح المؤمنون؟!
قال جماعة: المراد منه فرحهم بانتصار الروم، وإن كانوا في صفوف الكفار أيضا، إلا أنهم لكونهم لديهم كتاب سماوي فانتصارهم على المجوس يعد مرحلة من انتصار " التوحيد " على " الشرك ". وأضاف آخرون: إن المؤمنين إنما فرحوا لأنهم تفائلوا من هذه الحادثة فألا حسنا، وجعلوها دليلا على انتصارهم على المشركين. أو أن فرحهم كان لأن عظمة القرآن وصدق كلامه المسبق القاطع - بنفسه - انتصار معنوي للمسلمين وظهر في ذلك اليوم. ولا يبعد هذا الاحتمال وهو أن انتصار الروم كان مقارنا مع بعض انتصارات المسلمين على المشركين، وخاصة أن بعض المفسرين أشار إلى أن هذا الانتصار
كان مقارنا لانتصار بدر أو مقارنا لصلح الحديبية. وهو بنفسه يعد انتصارا كبيرا، وخاصة إن التعبير بنصر الله أيضا يناسب هذا المعنى. والخلاصة: إن المسلمين " المؤمنين " فرحوا في ذلك اليوم لجهات متعددة:
١ - من انتصار أهل الكتاب على المجوس، لأنه ساحة لانتصار الموحدين
على المشركين.
٢ - من الانتصار المعنوي لظهور إعجاز القرآن.
٣ - ومن الانتصار المقارن لذلك الانتصار، ويحتمل أن يكون صلح الحديبية، أو بعض فتوحات المسلمين الأخر!.
ولزيادة التأكيد يضيف أيضا وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون والسبب في عدم علم الناس، هو عدم معرفتهم بالله وقدرته،فهم لم يعرفوا الله حق معرفته، فهم لا يعلمون هذه الحقيقة، وهي أن الله محال عليه أن يتخلف عن وعده، لأن التخلف عن الوعد إما للجهل، أو لأن الأمر كان مكتوما ثم اتضح وصار سببا لتغيير العقيدة، أو للضعف وعدم القدرة، إذ لم يرجع الذي وعد عن عقيدته لكنه غير قادر، لكن الله لا يتخلف عن الوعد، لأنه يعرف عواقب
الأمور، وقدرته فوق كل شئ.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد واله الطيبين الطاهرين
المصدر //
الكتاب: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الجزء: ١2