الإنسان ابن بيئته، ورهين ثقافته، فلا يستطيع أن ينسلخ عنهما، وإن كان للدين دور مهم في تربيته ونموه الفكري،
وله الأثر الكبير في سمو ذاته من خلال المفاهيم السماوية التي لا تسلبه شخصيته وهويته،
إنما تقومه وتهديه إلى الطريق المقوم لحياته والمعرف بقيمته في الوجود من خلال ما ينسجم مع العقل والفطرة،
وتبقى فيه تأثيرات البيئة والنشأة وما تفرزه من ثقافة، ومنها اللغة التي يلهج بها الإنسان مع أبناء قومه كوسيلة للعيش والتفاهم،
فقد نسمع في بعض الأحيان من أهل الشام وقوع الإمالة في كلامهم كما يحصل مع اللبنانيين ومع السوريين خصوصاً أهالي حلب،
فما هي الإمالة وأين تقع وكيف بقي لها الأثر في لهجتهم؟؟
الموضوع يتعلق بحرف الألف، فأصل الكلام فيه الفتح والإمالة فرع منه كما أكده علماء القراءات،
وقد كانت الإمالة شائعة عند العرب؛ قبائل نجد من تميم وأسد وقيس حتى شاعت عند أهل اليمن ووصلت إلى بلاد الشام بسبب نزول قبائل نجدية هناك، وإن كانت قديماً مستعملة حتى في العراق أي في البصرة والكوفة فقد أمال حمزة والكسائي كل ألف منقلبة عن ياء حيث وقعت في القرآن الكريم، ولكنها تبقى كثيرة في قراءة أبي عمرو.
وعلل المختصون استعمالها في كلام العرب إلى ميلهم للإقتصاد في المجهود العضلي حيث يحصل انسجام بين الأصوات حينما تتجاور أو تتقارب كما سيتوضح من خلال الشواهد والعلل التي سنبينها.
الإمالة هي تقريب الألف نحو الياء ومعها الفتحة نحو الكسرة، فمن عللها وجود الكسرة بعد الألف على راء نحو: النارِ.النهارِ،
أمالها أبو عمرو لينحو بالألف باتجاه الياء ويقرب من لفظ الكسر وبذلك يعمل اللسان عملاً واحداً،
فصعوده بالفتحة والألف ثم هبوطه متسفلاً بكسرة الراء يكون أصعب، ولتناسب الإمالة مع كسرة الراء لأن الراء حرف صفته التكرير،
وهذه الصفة تساعد على إمالة الألف الذي قبلها.
ومن أنواعها؛ ما أميل لتدل إمالته على أصله كما في معظم الإمالات حينما تكون الألف أصلها الياء نحو إمالة حمزة والكسائي في الأفعال
أتى، تعالى، رمى، سعى، وصى، تولى، اصطفى، طغى..الخ
وفي الأسماء نحو: الهدى، الهوى، فتى، يحيى، مجرى..الخ
ولكن كيف نعرف أن أصل هذه الألف ياء؟
يمكن معرفة ذلك بإحدى هذه الطرق:
1-إرجاع الألف في الإخبار إلى الياء نحو: رمى رميت، سعى سعيت وقس على ذلك بقية الشواهد المذكورة وغيرها،
أما إذا رجع الفعل بالإخبار إلى الواو فلا تميل نحو: عفا عفوت، نجا نجوت..الخ
2-أن تخبر بذلك الفعل عن اثنين فان رجعت ألفه إلى الياء فهو مما أصل ألفه الياء فأمله،
نحو: رمى رميا سعى سعيا، أما في عفا عفوا، نجا نجوا ونحو ذلك فلا تقع فيها الإمالة.
3- قياسه بالمصدر حيث اشتق الفعل منه نحو: عفا عفواً من العفو، وصفا صفواً من الصفو.
أما إمالة حفص لموضع واحد في كلمة(مجرى)والتي أمالها إمالة كبرى فلأن أصلها الياء من: جرى يجري مجرى،
ولعل السائل يقول لماذا لم يمل(مرساها) فذلك لأن أصلها الواو من رسا يرسو رسواً وما أصله الواو لا تقع فيه الإمالة.
وتنقسم الإمالة إلى كبرى وصغرى، فالأولى ينطق بالألف فيها بين الألف والياء لكنها إلى الياء أقرب والثانية تكون إلى الألف أقرب.
وللإمالة في لهجة من نسمع اليوم من العرب عذوبة تحكي عن الترف وحلاوة اللسان تدغدغ أسماعنا كما تدغدغ أغاريد الطيور نسمات الصباح.
تعليق