لستُ أخشى قلّةَ العدمِ ما اتّقيتُ اللهَ في كرمي
كـلّما أنـفقتُ يـخلفهُ ليَ ربُّ واسعُ النعمِ(6)
ونقل الرواة بوادر كثيرة من كرمه وسخائه ، وقد وسع الله عليه لدعاء
ــــــــــــــــــ
(1) تهذيب التهذيب 5 / 171 .
(2) اُسد الغابة 3 / 134 .
(3 ـ 5) الاستيعاب 3 / 881 ، 882 ، 288 .
(6) عمدة الطالب / 37 ـ 38 .
الصفحة (51)
النبي (صلّى الله عليه وآله) له , فكان من أثرى أهل المدينة ، ومضافاً إلى سخائه فقد كان من ذوي الفضيلة ؛ فقد روى عن عمّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وعن الحسن والحسين (عليهما السّلام) .
أبناؤه
ورُزق هذا السيد الجليل من سيدة النساء زينب (عليها السّلام) كوكبة من السادة الأجلاء , وهم :
1 ـ عون
وكان من أبرز فتيان بني هاشم في فضله وكماله ، صحب خاله الإمام الحسين (عليه السّلام) حينما هاجر من يثرب إلى العراق , ولازمه في رحلته ، فلمّا كان يوم العاشر من المحرّم ، اليوم الخالد في دنيا الأحزان ، تقدّم إلى الشهادة بين يدي خاله ، فبرز إلى حومة الحرب وهو يرتجز :
إن تـنكروني فأنا ابنُ جعفرْ شهيدُ صدق في الجنانِ أزهرْ
يـطيرُ فـيها بجناحٍ أخضرْ كفى بهذا شرفاً من محشرْ(1)
لقد عرّف نفسه بهذا الرجز ؛ فقد انتسب إلى جدّه الشهيد العظيم جعفر الذي قُطعت يداه في سبيل الإسلام ، ويكفيه بذلك شرفاً وفخراً ، وجعل الفتى يُقاتل قتال الأبطال غير حافل بتلك الوحوش الكاسرة ، فحمل عليه وغد خبيث هو عبد الله الطائي فقتله(2) .
ورثاه سليمان بن قتّة بقوله :
وانـدبي إن بـكيتِ عـوناً أخـاهُ لـيـس فـيـما يـنوبهم بـخذولِ
فـلعمري لـقد أصـبتِ ذوي القر بى فبّكي على المصابِ الطويلِ(3)
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 3 / 258 ، نقلاً عن الفتوح .
(2) الإرشاد / 268 .
(3) مقاتل الطالبيّين / 91 .
الصفحة (52)
2ـ علي الزينبي
3 ـ محمّد
4 ـ عباس
5 ـ السيدة اُمّ كلثوم(1)
وبلغت هذه السيدة [أي اُمّ كلثوم] مبلغ النساء ، وكانت فريدة في جمالها وعفافها واحترامها عند أهلها وعامّة بني هاشم ، وأراد معاوية أن يتقرّب إلى بني هاشم , ويعزّز مكانته في نفوس المسلمين في أن يخطبها لولده يزيد ، فكتب إلى واليه على يثرب مروان بن الحكم كتاباً جاء فيه :
أمّا بعد ، فإنّ أمير المؤمنين أحبّ أن يردّ الإلفة ، ويسلّ السخيمة ، ويصل الرحم ؛ فإذا وصل إليك كتابي فاخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته اُمّ كلثوم على يزيد ابن أمير المؤمنين ، وارغب إليه في الصداق ...
وظنّ معاوية أنّ سلطته المزيّفة وما يبذله من الأموال الطائلة تُغري السادة العلويِّين الذين تربّوا على الكرامة والشرف وكلِّ ما يسمو به الإنسان ، ولم يعلم أنّ سلطته وأمواله لا تساوي عندهم قلامة أظفر .
ولمّا انتهى كتاب معاوية إلى مروان خاف جانب الإمام الحسين (عليه السّلام) ؛ لأنّه يعلم أنّه يفسد عليه الأمر ، وسافر الحسين فاغتنم مروان فرصة سفره فبادر مسرعاً إلى عبد الله بن جعفر ، فعرض عليه كتاب معاوية وجعل يحبّذ له الأمر ، ويطالبه بالإسراع فيه ؛ لأنّ في ذلك إصلاحاً لذات البين ، واجتماعاً للكلمة .
ولم يخف عن عبد الله الأمر ، فقال لمروان : إنّ خالها الحسين في ينبع(2) ، وليس لي من سبيل أن
ـــــــــــــــــ
(1) زينب الكبرى / 126 .
(2) ينبع : تبعد عن المدينة بسبع مراحل ، فيها عيون ماء عذب غزيرة ، قيل : إنّها لبني الحسن ، وقيل : إنّها حصن به نخيل وزرع ، وبها وقوف الإمام عليّ (عليه السّلام) يتولاّها ولده ، جاء ذلك في معجم البلدان 5 / 45 .
الصفحة (53)
أقدم على هذا الأمر من دون أخذ رأيه وموافقته .
ولمّا رجع الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى يثرب خفّ إليه عبد الله بن جعفر مسرعاً , فعرض عليه الأمر وما أجاب به مروان ، فالتاع الإمام الحسين (عليه السّلام) من ذلك ؛ إذ كيف تكون ابنة اُخته عند فاجر بني أُميّة ، حفيد أبي سفيان !
فانطلق الإمام (عليه السّلام) إلى شقيقته زينب (عليها السّلام) وأمرها بإحضار ابنتها اُمّ كلثوم , فلمّا مثلت أمامه قال لها : إن ابن عمّك القاسم بن محمّد بن جعفر أحقّ بك ، ولعلك ترغبين في كثرة الصداق .
واستجابت الفتاة لرأي خالها ، ورحّبت اُمّها العقيلة بذلك ، ورضي أبوها عبد الله برغبة الإمام الحسين ، وقدّم لها الإمام مهراً كثيراً .
وكتم الإمام الأمر ، فلمّا كانت ليلة الزواج أقام دعوة عامّة دعا فيها جمهرة كبيرة من أبناء المدينة ، وكان من جملة المدعوين مروان ، وقد ظنّ أنّه دُعي لتلبية ما رغب فيه معاوية من زواج السيّدة اُمّ كلثوم بابنه يزيد ، فقام خطيباً فأثنى على معاوية وما قصده من جمع الكلمة وصلة الرحم ، ولمّا أنهى كلامه قام الإمام الحسين (عليه السّلام) فأعلن أنّه زوّج السيّدة اُمّ كلثوم بابن عمّها القاسم بن محمّد بن جعفر .
ولمّا سمع مروان تميّز غيظاً وغضباً , وفقد صوابه ، فقد أفشل الإمام رغبته ، فرفع عقيرته قائلاً : أغدراً يا حسين !(1)
وخرج مروان يتعثّر بأذياله ، وانتهى الأمر إلى معاوية فحقد على الحسين (عليه السّلام) ، وساءه ذلك ؛ فقد فشلت محاولاته في خداع العلويِّين ، وخداع المسلمين بمصاهرة ولده للاُسرة النبويّة .
ــــــــــــــ
(1) زينب عقيلة بني هاشم / 27 . عناصرها النفسيّة
وما من صفةٍ كريمةٍ أو نزعةٍ شريفةٍ يفتخر بها الإنسان ، ويسمو بها على غيره من الكائنات الحيّة إلاّ وهي من عناصر عقيلة بني هاشم . وسيّدة النساء زينب (عليها السّلام) قد تحلّت بجميع الفضائل التي وهبها الله تعالى لجدّها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ، وأبيها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، واُمّها سيّدة نساء العالمين (عليها السّلام) ، وأخويها الحسن والحسين (عليهما السّلام) سيدي شباب أهل الجنّة وريحانتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؛ فقد ورثت خصائصهم ، وحكت مميّزاتهم ، وشابهتهم في سموّ ذاتهم ومكارم أخلاقهم .
لقد كانت حفيدة الرسول بحكم مواريثها وخصائصها أعظم وأجلّ سيّدة في دنيا الإسلام ؛ فقد أقامت صروح العدل ، وشيّدت معالم الحق ، وأبرزت قيم الإسلام ومبادئه على حقيقتها النازلة من ربّ العالمين ، فقد جاهدت هي واُمّها زهراء الرسول كأعظم ما يكون الجهاد ، ووقفتا بصلابة لا يُعرف لها مثيل أمام التيارات الحزبية التي حاولت بجميع ما تملك من وسائل القوة أن تلقي الستار على قادة الاُمّة وهداتها الواقعيين الذين أقامهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) أعلاماً لاُمّته ، وخزنة لحكمته وعلومه .
فقد أظهرت زهراء الرسول بقوّة وصلابة عن حقّ سيد العترة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) , رائد العدالة الاجتماعية في الإسلام ، فناهضت حكومة أبي بكر في خطابها التأريخي الخالد ، وسائر مواقفها المشرّفة التي وضعت فيها الأساس المشرق لمبادئ شيعة أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ فهي المؤسّسة الأولى بعد أبيها (صلّى الله عليه وآله) لمذهب أهل البيت (عليهم السّلام) .
وكذلك وقفت ابنتها العقيلة أمام الحكم الاُموي الأسود الذي
الصفحة (56)
استهدف قلع الإسلام من جذوره ومحو سطوره ، وإقصاء أهل البيت (عليهم السّلام) عن واقعهم الاجتماعي والسياسي ، وإبعادهم عن المجتمع الإسلامي ؛ فوقفت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع أخيها أبي الأحرار في خندق واحد ، فحطّم أخوها بشهادته , وهي بخطبها في أروقة بلاط الحكم الاُموي , ذلك الكابوس المظلم الذي كان جاثماً على رقاب المسلمين .
وعلى أي حال ، فإنّا نعرض بصورة موجزة لبعض العناصر النفسيّة لحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، وما تتمتّع به من القابليات الفذة التي جعلتها في طليعة نساء المسلمين ، وفيما يلي ذلك :
الإيمان الوثيق
وتربّت عقيلة بني هاشم في بيت الدعوة إلى الله تعالى ، ذلك البيت الذي كان فيه مهبط الوحي والتنزيل ، ومنه انطلقت كلمة التوحيد وامتدت أشعتها المشرقة على جميع شعوب العالم واُمم الأرض ، وكان ذلك أهمّ المعطيات لرسالة جدّها العظيم .
لقد تغذّت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)بجوهر الإيمان وواقع الإسلام ، وانطبع حبّ الله تعالى في عواطفها ومشاعرها حتّى صار ذلك من مقوّماتها وذاتياتها ، وقد أحاطت بها المحن والخطوب منذ نعومة أظفارها ، وتجرّعت أقسى وأمرّ ألوان المصائب ، كلّ ذلك من أجل رفع كلمة الله عالية خفّاقة .
إنّ الإيمان الوثيق بالله تعالى والانقطاع الكامل إليه كانا من ذاتيات الاُسرة النبويّة ومن أبرز خصائصهم .
ألم يقل سيد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في دعائه : (( ما عبدتك طمعاً(*) في جنّتك ، ولا خوفاً من نارك ، ولكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك )) ؟
ـــــــــــــــ
(*) ورد كلام الإمام (عليه السّلام) هنا بهذا النحو ( عبدتك لا طمعاً في ... ) , وما أثبتناه فهو من جلّ المصادر الاُخرى . (موقع معهد الإمامين الحسنَين)
الصفحة (57)
وهو القائل : (( لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً )) .
أمّا سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين (عليه السّلام) ، فقد أخلص لله تعالى كأعظم ما يكون الإخلاص ، وذاب في محبّته , وقد قدّم نفسه والكواكب المشرقة من أبنائه وإخوته وأبناء عمومته قرابين خالصة لوجه الله ، وقد طافت به المصائب والأزمات التي يذوب من هولها الجبال ، وامتحن بما لم يمتحن به أحدٌ من أنبياء الله وأوليائه ، كلّ ذلك في سبيل الله تعالى .
فقد رأى أهل بيته وأصحابه الممجّدين صرعى ، ونظر إلى حرائر النبوّة وعقائل الوحي وهنّ بحالة تميد من هولها الجبال ، وقد أحاطت به أرجاس البشرية وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح ؛ ليتقرّبوا بقتله إلى سيّدهم ابن مرجانة . لقد قال وهو بتلك الحالة كلمته الخالدة ، قال : (( لك العتبى يا ربّ ، إن كان يرضيك هذا فهذا إلى رضاك قليل )) .
ولمّا ذُبح ولده الرضيع بين يديه قال : (( هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله ))(1) . أرأيتم هذا الإيمان الذي لا حدود له ؟ أرأيتم هذا الانقطاع والتبتل إلى الله ؟
وكانت حفيدة الرسول زينب (سلام الله عليها) كأبيها وأخيها في عظيم إيمانها وانقطاعها إلى الله ؛ فقد وقفت على جثمان شقيقها الذي مزّقته سيوف الشرك وهو جثة هامدة بلا رأس ، فرمقت السماء بطرفها وقالت كلمتها الخالدة التي دارت مع الفلك وارتسمت فيه : اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان(2) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 3 / 276 .
(2) المصدر السابق / 304 .
الصفحة (58)
إنّ الإنسانيّة تنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السرّ في خلودها وخلود أخيها . لقد تضرّعت بطلة الإسلام بخشوع إلى الله تعالى أن يتقبّل ذلك القربان العظيم الذي هو ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , فأيّ إيمان يُماثل هذا الإيمان ؟ وأيّ تبتّل إلى الله تعالى يُضارع هذا التبتّل ؟
لقد أظهرت حفيدة الرسول بهذه الكلمات الخالدة معاني الوراثة النبويّة ، وأظهرت الواقع الإسلامي وأنارت السبيل أمام كلّ مصلح اجتماعي ، وأنّ كلّ تضحية تُؤدّى للاُمّة يجب أن تكون خالصة لوجه الله غير مشفوعة بأيّ غرض من أغراض الدنيا .
ومن عظيم إيمانها الذي يبهر العقول ويحيّر الألباب أنّها أدّت صلاة الشكر إلى الله تعالى ليلة الحادي عشر من المحرّم على ما وفّق أخاها ووفّقها لخدمة الإسلام ورفع كلمة الله . لقد أدّت الشكر في أقسى ليلة وأفجعها ، والتي لم تمرّ مثلها على أيّ أحدٍ من بني الإنسان .
لقد أحاطت بها المآسي التي تذوب من هولها الجبال ؛ فالجثث الزواكي من أبناء الرسول وأصحابهم أمامها لا مغسّلين ولا مكفّنين ، وخيام العلويات قد أحرقها الطغاة اللئام ، وسلبوا ما على بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من حُلي وما عندهنّ من أمتعة , وهنَّ يعجنَ بالبكاء لا يعرفنَ ماذا يجري عليهنَّ من الأسر والذلّ ، إلى غير ذلك من المآسي التي أحاطت بحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) , وهي تؤدّي صلاة الشكر لله تعالى على هذه النعمة التي أضفاها عليها وعلى أخيها .
تدول الدول وتفنى الحضارات وهذا الإيمان العلوي أحقّ بالبقاء ، وأجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش فيه .
الصفحة (59)
الصبر
من النزعات الفذّة التي تسلّحت بها مفخرة الإسلام وسيّدة النساء زينب (عليها السّلام) هي الصبر على نوائب الدنيا وفجائع الأيام ، فقد تواكبت عليها الكوارث منذ فجر الصبا ، فرُزئت بجدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يحدب عليها ، ويفيض عليها بحنانه وعطفه ، وشاهدت الأحداث الرهيبة المروعة التي دهمت أباها واُمّها بعد وفاة جدّها ؛ فقد اُقصي أبوها عن مركزه الذي أقامه فيه النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وأجمع القوم على هضم اُمّها حتّى توفيت وهي في روعة الشباب وغضارة العمر ، وقد كوت هذه الخطوب قلب العقيلة إلاّ أنّها خلدت إلى الصبر .
وتوالت بعد ذلك عليها المصائب ، فقد رأت شقيقها الإمام الحسن الزكي (عليه السّلام) قد غدر به أهل الكوفة حتّى اضطر إلى الصلح مع معاوية الذي هو خصم أبيها وعدوّه الألدّ ، ولم تمض سنين يسيرة حتّى اغتاله بالسمّ ، وشاهدته وهو يتقيأ دماً من شدّة السمّ حتّى لفظ أنفاسه الأخيرة .
وكان من أقسى ما تجرّعته من المحن والمصاعب يوم الطفّ ؛ فقد رأت شقيقها الإمام الحسين (عليه السّلام) قد استسلم للموت لا ناصر له ولا معين ، وشاهدت الكواكب المشرقة من شباب العلويِّين صرعى قد حصدتهم سيوف الاُمويِّين ، وشاهدت الأطفال الرضّع يُذبحون أمامها .
إنّ أي واحدة من رزايا سيّدة النساء زينب لو ابتُلي بها أيّ إنسان مهما تدرّع بالصبر وقوّة النفس لأوهنت قواه ، واستسلم للضعف النفسي , وما تمكن على مقاومة الأحداث ، ولكنّها (سلام الله عليها) قد صمدت أمام ذلك البلاء العارم ، وقاومت الأحداث بنفس آمنة مطمئنة راضية بقضاء الله تعالى , وصابرة على بلائه ، فكانت من أبرز المعنيين بقوله تعالى : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * اُولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ )(1) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة / 155 ـ 157 .
الصفحة (60)
وقال تعالى : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ )(1) ، وقال تعالى : ( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )(2) .
لقد صبرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأظهرت التجلّد وقوّة النفس أمام أعداء الله ، وقاومتهم بصلابة وشموخ ، فلم يشاهد في جميع فترات التأريخ سيّدة مثلها في قوّة عزيمتها وصمودها أمام الكوارث والخطوب .
يقول الحجّة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء في صبرها وعظيم محنتها :
لـلهِ صـبرُ زيـنبَ العقيلهْ كـم شـاهدت مصائباً مهولهْ
رأت مِـنَ الخطوبِ والرزايا أمـراً تـهونُ دونـهُ المنايا
رأت كـرامَ قـومِها الأماجد مـجزّرينَ فـي صعيدٍ واحد
تـسفي على جسومِها الرياحُ وهـي لـذؤبانِ الـفلا تُباحُ
رأت رؤوسـاً بـالقنا تُـشالُ وجـثـثاً أكـفانُها الـرمالُ
رأت رضـيعاً بالسهامِ يفطمُ و صـبيةً بـعدَ أبيهم اُيتموا
رأت شـمـاتةَ الـعدو فـيها وصـنعهُ مـا شاءَ في أخيها
وإنّ من أدهى الخطوبِ السودِ وقـوفها بـين يـدي يـزيدِ
وقال السيد حسن البغدادي :
يـا قـلبَ زينبَ ما لاقيتَ من محنٍ فـيكَ الـرزايا وكلّ الصبرِ قد جمعا
لو كانَ ما فيكَ من صبرٍ ومن محنٍ في قلبِ أقوى جبالِ الأرضِ لانصدعا
يـكفيكَ صـبراً قـلوبَ الناسِ كلّهمُ تـفـطّرت لـلذي لاقـيتهُ جـزعا
لقد قابلت العقيلة ما عانته من الكوارث المذهلة والخطوب السود بصبر يذهل كلّ كائن حي .
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة الزمر / 10 .
(2) سورة النحل / 96 .
الصفحة (61)
العزّة والكرامة
من أبرز الصفات النفسيّة الماثلة في شخصية سيدة النساء زينب (عليها السّلام) هي العزّة والكرامة ؛ فقد كانت من سيّدات نساء الدنيا في هذه الظاهرة الفذّة ، فقد حُملت بعد مقتل أخيها من كربلاء إلى الكوفة سبيّة , ومعها بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد نُهب جميع ما عليهنّ من حُلي وما عندهنّ من أمتعة ، وقد أضرّ الجوع بأطفال أهل البيت وعقائلهم ، فترفّعت العقيلة أن تطلب من اُولئك الممسوخين ـ من شرطة ابن مرجانة ـ شيئاً من الطعام لهم .
ولمّا انتهى موكب السبايا إلى الكوفة , وعلمنَ النساء أنّ السبايا من أهل بيت النبوّة , سارعنَ إلى تقديم الطعام إلى الأطفال الذين ذوت أجسامهم من الجوع ، فانبرت السيّدة زينب مخاطبة نساء أهل الكوفة قائلة : الصدقة محرّمة علينا أهل البيت .
ولمّا سمع أطفال أهل البيت (عليهم السّلام) من عمّتهم ذلك ألقوا ما في أيديهم وأفواههم من الطعام ، وأخذ بعضهم يقول لبعض : إنّ عمّتنا تقول : الصدقة حرام علينا أهل البيت .
أيّ تربية فذّة تربّى عليها أطفال أهل البيت (عليهم السّلام) ! إنّها تربية الأنبياء والصدّيقين التي تسمو بالإنسان فترفعه إلى مستوى رفيع يكون من أفضل خلق الله .
ولمّا سُيّرت سبايا أهل البيت (عليهم السّلام) من الكوفة إلى الشام لم تطلب السيدة زينب طيلة الطريق أيّ شيء من الإسعافات إلى الأطفال والنساء مع شدّة الحاجة إليها ؛ فقد أنفت أن تطلب أيّ مساعدة من اُولئك الجفاة الأنذال الذين رافقوا الموكب .
لقد ورثت عقيلة بني هاشم من جدّها وأبيها العزّة والكرامة , والشرف والإباء ، فلم تخضع لأيّ أحدٍ مهما قست الأيام وتلبّدت الظروف ، إنّها لم تخضع إلاّ إلى الله تعالى .
الشجاعة
ولم يشاهد الناس في جميع مراحل التأريخ أشجع ولا أربط جأشاً ولا أقوى جناناً من
الصفحة (62)
الاُسرة النبويّة الكريمة ؛ فالإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) عميد العترة الطاهرة كان من أشجع خلق الله ، وهو القائل : (( لو تضافرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها )) .
وقد خاض أعنف المعارك وأشدّها قسوة ، فجندل الأبطال وألحق بجيوش الشرك أفدح الخسائر ، وقد قام الإسلام عبل الذراع مفتول الساعد بجهاده وجهوده ، فهو معجزة الإسلام الكبرى ، وكان ولده أبو الأحرار الإمام الحسين (عليه السّلام) مضرب المثل في بسالته وشجاعته ؛ فقد حيّر الألباب وأذهل العقول بشجاعته وصلابته وقوّة بأسه .
فقد وقف يوم العاشر من المحرّم موقفاً لم يقفه أيّ أحدٍ من أبطال العالم ؛ فإنّه لم ينهار أمام تلك النكبات المذهلة التي تعصف بالحلم والصبر ، فكان يزداد انطلاقاً وبشراً كلّما ازداد الموقف بلاءً ومحنةً . فإنّه بعدما صُرعَ أصحابه وأهل بيته زحف عليه الجيش بأسره ـ وكان عدده فيما يقول الرواة ثلاثين ألفاً ـ فحمل عليهم وحده , وقد طارت أفئدتهم من الخوف والرعب ، فانهزموا أمامه كالمعزى إذا شدّ عليها الذئب ـ على حدّ تعبير بعض الرواة ـ وبقي صامداً كالجبل يتلقى الطعنات والسهام من كلّ جانب ، لم يوهن له ركن ولم تضعف له عزيمة .
يقول العلوي السيّد حيدر :
فـتـلـقّى الـجـمـوعَ فـــرداً ولكن كلُّ عضو في الروعِ منهُ جموعُ
رمـحهُ مـن بـنانهِ و كـأنّ مـن عـزمـهِ حــدُّ سـيـفهِ مـطبوعُ
زوّج الـسـيفَ بـالنفوسِ ولـكن مـهرُها الـموت والخضابُ النجيعُ
ولمّا سقط (سلام الله عليه) على الأرض جريحاً قد أعياه نزف الدماء تحامى الجيش الاُموي من الإجهاز عليه ؛ خوفاً ورعباً منه . يقول السيد حيدر :
عـفيراً متى عاينتهُ الكماة يـختطف الرعبُ ألوانَها
فما أجلت الحربُ عن مثلهِ صـريعاً يـجبّنُ شجعانَه
كـلّما أنـفقتُ يـخلفهُ ليَ ربُّ واسعُ النعمِ(6)
ونقل الرواة بوادر كثيرة من كرمه وسخائه ، وقد وسع الله عليه لدعاء
ــــــــــــــــــ
(1) تهذيب التهذيب 5 / 171 .
(2) اُسد الغابة 3 / 134 .
(3 ـ 5) الاستيعاب 3 / 881 ، 882 ، 288 .
(6) عمدة الطالب / 37 ـ 38 .
الصفحة (51)
النبي (صلّى الله عليه وآله) له , فكان من أثرى أهل المدينة ، ومضافاً إلى سخائه فقد كان من ذوي الفضيلة ؛ فقد روى عن عمّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وعن الحسن والحسين (عليهما السّلام) .
أبناؤه
ورُزق هذا السيد الجليل من سيدة النساء زينب (عليها السّلام) كوكبة من السادة الأجلاء , وهم :
1 ـ عون
وكان من أبرز فتيان بني هاشم في فضله وكماله ، صحب خاله الإمام الحسين (عليه السّلام) حينما هاجر من يثرب إلى العراق , ولازمه في رحلته ، فلمّا كان يوم العاشر من المحرّم ، اليوم الخالد في دنيا الأحزان ، تقدّم إلى الشهادة بين يدي خاله ، فبرز إلى حومة الحرب وهو يرتجز :
إن تـنكروني فأنا ابنُ جعفرْ شهيدُ صدق في الجنانِ أزهرْ
يـطيرُ فـيها بجناحٍ أخضرْ كفى بهذا شرفاً من محشرْ(1)
لقد عرّف نفسه بهذا الرجز ؛ فقد انتسب إلى جدّه الشهيد العظيم جعفر الذي قُطعت يداه في سبيل الإسلام ، ويكفيه بذلك شرفاً وفخراً ، وجعل الفتى يُقاتل قتال الأبطال غير حافل بتلك الوحوش الكاسرة ، فحمل عليه وغد خبيث هو عبد الله الطائي فقتله(2) .
ورثاه سليمان بن قتّة بقوله :
وانـدبي إن بـكيتِ عـوناً أخـاهُ لـيـس فـيـما يـنوبهم بـخذولِ
فـلعمري لـقد أصـبتِ ذوي القر بى فبّكي على المصابِ الطويلِ(3)
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 3 / 258 ، نقلاً عن الفتوح .
(2) الإرشاد / 268 .
(3) مقاتل الطالبيّين / 91 .
الصفحة (52)
2ـ علي الزينبي
3 ـ محمّد
4 ـ عباس
5 ـ السيدة اُمّ كلثوم(1)
وبلغت هذه السيدة [أي اُمّ كلثوم] مبلغ النساء ، وكانت فريدة في جمالها وعفافها واحترامها عند أهلها وعامّة بني هاشم ، وأراد معاوية أن يتقرّب إلى بني هاشم , ويعزّز مكانته في نفوس المسلمين في أن يخطبها لولده يزيد ، فكتب إلى واليه على يثرب مروان بن الحكم كتاباً جاء فيه :
أمّا بعد ، فإنّ أمير المؤمنين أحبّ أن يردّ الإلفة ، ويسلّ السخيمة ، ويصل الرحم ؛ فإذا وصل إليك كتابي فاخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته اُمّ كلثوم على يزيد ابن أمير المؤمنين ، وارغب إليه في الصداق ...
وظنّ معاوية أنّ سلطته المزيّفة وما يبذله من الأموال الطائلة تُغري السادة العلويِّين الذين تربّوا على الكرامة والشرف وكلِّ ما يسمو به الإنسان ، ولم يعلم أنّ سلطته وأمواله لا تساوي عندهم قلامة أظفر .
ولمّا انتهى كتاب معاوية إلى مروان خاف جانب الإمام الحسين (عليه السّلام) ؛ لأنّه يعلم أنّه يفسد عليه الأمر ، وسافر الحسين فاغتنم مروان فرصة سفره فبادر مسرعاً إلى عبد الله بن جعفر ، فعرض عليه كتاب معاوية وجعل يحبّذ له الأمر ، ويطالبه بالإسراع فيه ؛ لأنّ في ذلك إصلاحاً لذات البين ، واجتماعاً للكلمة .
ولم يخف عن عبد الله الأمر ، فقال لمروان : إنّ خالها الحسين في ينبع(2) ، وليس لي من سبيل أن
ـــــــــــــــــ
(1) زينب الكبرى / 126 .
(2) ينبع : تبعد عن المدينة بسبع مراحل ، فيها عيون ماء عذب غزيرة ، قيل : إنّها لبني الحسن ، وقيل : إنّها حصن به نخيل وزرع ، وبها وقوف الإمام عليّ (عليه السّلام) يتولاّها ولده ، جاء ذلك في معجم البلدان 5 / 45 .
الصفحة (53)
أقدم على هذا الأمر من دون أخذ رأيه وموافقته .
ولمّا رجع الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى يثرب خفّ إليه عبد الله بن جعفر مسرعاً , فعرض عليه الأمر وما أجاب به مروان ، فالتاع الإمام الحسين (عليه السّلام) من ذلك ؛ إذ كيف تكون ابنة اُخته عند فاجر بني أُميّة ، حفيد أبي سفيان !
فانطلق الإمام (عليه السّلام) إلى شقيقته زينب (عليها السّلام) وأمرها بإحضار ابنتها اُمّ كلثوم , فلمّا مثلت أمامه قال لها : إن ابن عمّك القاسم بن محمّد بن جعفر أحقّ بك ، ولعلك ترغبين في كثرة الصداق .
واستجابت الفتاة لرأي خالها ، ورحّبت اُمّها العقيلة بذلك ، ورضي أبوها عبد الله برغبة الإمام الحسين ، وقدّم لها الإمام مهراً كثيراً .
وكتم الإمام الأمر ، فلمّا كانت ليلة الزواج أقام دعوة عامّة دعا فيها جمهرة كبيرة من أبناء المدينة ، وكان من جملة المدعوين مروان ، وقد ظنّ أنّه دُعي لتلبية ما رغب فيه معاوية من زواج السيّدة اُمّ كلثوم بابنه يزيد ، فقام خطيباً فأثنى على معاوية وما قصده من جمع الكلمة وصلة الرحم ، ولمّا أنهى كلامه قام الإمام الحسين (عليه السّلام) فأعلن أنّه زوّج السيّدة اُمّ كلثوم بابن عمّها القاسم بن محمّد بن جعفر .
ولمّا سمع مروان تميّز غيظاً وغضباً , وفقد صوابه ، فقد أفشل الإمام رغبته ، فرفع عقيرته قائلاً : أغدراً يا حسين !(1)
وخرج مروان يتعثّر بأذياله ، وانتهى الأمر إلى معاوية فحقد على الحسين (عليه السّلام) ، وساءه ذلك ؛ فقد فشلت محاولاته في خداع العلويِّين ، وخداع المسلمين بمصاهرة ولده للاُسرة النبويّة .
ــــــــــــــ
(1) زينب عقيلة بني هاشم / 27 . عناصرها النفسيّة
وما من صفةٍ كريمةٍ أو نزعةٍ شريفةٍ يفتخر بها الإنسان ، ويسمو بها على غيره من الكائنات الحيّة إلاّ وهي من عناصر عقيلة بني هاشم . وسيّدة النساء زينب (عليها السّلام) قد تحلّت بجميع الفضائل التي وهبها الله تعالى لجدّها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ، وأبيها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، واُمّها سيّدة نساء العالمين (عليها السّلام) ، وأخويها الحسن والحسين (عليهما السّلام) سيدي شباب أهل الجنّة وريحانتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؛ فقد ورثت خصائصهم ، وحكت مميّزاتهم ، وشابهتهم في سموّ ذاتهم ومكارم أخلاقهم .
لقد كانت حفيدة الرسول بحكم مواريثها وخصائصها أعظم وأجلّ سيّدة في دنيا الإسلام ؛ فقد أقامت صروح العدل ، وشيّدت معالم الحق ، وأبرزت قيم الإسلام ومبادئه على حقيقتها النازلة من ربّ العالمين ، فقد جاهدت هي واُمّها زهراء الرسول كأعظم ما يكون الجهاد ، ووقفتا بصلابة لا يُعرف لها مثيل أمام التيارات الحزبية التي حاولت بجميع ما تملك من وسائل القوة أن تلقي الستار على قادة الاُمّة وهداتها الواقعيين الذين أقامهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) أعلاماً لاُمّته ، وخزنة لحكمته وعلومه .
فقد أظهرت زهراء الرسول بقوّة وصلابة عن حقّ سيد العترة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) , رائد العدالة الاجتماعية في الإسلام ، فناهضت حكومة أبي بكر في خطابها التأريخي الخالد ، وسائر مواقفها المشرّفة التي وضعت فيها الأساس المشرق لمبادئ شيعة أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ فهي المؤسّسة الأولى بعد أبيها (صلّى الله عليه وآله) لمذهب أهل البيت (عليهم السّلام) .
وكذلك وقفت ابنتها العقيلة أمام الحكم الاُموي الأسود الذي
الصفحة (56)
استهدف قلع الإسلام من جذوره ومحو سطوره ، وإقصاء أهل البيت (عليهم السّلام) عن واقعهم الاجتماعي والسياسي ، وإبعادهم عن المجتمع الإسلامي ؛ فوقفت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع أخيها أبي الأحرار في خندق واحد ، فحطّم أخوها بشهادته , وهي بخطبها في أروقة بلاط الحكم الاُموي , ذلك الكابوس المظلم الذي كان جاثماً على رقاب المسلمين .
وعلى أي حال ، فإنّا نعرض بصورة موجزة لبعض العناصر النفسيّة لحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، وما تتمتّع به من القابليات الفذة التي جعلتها في طليعة نساء المسلمين ، وفيما يلي ذلك :
الإيمان الوثيق
وتربّت عقيلة بني هاشم في بيت الدعوة إلى الله تعالى ، ذلك البيت الذي كان فيه مهبط الوحي والتنزيل ، ومنه انطلقت كلمة التوحيد وامتدت أشعتها المشرقة على جميع شعوب العالم واُمم الأرض ، وكان ذلك أهمّ المعطيات لرسالة جدّها العظيم .
لقد تغذّت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)بجوهر الإيمان وواقع الإسلام ، وانطبع حبّ الله تعالى في عواطفها ومشاعرها حتّى صار ذلك من مقوّماتها وذاتياتها ، وقد أحاطت بها المحن والخطوب منذ نعومة أظفارها ، وتجرّعت أقسى وأمرّ ألوان المصائب ، كلّ ذلك من أجل رفع كلمة الله عالية خفّاقة .
إنّ الإيمان الوثيق بالله تعالى والانقطاع الكامل إليه كانا من ذاتيات الاُسرة النبويّة ومن أبرز خصائصهم .
ألم يقل سيد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في دعائه : (( ما عبدتك طمعاً(*) في جنّتك ، ولا خوفاً من نارك ، ولكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك )) ؟
ـــــــــــــــ
(*) ورد كلام الإمام (عليه السّلام) هنا بهذا النحو ( عبدتك لا طمعاً في ... ) , وما أثبتناه فهو من جلّ المصادر الاُخرى . (موقع معهد الإمامين الحسنَين)
الصفحة (57)
وهو القائل : (( لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً )) .
أمّا سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين (عليه السّلام) ، فقد أخلص لله تعالى كأعظم ما يكون الإخلاص ، وذاب في محبّته , وقد قدّم نفسه والكواكب المشرقة من أبنائه وإخوته وأبناء عمومته قرابين خالصة لوجه الله ، وقد طافت به المصائب والأزمات التي يذوب من هولها الجبال ، وامتحن بما لم يمتحن به أحدٌ من أنبياء الله وأوليائه ، كلّ ذلك في سبيل الله تعالى .
فقد رأى أهل بيته وأصحابه الممجّدين صرعى ، ونظر إلى حرائر النبوّة وعقائل الوحي وهنّ بحالة تميد من هولها الجبال ، وقد أحاطت به أرجاس البشرية وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح ؛ ليتقرّبوا بقتله إلى سيّدهم ابن مرجانة . لقد قال وهو بتلك الحالة كلمته الخالدة ، قال : (( لك العتبى يا ربّ ، إن كان يرضيك هذا فهذا إلى رضاك قليل )) .
ولمّا ذُبح ولده الرضيع بين يديه قال : (( هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله ))(1) . أرأيتم هذا الإيمان الذي لا حدود له ؟ أرأيتم هذا الانقطاع والتبتل إلى الله ؟
وكانت حفيدة الرسول زينب (سلام الله عليها) كأبيها وأخيها في عظيم إيمانها وانقطاعها إلى الله ؛ فقد وقفت على جثمان شقيقها الذي مزّقته سيوف الشرك وهو جثة هامدة بلا رأس ، فرمقت السماء بطرفها وقالت كلمتها الخالدة التي دارت مع الفلك وارتسمت فيه : اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان(2) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 3 / 276 .
(2) المصدر السابق / 304 .
الصفحة (58)
إنّ الإنسانيّة تنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السرّ في خلودها وخلود أخيها . لقد تضرّعت بطلة الإسلام بخشوع إلى الله تعالى أن يتقبّل ذلك القربان العظيم الذي هو ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , فأيّ إيمان يُماثل هذا الإيمان ؟ وأيّ تبتّل إلى الله تعالى يُضارع هذا التبتّل ؟
لقد أظهرت حفيدة الرسول بهذه الكلمات الخالدة معاني الوراثة النبويّة ، وأظهرت الواقع الإسلامي وأنارت السبيل أمام كلّ مصلح اجتماعي ، وأنّ كلّ تضحية تُؤدّى للاُمّة يجب أن تكون خالصة لوجه الله غير مشفوعة بأيّ غرض من أغراض الدنيا .
ومن عظيم إيمانها الذي يبهر العقول ويحيّر الألباب أنّها أدّت صلاة الشكر إلى الله تعالى ليلة الحادي عشر من المحرّم على ما وفّق أخاها ووفّقها لخدمة الإسلام ورفع كلمة الله . لقد أدّت الشكر في أقسى ليلة وأفجعها ، والتي لم تمرّ مثلها على أيّ أحدٍ من بني الإنسان .
لقد أحاطت بها المآسي التي تذوب من هولها الجبال ؛ فالجثث الزواكي من أبناء الرسول وأصحابهم أمامها لا مغسّلين ولا مكفّنين ، وخيام العلويات قد أحرقها الطغاة اللئام ، وسلبوا ما على بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من حُلي وما عندهنّ من أمتعة , وهنَّ يعجنَ بالبكاء لا يعرفنَ ماذا يجري عليهنَّ من الأسر والذلّ ، إلى غير ذلك من المآسي التي أحاطت بحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) , وهي تؤدّي صلاة الشكر لله تعالى على هذه النعمة التي أضفاها عليها وعلى أخيها .
تدول الدول وتفنى الحضارات وهذا الإيمان العلوي أحقّ بالبقاء ، وأجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش فيه .
الصفحة (59)
الصبر
من النزعات الفذّة التي تسلّحت بها مفخرة الإسلام وسيّدة النساء زينب (عليها السّلام) هي الصبر على نوائب الدنيا وفجائع الأيام ، فقد تواكبت عليها الكوارث منذ فجر الصبا ، فرُزئت بجدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يحدب عليها ، ويفيض عليها بحنانه وعطفه ، وشاهدت الأحداث الرهيبة المروعة التي دهمت أباها واُمّها بعد وفاة جدّها ؛ فقد اُقصي أبوها عن مركزه الذي أقامه فيه النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وأجمع القوم على هضم اُمّها حتّى توفيت وهي في روعة الشباب وغضارة العمر ، وقد كوت هذه الخطوب قلب العقيلة إلاّ أنّها خلدت إلى الصبر .
وتوالت بعد ذلك عليها المصائب ، فقد رأت شقيقها الإمام الحسن الزكي (عليه السّلام) قد غدر به أهل الكوفة حتّى اضطر إلى الصلح مع معاوية الذي هو خصم أبيها وعدوّه الألدّ ، ولم تمض سنين يسيرة حتّى اغتاله بالسمّ ، وشاهدته وهو يتقيأ دماً من شدّة السمّ حتّى لفظ أنفاسه الأخيرة .
وكان من أقسى ما تجرّعته من المحن والمصاعب يوم الطفّ ؛ فقد رأت شقيقها الإمام الحسين (عليه السّلام) قد استسلم للموت لا ناصر له ولا معين ، وشاهدت الكواكب المشرقة من شباب العلويِّين صرعى قد حصدتهم سيوف الاُمويِّين ، وشاهدت الأطفال الرضّع يُذبحون أمامها .
إنّ أي واحدة من رزايا سيّدة النساء زينب لو ابتُلي بها أيّ إنسان مهما تدرّع بالصبر وقوّة النفس لأوهنت قواه ، واستسلم للضعف النفسي , وما تمكن على مقاومة الأحداث ، ولكنّها (سلام الله عليها) قد صمدت أمام ذلك البلاء العارم ، وقاومت الأحداث بنفس آمنة مطمئنة راضية بقضاء الله تعالى , وصابرة على بلائه ، فكانت من أبرز المعنيين بقوله تعالى : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * اُولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ )(1) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة / 155 ـ 157 .
الصفحة (60)
وقال تعالى : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ )(1) ، وقال تعالى : ( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )(2) .
لقد صبرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأظهرت التجلّد وقوّة النفس أمام أعداء الله ، وقاومتهم بصلابة وشموخ ، فلم يشاهد في جميع فترات التأريخ سيّدة مثلها في قوّة عزيمتها وصمودها أمام الكوارث والخطوب .
يقول الحجّة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء في صبرها وعظيم محنتها :
لـلهِ صـبرُ زيـنبَ العقيلهْ كـم شـاهدت مصائباً مهولهْ
رأت مِـنَ الخطوبِ والرزايا أمـراً تـهونُ دونـهُ المنايا
رأت كـرامَ قـومِها الأماجد مـجزّرينَ فـي صعيدٍ واحد
تـسفي على جسومِها الرياحُ وهـي لـذؤبانِ الـفلا تُباحُ
رأت رؤوسـاً بـالقنا تُـشالُ وجـثـثاً أكـفانُها الـرمالُ
رأت رضـيعاً بالسهامِ يفطمُ و صـبيةً بـعدَ أبيهم اُيتموا
رأت شـمـاتةَ الـعدو فـيها وصـنعهُ مـا شاءَ في أخيها
وإنّ من أدهى الخطوبِ السودِ وقـوفها بـين يـدي يـزيدِ
وقال السيد حسن البغدادي :
يـا قـلبَ زينبَ ما لاقيتَ من محنٍ فـيكَ الـرزايا وكلّ الصبرِ قد جمعا
لو كانَ ما فيكَ من صبرٍ ومن محنٍ في قلبِ أقوى جبالِ الأرضِ لانصدعا
يـكفيكَ صـبراً قـلوبَ الناسِ كلّهمُ تـفـطّرت لـلذي لاقـيتهُ جـزعا
لقد قابلت العقيلة ما عانته من الكوارث المذهلة والخطوب السود بصبر يذهل كلّ كائن حي .
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة الزمر / 10 .
(2) سورة النحل / 96 .
الصفحة (61)
العزّة والكرامة
من أبرز الصفات النفسيّة الماثلة في شخصية سيدة النساء زينب (عليها السّلام) هي العزّة والكرامة ؛ فقد كانت من سيّدات نساء الدنيا في هذه الظاهرة الفذّة ، فقد حُملت بعد مقتل أخيها من كربلاء إلى الكوفة سبيّة , ومعها بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد نُهب جميع ما عليهنّ من حُلي وما عندهنّ من أمتعة ، وقد أضرّ الجوع بأطفال أهل البيت وعقائلهم ، فترفّعت العقيلة أن تطلب من اُولئك الممسوخين ـ من شرطة ابن مرجانة ـ شيئاً من الطعام لهم .
ولمّا انتهى موكب السبايا إلى الكوفة , وعلمنَ النساء أنّ السبايا من أهل بيت النبوّة , سارعنَ إلى تقديم الطعام إلى الأطفال الذين ذوت أجسامهم من الجوع ، فانبرت السيّدة زينب مخاطبة نساء أهل الكوفة قائلة : الصدقة محرّمة علينا أهل البيت .
ولمّا سمع أطفال أهل البيت (عليهم السّلام) من عمّتهم ذلك ألقوا ما في أيديهم وأفواههم من الطعام ، وأخذ بعضهم يقول لبعض : إنّ عمّتنا تقول : الصدقة حرام علينا أهل البيت .
أيّ تربية فذّة تربّى عليها أطفال أهل البيت (عليهم السّلام) ! إنّها تربية الأنبياء والصدّيقين التي تسمو بالإنسان فترفعه إلى مستوى رفيع يكون من أفضل خلق الله .
ولمّا سُيّرت سبايا أهل البيت (عليهم السّلام) من الكوفة إلى الشام لم تطلب السيدة زينب طيلة الطريق أيّ شيء من الإسعافات إلى الأطفال والنساء مع شدّة الحاجة إليها ؛ فقد أنفت أن تطلب أيّ مساعدة من اُولئك الجفاة الأنذال الذين رافقوا الموكب .
لقد ورثت عقيلة بني هاشم من جدّها وأبيها العزّة والكرامة , والشرف والإباء ، فلم تخضع لأيّ أحدٍ مهما قست الأيام وتلبّدت الظروف ، إنّها لم تخضع إلاّ إلى الله تعالى .
الشجاعة
ولم يشاهد الناس في جميع مراحل التأريخ أشجع ولا أربط جأشاً ولا أقوى جناناً من
الصفحة (62)
الاُسرة النبويّة الكريمة ؛ فالإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) عميد العترة الطاهرة كان من أشجع خلق الله ، وهو القائل : (( لو تضافرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها )) .
وقد خاض أعنف المعارك وأشدّها قسوة ، فجندل الأبطال وألحق بجيوش الشرك أفدح الخسائر ، وقد قام الإسلام عبل الذراع مفتول الساعد بجهاده وجهوده ، فهو معجزة الإسلام الكبرى ، وكان ولده أبو الأحرار الإمام الحسين (عليه السّلام) مضرب المثل في بسالته وشجاعته ؛ فقد حيّر الألباب وأذهل العقول بشجاعته وصلابته وقوّة بأسه .
فقد وقف يوم العاشر من المحرّم موقفاً لم يقفه أيّ أحدٍ من أبطال العالم ؛ فإنّه لم ينهار أمام تلك النكبات المذهلة التي تعصف بالحلم والصبر ، فكان يزداد انطلاقاً وبشراً كلّما ازداد الموقف بلاءً ومحنةً . فإنّه بعدما صُرعَ أصحابه وأهل بيته زحف عليه الجيش بأسره ـ وكان عدده فيما يقول الرواة ثلاثين ألفاً ـ فحمل عليهم وحده , وقد طارت أفئدتهم من الخوف والرعب ، فانهزموا أمامه كالمعزى إذا شدّ عليها الذئب ـ على حدّ تعبير بعض الرواة ـ وبقي صامداً كالجبل يتلقى الطعنات والسهام من كلّ جانب ، لم يوهن له ركن ولم تضعف له عزيمة .
يقول العلوي السيّد حيدر :
فـتـلـقّى الـجـمـوعَ فـــرداً ولكن كلُّ عضو في الروعِ منهُ جموعُ
رمـحهُ مـن بـنانهِ و كـأنّ مـن عـزمـهِ حــدُّ سـيـفهِ مـطبوعُ
زوّج الـسـيفَ بـالنفوسِ ولـكن مـهرُها الـموت والخضابُ النجيعُ
ولمّا سقط (سلام الله عليه) على الأرض جريحاً قد أعياه نزف الدماء تحامى الجيش الاُموي من الإجهاز عليه ؛ خوفاً ورعباً منه . يقول السيد حيدر :
عـفيراً متى عاينتهُ الكماة يـختطف الرعبُ ألوانَها
فما أجلت الحربُ عن مثلهِ صـريعاً يـجبّنُ شجعانَه